مصباح المنهاج - كتاب الطهارة المجلد 3

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

تتمة كتاب الطهارة

تتمة المبحث الثالث

الفصل الرابع في أحكام الخلل

اشارة

الفصل الرابع في أحكام الخلل

مسألة 75 من تيقن الحدث و شك في الطهارة تطهر

مسألة 75: من تيقن الحدث (1) و شك في الطهارة تطهر (2)، و كذا لو ظن الطهارة (3)

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

(1) و كذا لو أحرزه بأمارة أو أصل، لما هو المتسالم عليه ظاهرا من جريان استصحاب مؤدي الأمارة و الأصل. و أوضح وجهه في محله.

(2) إجماعا، كما في المعتبر و المنتهي و كشف اللثام و غيرها، بل في المدارك: أنّه إجماعي بين المسلمين، و يقتضيه عموم أدلة الاستصحاب، و لولاه لكان اللازم الرجوع في كل حكم من أحكام الطهارة و الحدث للأصل الجاري فيه.

ففيما إذا كانت الطهارة شرطا في المكلف به أو الحدث مانعا منه، كالصلاة، يكون مقتضي أصالة الاشتغال فيه لزوم إحراز الطهارة أو عدم الحدث، لعدم إحراز الفراغ عنه بدون ذلك.

و فيما إذا كان الحدث شرطا في التكليف، كحرمة مس الكتاب، يكون مقتضي أصالة البراءة عدم الاعتناء باحتمال التكليف مع احتمال الحدث، فلا ملزم بالطهارة.

(3) كما صرح به غير واحد، لعموم أدلة الاستصحاب، لظهور أن المراد

ص: 7

ظنا غير معتبر شرعا (1)، و لو تيقن الطهارة و شك في الحدث بني علي الطهارة (2)

______________________________

بالشك فيها ما يقابل اليقين، لمقابلته به فيها، و ورود بعضها في مورد الظن بانتقاض الحالة السابقة، و لأنه معناه لغة و عرفا، كما صرح به جماعة من اللغويين و تشهد به الاستعمالات الكثيرة.

و تخصيصه بتساوي الطرفين اصطلاح متأخر علي الظاهر.

مضافا إلي اشتمالها علي حصر الناقض لليقين باليقين. و تفصيل ذلك في الأصول.

و منه يظهر ضعف ما عن بعض المتأخرين من الإشكال في ذلك بأن الحكم بعدم نقض اليقين بالشك دال بالمفهوم علي جواز نقضه بالظن، و هو الذي قد يظهر من الشيخ قدّس سرّه في النهاية، حيث ذكر أن من شك في الوضوء و الطهارة و تساوت ظنونه وجب عليه الطهارة، إذ قد يظهر في عدم وجوبها لو كان احتمال وجودها أرجح.

فيتعين حمل ما ذكره بعد ذلك من وجوب الطهارة علي من شك فيها بعد اليقين بالحدث علي غير صورة الظن بها.

اللهم إلا أن يكون مراده من العمل بظن الطهارة ما إذا لم يسبق باليقين بالحدث، و إن كان الفرض المذكور بعيدا أو ممتنعا عادة، فيخرج عما نحن فيه، و إن كان في غير محله أيضا، لعدم الدليل علي حجية الظن.

(1) أما لو كان معتبرا فيلزم رفع اليد عن الاستصحاب به بلا إشكال ظاهر، و إنما الإشكال في وجهه، و إن كان الظاهر أنه يبتني علي وروده عليه بنحو من أنحاء الورود، علي ما ذكرناه في محله.

(2) إجماعا، كما في الخلاف و المعتبر و المنتهي و غيرها.

و يقتضيه- مضافا إلي عمومات الاستصحاب- النصوص الكثيرة، كصحيح

ص: 8

و إن ظن الحدث (1) ظنا غير معتبر شرعا.

______________________________

زرارة الوارد فيمن شك في النوم، و فيه: «قلت: فإن حرك علي جنبه شي ء و لم يعلم به؟ قال: لا، حتي يستيقن أنه قد نام، حتي يجي ء من ذلك أمر بيّن.» «1».

و موثق بكير: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ، و إياك أن تحدث وضوءا أبدا حتي تستيقن أنك قد أحدثت» «2».

و صحيح عبد الرحمن: «أنه قال للصادق عليه السّلام: أجد الريح في بطني حتي أظن أنها قد خرجت، فقال: ليس عليك وضوء حتي تسمع الصوت أو تجد الريح» «3»، و غيرها.

و أما ما في خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل يكون علي وضوء، فيشك علي وضوء هو أم لا. قال: إذا ذكر و هو في صلاته انصرف فتوضأ و أعادها، و إن ذكر و قد فرغ من صلاته أجزأه ذلك» «4»، فلا مجال للخروج به عما سبق، بل لا بد من طرحه، أو حمله علي الشك الساري، و أما حمله علي الاستحباب فهو لا يناسب النصوص السابقة، و لا سيما موثق بكير.

نعم، يخرج عن ذلك ما لو استند الشك لخروج البلل المشتبه قبل الاستبراء، كما تقدم في الفصل الرابع من أحكام الخلوة.

(1) كما صرح به غير واحد، خلافا لابن حمزة في الوسيلة، فأوجب الطهارة مع ظن الحدث.

و للبهائي في الحبل المتين، حيث ذكر أن المدار في العمل باستصحاب الطهارة علي الظن ببقائها، و ربما يكون مراده ذلك في استصحاب الحدث أيضا،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 44 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 9

مسألة 76 إذا تيقن الحدث و الطهارة و شك في المتقدم و المتأخر

مسألة 76: إذا تيقن الحدث و الطهارة و شك في المتقدم و المتأخر، فإن علم تأريخ الطهارة لم يلتفت و بني علي الطهارة (1).

______________________________

لظهور كلامه في أنّ منشأ ذلك ابتناء حجية الاستصحاب علي إفادته الظن.

و كيف كان، فلا مجال لذلك بالنظر لما تقدم من عموم أدلة الاستصحاب للظن بانتقاض الحالة السابقة، فضلا عن عدم الظن ببقائها، بل النصوص المتقدمة و غيرها صريحة في عدم الاعتداد بظن الحدث في قبال استصحاب الطهارة- الذي هو مورد كلامهما- و لذا حكي الرجوع لاستصحاب الطهارة فيه عمن تقدم منه الإشكال في الرجوع لاستصحاب الحدث مع ظن الطهارة.

(1) كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في أصوله و بعض من تأخر عنه، لاستصحاب الطهارة غير المعارض باستصحاب الحدث، للجهل بتأريخه، علي ما أوضحناه في مبحث الاستصحاب من الأصول بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

خلافا لظاهر المشهور- كما قيل- حيث أطلقوا وجوب الطهارة مع الجهل بالمتقدم من الحدث و الطهارة، من دون تفصيل بين العلم بتأريخ أحدهما و عدمه، للوجه الآتي.

لكن لا يبعد انصراف كلامهم لصورة الجهل بتأريخهما معا و دخول صورة العلم بتأريخ الطهارة في فرض الشك في طروء الحدث، الذي تقدم منهم البناء فيه علي الطهارة، لأن فرض الجهل بتقدم كل منهما منصرف لفرض الجهل بتاريخهما معا، أما مع فرض العلم بتأريخ أحدهما فالأنسب التعبير بالجهل بتقدم الآخر و تأخره لا غير، لكن ظاهر الجواهر إرادتهم بالإطلاق المذكور ما يعم ذلك.

و قد يستدل عليه بإطلاق ما تضمن وجوب الوضوء عند اليقين بالحدث من النصوص المتقدمة و غيرها، المعتضدة بإطلاق الرضوي: «و إن كنت علي يقين من الوضوء و الحدث و لا تدري أيهما أسبق فتوضأ» «1».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 10

______________________________

و بإطلاق وجوب الوضوء لغاياته، خرج منه من علم بتطهره، و بقي الباقي.

و بإطلاق سببية الأحداث للوضوء، حيث يجب بمقتضاه الوضوء عقيب الحدث المتيقن، و المفروض عدم إحراز الوضوء عقيبه.

و يندفع الأول: بأن النصوص المذكورة غير مسوقة لبيان وجوب الوضوء تعبدا، كوجوب الكفارة بأسبابها، لتشمل ما نحن فيه، بل لأجل رافعيته للحدث و سببيته للطهارة.

كما أنها ليست واردة لبيان وجوب الوضوء ظاهرا بمجرد اليقين بسبق الحدث و إلغاء احتمال ارتفاعه، لأنها مسوقة للتعبد ببقاء الطهارة عند الشك دون العكس، بل هي واردة مورد المفروغية عن رفع الوضوء للحدث المتيقن، فلا تنهض بإثبات وجوب الوضوء في فرض احتمال ارتفاع الحدث و فعلية الطهارة، فضلا عما لو أحرز عدم الحدث بالاستصحاب، كما ذكرنا، و لا سيما مع تضمن بعض النصوص المذكورة الإشارة إلي كبري الاستصحاب.

و الرضوي- مع عدم صلوحه للاستدلال- منصرف لصورة الجهل بالتأريخين معا، لما تقدم في وجه انصراف إطلاق الأصحاب، و لا سيما مع التعرض في صدره و ذيله لتطبيق كبري الاستصحاب عند الشك في الحدث و اليقين بالوضوء، بنحو يظهر منه عدم الخروج عنها في الفقرة المذكورة. فراجع.

و الثاني: بأن الخارج عن العموم هو المتطهر واقعا، لا من علم بالطهارة، فالتمسك به مع الشك فيها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، الذي لا يصح علي المشهور المنصور.

بل لما كان مرجع أدلة وجوب الوضوء للغايات هو اعتبار الطهارة فيها لكونه سببا لها، كان موضوعه المحدث، فالتمسك به مع الشك فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يصح بلا كلام.

مع أن مقتضي استصحاب الطهارة عدم تحقق موضوع الوضوء.

و منه يظهر الجواب عن الثالث، فإنه إذا كان وجوب الوضوء عقيب الأسباب

ص: 11

و إن علم تأريخ الحدث، أو جهل تأريخهما جميعا تطهر (1).

______________________________

لأجل رفعه للحدث المسبب عنها، كان استصحاب الطهارة محرزا لعدم موضوع الوضوء كي تجري قاعدة الاشتغال به.

هذا، و عن بعض متأخري المتأخرين منهم السيد الطباطبائي في منظومته أنه مع العلم بتاريخ أحد الحادثين يحكم بتأخر المجهول منهما طهارة كان أو حدثا.

و فيه: أن الأصل إنما يقتضي عدم تحقق المجهول إلي حين تحقق المعلوم، و لا يحرز عنوان تأخره عنه، فلا مخرج عما ذكرنا.

(1) أما مع العلم بتأريخ الحدث، فلاستصحابه غير المعارض باستصحاب الطهارة، للجهل بتأريخها، كما سبق في نظيره.

و أما مع الجهل بالتأريخين، فهو المتيقن من إطلاقهم وجوب الطهارة مع الجهل بالمتقدم منها و من الحدث، كما في المقنع و المقنعة و التهذيب و النهاية و المبسوط و إشارة السبق و المراسم و الوسيلة و الشرائع و المنتهي و اللمعة، و عن المهذب و السرائر و الذكري و غيرها، بل في المنتهي و الروضة و عن جماعة أنه المشهور، و في كشف اللثام و عن التذكرة نسبته إلي أكثر علمائنا، و عن الذكري نسبته للأصحاب، و في جامع المقاصد نسبته لمتقدميهم.

لقاعدة الاشتغال بعد عدم الرجوع للاستصحاب، إما لعدم جريانه ذاتا في مجهولي التاريخ- كما عرفت- أو لسقوطه فيهما بالمعارضة، كما عن المشهور، و إن لم يتضح حال النسبة، لعدم تعرض كثير منهم للاستصحاب، و إنما عللوا بلزوم إحراز الطهارة.

نعم، أشرنا آنفا إلي أن قاعدة الاشتغال إنما تجري في مورد تكون الطهارة أو عدم الحدث قيدا في المكلف به، كما هو مقتضي. ما ذكره غير واحد من لزوم إحراز الصلاة عن طهارة، و أما لو كان الحدث قيدا في

ص: 12

______________________________

التكليف- كحرمة مس المصحف- فمقتضي الأصل البراءة من التكليف، و لا ملزم بالطهارة.

هذا، و في المعتبر و جامع المقاصد و عن حاشية الشرائع اختصاص ذلك بما إذا لم يعلم الحال المتقدم عليهما، و إلّا أخذ بضده، بدعوي رجوعه لليقين بذلك الضد و الشك في انتقاضه، للعلم بانتقاض الحال السابق بثبوت الضد، فيستصحب، و لا يعارض باستصحاب الحال السابق، للعلم بانتقاضه، و لا باستصحاب مثله للشك في ثبوته، لاحتمال كون ما علم من سبب المجانس للحال السابق واردا عليه قبل انتقاضه.

و فيه- بعد تسليم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ-: أنه لا دخل لخصوصية الاتحاد مع الحال السابق و المماثلة له في موضوع الأثر، ليتعذر استصحاب السنخ بسبب عدم تمامية ركني الاستصحاب في كل منهما، بل موضوعه سنخ الحال- من الطهارة أو الحدث- من حيث هو، فلا مانع من استصحابه من حين حدوث سببه المعلوم، للعلم بوجوده و الشك في انتقاضه، فيعارض استصحاب الضد.

و تمام الكلام فيه في مبحث الاستصحاب من الأصول.

و عن العلّامة قدّس سرّه استصحاب نفس الحالة السابقة علي الحالتين المعلومتين، و هو بظاهره ظاهر الضعف، إذ لا معني لاستصحابها مع العلم بانتقاضها.

لكن ظاهر ما ذكره في غير واحد من كتبه هو فرض كون الحدث ناقضا لطهارة، و الطهارة رافعة لحدث، فيخرج عن الشك- الذي هو محل الكلام- إلي القطع بثبوت مثل الحالة السابقة، فلا استصحاب، كما حكي عن بعض تصريحاته.

إلا أن يفرض احتمال طروء الناقض للحالة الأخيرة منهما، كما قد يظهر من محكي المختلف.

لكن لا مجال حينئذ لعدّه من استصحاب الحالة السابقة علي الحالتين

ص: 13

مسألة 77 إذا شك في الطهارة بعد الصلاة أو غيرها مما يعتبر فيه الطهارة بني علي صحة العمل

مسألة 77: إذا شك في الطهارة بعد الصلاة أو غيرها مما يعتبر فيه الطهارة بني علي صحة العمل (1)، و تطهر لما يأتي (2).

______________________________

المعلومتين، بل هو من استصحاب مثلها الحادث بعد نقضها، و يدخل في المسألة السابقة المفروض فيها الشك في الطهارة بعد يقين الحدث، أو في الحدث بعد يقين الطهارة، التي عرفت عدم الإشكال في جريان الاستصحاب فيها.

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، المعول عليها عند الأصحاب، و التي يرجع إليها- علي الظاهر- كل من قاعدتي الفراغ و التجاوز المذكورتين في كلام بعضهم.

و يشهد بها النصوص الكثيرة العامة و الخاصة، ففي موثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «كلما شككت فيه مما قد مضي فامضه كما هو» «1».

و في صحيحه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال: يمض [يمضي. يب] علي صلاته و لا يعيد» «2»، و نحوه خبر علي ابن جعفر المتقدم، بناء علي حمله علي الشك الساري.

(2) لاستصحاب الحدث، أو قاعدة الاشتغال به- لو فرض عدم جريان الاستصحاب للجهل بالتأريخ أو نحوه- بعد عدم جريان القاعدة المتقدمة بالإضافة لما يأتي، لعدم مضيه.

و دعوي: أنه بناء علي ما لعله الظاهر من كون القاعدة تعبدية بل إحرازية فجريانها في الصلاة السابقة يقتضي التعبد بالطهارة و إحرازها، و مع إحرازها يتعين جواز الدخول في بقية الغايات.

مدفوعة: بأن كونها إحرازية إنما يقتضي إحراز الطهارة بالإضافة للجهة التي يصدق مضي محل الشك بلحاظها، و هي صحة العمل المشروط بها المفروض

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 14

من دون فرق بين تقدم منشأ الشك علي العمل، بحيث لو التفت إليه قبل العمل لشك (1)، و غيره، و إن كان الأحوط استحبابا في الأول الإعادة.

______________________________

مضيه، لا مطلقا و من جميع الجهات، ليمكن إحراز تمام الطهارة، و منها جواز الدخول فيما يأتي، بضميمة الملازمة الشرعية بين وجود الطهارة و بقائها، علي ما يذكر مفصلا عند الكلام في القاعدة المذكورة.

و مما ذكرنا يظهر أنه لا ينفع في جواز الدخول في الغايات اللاحقة دعوي:

أن الصلاة و نحوها مترتبة علي الوضوء، فبالدخول فيها يحرز الوضوء الذي هو شرط في الصلاة الآتية و نحوها، إذ لو تمت الدعوي المذكورة فالترتب بين الصلاة و الوضوء- مثلا- إنما هو بلحاظ شرطيته فيها، لا لأنه مشرع قبلها ذاتا- نظير تشريع صلاة الظهر قبل العصر- و الشرطية المذكورة إنما تقتضي كون الدخول في الصلاة محرزا للوضوء لها من حيثية شرطيته فيها، لا مطلقا، لينفع في الدخول في غيرها.

علي أن الدعوي المذكورة غير تامة في نفسها، لأن الترتب بين الوضوء و الصلاة ليس شرعيا، بل عقليا، بلحاظ أخذ الطهارة المسببة عن الوضوء شرطا في الصلاة، كما هو مقتضي الجمع بين ما تضمن الأمر به و ما تضمن شرطية الطهارة.

(1) فيكون عدم الشك للغفلة عن منشئه، لا لعدم تحقق منشئه بحيث يحتمل القصد لتتميم العمل و التحفظ من جهة الشك حين الانشغال به.

و الظاهر أنه قدّس سرّه أشار بذلك للقول بعدم جريان القاعدة في فرض الغفلة عن منشأ الشك، بحيث لو حصل المشكوك لكان حصوله اتفاقيا، لا بمقتضي القصد الارتكازي التابع لكون المكلف في مقام الامتثال، كما لو فرض غفلة المكلف عن اعتبار الطهارة في الصلاة، و احتمل بعد الصلاة حصول الطهارة حينها اتفاقا و بلا قصد.

و قد يوجه بابتناء القاعدة علي الجري علي ظهور حال الممتثل في

ص: 15

مسألة 78 إذا شك في الطهارة في أثناء الصلاة مثلا قطعها و تطهر

مسألة 78: إذا شك في الطهارة في أثناء الصلاة مثلا قطعها و تطهر (1)،

______________________________

المحافظة علي تمام ما هو الدخيل في الامتثال، و هو لا يتم في فرض الغفلة.

مضافا للتعليل في بعض النصوص بأنه حين العمل أذكر منه حين يشك «1»، و بأنه حين الفراغ أقرب إلي الحق منه بعد ذلك «2».

لكن لا طريق لإحراز ابتناء القاعدة علي ملاحظة الظهور المذكور، ليتعين تنزيل عموم أدلتها عليه علي مورده، بل قد يبتني علي مصلحة التسهيل و الإرفاق بالمكلفين، لأن الاعتناء بالشكوك المتجددة التي مضي محلها منشأ للضيق و الحرج، إذ البعد عن الشي ء موجب لكثرة الشك فيه.

كما لا مجال لتخصيص العموم المذكور بالتعليل المشار إليه، لعدم ظهور دليله في التعليل بالعلة المنحصرة التي يدور الحكم مدارها وجودا و عدما، فلا مخرج عن العموم.

و لا سيما بملاحظة صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال: حوّله من مكانه. و قال في الوضوء: تدره، فإن نسيت فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «3»، لوضوح أن وصول الماء لما تحت الخاتم مع نسيان إدارته اتفاقي لا يستند لقصد المتوضئ الارتكازي.

و قد فصلنا الكلام في ذلك عند الكلام في القاعدة، في خاتمة الاستصحاب من الأصول.

(1) يظهر وجهه مما تقدم، من أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط بلحاظ مضيه تبعا للمشروط إنما يقتضي إحرازه من حيثية المشروط الذي مضي،

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 16

و استأنف الصلاة (1).

مسألة 79 لو تيقن الإخلال بغسل عضو أو مسحه أتي به

مسألة 79: لو تيقن الإخلال بغسل عضو أو مسحه أتي به (2)

______________________________

لا مطلقا بلحاظ جميع الآثار، فلا محرز للطهارة بالإضافة لبقية أجزاء الصلاة، بل مقتضي استصحاب الحدث أو قاعدة الاشتغال بالطهارة لزوم إحراز الطهارة لها.

نعم، بناء علي أن الشرطية تقتضي الترتب بين الوضوء و تمام الصلاة، فالدخول في الصلاة يحرز الوضوء لها بتمامها، المقتضي لجواز إكمالها، نظير ما لو شك في الأذان و الإقامة بعد الدخول في الصلاة.

لكن عرفت عدم تمامية ذلك، و أن الشرط في تمام الصلاة هو الطهارة حينها، و الترتب بينها و بين الوضوء عقلي لا شرعي.

(1) هذا ظاهر، بناء علي ما هو المعروف- علي الظاهر- من أن الشرط في تمام الصلاة هو استمرار الطهارة من أولها لآخرها، حتي في الأكوان المتخللة بين الأجزاء، المستلزم لكون الحدث قاطعا لها، لعدم المحرز للطهارة حال الشك، لعدم مضيه، و يعضده خبر علي بن جعفر المتقدم في المسألة الخامسة و السبعين، بناء علي حمله علي الشك الساري.

نعم، لو فرض اليقين بالطهارة في الحال المذكور، لتجديد الطهارة في أثناء الصلاة قبل تحقق الشك المذكور، اتجه عدم الاستئناف، لمضي محل الشك.

و كذا بناء علي أن المعتبر هو الطهارة في خصوص حال الانشغال بالأجزاء دون الأكوان المتخللة بينها، إذ يكفي حينئذ الطهارة لما يأتي.

نعم، لا مجال للتقرب بالطهارة بلحاظ الأمر بالإتمام، إما لتحقق الطهارة سابقا، أو لعدم مشروعية الإتمام، لبطلان ما مضي، بمقتضي الارتباطية، بل لا بد من التقرب بلحاظ أمر آخر، كالكون علي الطهارة.

(2) إجماعا محصلا و منقولا، كذا في الجواهر.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاقات الوضوء- غير واحد من النصوص، ففي

ص: 17

و بما بعده، مراعيا للترتيب (1)، و الموالاة (2)،

______________________________

صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «و إن تيقنت أنك لم تتم وضوءك، فأعد علي ما تركت يقينا حتي تأتي علي الوضوء» «1»، و نحوه غيره.

(1) و هو مذهب أهل البيت، كما عن الذكري، و إجماعي، كما عن شرح المفاتيح، و عن التذكرة نفي الخلاف فيه.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاقات الترتيب، المعتضدة بما تضمن وجوب تداركه عند عكسه- غير واحد من النصوص الواردة في ناسي بعض الأعضاء، ففي موثق زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: و إن نسي شيئا من الوضوء المفروض، فعليه أن يبدأ بما نسي و يعيد ما بقي، لتمام الوضوء» «2»، و نحوه غيره.

نعم، تقدم عند الكلام فيمن عكس الترتيب بعض النصوص الموهمة لخلاف ذلك، و الجواب عنها- كما تقدم هناك أيضا عن ابن الجنيد- سقوط الترتيب لو كان المتروك دون الدرهم، و تقدم ضعفه.

(2) و هو مذهب أهل البيت، كما عن الذكري، و إجماعي، كما عن شرح المفاتيح.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق بعض أدلة الموالاة- صحيح حكم بن حكيم:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمن نسي من الوضوء الذراع و الرأس. قال: يعيد الوضوء، إن الوضوء يتبع بعضه بعضا» «3» بعد تنزيل الاتباع علي ما يساوق عدم الجفاف، كما سبق عند الكلام في الموالاة.

و عليه ينزّل موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قال: من نسي مسح رأسه أو قدميه أو شيئا من الوضوء الذي ذكره اللّه تعالي في القرآن، كان عليه إعادة الوضوء

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 18

و غيرهما من الشرائط (1)، و كذا لو شك في فعل من أفعال الوضوء قبل الفراغ منه (2)،

______________________________

و الصلاة» «1»، كما هو المناسب لفرض إعادة الوضوء فيه.

نعم، المعيار في الموالاة في سائر الأعضاء علي جفاف تمام أعضاء الوضوء.

أما في نسيان المسح فيكفي فيها بقاء البلل في مسترسل اللحية الخارج عن الحد، مع عدم وجوب غسل باطنها في الحد فضلا عن خارجه، كما تقدم.

(1) لعموم أدلتها الشامل لحال النسيان.

(2) كما هو المصرح به في جملة من كتب الأصحاب القدماء منهم و المتأخرين، كالهداية و الفقيه و المقنعة و النهاية و المبسوط و التهذيب و الغنية و المراسم و إشارة السبق و الوسيلة و المعتبر و الشرائع و النافع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و اللمعتين و الروض، و ظاهر الكليني في الكافي، و عن المهذب و السرائر و الجامع و الكافي لأبي الصلاح و الدروس و الذكري و غيرها.

و نسبه في الرياض لظاهر الأصحاب، و استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، و في كشف اللثام الإجماع عليه، بل جزم بالأول في المدارك و المفاتيح و محكي الذخيرة، و بالثاني في المستند و محكي شرحي الدروس و المفاتيح، بل في الأخير حكاية دعواه عن جماعة، و في مصباح الفقيه دعوي استفاضة نقله.

نعم، قال الصدوق في المقنع: «و إن شككت بعد ما صليت فلم تدر توضأت أم لا، فلا تعد الوضوء و لا الصلاة. و متي شككت في شي ء و أنت في حال أخري فامض و لا تلتفت إلي الشك». و إطلاق ذيله ينافي ذلك، و إن لم يبعد تنزيله علي الشك بعد الانتقال من الوضوء، تأكيدا لما في الصدر، و لا سيما بعد ما عرفت منه و من غيره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 19

______________________________

و يدل علي ما ذكره الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كنت قاعدا علي وضوئك فلم تدر أ غسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما و علي جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمي اللّه ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه و قد صرت في حال أخري في الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمي اللّه مما أوجب اللّه عليك فيه وضوء، لا شي ء عليك فيه» «1».

و به ترفع اليد عن عموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، حيث تقتضي عدم الاعتناء بالشك في الشي ء بعد الدخول فيما يترتب عليه مما يتحقق معه مضي محله، الذي هو مفاد قاعدة التجاوز عندهم.

و من ثمَّ قيل بعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء للصحيح المذكور.

و أما دعوي: قصور العموم المذكور عن الشك في أثناء العمل، و أن ما دل عليه مختص بأجزاء الصلاة فلا يحتاج للصحيح المذكور، كما ذكره الفقيه الهمداني و بعض الأعاظم، و يناسبه استدلال بعض الأصحاب في المقام بأصالة عدم الإتيان بالمشكوك و عدم الخروج عن يقين الحدث إلا بيقين، لظهوره في موافقة الصحيح للقواعد.

فهي ممنوعة، لعموم أدلة القاعدة، علي ما ذكرنا عند الكلام فيها.

فالعمدة في الخروج عنها هو الصحيح المذكور.

لكن قد ينافيه موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء، إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه» «2»، لظهور ضمير «غيره» في الرجوع ل «شي ء» - الذي هو البعض، بمقتضي ظهور «من» في التبعيض- لأنه المتبوع دون الوضوء، و إن كان أقرب، لأن جهة المتبوعية و التابعية أولي بالملاحظة عرفا من جهة القرب و البعد، كما ذكره

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 20

______________________________

سيدنا المصنف قدّس سرّه.

بل لا ينبغي التأمل فيه بملاحظة الذيل الظاهر في اعتبار عدم التجاوز عن نفس المشكوك- كما تضمنته أدلة القاعدة الأخر- فإنّ مقتضي المقابلة كون فرض الدخول في الغير- في الصدر- لكونه المحقق للتجاوز عن المشكوك و هو إنما يكون مع رجوع الضمير للشي ء لا للوضوء.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن المقابلة بالذيل تعين رجوع الضمير للوضوء، حيث تضمن فرض المكلف في شي ء لم يجزه، لظهوره في فرض الشي ء ذا أجزاء، قد انشغل به المكلف و لم يفرغ منه. و حمله علي كونه في محل الشي ء لا فيه نفسه مخالف للظاهر، فيكشف عن أن المراد في الصدر من الدخول في الغير هو فرض الفراغ عن الشي ء، الذي ينطبق علي الوضوء، لا علي الجزء المشكوك فيه منه.

ففيه: أن حمل الذيل علي ما ذكره قدّس سرّه مستلزم للاستغناء عن قوله عليه السّلام: «لم تجزه» و حمله علي التأكيد لجملة الشرط، لا التقييد للشي ء، و مساق الكلام آب عن ذلك جدا.

فلا بد من حمل فرض المكلف في الشي ء علي كونه فيه من حيثية كونه شاكا، لكونه متعلقا لشكه، فكأنه قال: إذا كنت شاكا في شي ء لم تجزه، في مقابل ما فرض في الصدر من كون الشك في الشي ء بعد التجاوز عنه و الدخول في غيره.

و تضمين الشرطية للشك ليس غريبا بعد تكراره في الكلام و التصريح به في الشرطية الأولي، إذ هو يشبه لازم ما ذكره من حذف متعلق الشك في الذيل و الاعتماد علي الصدر في بيانه، و أنه جزء الأمر الذي انشغل به، بل سوق الذيل لقلب ظهور الصدر محتاج إلي عناية خاصة لا يناسبها البيان المذكور، الظاهر في تقرير الصدر و تأكيده.

و بالجملة: لا يصلح الذيل للخروج به عن ظاهر الصدر الذي ذكرناه.

و منه يظهر ضعف الاستدلال بالموثق علي المدعي في المقام، كما يظهر

ص: 21

______________________________

من بعضهم.

و لذا قد يدعي أن مقتضي الجمع بينه و بين الصحيح حمل الصحيح علي الاستحباب، أو تخصيصه بالموثق، بحمله علي عدم الدخول في الجزء اللاحق.

لكن من الظاهر أن الاستحباب في المقام طريقي، بلحاظ حسن الاحتياط، و هو مما لا يناسبه صدر الصحيح و ذيله، بل لا يناسبه الموثق، حيث قد تضمن ضرب القاعدة العامة التي تعرضت لها النصوص الكثيرة الظاهرة في الردع عن الاحتياط.

و أبعد منه تخصيص الصحيح بالموثق، لقوة ظهوره في العموم، و لا سيما بملاحظة ذيله المصرح فيه بمفهوم الصدر، لقوة ظهورهما في دوران الالتفات للشك و عدمه مدار الانشغال بالوضوء و عدمه.

علي أنه ليس بأولي من تخصيص الموثق بالصحيح، بحمله علي صورة الفراغ عن الوضوء، بل الثاني أولي، لأنه محض تخصيص في عنوان الدخول في الغير، أما تخصيص الصحيح فهو راجع لإلغاء خصوصية عنوان الانشغال بالوضوء و الفراغ منه في الصدر و الذيل.

و إن كان الظاهر أنه لا مجال له أيضا، لصعوبة تنزيل الموثق عليه جدا، فليس هو جمعا عرفيا.

فلعل الأولي تنزيل الموثق علي الشك في الوضوء بعد الفراغ منه، لا بإرجاع الضمير للوضوء، فإنه بعيد أيضا، لما تقدم، بل بحمل التبعيض في قوله عليه السّلام: «من الوضوء» علي التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية، الذي يكون البعض فيه فردا من الكلي- و الذي إليه ترجع «من» البيانية عندهم- لا بلحاظ الوحدة الاعتبارية، الذي يكون البعض فيه جزءا من الكل، فيراد من «الشي ء» فرد من الوضوء، لا بعض منه، و يكون المراد من الصدر عدم الالتفات للشك في الوضوء بعد الفراغ منه، الذي هو مفاد ذيل الصحيح من دون أن ينافي صدره.

نعم، مقتضي عموم مفهوم الحصر في ذيل الموثق هو عدم الاعتناء بالشك

ص: 22

______________________________

في جزء الوضوء مع التجاوز عنه و الدخول في الجزء المترتب عليه، فيسهل تخصيصه بالصحيح كما خصص به جميع عمومات القاعدة، أو يحمل الشي ء في الذيل علي الفرد من الوضوء، لا علي ما يعم جزءه.

و لا ريب في أن الجمع المذكور أقرب من غيره، لكن في كونه جمعا عرفيا إشكال، و إن لم يكن بعيدا.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في العمل بالصحيح، لأنه أقوي دلالة من الموثق، لعدم تأتي مثل هذا الاحتمال فيه.

مضافا إلي أنه أشهر رواية بين الأصحاب و أقوي سندا، مع تسالم الأصحاب علي العمل به، حيث يبعد جدا خفاء الحال في مثل هذه المسألة مما يكثر الابتلاء به.

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه لا ينبغي التأمل في عموم وجوب الاعتناء بالشك قبل الفراغ من الوضوء لما إذا شك في غسل بعض العضو، و إن تجاوزه بالدخول في الجزء المتأخر عنه منه أو في العضو اللاحق، بل ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإجماع علي عدم الفصل بين الشك في تمام العضو و بعضه، لعموم قوله عليه السّلام في الصحيح:

«فأعد عليهما و علي جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمي اللّه»، و لا ملزم بحمله علي خصوص الأعضاء التامة، فإن بعض العضو و إن لم يسمه اللّه تعالي، إلا أنه مما سماه. فتأمل.

علي أن عدم غسل أو مسح ما سمي اللّه تعالي يصدق بعدم غسل بعضه أو مسحه، فيجب الإعادة عليه، و يكتفي بإتمامه، للقطع معه بغسله أو مسحه، لوضوح أن وجوب الإعادة طريقي لإحراز ذلك.

الثاني: هل يلحق الشك في الشرط- كالموالاة و الترتيب و إطلاق الماء- بالشك في الجزء في وجوب الاعتناء به إذا كان قبل الفراغ من الوضوء، أو لا، بل لا يعتني به بعد مضي محله، للفراغ من غسل العضو الذي هو مورد الشك؟

ص: 23

______________________________

و الأول هو مقتضي إطلاق الشك في الوضوء أو في واجباته، كما في النهاية و الوسيلة و إشارة السبق و الغنية و المراسم، بل هو كالظاهر فيه مما في المبسوط و اللمعة، لتضمنهما عطف الشك في شي ء منه عليه. بل هو صريح المقنعة و التهذيب، لاقتصاره في المقنعة علي الشك في مخالفة الترتيب، و استدلاله عليه في التهذيب بالنصوص، و به صرح جملة من المتأخرين.

كما أن مقتضي الاقتصار في كلام جماعة علي الشك في شي ء من الوضوء هو الثاني، و هو المناسب، لعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، المقتصر في الخروج عنها علي مورد الصحيح، و هو الشك في الجزء من الغسل أو المسح.

فلا بد في التعميم للشرط إما من حمل الغسل و المسح في الصحيح علي خصوص المشروع منهما، و هو الواجد للشرائط المعتبرة، أو التعدي عن مورد النص، لإلغاء خصوصيته عرفا، أو لتنقيح المناط.

و يشكل الأول بأنه مخالف للإطلاق.

و انصرافه لخصوص المشروع عند الإشارة للحكم الواقعي، لا يستلزم انصرافه إليه في مقام بيان الحكم الظاهري، إذ لا مانع من تخصيص الحكم الظاهري بالشك في جهة دون أخري. و لا سيما في مثل المقام، حيث قد تكون أهمية الجزء موجبة لتخصيص الاحتياط به.

و منه يظهر ضعف الثاني.

و مثله الاستدلال بإطلاق مفهوم موثق ابن أبي يعفور، بناء علي حمله علي الشك في الوضوء بعد الفراغ منه، بدعوي: أن مقتضاه الاعتناء بالشك فيه قبل الفراغ منه، و لو للشك في الشرط.

لاندفاعه: بأنه لم يتضح أن حمله علي ذلك مقتضي الجمع العرفي، ليكون حجة فيه، كما ذكرناه آنفا.

مع أنه إن أريد مفهوم الشرطية، فهي مسوقة لتحقيق الموضوع، و لا مفهوم

ص: 24

______________________________

لها، و إن أريد مفهوم القيد، بدعوي أن مقتضي التقييد بالدخول في الغير الاعتناء بالشك مع الانشغال بالوضوء، فليس هو بحجة، و لا سيما بملاحظة تعقيبه بالذيل الظاهر في عموم عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز.

و أما ما يظهر من بعض مشايخنا من الاعتناء بالشك في الشروط المستفادة من الآية الشريفة- كإطلاق الماء- دون غيرها، فلم يتضح وجهه، لأن الصحيح ظاهر في اعتبار تسمية اللّه تعالي للعضو لا للغسل و المسح، فإن بني علي إطلاق الغسل و المسح لزم عدم الاعتناء بالشك في الشرط مطلقا، و إن بني علي انصرافه للمشروع منهما لزم الاعتناء به كذلك.

علي أن الصحيح لم يتضمّن التقييد بخصوص ما سمي اللّه تعالي في الكتاب، بل يعم ما استفيدت تسميته له من غيره، إذ ليس المراد من تسميته حينئذ ذكر اسمه، بل إيجابه.

و مثله ما يظهر من الجواهر من التعدي لجميع أفعال الوضوء، كالنية و الترتيب و الموالاة، و إن أمكن إحرازها بالأصل، لأنها و إن كانت خارجة عن مدلول الصحيح، إلا أن الاعتناء بالشك فيها مقتضي الأصل، و إطلاق معاقد الإجماعات.

بل يقرب التعدي للشك في الصحة و الفساد، لرجوعه حقيقة للشك في تحقق الفعل، بخلاف الشروط الخارجة عن الوضوء، كطهارة الماء و الأعضاء، للإشكال فيه.

تارة: بأن الترتيب و الموالاة- بل النية- ليست من أفعال الوضوء، كما يظهر من النصوص المحددة له بالغسل و المسح.

و أخري: بأنه مع فرض قصور الصحيح لا مجال للاعتماد علي معاقد الإجماعات، مع قرب إرادتهم الغسل و المسح منه، فإنّ حجية الإجماع- لو تمَّ- بملاك حجية القطع، لا حجية الظهور.

كما لا مجال للاعتماد علي الأصل، بالنظر لقاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، الشاملة للمورد، و لا سيما فيما أمكن إحرازه بالأصل، كالموالاة

ص: 25

______________________________

بمعني عدم الجفاف.

و ثالثة: بأن التعدي للشك في الصحة و الفساد إن تمَّ بلحاظ رجوعه للشك في تحقق الفعل حقيقة لم يناسب التوقف في الشروط الخارجة، و إلا كان اللازم بيان الفارق بين الشروط المذكورة و غيرها.

و من جميع ذلك ظهر أن الاختصاص بالشك في الغسل و المسح هو الأوفق بعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، و إن لم يخل عن الإشكال.

بل لا ينبغي الإشكال في عدم جريان القاعدة مع الشك في المباشرة، لعموم الصحيح له، بمقتضي ظاهر قوله عليه السّلام: «لم تغسله أو تمسحه»، بل لا يبعد ذلك أيضا مع الشك في النية، بمعني القصد للعمل الوضوئي، إذ لا يبعد انصراف الصحيح لذلك.

كما لا إشكال في عدم الاعتناء بالشك إذا أمكن إحراز الشرط بالأصل، كطهارة الماء و الأعضاء في بعض الموارد، و منه الموالاة بمعني عدم الجفاف، حيث تقدم جواز البناء عليه مطلقا و لو قبل مضي المحل.

الثالث: حكم في المقنعة و المراسم بوجوب الالتفات للشك في الحدث قبل الفراغ من الوضوء، و لم أعثر عاجلا علي من تعرض له غيرهما، عدا إطلاق بعضهم الشك في الوضوء قبل الفراغ منه، الذي لا يبعد انصرافه عن ذلك.

نعم، ظاهر التهذيب الجري علي ذلك و استدلاله عليه بالنصوص، لكن لم يتضح وجهه بعد قصور الصحيح عنه، و جريان استصحاب عدمه، حيث يتعين معه عدم الالتفات للشك قبل المضي عن محله، فضلا عما بعده.

الرابع: لو شك في غسل اليسري قبل تمام المسح، فغسلها و مسح بها، ثمَّ انكشف غسلها قبل ذلك، فقد يستشكل في صحة الوضوء، لانكشاف المسح بغير ماء الوضوء.

و لا مجال لاستفادة العفو عن ذلك من الصحيح، لا بإطلاقه، لوروده لبيان الوظيفة الظاهرية فلا ينافي البطلان واقعا، و لا تبعا، لقلة الابتلاء بانكشاف الخلاف و عدم وضوح الغفلة عن البطلان معه، فلا يكشف عدم التنبيه عليه علي عدمه.

ص: 26

أما لو شك بعد الفراغ لم يلتفت (1)، و يحصل الفراغ ببنائه علي نفسه فارغا (2).

______________________________

لكن الإشكال المذكور مختص بما إذا كان المسح بماء الغسلة الثالثة، لعدم مشروعيتها، أما لو كان بماء الغسلة الثانية فالمتعين الصحة.

و مجرد الخطأ في تشخيص حالها، لعدم العلم بكونها ثانية، لا يقدح في مشروعيتها، إلا أن يرجع إلي التقييد الذي هو بعيد في نفسه.

و كذا الحال لو قطع بعدم غسل اليسري فغسلها، ثمَّ انكشف أنه قد غسلها.

(1) كما صرح به- في الجملة- من تقدم التعرض له في حكم الشك قبل الفراغ، و ادعي الإجماع عليه في المعتبر و المنتهي و الروضة و المدارك و كشف اللثام، و إن اختلفوا في تحديد موضوع ذلك، علي ما يأتي.

و يقتضيه- مضافا إلي قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله- غير واحد من النصوص، كصحيح زرارة المتقدم، و موثق ابن أبي يعفور، بناء علي حمله علي ما تقدم، بل حتي علي المعني الظاهر فيه بدوا في الجملة، و لو بالأولوية، و موثق بكير أو صحيحه: «قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ. قال: هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» «1»، و خبر محمد بن مسلم: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كلما مضي من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه، و لا إعادة عليك فيه» «2».

(2) اختلفت عباراتهم في تحديد موضوع عدم الاعتناء بالشك، فقد ذكر في جملة منها القيام عن الوضوء أو الانتقال عن مكانه، خصوصا عبارات القدماء منهم، كما في الهداية و الفقيه و المقنعة و المراسم و الوسيلة و الغنية و غيرها، و عن الذكري: «و لو أطال القعود، فالظاهر التحاقه بالقيام».

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 27

______________________________

و عن بعضهم اعتبار الدخول في حال آخر غير الوضوء، و لعله إليه يرجع كلام الأولين، و أن ذكرهم للقيام لأنه الفرد الظاهر المتعارف للانتقال لحال آخر، و إلا فمن البعيد الجمود عليه.

بل عن شرح المفاتيح أن فساد اشتراط القيام ضروري من الدين، و كأن مراده أنه ضروري من الفقه، بلحاظ استلزام اشتراطه عدم جريان القاعدة في حق المريض و نحوه ممن لا يقوم عن مكانه و إن طال الزمان، بل عدم جريانها فيمن يتوضأ قائما و نحوه مما لا يظن بأحد التزامه، و لعله لذا اعتبر في محكي الدروس الانتقال عن المحل و لو تقديرا.

و اقتصر جملة منهم علي الفراغ من الوضوء و الانصراف عنه أو عن حاله، في مقابل الانشغال به، كما في المبسوط و المعتبر و الشرائع و المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و المسالك و اللمعتين، و عن المهذب و الجامع و الإرشاد و غيرها، و في الحدائق: «الظاهر أنه المشهور بين المتأخرين».

بل عن رياض المسائل تنزيل مراد القدماء عليه، بإجراء ما سبق منهم مجري الغالب، من دون أن يريدوا التقييد به. و لعله لذا نسبه الأردبيلي في محكي شرح الإرشاد لظاهر الأصحاب، بل ظاهر الروضة و صريح المدارك دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه- مضافا إلي عموم القاعدة المتقدمة- إطلاق خبري بكير و محمد ابن مسلم.

نعم، قد ينافيه قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «فإذا قمت من الوضوء و قد صرت في حال أخري في الصلاة أو في غيرها»، و قوله عليه السّلام في موثق ابن أبي يعفور: «و قد دخلت في غيره».

و يشكل الاستدلال بالصحيح بملاحظة صدره، الظاهر في أن المعيار في الالتفات للشك هو كون المكلف في حال الوضوء، الملزم بإلغاء خصوصية القيام في الذيل و جعله كناية عن الفراغ، لغلبة تحققه حينه، لقوة ظهور: «ما دام» في

ص: 28

______________________________

المفهوم، و لا سيما مع سبق ذكر القعود علي الوضوء، الذي هو مسوق لتحقيق الموضوع، فيغني عن قوله: «ما دمت» لو لم يكن مسوقا للمفهوم.

بل لو فرض تساوي الصدر و الذيل في مرتبة الظهور بدوا، لم يبعد تحكيم الصدر لو أمكن الجمع بينهما، لأن سبقه يوجب مأنوسية الذهن به، فيحتاج رفع اليد عنه لما هو الأقوي منه، ليكون قرينة عرفا يرفع به اليد عنه.

و هو لا ينافي ما اشتهر من عدم استحكام ظهور الكلام إلا بعد الفراغ منه، إذ لا يبعد رجوعه لارتفاع ظهوره البدوي بما يشتمل عليه من قرائن هي أقوي منه، أو من معارضات يتعذر الجمع بينها و بينه. فتأمل.

هذا، مع أن الظاهر كون عطف الفراغ علي القيام تفسيريا، لسوق القيام للكناية عنه، كما سيق القعود علي الوضوء للكناية عن الانشغال به، مع إلغاء خصوصيته، و إلا كان من عطف العام علي الخاص، الذي لا يخلو عن حزازة.

و مما سبق يظهر لزوم حمل قوله عليه السّلام: «و قد صرت في حال أخري.» علي تأكيد الفراغ أيضا، فيراد منه مطلق الانتقال عن حال الوضوء- كما هو ظاهره في نفسه- لا الانشغال بأمر آخر، ليكون قيدا زائدا عليه، و إلا نافي مفهوم الصدر.

و عليه ينزل ما في تتمة الصحيح الوارد في الشك في غسل الجنابة من قوله عليه السّلام: «فإن دخله الشك و قد دخل في صلاته [حال أخري. كافي] فليمض في صلاته و لا شي ء عليه» «1»، لصلوح ما سبق لشرح المراد منه.

و أما الموثق، فقد سبق أنه لا مفهوم له، لا بلحاظ الشرطية، و لا بلحاظ القيد. بل بملاحظة الحصر في ذيله، للشك الذي يعتني به بما لم يجزه، يتعين حمل الدخول في الغير علي الكناية عن الفراغ الذي يتحقق به جواز الوضوء.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 29

______________________________

ثمَّ إنه لو فرض قصور جميع ما ذكرنا فلا أقل من إجمال الصحيح و الموثق الملزم بالرجوع للإطلاقات المقتضية بالاكتفاء بالفراغ في الوضوء، كما يكتفي به في جريان القاعدة في سائر الموارد.

إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بينهم في معيار الفراغ المعتبر في المقام بعد تعذر حمله علي الفراغ الحقيقي عن العمل المشروع المطلوب من المكلف، إذ لا يجتمع فرضه مع فرض الشك في تمامية العمل.

و قد ذكرنا عند الكلام في القاعدة أن المراد به هو الفراغ الحقيقي عن عمل المكلف الذي انشغل به، و هو العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من غسل أو وضوء أو صلاة أو نحوها، فإنّ ذلك هو موضوع الشك في الصحة، و قد أضيف المضي و الفراغ في النصوص إليه، لا إلي كلي العمل المشروع. كما أن الكلي لا يتصف بالصحة و الفساد، بل بالوجود و العدم، فلا بد من صدق الفراغ عن العمل المذكور حقيقة بالمعني المقابل للانشغال به أو لقطعه.

فليس التسامح إلا في صدق العنوان علي العمل المأتي به بلحاظ قصده منه، بناء علي الصحيح، و هو تسامح شائع، و أما بناء علي الأعم فلا تسامح حتي في ذلك.

و الفراغ بالمعني المذكور يجتمع مع احتمال نقص العمل، بل مع العلم به، كما لا يخفي.

و أما جعل المعيار الفراغ البنائي- كما في المتن، و صرح به غير واحد- أو فعل الجزء الأخير، أو الانشغال بفعل آخر- خصوصا ما يتوقف علي تمامية العمل- أو تعذر التدارك- لفوت الموالاة المعتبرة أو فعل المنافي في مثل الصلاة أو نحوهما- و غير ذلك مما تعرضوا له في المقام، فلا مجال له، لخروجه عن ظاهر المضي و الفراغ اللذين تضمنتهما النصوص، إلا أن تستلزم الفراغ بالمعني الذي ذكرناه، فيكون المدار عليه لا عليها، و قد فصلنا الكلام في ذلك عند الكلام في القاعدة.

ص: 30

مسألة 80: إذا شك بعد الوضوء في حاجبية شي ء كالخاتم لم يلتفت

مسألة 80: إذا شك بعد الوضوء في حاجبية شي ء- كالخاتم و نحوه- لم يلتفت (1)، و كذا إذا شك في كون الحاجب سابقا علي الوضوء أو متأخرا عنه (2). و إن كان الأحوط استحبابا الإعادة فيهما (3) بعد رفع مشكوك الحاجبية في الفرض الأول.

مسألة 81 إذا كان مأمورا بالوضوء من جهة الشك فيه بعد الحدث إذا نسي شكه و صلي فلا إشكال في بطلان صلاته

مسألة 81: إذا كان مأمورا بالوضوء من جهة الشك فيه بعد الحدث إذا نسي شكه (4) و صلي، فلا إشكال في بطلان صلاته بحسب

______________________________

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، من دون فرق في ذلك بين الالتفات له حين الوضوء و الاهتمام بإيصال الماء تحته، و تجدد الشك بعد الفراغ في وصوله، و الغفلة عنه حينه، لما سبق في المسألة السابعة و السبعين من عدم اختصاص القاعدة بالالتفات.

(2) للقاعدة المتقدمة، و استصحاب عدم الوضوء إلي حين وجود الحاجب عند الجهل بتأريخ الوضوء و العلم بتأريخ الحاجب- مع كونه من الأصل المثبت، كاستصحاب عدم الحاجب إلي حين الوضوء في عكس ذلك- لا ينهض برفع اليد عن القاعدة، لتقديمها علي الاستصحاب.

(3) الظاهر أن مراده صورة الغفلة، لما تقدم من شبهة اختصاص القاعدة بالالتفات.

(4) لمّا كان الشك من الأمور الوجدانية، فلا يجتمع فرض وجوده مع نسيانه، فإما أن يكون مراده صورة الغفلة عنه و الذهول عن حكمه مع بقاء نفس الشك، أو الغفلة عن المشكوك المستلزم لنسيان الشك السابق المتعلق به و عدم فعلية الشك.

أما علي الأول، فبطلان الصلاة- ظاهرا- مقتضي الأصل بعد قصور القاعدة المتقدمة عنه، لاختصاصها بالشك الحادث بعد مضي محله.

و أما علي الثاني، فلما ذكرناه في محله من قصور القاعدة عن الشك

ص: 31

الظاهر، فتجب عليه الإعادة إن تذكر في الوقت، و القضاء إن تذكر بعده (1).

______________________________

المسبوق بمثله، لوجوه لا يسمح المقام التعرض لها، لطولها، و إن كان للتأمل فيها مجال، فليلحظ.

نعم، لا بد من فرض استناد العمل لمحض الغفلة مع العلم بعدم صدور الوضوء بعد حدوث الشك المذكور، و إلا لم يعتن بالشك و جرت القاعدة، لمباينة الشك الحاصل بعد الفراغ للشك الحاصل قبله موضوعا.

بل لا يزيد سبق الشك بالحدث عن سبق اليقين به، مع جريان القاعدة في الثاني، لو فرض احتمال صدور الوضوء بعده قبل الصلاة.

(1) لما هو الظاهر من أن مقتضي الجمع بين دليلي الأداء و القضاء كون خصوصية الوقت مأخوذة بنحو تعدد المطلوب، و أن المكلف به أمران: أصل الواجب، و خصوصية كونه في الوقت، فمع خروج الوقت في المقام يعلم بسقوط الثاني بالتعذر أو الامتثال، و يشك في سقوط الأول بالامتثال، فيتعين إحراز الفراغ عنه بالقضاء.

و ليس القضاء مباينا للأداء، كي يرجع الشك في المقام للشك في حدوث التكليف بالقضاء مع سقوط الأداء.

و هو لا ينافي ما اشتهر من أن القضاء بأمر جديد، لرجوعه إلي ظهور الأمر بالموقت بدوا، في كون الوقت قيدا مقوما للواجب يسقط بتعذره، فلا يمتنع رفع اليد عن الظهور المذكور بعد فرض ورود الأمر بالقضاء، و يحمل علي تعدد المطلوب، جمعا بين الدليلين.

و كذا الحال بناء علي أن القضاء مباين للأداء، لما هو الظاهر من أن موضوعه مجرد عدم الإتيان بالواجب في وقته، حيث يمكن إحرازه بالاستصحاب في المقام بعد فرض عدم إحراز صحة ما وقع، لقصور القاعدة المذكورة عنه.

ص: 32

مسألة 82 إذا كان متوضئا و توضأ للتجديد و صلي

مسألة 82: إذا كان متوضئا و توضأ للتجديد و صلي، ثمَّ تيقن بطلان أحد الوضوءين و لم يعلم أيهما، لا إشكال في صحة صلاته (1)،

______________________________

نعم، لو كان موضوعه الفوت- الذي هو أمر وجودي ينتزع من عدم الإتيان بالواجب في محله- تعين عدم وجوبه في المقام، لعدم إحراز موضوعه باستصحاب الحدث، أو عدم الإتيان بالواجب، إلا بناء علي الأصل المثبت.

لكن لازمه عدم وجوب القضاء لو شك في صحة الفريضة قبل خروج الوقت، و لم يحرز صحتها، حيث يكون مقتضي قاعدة الاشتغال أو استصحاب عدم الإتيان بالواجب هو وجوب الإعادة، دون القضاء، لو لم يعد حتي خرج الوقت، و من البعيد التزام أحد بذلك.

و أما ما دل علي عدم الاعتناء بالشك في الصلاة إذا كان بعد خروج الوقت، و هو صحيح زرارة و الفضيل عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: متي استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها، أو في وقت فوتها أنك لم تصلها صليتها، و إن شككت بعد ما خرج وقت الفوت و قد [فقد. في] دخل حائل، فلا إعادة عليك من شك حتي تستيقن، فإن استيقنت فعليك أن تصليها في أي حالة كنت» «1»، فهو ظاهر في فرض الشك في أصل الإتيان بالفريضة، و لا يعم صورة العلم بوجودها و الشك في صحتها، بل لا بد من ملاحظة مقتضي الأصل حينئذ، و قد عرفت اختلافه باختلاف المباني.

(1) كما في المبسوط و الوسيلة، و عن ابن سعيد و القاضي.

و صريح الأول هو الصحة الواقعية، للعلم بصحة إحدي الطهارتين، و هو متجه، بناء علي ما سبق في المسألة الواحدة و السبعين من صحة الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث، و إن لم يناسب ما ذكره هو و غيره من اعتبار نية الرفع أو الاستباحة، كما سبق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 60 من أبواب مواقيت الصلاة حديث: 1.

ص: 33

و لا تجب عليه إعادة الوضوء للصلوات الآتية أيضا، إذا لم يكن قصد الوضوء التجديدي علي نحو التقييد (1).

______________________________

أما بناء علي بطلان الوضوء المذكور، فلا مجال لدعوي الصحة الواقعية، لاحتمال نقص الوضوء الأول، المستلزم لبطلان الثاني أيضا، فتبطل الصلاة لعدم الطهارة.

و من هنا بني في المعتبر و الشرائع و المنتهي و جامع المقاصد و غيرها صحة الصلاة في المقام و بطلانها علي القول بالاكتفاء بنية القربة، أو اعتبار ما زاد عليها من نية الوجوب أو الندب، أو الرفع أو الاستباحة.

بل ظاهرهم بطلان الصلاة ظاهرا علي الثاني، لحكمهم بوجوب إعادتها حينئذ، لعدم إحراز الطهارة لها، عدا ما في المنتهي من تقريب إحراز الطهارة ظاهرا، كما سيأتي.

لكن عدم إحراز الطهارة إنما يمنع من الدخول في الصلاة، أو البناء علي صحتها قبل الفراغ منها، و لا يمنع من البناء علي صحتها لو التفت المكلف بعد الفراغ منها- كما هو محل كلامهم ظاهرا- لعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، كما هو الحال لو شك في أصل الوضوء، علي ما تقدم في المسألة السابعة و السبعين.

و من ثمَّ كان ما في المتن من نفي الإشكال في صحة الصلاة في محله.

هذا، و لو فرض احتمال عدم نية التجديد في الثاني فالأمر أظهر.

(1) لما تقدم منه في المسألة الواحدة و السبعين من صحة الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث، فيقطع حينئذ بالطهارة. و تقدم منا تفصيل الكلام في ذلك.

هذا، و لو فرض عدم صحة الوضوء المذكور- لنيته بنحو التقييد أو لغير ذلك- فقد قوي في المنتهي إحراز الطهارة ظاهرا، لعموم ما دل علي عدم

ص: 34

مسألة 83 إذا توضأ وضوءين و صلي بعدهما ثمَّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما يجب الوضوء للصلاة الآتية

مسألة 83: إذا توضأ وضوءين و صلي بعدهما، ثمَّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما، يجب الوضوء للصلاة الآتية، لأن الوضوء الأول معلوم الانتقاض، و الثاني مشكوك في انتقاضه، للشك في تأخره و تقدمه علي الحدث (1)، و أما الصلاة فيبني علي صحتها، لقاعدة الفراغ (2).

______________________________

الاعتناء بالشك بعد الفراغ من الوضوء بالإضافة للوضوء الأول، و حكاه في الذكري عن ابن طاوس و قال: «و هو متجه، إلا أن يقال: اليقين حاصل بالترك و إن كان شاكا في موضوعه، بخلاف الشك بعد الفراغ، فإنه لا يقين فيه بوجه»، و قريب منه في المدارك.

و فيه: أن اليقين بالنقص إجمالا ملازم للشك فيه بالإضافة للوضوء الأول، الذي هو موضوع القاعدة فيه، غاية ما يدعي مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للقاعدة فيه.

لكن لا مجال له، لعدم منجزية العلم الإجمالي المذكور، لعدم الأثر له بالإضافة للوضوء التجديدي، للقطع ببطلانه حينئذ، إما لنقصه، أو لبطلان الوضوء الأول.

(1) لكن مقتضي ما تقدم في المسألة السادسة و السبعين البناء علي بقاء الطهارة لو علم تأريخ الوضوء الثاني و جهل تأريخ الحدث.

نعم، لو نوي بالوضوء الثاني التجديد و قيل ببطلان الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث يعلم ببطلان الوضوء الثاني، للحدث قبله أو بعده، ثمَّ إنه قد صرح قدّس سرّه في مستمسكه بأن محل الكلام صورة الجهل بالتأريخين. و لم يتضح وجهه.

(2) الظاهر من محل كلامهم فرض وقوع الصلاة بعد الحدث، فإن كان الحدث بعد الوضوء الثاني فالصلاة باطلة، و إن كان قبله بعد الوضوء الأول فهي

ص: 35

و إذا كان في محل الفرض قد صلي بعد كل وضوء صلاة أعاد الوضوء، لما تقدم، و أعاد الصلاتين إن كانتا مختلفتين في العدد (1)،

______________________________

صحيحة، لصحة الوضوء الثاني، و مقتضي قاعدة الفراغ صحتها.

لكن أشرنا إلي أنه لا يتم لو كان المنوي بالثاني التجديد و قيل ببطلان الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث، للعلم ببطلان الوضوء الثاني بالحدث قبله أو بعده، المستلزم للعلم ببطلان الصلاة.

(1) بلا خلاف أجده فيه، بل هو مجمع عليه. كذا في الجواهر.

للعلم الإجمالي بفساد إحدي الصلاتين الموجب للاحتياط بإعادتهما معا، و المانع من الرجوع لاستصحاب الطهارة، أو قاعدة الفراغ في كل من الصلاتين.

هذا، و قد تقدم أنه مع العلم بتأريخ الوضوء الثاني و الجهل بتأريخ الحدث يستصحب الوضوء. و لا مجال لذلك في المقام، للعلم الإجمالي ببطلان الصلاة الأولي أو الثانية مع وضوئها، فيتنجزان معا.

و هذا بخلاف ما سبق، حيث لا علم إجمالي فيه، لا بالإضافة للصلاة، لوحدتها، و لا بالإضافة للطهارة، للعلم ببطلان الوضوء الأول، فالشك في الثاني بدوي يكون مجري للاستصحاب، بل الظاهر أن وجوب إعادة الصلاتين مختص بهذه الصورة.

و أما في صورة الجهل بالتأريخين، أو العلم بتأريخ الحدث دون الوضوء، فحيث لا يجري استصحاب الطهارة في الصلاة الثانية يكون المعارض لاستصحاب الطهارة في الأولي هو قاعدة الفراغ في الثانية، و بعد تساقطهما تجري قاعدة الفراغ في الأولي، و أصالة عدم الإتيان بالثانية، فلا يجب إلا إعادة الثانية، كما جزم به بعض مشايخنا في جميع فروض المسألة، بناء منه علي معارضة الاستصحابين مع الجهل بالمتقدم و المتأخر مطلقا، فلا يجري الاستصحاب في الثانية مطلقا.

ص: 36

______________________________

نعم، استدل عليه باستصحاب الطهارة في الأولي بلا معارض، و قد عرفت معارضته بقاعدة الفراغ في الثانية، و أن الوجه في صحة الأولي هو قاعدة الفراغ بلا معارض.

ثمَّ إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه قال: «و مقتضي إطلاقهم عدم الفرق بين اتفاقهما في الأداء و القضاء و اختلافهما، و إن كان ربما يتخيل مع الاختلاف الاقتصار علي إعادة الثانية، لأصالة بقاء الأمر به، و قاعدة عدم الالتفات إلي الشك في الأولي بعد خروج وقتها».

و قد يستفاد من عدم تصديه لرد التخيل المذكور اقتصاره في رده علي إطلاق معقد الإجماع، و هو كما تري! لعدم بلوغ الإجماع مرتبة الاستدلال بعد قرب ابتنائه علي ملاحظة العلم الإجمالي.

فالعمدة في اندفاع وجه التخيل المذكور: أن قاعدة عدم الالتفات للشك في الصلاة بعد خروج وقتها مختصة بالشك في أصل وجود الفريضة، و لا تشمل مثل المقام من موارد الشك في صحتها، كما ذكره غير واحد، لقصور دليلها- و هو صحيح زرارة و الفضيل- عنه، كما تقدم في المسألة الواحدة و الثمانين.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن القاعدة المذكورة لو جرت مع الشك في الصحة لكانت في رتبة قاعدة الفراغ، فتسقط معها بالمعارضة لقاعدة الفراغ الجارية في الأدائية.

فهو موقوف علي أن يكون مفاد القاعدة لو جرت في المقام هو التعبد بصحة الموجود كمفاد قاعدة الفراغ، لكنه- مع استلزامه لغوية أخذ خروج الوقت في موضوع التعبد المذكور، لكفاية الفراغ فيه- لا يناسب دليلها، لظهوره في التعبد بوجود الصلاة و براءة الذمة منها مطلقا، فتكون قاعدة الفراغ حاكمة عليها و مقدمة عليها رتبة، لأن منشأ الشك في وجود الصحيح في المقام هو الشك في صحة الموجود، فبعد سقوط قاعدة الفراغ في الصلاتين معا تجري هذه القاعدة في القضائية، و أصالة عدم الإتيان بالواجب في الأدائية، كما ذكره المفصل.

ص: 37

و إلا كفي إعادة صلاة واحدة بقصد ما في الذمة (1)، جهرا إن كانتا

______________________________

و هو لا ينافي ما اخترناه في محله من رجوع هذه القاعدة و قاعدتي الفراغ و التجاوز لقاعدة واحدة و أن اختلافها في التطبيق، إذ لا مانع من تقدم أحد تطبيقي القاعدة الواحدة علي الآخر و حكومته عليه، كما في حكومة أحد الاستصحابين علي الآخر.

هذا، و قد يستدل للتفصيل المذكور أيضا بأن القضاء تكليف جديد، و الأصل البراءة منه، بخلاف الأداء، حيث تجري فيه قاعدة الاشتغال. و يظهر ضعفه مما تقدم في المسألة الواحدة و الثمانين أيضا.

(1) كما في المعتبر و الشرائع و المنتهي و القواعد و غيرها، علي اختلاف الفروع التي ذكروها، المتشابهة في فرض العلم ببطلان صلاة مرددة بين متفقتين في العدد. و نسبه في جامع المقاصد لأكثر الأصحاب، و في المدارك لمعظمهم، و في الجواهر: «كما هو الأشهر، بل عليه عامة من تأخر».

لمطابقته للقاعدة الأولية المقتضية للاجتزاء بتحصيل الواجب.

و التردد في عنوان المأتي به مع قصده إجمالا غير قادح، للأصل، بل الإطلاق، بل هو أولي عندهم من التردد في الامتثال بكل طرف، الحاصل مع التكرار.

مضافا إلي موثق علي بن أسباط، أو صحيحه، عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من نسي من صلاة يومه واحدة و لم يدر أي صلاة هي صلي ركعتين و ثلاثا و أربعا» «1».

و نحوه مرفوع الحسين بن سعيد، و زاد: «فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلي أربعا، و إن كانت المغرب أو الغداة فقد صلي» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 2.

ص: 38

جهريتين، و إخفاتا إن كانتا إخفاتيتين، و مخيرا بين الجهر و الإخفات إن كانتا مختلفتين (1)، و الأحوط استحبابا في هذه الصورة الأخيرة إعادة كلتا الصلاتين.

______________________________

و لا يضر الإرسال فيهما بعد انجبارهما بعمل الأصحاب بهما في موردهما، و لا سيما مع إرسال الأول عن غير واحد، الظاهر في اشتهار الرواية.

كما لا يضر اختصاصهما بالناسي، لإلغاء خصوصيته عرفا، و لا سيما مع عموم التعليل في الثاني.

و منه يظهر ضعف ما في المبسوط، و عن القاضي و أبي الصلاح و ابني إدريس و سعيد من وجوب التكرار حتي مع الاتفاق في العدد، و هو مقتضي إطلاق الغنية وجوب ذلك عند تردد الفائتة.

(1) كما هو ظاهر إطلاق الأصحاب، بل هو المصرح به في كلام جملة منهم في مسألة تردد الفائتة بين الخمس.

و العمدة فيه الخبران المتقدمان، بناء علي نهوضهما بالاستدلال في المقام، كما تقدم، إذ لا يجتمع الاكتفاء برباعية واحدة، مع اعتبارهما، و حيث كان ترجيح أحدهما بلا مرجح، كان مقتضي إطلاقهما التخيير بينهما.

و لولاهما كان مقتضي إطلاق دليل الجهر و الإخفات وجوب الاحتياط بالتكرار، أو إعادة القراءة في صلاة واحدة، لعدم قدح قراءة القرآن في الصلاة.

و أما ما عن الوحيد قدّس سرّه في المصابيح من أن الإخلال بهما مع الجهل بنوع الفائتة لما لم يكن عمديا بل لأنه لا يدري، فلا يكون مبطلا.

ففيه: أن الدليل علي عدم قدح الإخلال غير العمدي منحصر بصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه و أخفي فيما لا ينبغي الإخفاء فيه. فقال: أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته و عليه الإعادة، فإن فعل

ص: 39

مسألة 84 إذا تيقن بعد الفراغ من الوضوء أنه ترك جزءا منه

مسألة 84: إذا تيقن بعد الفراغ من الوضوء أنه ترك جزءا منه، و لا يدري أنه الجزء الواجب أو المستحب، فالظاهر الحكم بصحة وضوئه (1).

______________________________

ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي ء عليه و قد تمت صلاته» «1» و صحيحه الآخر المتضمن لنفس السؤال و للجواب بقوله عليه السّلام: «أي ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي ء عليه» «2».

و ظاهر الثاني تبعية الصحة للنسيان و السهو غير الصادقين في المقام قطعا.

و أما الأول، فالظاهر من التعمد فيه ما يعم المقام، و ظاهر قوله عليه السّلام: «لا يدري» هو الجهل المركب بالحكم الراجع للخطإ في تشخيصه، لا ما يعم الجهل البسيط الراجع للتردد في الحكم، لأن المنصرف هو استناد المخالفة لعدم الدراية، كاستنادها للسهو و النسيان، و التردد لا يقتضي المخالفة، بل يقتضي التوقف و الاحتياط، بخلاف الخطأ في تشخيص الحكم، و لذا لا إشكال ظاهرا عندهم في عدم الاكتفاء بمطابقة أحد الاحتمالين في الناسي المتردد.

و لا أقل من الإجمال الملزم بالرجوع للإطلاق، المقتضي للاحتياط، كما تقدم.

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، حيث تحرز صحة الوضوء و تحقق الجزء الواجب، و لا تعارض بمثلها في الجزء المستحب، لعدم الأثر للإخلال به، لعدم الموضوع له في فرض صحة الوضوء، فلا يقبل التدارك.

بل لو فرض قبوله للتدارك، فحيث لم يكن تداركه إلزاميا لم يصلح العلم الإجمالي للتنجيز الإلزامي، ليمنع من الرجوع للقاعدة المذكورة بالإضافة للواجب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 2.

ص: 40

مسألة 85 إذا علم بعد الفراغ من الوضوء أنه مسح علي الحائل

مسألة 85: إذا علم بعد الفراغ من الوضوء أنه مسح علي الحائل، أو مسح في موضع الغسل (1)، أو غسل في موضع المسح، و لكن شك في أنه هل كان هناك مسوغ لذلك من جبيرة أو ضرورة أو تقية، أو لا، بل كان علي غير الوجه الشرعي، فالظاهر صحة وضوئه (2)، و إن كان الأحوط استحبابا الإعادة.

مسألة 86 إذا تيقن أنه دخل في الوضوء و أتي ببعض أفعاله

مسألة 86: إذا تيقن أنه دخل في الوضوء و أتي ببعض أفعاله، و لكن شك في أنه أتمه علي الوجه الصحيح أو لا، بل عدل عنه اختيارا أو اضطرارا، فالظاهر عدم صحة وضوئه (3).

______________________________

و من ثمَّ ذكرنا في مباحث العلم الإجمالي أن العلم بثبوت أحد حكمين إلزامي و غيره لا يمنع من جريان الأصل الترخيصي بالإضافة للحكم الإلزامي.

و منه في المقام ما لو توضأ و صلي الفريضة ثمَّ أحدث و توضأ للكون علي الطهارة، ثمَّ علم ببطلان أحد الوضوءين.

(1) فقد تقدم منه قدّس سرّه في الجبائر وجوب مسح البشرة لو أمكن و تعذر الغسل، و لا يكتفي بمسح الجبيرة.

(2) لعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، لما ذكرناه عند الكلام فيها من عمومها لصورة العلم بصورة العمل.

(3) علله قدّس سرّه بعدم إحراز الفراغ البنائي، حيث تقدم منه في المسألة التاسعة و السبعين أنه المعيار في الفراغ، الذي هو موضوع القاعدة.

لكنه- لو تمَّ المعيار المذكور- غير مطرد، إذ قد يعلم المكلف بسبق الفراغ البنائي منه، كما لو تجدد احتمال القطع بعد اليقين بالإكمال بنحو الشك الساري.

فالعمدة في المقام عدم إحراز الفراغ الحقيقي عن العمل الخارجي المأتي

ص: 41

مسألة 87 إذا شك بعد الوضوء في وجود الحاجب أو علم بوجوده قبله

مسألة 87: إذا شك بعد الوضوء في وجود الحاجب، أو علم بوجوده قبله و لكن شك بعده في أنه أزاله أو وصل الماء تحته (1)، بني علي صحة وضوئه (2). و إذا علم بوجود الحاجب و علم زمان حدوثه، و شك في أن الوضوء كان قبل حدوثه أو بعده بني علي الصحة (3).

______________________________

به بعنوان الوضوء، الذي تقدم أنه الشرط في جريان القاعدة فيه.

و لعله إليه يرجع ما في العروة الوثقي من أنه يعتبر في جريان القاعدة كونه بانيا علي إكمال العمل، و إلا فلو أريد به بناؤه علي ذلك حين الشروع في العمل فهو حاصل في المقام، و إن أريد استمراره علي البناء المذكور في تمامه فهو عين المدعي.

(1) هذا لا يناسب فرض كونه حاجبا، بل يناسب الشك في حاجبية الموجود.

نعم، لو كان المراد إيصال الماء تحته بعناية كان من سنخ الشك في إزالة الحاجب، بل من أفراده.

(2) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، المقدمة علي استصحاب بقاء الحاجب في فرض سبق العلم بوجوده لو جري في نفسه.

علي أنه غير جار، لعدم ترتب الأثر عليه إلا بلحاظ لازمه الخارجي، و هو عدم وصول الماء للبشرة.

نعم، بناء علي اختصاص القاعدة بصورة الالتفات لمنشإ الشك حين العمل، يتعين تقييد البناء علي الصحة به في جميع فروض المسألة.

إلا أن يبني علي جريان أصالة عدم الحاجب في نفسها، فيتعين لأجلها البناء علي الصحة مع الشك في وجوده و لو مع عدم الالتفات، لكن تقدم في المسألة السادسة المنع من جريانها.

(3) للقاعدة المذكورة، و استصحاب عدم الوضوء إلي حين وجود

ص: 42

مسألة 88 إذا كانت أعضاء وضوئه أو بعضها نجسا، فتوضأ

مسألة 88: إذا كانت أعضاء وضوئه أو بعضها نجسا، فتوضأ و شك بعده في أنه طهرها أم لا، بني علي بقاء النجاسة (1)، فيجب غسله لما يأتي من الأعمال، و أما الوضوء فمحكوم الصحة (2). و كذا لو كان الماء الذي توضأ منه نجسا، ثمَّ شك بعد الوضوء في أنه طهره قبله أم لا، فإنه يحكم بصحة وضوئه و بقاء الماء نجسا، فيجب عليه تطهير ما لاقاه من ثوبه و بدنه (3).

______________________________

الحاجب- مع كونه من الأصل المثبت- لا يمنع من جريانها، لتقدمها علي الاستصحاب.

(1) لاستصحابها.

(2) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، و هي لا تنافي البناء علي بقاء النجاسة بلحاظ الأعمال اللاحقة، لما سبق في المسألة السابعة و السبعين من أنها إنما تحرز المشكوك من الجهة التي يصدق المضي بالإضافة إليها، لا مطلقا و من جميع الجهات.

و العلم الإجمالي بكذب أحد التعبدين لا يمنع من جريانهما بعد عدم لزوم المخالفة العملية منهما، علي ما حقق في محله من الأصول.

(3) لما تقدم.

و أظهر من ذلك لزوم البناء علي نجاسة الماء الباقي بعد الوضوء، إذ غاية ما تحرزه القاعدة هو طهارة الماء الذي توضأ به، لأنها الشرط في صحة الوضوء، دون طهارة تمام الماء الذي توضأ منه.

و التلازم بينهما لا ينفع، بناء علي التحقيق في القاعدة و نحوها من عدم حجيتها في لازم مؤداها.

ص: 43

______________________________

ختام في كثير الشك: استثني في جامع المقاصد و محكي السرائر و شرح الدروس من وجوب الاعتناء بالشك صورة كثرة الشك، و قرّبه في المدارك و حاشيتها و الحدائق و المستند و الرياض و محكي نهاية الاحكام و الذكري، و يظهر من كشف اللثام و غيره الميل إليه، و هو المحكي عن جماعة من متأخري المتأخرين، بل في الجواهر: «لا أجد فيه خلافا».

و كأن مراده عدم العثور علي مصرح بالخلاف، كما عن اللوامع، و إلا فالخلاف مقتضي إطلاق جماعة من القدماء و المتأخرين، حيث لم يستثنوا الصورة المذكورة من إطلاقهم وجوب الاعتناء بالشك.

ثمَّ إن من تعرض لذلك و إن استثناه من وجوب الاعتناء بالشك في الوضوء قبل الفراغ منه إلا أن مقتضي أدلتهم العموم لغيره من موارد الاعتناء بالشك في الوضوء، كالشك فيه بعد اليقين بالحدث، و لذا جعلنا البحث في ذلك ختاما لمباحث الخلل فيه، و لم نخصه بتلك المسألة.

بل مقتضي الأدلة المذكورة العموم لجميع موارد الاعتناء بالشك و لو في غير الوضوء من الطهارة الحدثية و الخبثية و الصلاة و غيرها.

فالذي ينبغي أن يقال في تحرير محل الكلام: إنه لا إشكال ظاهرا- نصا و فتوي- في أن كثرة الشك مانعة من الاعتناء به في أفعال الصلاة، و إنما الإشكال في عموم ذلك لغيرها من موارد الاعتناء بالشك، كما هو مقتضي أدلة القائلين بذلك هنا، فيلزم النظر فيها، و هي أمور.

الأول: دعوي انصراف أدلة أحكام الشك عن صورة كثرة الشك بالنحو الخارج عن المتعارف.

ص: 44

______________________________

و فيه. أولا: أن ذلك إنما يتم في الأحكام المخالفة للقاعدة، كوجوب الاعتناء بالشك بعد مضي محله قبل الفراغ من الوضوء، دون ما كان منها موافقا لها، كوجوب الاعتناء بالشك قبل مضي محله، فإنه مقتضي قاعدة الاشتغال العقلية، التي لا معني لدعوي الانصراف فيها.

إلا أن يدعي قصورها عن الشك المذكور، لكنه ممنوع في غير الوسواس.

و ثانيا: أن الانصراف عن غير المتعارف بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق، و لذا لا إشكال ظاهرا في عموم إطلاق أدلة عدم الاعتناء بالشك في سائر موارده لصورة كثرة الشك.

و أشكل من ذلك دعوي: أن الاعتناء بالشك لمّا كان موجها لمخاطب خاص، فلا عموم له لصورة كثرة الشك، لعدم إحراز ابتلاء الشخص المذكور به.

لاندفاعها بأن الخطاب المذكور لم يرد في قصة خارجية خاصة، بل بلسان القضية الشرطية، التي تعم صورة كثرة الشك.

الثاني: لزوم العسر و الحرج، فإنه يقتضي التنزل من الموافقة القطعية للموافقة الاحتمالية، بناء علي ما هو الظاهر من إمكان اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية مع بقاء التكليف، فيرتفع به موضوع قاعدة الاشتغال العقلية، و أن رفع موضوعها لا ينحصر برفع التكليف المستلزم لجواز ترك الامتثال رأسا، المعلوم عدمه في المقام، أو بالتعبد بالامتثال بمثل قاعدة الفراغ، الذي لا تنهض به قاعدة نفي الحرج، لتمحضها في الرفع، و عدم نهوضها بتشريع الأحكام المانعة من لزوم الحرج.

و فيه: أن لزوم الحرج من الموافقة القطعية لكثير الشك غير مطرد، و لزومه نوعا لا يكفي في جريانها، لظهور دليلها في الحرج الشخصي.

مع أن اللازم الاقتصار في التنزل عن الموافقة القطعية علي المرتبة التي يلزم من الزيادة عليها الحرج، لا إلغاء الشك مطلقا حتي بالإضافة للمرتبة التي لا يلزم منها الحرج، كما هو المقصود في المقام.

ص: 45

______________________________

الثالث: أنه لا يأمن دوام عروض الشك.

و فيه- مع أن ذلك مختص بالشك الذي يستند عرفا للشيطان-: أن المحذور المذكور ليس من الأهمية بنحو يحرز معه تنزل الشارع عن الموافقة القطعية مع القطع به، فضلا عن احتماله و عدم الأمن منه، و لا سيما مع أهمية موضوع الشك كالصلاة.

اللهم إلا أن يراد بذلك الإشارة لما تضمنته النصوص الآتية، فيجري فيه ما يأتي فيها.

الرابع: النصوص الواردة في الصلاة:

كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كثر عليك السهو فامض علي صلاتك، فإنه يوشك أن يدعك، إنما هو من الشيطان» «1».

و صحيح زرارة و أبي بصير: «قلنا له: الرجل يشك كثيرا في صلاته، حتي لا يدري كم صلي و لا ما بقي عليه، قال: يعيد، قلنا: فإنه يكثر ذلك عليه كلما أعاد شك، قال: يمضي في شكه، ثمَّ قال: لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث معتاد لما عوّد، فليمض أحدكم في الوهم، و لا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك. قال زرارة: ثمَّ قال:

إنما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عصي لم يعد إلي أحدكم» «2».

و خبر علي بن أبي حمزة عن رجل صالح [العبد الصالح. فقيه] عليه السّلام: «سألته عن الرجل يشك فلا يدري واحدة صلي أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا، تلتبس عليه صلاته. قال: كل ذا؟ قلت: نعم. قال: فليمض في صلاته، و يتعوذ باللّه من الشيطان فإنه يوشك أن يذهب عنه» «3»، و غيرها.

فإنها و إن وردت في الصلاة إلا أنه قد يستدل بها في الوضوء، بناء علي ما هو

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل في الصلاة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 4.

ص: 46

______________________________

الظاهر من عمومها للشروط- كما هو مقتضي إطلاق الأول، بل ذيل الثاني- أو لاستفادة حكمه منها تبعا، بسبب ظهور شرطيته فيها و تبعيته لها عند المتشرعة.

و فيه: أن عمومها للشروط إنما هو بمعني عدم قطع الصلاة لأجل الشك في الشرط في فرض الدخول فيها لاعتقاد تحققه، فيكون المقام مستثني مما تقدم في المسألة الثامنة و السبعين، لا جواز الدخول فيها مع الشك فيه، فضلا عن الدخول في غيرها مما يشترط به.

و مجرد شرطيته في الصلاة و تبعيته لها، لا يقتضي استفادة حكمه من أدلتها تبعا، و لا سيما مع ثبوت اختلافهما في بعض الاحكام، كجريان قاعدة التجاوز فيها دونه.

نعم، قد أشير في كلماتهم إلي الاستدلال بعموم التعليل فيها بأنه من الشيطان، و أنه بإهماله يوشك أن يدعه، لظهوره في أن كثرة الشك من الشيطان و أنه يوشك أن يدعه بإهماله، و أنه يلزم إهماله لأجل ذلك و لو في غير مورد النصوص، كالشك في أفعال الوضوء.

بل لو تمَّ لجري في جميع موارد كثرة الشك، كما ذكرنا.

لكنه يشكل بأن المستفاد من النصوص أمران.

الأول: أن كثرة الشك في الصلاة من الشيطان، و إليه يرجع التعليل بأنه يوشك أن يدعه بإهماله.

الثاني: أنه ينبغي إهمال الشك الذي هو من الشيطان، لئلا يطمع، لأنه معتاد لما عوّد.

و مقتضي الثاني إهمال كل شك يكون من الشيطان.

و لا إشكال في ذلك، كما هو مفاد صحيح عبد اللّه بن سنان: «ذكرت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجلا مبتلي بالوضوء و الصلاة، و قلت: هو رجل عاقل. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و أي عقل له و هو يطيع الشيطان! فقلت: و كيف يطيع الشيطان؟ فقال:

ص: 47

______________________________

سله هذا الذي يأتيه من أي شي ء هو؟ فإنه يقول لك: من عمل الشيطان» «1». و لذا أجمعوا ظاهرا علي إهمال شك الوسواسي.

و إنما الإشكال في أن كثرة الشك موجبة لإهماله مطلقا و لو لم يحرز استناده للشيطان- كما هو محل الكلام- و لا تفي به النصوص المذكورة.

و مجرد ظهورها في كون كثرة الشك في الصلاة من الشيطان لا يستلزم كون كثرة الشك في جميع الموارد منه، لإمكان مزية للصلاة في ذلك، بلحاظ أهميتها الموجبة لاهتمامه بإفسادها و نقضها، و لا سيما لو كان قطع الصلاة مرجوحا ذاتا حتي مع الشك، و أن جوازه حينئذ للمزاحم.

اللهم إلا أن يقال: لو كان لكثرة الشك سبب غير الشيطان لجري في الصلاة أيضا، فإن أهميتها و خصوصيتها لا تمنع من تحقق السبب المذكور فيها.

فما تضمنته النصوص من أن كثرة الشك فيها من الشيطان إن كان بنحو القضية الحقيقية دل علي ذلك في غيرها أيضا، و إن كان بنحو القضية الغالبية أو الادعائية، بلحاظ دخل الشيطان في بعض مقدمات كثرة الشك، فتستند إليه و لو بالواسطة دل علي كفاية ذلك في إهمال الشك، و يجري في غير الصلاة بمقتضي عموم التعليل.

نعم، لو كان إسناد كثرة الشك للشيطان تعبديا ظاهريا أمكن اختصاصه بمورده، لكن ظاهر النصوص كونه حقيقيا حكاية عن قضية واقعية لا خصوصية للمورد فيها.

و لا سيما مع ما في موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا سهو علي من أقر علي نفسه بسهو» «2»، لقرب كون المراد به الإقرار بسبب كثرة السهو، و إلا فكل ساه لا يرتب حكم السهو حتي يعلم من نفسه بالسهو و يقرّ به عليها، و مقتضي إطلاقه رفع حكم السهو في جميع موارد كثرته.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 8.

ص: 48

______________________________

لكن في بلوغ ذلك حدا يصلح معه للاستدلال إشكال، لتوقف استفادة العموم من تلك النصوص علي إلغاء خصوصية الصلاة عرفا، بحيث تكون النصوص ظاهرة فيه، أو القطع بعدم خصوصيتها، ليتعدي عنها بتنقيح المناط، و الأول محتاج إلي لطف قريحة، و الثاني حجة علي مدعيه.

و الموثق لا يخلو عن إجمال، لأن المعني المذكور و إن كان قريبا، إلا أنه لا شاهد له من الكلام.

فيشكل التعدي عن الصلاة، و لا سيما مع أن مقتضي ذلك التعدي لجميع موارد كثرة الشك، و لا يظهر منهم البناء عليه، لعدم تصديهم لاستثنائه في غير أفعال الصلاة و الوضوء.

نعم، لا ينبغي التأمل في عموم عدم الاعتناء بالشك الذي يحرز أنه من الشيطان، و الذي هو عبارة عن شك الوسواسي أو من مبادئه، لأنه المتيقن من النصوص المتقدمة و منها صحيح ابن سنان.

و إن كان قد ينافيه مرسل الواسطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت: جعلت فداك، أغسل وجهي ثمَّ يشكّكني الشيطان أني لم أغسل ذراعي و يدي. قال: إذا وجدت برد الماء علي ذراعك فلا تعد» «1»، لظهوره في عدم إهمال الشك الذي يكون من الشيطان مطلقا، بل لا بد من الرجوع للأمارة المذكورة علي حصول المشكوك.

لكن ضعف سنده، و عدم ظهور الجابر له مانع من الاعتماد عليه.

و قد حمل علي التنبيه لما يرفع الوسواس خارجا، بدعوي: أن وجدان برد الماء موجب لارتفاع الشك في غسل الذراع و ظهور كونه من سنخ الوسواس.

و ربما يحمل علي التنبيه لما يظهر حال الشك من كونه من الشيطان أو عدمه، إذ الشك مع وجدان برد الماء شيطاني غير طبيعي، و مع عدمه طبيعي غير شيطاني، أو التنبيه لما يرفع الشك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 49

______________________________

كما ربما يحمل إسناد الشك في كلام السائل للشيطان علي ابتنائه علي أن الشيطان سبب في كل شك، لإشغاله ذهن الإنسان بما ينسيه حاله، لا علي إرادة نوع الشك الخاص المنسوب للشيطان عرفا، و الذي هو مورد النصوص المتقدمة، و يكون التنبيه لوجدان برد الماء منه عليه السّلام لأنه موجب لليقين بغسل اليد في فرض عدم غسلها لغير الوضوء، كما هو المنصرف من الحديث، و لو فرض بقاء الشك معه كان من سنخ الوسواس الذي ينبغي إهماله.

ثمَّ إنه بعد ما تقدم لا حاجة للكلام في معيار كثرة الشك و فروعها، بل يوكل لمحله من مبحث خلل الصلاة، لأنه مورد الحاجة لذلك.

و اللّه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد، و له الحمد علي نعمائه، و الصلاة و السلام علي خاتم أنبيائه و آله الطيبين الطاهرين.

ص: 50

الفصل الخامس في نواقض الوضوء

اشارة

الفصل الخامس في نواقض الوضوء يحصل الحدث (1) بأمور.

______________________________

(1) مراده به الأمر المسبب عن النواقض المذكورة المرتفع بالوضوء، و لأجله صار الوضوء سببا للطهارة، لوضوح أن الطهارة إنما تصدق بلحاظ ارتفاع نحو من القذر.

و بهذا تكون الطهارة مقابلة للحدث تقابل العدم و الملكة، كما هو الحال في الطهارة من الحدث الأكبر و من الخبث بالإضافة إليهما، كما صرح به شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و أما ما في الجواهر من أن التقابل بينهما تقابل التضادّ، فمن لم يبتل بسبب كل منهما لا يحكم عليه بأحدهما، و عليه رتب الفرق العملي بين شرطية الطهارة و مانعية الحدث.

فهو لا يناسب معني الطهارة عرفا، و لا قرينة علي نقلها عن المعني العرفي في المقام، و ليس اختلاف الشارع و العرف فيها ناشئا عن اختلاف مفهومها، بل اختلاف مصاديقها، لأنها من المعاني الإضافية، كما سبق في ذيل الدليل الأول من أدلة مطهرية الماء المطلق.

و هو لا ينافي عدم الحكم بالطهارة علي من لم يبتل بأسباب الحدث المعهودة، كما لعله مقتضي قولهم عليهم السّلام: «لا صلاة إلا بطهور» «1»، لإمكان الحكم

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب الوضوء.

ص: 51

الأول و الثاني خروج البول و الغائط

الأول و الثاني: خروج البول و الغائط (1)،

______________________________

عليه بالحدث حين وجوده و إن لم يطرأ سببه المعهود.

و من هنا كان الظاهر رجوع شرطية الطهارة لمانعية الحدث، كما هو المناسب لمرتكزات المتشرعة و عمل الفقهاء.

ثمَّ إن في كون الحدث حقائق متعددة بتعدد الأسباب أو حقيقة واحدة مستندة لكل منها قابلة للتأكد، أو لا، كلام تقدم في مبحث النية في ذيل الكلام في وجوب نية الرفع و الاستباحة.

هذا، و ظاهر غير واحد من الأصحاب إطلاق الحدث علي نفس الأسباب، و هي النواقض المذكورة، و لعله الأنسب بالمعني الاشتقاقي و الإطلاق العرفي.

بل هو الظاهر من صحيح إسحاق بن عبد اللّه الأشعري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: لا ينقض الوضوء إلا حدث، و النوم حدث» «1».

و خبر الكناني عنه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يخفق و هو في الصلاة، فقال: إن كان لا يحفظ حدثا منه إن كان، فعليه الوضوء و إعادة الصلاة.» «2».

و في المدارك أنه مشترك لفظي بين المعنيين. و الأمر سهل.

(1) بإجماع المسلمين، كما في التهذيب و المعتبر و المدارك، و في المنتهي أنه لا يعرف فيه خلافا بين أهل العلم، و عن غير واحد دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي الكتاب المجيد في الغائط- النصوص المستفيضة «3»، بل لعلها متواترة معني.

و ظاهرهم- كالمتن- أنه يكفي خروجهما، و لا يعتبر إخراجهما بالنحو الذي يصحح نسبتهما للمكلف، و به صرح في الجواهر، و ظاهر غيره المفروغية عنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(3) راجع الوسائل باب: 1، 2 من أبواب نواقض الوضوء و غيرهما.

ص: 52

سواء أ كان من الموضع المعتاد بالأصل (1)،

______________________________

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق نسبة الخروج للبول و الغائط في النصوص- ما تضمن الانتقاض بخروج حب القرع متلطخا بالعذرة «1»، و بخروج البلل المشتبه قبل الاستبراء «2»، و ما ورد في المسلوس و المبطون «3».

و به يخرج عما قد يوهمه التعبير بالحدث، بل قد يظهر من خبر الكناني المتقدم صدق الحدث بذلك.

كما أن ظاهرهم أن المراد من الخروج هو المتعارف المبني علي التحرك عن المخرج و الانتقال منه، لا مجرد الظهور لانفراج المخرج أو بروزه للخارج لعارض، كما قرّبه في جامع المقاصد و الروض و المدارك و كشف اللثام و الجواهر و محكي الذكري، و مال إليه في الرياض، لأنه الظاهر من الخروج في النص، و لا أقل من كونه المتيقن منه و مما تضمن ناقضية البول و الغائط، فيرجع في غيره لاستصحاب الطهارة.

فما في المنتهي و عن التحرير و التذكرة من الإشكال فيه، بل في المستند الجزم بالنقض، في غير محله. فتأمل.

(1) الظاهر أن المراد به الموضع الطبيعي لخروجهما في نوع الإنسان، و هو القبل في البول و الدبر في الغائط.

و الظاهر أنه المراد من الموضع المعتاد في المعتبر و الشرائع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الروضة، كما حمله عليه في جامع المقاصد و المسالك و الروض و المدارك، فذكر الاعتياد بلحاظ النوع، لا بلحاظ الشخص.

و كيف كان، فتحقق الحدث بما يخرج منهما مع فعلية الاعتياد للشخص هو

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب نواقض الوضوء.

(2) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء.

(3) راجع الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء.

ص: 53

______________________________

المتيقن من النص و الفتوي، و مع عدمه- كما في الخروج منهما في المرة الأولي، أو لاعتياد الخروج من غيرهما لشذوذ خلقي- هو مقتضي إطلاق الانتقاض بخروج البول و الغائط في المقنع و المقنعة و الناصريات و النهاية و المبسوط و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و اللمعة، أو بما يخرج من الطرفين في الهداية، بل هو مقتضي إطلاق الانتقاض بخروجهما من الموضع المعتاد في كلام من عرفت، بناء علي حمله علي ما تقدم. و به صرح في المسالك و الروض و الرياض، و نفي الخلاف فيه في الحدائق، بل عن محكي شرح الدروس دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه إطلاق صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: ما ينقض الوضوء؟ فقالا: ما يخرج من طرفيك الأسفلين- من الذكر و الدبر- من الغائط و البول، أو مني، أو ريح، و النوم حتي يذهب العقل» «1»، و نحوه غيره مما تضمن ناقضية ما يخرج من الطرفين و ناقضية البول و الغائط.

و الانصراف لصورة الاعتياد في المخرج- لو تمَّ- بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق.

لكن في الجواهر: «لعل قوله في خبر أبي بصير: «إنما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم بهما عليك» «2»، يرشد إلي اعتياد الخروج»، و كأنه لأن إنعامه تعالي بهما إنما هو بلحاظ كونهما طريقين معدين لخروج البول و الغائط، فمن لم يكونا له كذلك محروم من نعمتهما، و إن كانا عنده و تحقق الخروج منهما علي خلاف العادة، فلا يكون الخارج منهما خارجا من الطرفين اللذين أنعم اللّه بهما عليه.

و فيه- مع أنه لو تمَّ كون الإنعام بإعدادهما للخروج لا بنفس الخروج منهما، فهو لا ينهض بإثبات اعتبار اعتياد الخروج منهما كي لا يحصل الحدث بالخروج منهما في المرة الاولي، بل اعتبار إعدادهما للخروج، فلا يحصل مع اعتياد عدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2، و يأتي في تحقيق حكم الخارج من غير السبيلين الكلام في متن الحديث.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 54

أم بالعارض (1)، أم كان من غيره، علي الأحوط وجوبا.

______________________________

الخروج منهما لشذوذ خلقي-: أن الظاهر كون ذكر الإنعام فيهما لمحض الإشارة للجارحتين المخصوصتين، لا لتوقف الحكم عليه، غايته أنه يكشف عن فرض الإنعام بهما في حق المخاطب، فلا عموم للحديث في حق غيره ممن لا يتحقق في حقه الإنعام، فيرجع فيه لإطلاق بقية النصوص، و لا يصلح الحديث لتقييدها.

و إنما يتم ما ذكره لو كان بيان ذلك بلسان الشرط مثلا، كما لو قيل: إنما الوضوء من طرفيك إن أنعم اللّه بهما عليك.

هذا، و قد صرح في الشرائع و المعتبر و المنتهي و غيرها بعموم الحكم لما إذا كان المخرج المعهود في غير موضعه الطبيعي، و نفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه، بل في المنتهي و المدارك و عن التحرير دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه إطلاق النصوص المتقدمة، و لا ينافيه وصف الطرفين في بعضها بالأسفلين، لظهوره في الإشارة للجارحتين المعهودتين من دون دخل له في الحكم، نظير ما تقدم.

علي أن كونهما في غير موضعهما الطبيعي قد يجتمع مع كونهما أسفلين.

فما في الحدائق من الإشكال فيه، حملا للإطلاق علي المتعارف مع عدم حجية الإجماع، ضعيف.

(1) اختلفت كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في البول و الغائط الخارجين من غير السبيلين علي أقوال.

الأول: النقض مطلقا، كما عن ابن إدريس و التذكرة، و يقتضيه إطلاق الحكم بناقضية البول و الغائط ممن تقدم، و قوّاه في الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و قد استدل له بإطلاق الآية الشريفة، و بعض النصوص المتضمنة لناقضية البول و الغائط، كصحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يوجب الوضوء إلا من

ص: 55

______________________________

غائط أو بول.» «1»، مع حمل التقييد بالخروج من الطرفين في النصوص الأخر علي الغالب.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مراعاة الغلبة في المقيدات توجب مراعاتها في المطلقات فتقصر عن غير الغالب- و هو الخارج من غير السبيلين- فلا دليل علي ناقضيته.

كما تري! لعدم التلازم بين الأمرين، بل بينهما كمال التنافي، غاية الأمر أنه لا بد من النظر في وجه حمل القيد علي الغلبة مع أن الأصل فيه الاحتراز، و هو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

و أما حمل الحصر علي كونه بالإضافة إلي ما يفتي العامة بناقضيته، كما هو الظاهر من صحيح أبي بصير أو موثقه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرعاف [القي ء خ. ل]، و الحجامة، و كل دم سائل، فقال: ليس في هذا وضوء، إنما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم اللّه بهما عليك» «2»، لا بالإضافة إلي فاقد القيد المذكور.

فهو لا يتم ما لم يحمل القيد علي الغالب، لوضوح أن الحصر بالمقيد في مقابلهم يقتضي الاختصاص به، لا العموم للمطلق، فلا وجه لجعله وجها في مقابله، كما في الجواهر و غيره.

و أشكل منه ما أشار إليه من عدم حجية مفهوم القيد، لاختصاص ذلك بما إذا لم يقع القيد في مقام التحديد- كما في صحيح زرارة السابق- أو في حيز أدوات الحصر- كما في غير واحد من نصوص المقام- و إلا كان من مفهوم التحديد و الحصر، اللذين لا إشكال في حجيتهما.

الثاني: التفصيل بين ما يخرج من دون المعدة، فينقض، و ما يخرج من فوقها، فلا ينقض، كما في المبسوط، و الخلاف، و جواهر القاضي، و المذكور فيها و إن كان هو التفصيل في البول و الغائط معا، إلا أن دليله مختص بالغائط، فقد

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 56

______________________________

استدل علي النقض في الأول بالإطلاقات المتقدمة، و علي عدمه في الثاني بأن ما يخرج مما فوق المعدة لا يسمي غائطا.

و منه يظهر أن هذا التفصيل لا ينافي القول الأول، بل هو تفصيل في تحقق صغراه.

و قد استشكل فيه في المعتبر و غيره بأن المراد بالغائط في المقام الفضلة الخاصة، و هي الثفل، و لا خصوصية للمخرج في صدقه، بل لو فرض رجوعه إلي ما فوق المعدة و خروجه عن طريق الفم أو غيره لصدق عليه الغائط.

و قد وجه البهائي قدّس سرّه في الحبل المتين المراد من التفصيل المذكور بما قد يدفع الإشكال عنه، حيث حمله علي التفصيل بين ما يخرج بعد انحدار الطعام من المعدة للأمعاء و هضمها له و ما يخرج قبل ذلك، حيث لا يتضح صدق الغائط عليه حينئذ، بل هو يشبه القي ء، فالمراد مما يخرج دون المعدة الأول، و مما يخرج من فوقها الثاني.

و ما ذكره قدّس سرّه و إن لم يناسب مفاد كلام المفصلين، إلا أنه قريب، بلحاظ قرب كون المراد الخروج الانحداري، لأنه المنصرف، دون الرجوعي.

نعم، قد يشكل صدق الغائط بمجرد هضم المعدة للطعام و دفعه للأمعاء، بل لا يبعد احتياجه لمقدار من المرور في الأمعاء و امتصاصها منه في الجملة، و المدار علي الصدق العرفي، كما نبّه له شيخنا الأستاذ قدّس سرّه.

الثالث: التفصيل بين الاعتياد و عدمه، كما في الشرائع و القواعد، و عن الدروس و البيان.

و قد يوجه- بناء علي الرجوع للمطلقات- بانصرافها عن غير المعتاد، و بناء علي تقييدها بنصوص السبيلين بدخوله في إطلاقها، لصيرورته مخرجا عرفا- كما في جامع المقاصد- أو بمساواته للسبيلين، إما لكونه مما أنعم اللّه به- كما في المعتبر- أو لاستبعاد عدم الانتقاض بما يخرج منه.

لكن انصراف المطلقات عن غير المعتاد غير ظاهر، كما تقدم في صورة

ص: 57

______________________________

الخروج من المخرج الطبيعي.

علي أن المنشأ للانصراف- لو تمَّ- ليس هو الاعتياد، بل الغلبة، و هو يقتضي قصور الإطلاق عن الخارج من غير السبيلين، و لو مع الاعتياد، لكونه الفرد النادر من المطلق.

نعم، لو كان الانصراف للتغوط و التبول، لم يبعد كونهما منوطين بالاعتياد في غير السبيلين، إلا أنه تقدم عدم كونهما معيارا في الناقضية.

و شمول إطلاقات السبيلين له ممنوع جدا، لأن الظاهر منهما خصوص القبل و الدبر، كما هو المصرح به في صحيح زرارة المتقدم، لا كل ما يصدق عليه المخرج.

و كذا صدق الإنعام به، لظهور نسبة الانعام له تعالي في إرادة ما يكون بحسب أصل الخلقة، لا بسبب طارئ مستند للعبد.

مع أن الأنعام قد أخذ في النص وصفا للطرفين المقصود بهما خصوص السبيلين، و ليس هو تمام الموضوع للحكم.

مضافا إلي أن تحكيم النصوص المقيدة للإطلاقات يقتضي العمل بأخصها، و هو ما تضمن التقييد بالذكر و الدبر. فلاحظ.

و أما استبعاد عدم الانتقاض به، فهو لا يبلغ مرتبة الحجية في المقام.

الرابع: التفصيل بين انسداد المخرج الطبيعي و عدمه، فينقض في الأول، و لو في المرة الأولي قبل تحقق الاعتياد، دون الثاني، كما في الروضة و الرياض، و عن الجعفرية.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 58

و قد استدل عليه بما سبق من أنه يصير مخرجا منعما به، و غيره مما يظهر ضعفه بما تقدم.

كما قد يستدل عليه بالإجماع المدعي في المنتهي و المدارك.

و يشكل بعدم ظهور كلامهما في دعوي الإجماع في المقام، قال في المنتهي: «لو اتفق المخرج في غير المعتاد خلقة انتقضت الطهارة بخروج الحدث

ص: 58

______________________________

منه إجماعا، لأنه مما أنعم به، و كذا لو انسد المعتاد و انفتح غيره»، و المتيقن منه إلحاقه بما سبقه في الحكم- كما هو صريح المدارك- لا في الإجماع، مع عدم وضوح حجية دعوي الإجماع المذكورة.

و قد استدل بعض مشايخنا علي عدم الانتقاض مع انفتاح المخرجين و عدم اعتياد الخروج من غيرهما بنصوص التقييد بالسبيلين، كصحيح زرارة المتقدم، و علي الانتقاض مع انسدادهما بإطلاقات الانتقاض بخروج البول و الغائط، لاختصاص نصوص التقييد المذكورة بغير المورد، لأن الخطاب في صحيحة زرارة شخصي قد وجه إلي زرارة و كان سليم المخرج، و التعدي منه بالقطع بعدم خصوصية المورد إنما يصح لكل من كان سليم المخرج، دون غيره ممن انسد مخرجه، بل المرجع فيه الإطلاقات.

و فيه: أن زرارة كما كان سليم المخرج لم يكن له طريق آخر يخرج منه الخبثان، فلو كان الخطاب شخصيا لم يتجه التعدي منه لمن له الطريق الذي يخرج منه الخبثان باعتياد و بدونه، لعدم القطع بعدم دخل الخصوصية المذكورة، و إن لم يكن شخصيا، لإلغاء خصوصية المورد عرفا- كما هو الظاهر، حيث يفهم منه بيان موضوع الحكم في حق كل أحد- كان صالحا للاستدلال علي التقييد في حق من انسد مخرجه أيضا.

هذا، و قد اعتبر في المستند الاعتياد في النقض مع الانسداد، و حكاه عن نهاية الاحكام. لكن في كشف اللثام: «قيل: و لا شبهة في عدم اعتباره مع انسداد الطبيعي».

الخامس: التفصيل بالنقض مع انسداد المخرج الطبيعي مطلقا و لو في المرة الأولي قبل تحقق الاعتياد، و مع عدمه بشرط الاعتياد، و عدمه مع عدم الأمرين من الانسداد و الاعتياد، كما هو صريح المعتبر و المنتهي و جامع المقاصد و الروض، و ظاهر المدارك و عن الدلائل و مجمع الفائدة، و ظاهر الحدائق أنه المشهور، و ظاهر الرياض أنه الأشهر.

ص: 59

______________________________

و يظهر وجهه مما تقدم في القولين السابقين.

السادس: عدم الانتقاض مطلقا، كما مال إليه في الحدائق، و هو مقتضي الجمود علي ما تقدم من الصدوق في الهداية من الاقتصار علي ما يخرج من الطرفين. بل قد يظهر من الاقتصار علي ما يخرج من المعتاد في النافع و الإرشاد، بناء علي ما تقدم من ظهوره في المعتاد النوعي، إذ لو أريد به الاعتياد الشخصي لزم عدم ناقضية ما يخرج من الموضع الطبيعي من دون اعتياد.

و يستدل له بقصور الإطلاقات عنه، إما لانصرافها للفرد المتعارف، أو لتقييدها بنصوص الخروج من السبيلين، الذي هو العمدة في المقام، لما تقدم غير مرة من عدم التعويل علي مثل هذه الانصرافات.

هذا ما عثرنا عليه من أقوال الأصحاب، و قد ظهر مما سبق ضعف التفصيلات الأربعة في المقام، فلا بد من النظر في القول الأول و الأخير بالنقض مطلقا و عدمه كذلك.

و مدار الكلام فيهما علي أن نصوص السبيلين واردة مورد الغالب، أو مقيدة للإطلاقات.

و قد أصر غير واحد علي الأول، و قرّبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأن الصلة ليست مناطا للحكم، لأن الموصول ليس للعموم، للزوم تخصيص الأكثر، فإن كثيرا مما يخرج من الطرفين ليس ناقضا، بل المراد به المعهود، و هو البول و الغائط و الريح، فتكون الصلة معرفة لذلك المعهود و مفسرة له، بلحاظ غلبة اتصافه بها، من دون دخل لها في الحكم.

و استشهد لذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه بما في صحيح زرارة من عطف البول بالواو، و عطف المني و الريح بأو، مع خروجها بأجمعها من السبيلين، حيث لا نكتة لذلك إلا كون البول و الغائط تفسيرا للموصول، لإرادة العهد به، و ما بعدهما معطوفا عليه، و لو كانا قيدا للموصول- لدخل عنوانه في موضوع الحكم- لشاركهما ما بعدهما في ذلك، و ناسب العطف بوجه واحد.

ص: 60

______________________________

و يشكل: بأن ظاهر الكلام كون الصلة مناطا للحكم، و لزوم تخصيص الأكثر بالنحو المستهجن ممنوع، لأن الفرد الشائع الكثير الوقوع المأنوس به الذهن هو الأمور الثلاثة المذكورة، فلا يستهجن عدم إرادة غيرها و إن كان أكثر عددا منها، و لا سيما مع قرب ورود التخصيص بالسبيلين لدفع توهم ناقضية مثل القي ء و الرعاف، كما تقدم في حديث أبي بصير، فيضعف إطلاق عقد الإيجاب فيه.

و أما صحيح زرارة، فما تقدم فيه مبني علي روايته بالوجه المذكور، كما في الوسائل، و هو مخالف لما في الكافي و التهذيب و الفقيه و الحدائق و الوافي من عطف البول علي الغائط ب «أو» مع تنكيرهما، كما هو المناسب لعطف النوم بالواو مع تعريفه، حيث يكون هو المعطوف علي الموصول و ما قبله من تتمة صلته.

بل حمل الموصول علي الإشارة لخصوص البول و الغائط دون الريح بعيد جدا غير مناسب لبقية النصوص المقتصر فيها علي ذكر ما يخرج من الطرفين، حيث لم تتعرض للريح، فلو لا دخوله فيما يخرج من الطرفين لكان المناسب التعرض له، كما تعرض له ما تضمن البول و الغائط بعنوانيهما.

فلا مجال للاستشهاد بالصحيح علي معرفية الصلة و عدم دخلها في موضوع الحكم.

فلم يبق إلا استبعاد دخلها في الحكم، لدعوي أن المناسبات الارتكازية تقتضي بأن المدار علي نفس الخبثين من دون خصوصية للمخرج، و لا سيما مع بعد عدم الانتقاض بالخارج من المعتاد غير السبيلين، خصوصا مع انسدادهما، لبعد انحصار الناقض للشخص المذكور بالنوم.

بل يظهر من غير واحد المفروغية عن الانتقاض حينئذ. فإن ذلك بمجموعه لو لم يكن قرينة علي صرف القيد للغالب، فلا أقل من كونه موجبا لإجماله، فيلزم الرجوع لإطلاق ما تضمن ناقضية البول و الغائط مما تقدم في حجة القول الأول.

لكن في بلوغ ذلك حدا صالحا للخروج عن ظهور القيد في الاحتراز إشكال.

ص: 61

______________________________

و المناسبات الارتكازية غير ظاهرة في مثل هذه الأمور التعبدية المحضة. و لا سيما مع صعوبة الالتزام بذلك في الريح، لعدم صدق عنوانه المذكور في النصوص مع خروجه من غير المخرج الطبيعي غالبا، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و استبعاد انحصار الناقض بالنوم في حق الشخص المذكور غير بالغ مرتبة الحجية بنفسه، و لا صالح للقرينية علي الكلام عرفا، بنحو يوجب التوقف عن ظهوره الأولي.

نعم، لو فرض ثبوت النقض في حق الشخص المذكور بإجماع أو نحوه، لم يبعد التعدي عنه لجميع موارد الخروج من غير السبيلين، و لو مع عدم الاعتياد، لقرب كشفه عرفا عن عدم دخل المخرج في الناقضية، و أن ذكره لمحض الغلبة، لما هو المرتكز عرفا حينئذ من اشتراك الكل في سبب واحد، و هو البول و الغائط.

و بعبارة أخري: لا يبعد كون إلغاء خصوصية السبيلين حينئذ مطلقا أقرب عرفا من قصر خصوصيتهما علي غير الشخص المذكور.

لكن لا طريق لإثبات النقض في حق الشخص المذكور، لما تقدم في القول الرابع من عدم ثبوت الإجماع، فلا مخرج عن ظهور القيد في الاحتراز، كما لا تصل النوبة لدعوي الإجمال الملزم بالرجوع لإطلاق أدلة ناقضية البول و الغائط.

علي أنه لم يتضح تمامية الإطلاق للأدلة المذكورة، و إن جرينا علي ذلك في عرض حجة القول الأول.

أما الآية الشريفة، فلأن المجي ء من الغائط فيها كناية عن قضاء الحاجة بالتخلي بالنحو المعهود، فالتعميم لمطلق خروج الغائط من الموضع الطبيعي و لو مع عدم صدق التخلّي- فضلا عن خروجه من غيره- مبني علي إلغاء الخصوصية عرفا، أو القطع بعدمها، و هما في محل المنع، و ليس استفادة العموم لكل ما يخرج من الموضع الطبيعي و إن لم يصدق التخلي إلا بضميمة الأدلة الأخر العامة أو الخاصة التي تقدم التعرض لها في أول الفصل.

ص: 62

______________________________

و أما النصوص المتضمنة للبول و الغائط بعنوانيهما، فلوضوح أن نسبة النقض للعين- بعد تعذر حمله علي استناده لمحض وجودها، للقطع بعدم ناقضيتهما قبل خروجهما- ينصرف لخصوص المتعلق الظاهر المعهود لها، و المتيقن منه الخروج بالنحو الطبيعي المعهود الذي يكون بالتخلي، كما تقدم في الآية.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الظاهر في مثل ذلك الخروج من دون خصوصية للمخرج، لم يتضح بنحو معتدّ به، بل يبعد جدا فهم بعض أفراده من الإطلاق.

و ليس هذا من باب انصراف المطلق بسبب الغلبة- الذي تكرر منا منعه- بل هو راجع إلي منع الغلبة من انعقاد الإطلاق، و خروج الفرد غير المعهود عن المتيقن منه.

هذا، و قد يستدل للتعميم بما في العلل و عيون الأخبار، بسند لا يخلو عن اعتبار، عن الرضا عليه السّلام: «إنما وجب الوضوء مما خرج من الطرفين خاصة و من النوم دون سائر الأشياء، لأن الطرفين هما طريق النجاسة، و ليس للإنسان طريق يصيبه النجاسة من نفسه إلا منهما، فأمروا بالطهارة عند ما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم» «1»، بدعوي: أن مقتضي عموم التعليل لكل طريق في البدن تصيبه النجاسة منه.

و هو كما تري! لظهور أن مثل هذه التعليلات ليست موضوعا للحكم بنحو يدور مدارها وجودا و عدما، بل هي من سنخ الحكمة غير المطردة و لا المنعكسة.

كيف و التعليل المذكور لا يناسب ناقضية الريح؟! بل مقتضاه عدم ناقضية البول و الغائط لو لم يستلزم خروجهما نجاسة البدن، و ناقضية خروج الدم من مثل البواسير و نحوها مما يخرج من طريق في البدن.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 63

______________________________

و قد تحصّل من جميع ما تقدم: أن الأدلة لا تنهض بالتعدي إلي ما يخرج من غير الموضع الطبيعي.

غاية ما في الأمر استبعاد عدم الانتقاض مع تعود الخروج منه، و لا سيما مع انحصار الطريق به لانسداد الموضع الطبيعي، كاستبعاد التعميم لمطلق الخروج منه و لو نادرا بسبب طعنة أو نحوها.

و جعل المدار علي التعود أو الانحصار لا تنهض به الأدلة، كجعل المدار علي ما يصدق معه عرفا قضاء الحاجة من تبول أو تغوط، بل هو لا يناسب ما تضمن ناقضية خروج الحب ملطخا بالعذرة و نحوه مما تقدم في أول الفصل.

و كأن هذا الاستبعاد هو الذي أوجب هذه التفصيلات التي عرفت عدم نهوض الأدلة بها.

فالظاهر أن ذلك فرد مسكوت عنه غير منظور إليه في إطلاق الأدلة و فتاوي قدماء الأصحاب، لعدم شيوع الابتلاء به، كما هو الحال في كثير من الفروع في أبواب الفقه، و إلا فمن البعيد فهم حكمه من هذه البيانات بنحو يستغني عن التنبيه عليه لو كان موردا للابتلاء، فلم يبق إلا الاحتياط في الفتوي و العمل، فإنه أسلم عاقبة. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و منه نستمد العون و التوفيق.

ثمَّ إنه لو بني علي النقض، فالمعيار هو الخروج عن حد البدن، فلو وضعت في المثانة- مثلا- أنبوبة (صوندة) لخروج البول و لها من طرفها الخارج سدّاد، كفي في النقض خروجه عن حد البدن و إن بقي في الانبوبة و لم يخرج عن السداد، فلو استمر خروجه لها يلحقه حكم السلس و إن انحبس بالسداد.

نعم، لو رجع من الانبوبة للداخل ثمَّ خرج لم يتحقق به النقض، لأن المنصرف من دليل النقض هو الخروج الأول المتعقب لتكون الخبث في البدن، دون الخروج المتعقب لدخول الخبث من الخارج، فلا يكون ناقضا حتي لو خرج من المخرج الطبيعي. فلاحظ.

ص: 64

و البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء بحكم البول ظاهرا (1).

الثالث خروج الريح من الدبر

الثالث: خروج الريح من الدبر (2).

______________________________

(1) كما تقدم في الفصل الرابع من مبحث أحكام الخلوة.

(2) بإجماع المسلمين، كما في التهذيب و المعتبر و المدارك، و في المنتهي أنه لا يعرف فيه خلافا بين أهل العلم، و عن غير واحد دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه النصوص «1» المستفيضة، بل لعلها متواترة معني. و قد تقدم بعضها.

و مقتضي إطلاقها- ككلام الأصحاب- عدم اعتبار الاعتياد في الخروج من الدبر، كما تقدم في البول و الغائط، خلافا لما قد يظهر من المراسم، حيث قال:

«و الريح الخارجة من الدبر علي وجه معتاد».

إلا أن يكون الاعتياد في كلامه وصفا للريح لبيان نوعها، لا قيدا في ناقضيتها، فيوافق ما في المتن.

كما أن مقتضي إطلاق معاقد الإجماعات و أكثر النصوص عدم اعتبار سماع الصوت أو ظهور الريح في النقض.

نعم، في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يوجب الوضوء إلا من غائط، أو بول، أو ضرطة تسمع صوتها، أو فسوة تجد ريحها» «2»، و في موثق سماعة: «سألته عمّا ينقض الوضوء، فقال: الحدث تسمع صوته، أو تجد ريحه.» «3»، و نحوهما غيرهما. و بمضمون الموثق عبّر في المقنع.

و في المدارك: «و مقتضي الرواية أن الريح لا يكون ناقضا إلا مع أحد الوصفين».

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 2، 3 من أبواب نواقض الوضوء.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 65

أو من غيره، إذا كان من شأنه أن يخرج من الدبر (1)،

______________________________

و قد حمل غير واحد النصوص المذكورة علي صورة الشك، كما هو المناسب لما في صحيح معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتي يخيل إليه أنه قد خرج منه ريح، فلا ينقض الوضوء إلا ريح تسمعها أو تجد ريحها» «1».

و في صحيح عبد الرحمن: «أنه قال للصادق عليه السّلام: أجد الريح في بطني حتي أظن أنها قد خرجت. فقال: ليس عليك وضوء حتي تسمع الصوت أو تجد الريح، ثمَّ قال: إن إبليس يجلس بين إليتي الرجل فيحدث ليشككه» «2».

لظهورهما في ناقضية الريح بنفسها، و لذا يكون تخيلها سببا للشك في الانتقاض، و ليس اعتبار أحد الوصفين إلا لليقين بخروجها، بل هو صريح خبر علي ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «و سألته عن رجل يكون في الصلاة فيعلم أن ريحا قد خرجت، فلا يجد ريحها و لا يسمع صوتها. قال: يعيد الوضوء و الصلاة، و لا يعتدّ بشي ء مما صلي إذا علم ذلك يقينا» «3».

و من ثمَّ كان ظاهر الأصحاب المفروغية عن عدم اعتبارهما في الناقضية واقعا، لعدم تنبيههم عليه، بل في الرياض أنه لا ريب فيه.

و لذا لم يبعد حمل ما تقدم من المقنع علي صورة الشك، و لا سيما مع إطلاقه ناقضية الريح في صدر كلامه.

كما أنه احتمل في الجواهر عدم إرادة الخلاف مما سبق من المدارك.

(1) ظاهر غير واحد من الأصحاب أن الكلام هنا هو الكلام فيما سبق، حيث حرروا الكلام في الأحداث الثلاثة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

ص: 66

و لا عبرة بما يخرج من القبل (1) و لو مع الاعتياد.

______________________________

نعم، اقتصر في المبسوط و الخلاف و جواهر القاضي و محكي السرائر و التذكرة و المختلف في فرض الخروج من غير السبيلين علي الغائط و البول، و هو مقتضي ما تقدم من المراسم من تقييد الريح بالخارجة من الدبر، و ما عن السرائر من أن الريح غير الخارجة من الدبر علي وجه متيقن- كالخارجة من فرج المرأة أو مسام البدن- ليست ناقضة، و إن أمكن تنزيله علي ما ليس من شأنه الخروج من الدبر، كما تقدم في كلام المراسم.

و لعله لذا قال في محكي شرح المفاتيح: «ادعي المعتبرون للاعتياد الإجماع علي أن الجشأ لا ينقض. و ما ندري ما يقولون في الجشأ المنتن إذا اعتيد خروج الغائط من الفم مع انسداد المخرج الطبيعي».

و كيف كان، فقد أشرنا إلي أن العمدة في التعميم حمل التقييد بالسبيلين علي الغالب، و أنه لا يخلو عن إشكال. و هو في المقام أشكل، لأن صحيح زرارة المتقدم قد تضمن عنوان الضرطة و الفسوة، و صدقهما يختص بالخروج من السبيلين، و حمله علي ما من شأنه أن يسمي بهما محتاج إلي قرينة.

و استبعاد عدم الانتقاض مع الاعتياد أو الانحصار هنا أضعف منه هناك بالنظر للمرتكزات.

و كأن مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه من إطلاق الحكم هنا الجري فيه علي ما سبق من الاحتياط في الفتوي، و إلا فالجزم هنا بعموم النقض لا يناسب التوقف فيه هناك جدا بعد ما ذكرنا.

(1) كما في المنتهي و جامع المقاصد و الروض و المدارك، و عن الشهيد و الذخيرة و السرائر، و هو مقتضي ما تقدم من المراسم، لعدم صدق العنوانين المذكورين في صحيح زرارة المتقدم عليه.

و لأجله ضعف ما في المعتبر و عن التذكرة و شرح الموجز من أن الريح

ص: 67

الرابع النوم

الرابع: النوم (1).

______________________________

الخارج من قبل المرأة ينقض لأن له منفذا للجوف، و زاد عليه في محكي التذكرة ريح الأدر، المفسر بذي الفتق، بل عن بعضهم إطلاق ناقضية ما يخرج من الذكر.

إذ لا دليل عليه إلا إطلاق ما تضمن ناقضية الريح و ما خرج من السبيلين، الذي لو لم ينصرف لخصوص ما يخرج من الدبر- كما يناسبه ما تضمن تشكيك الشيطان- لوجب الخروج عنه بالصحيح المذكور.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الانتصار، و الناصريات، و الخلاف، و كشف اللثام، و محكي السرائر، و التذكرة، و شرح الموجز، و نسبه في المعتبر و المنتهي إلي علمائنا، و في محكي الكفاية إلي الأصحاب، و عدّه الصدوق في أماليه من دين الإمامية، و ادّعي في التهذيب إجماع المسلمين عليه. و في الجواهر: «الأخبار به متواترة، كالإجماعات المنقولة البالغة إلي حد يمكن دعوي تحصيل الإجماع من نقلتها».

و لأجله لا بد أن يحمل حصر الصدوق في المقنع و الهداية النواقض في الثلاثة المتقدمة علي كونه بالإضافة إلي غيرها مما يقول به العامّة لا بالإضافة إلي ما يعم النوم، كما يناسبه اقتصاره فيما نص علي عدم ناقضيته علي القي ء و القلس و الحجامة و المذي و الوذي و نحوها، إذ لو كان يري عدم ناقضية النوم لكان أولي من غيره بأن ينبه عليه، بسبب معروفية ناقضيته بين الإمامية، و لا سيما مع تصريحه في المقنع بأن من استيقظ من نومه فلا بأس بأن يدخل يده في الماء قبل أن يغسلها، إلا أن يكون قد بال، فإن ذلك مما تعرضت له- في الجملة- النصوص «1» و الفتاوي في الوضوء بنحو يظهر منه المفروغية عن ناقضية النوم، و كذا تصريحه في الفقيه بناقضية النوم.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 27 و 28 من أبواب الوضوء، و هي قد تضمنت الحكم علي خلاف ما في المقنع.

ص: 68

______________________________

و علي ذلك أيضا يحمل ما عن رسالة والده من عدم عدّ النوم من النواقض، و من ثمَّ نبّه في كشف اللثام علي عدم قدح ذلك في الإجماع، كما ذكر أن خلافه لو تمَّ لا يقدح فيه.

و كيف كان، فيقتضيه- مضافا إلي ذلك- الكتاب المجيد، بناء علي أن المراد من القيام إلي الصلاة فيه هو القيام من النوم، كما ادعي إجماع المفسرين عليه في الانتصار، و الناصريات، و المنتهي، و محكي التبيان، و نسبه لهم في الخلاف.

و يشهد به موثق ابن بكير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالي إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ ما يعني بذلك؟ قال: إذا قمتم من النوم. قلت: ينقض النوم الوضوء؟

فقال: نعم، إذا كان يغلب علي السمع و لا يسمع الصوت» «1».

مضافا إلي النصوص «2» المستفيضة أو المتواترة معني المتضمنة لناقضيته، و قد تقدم و يأتي بعضها.

و أما الحصر في غير واحد من النصوص بالثلاثة المتقدمة، فهو بالإضافة إلي بقية ما يخرج من السبيلين و غيرهما مما يخرج من الإنسان، كما تشير إليه بعضها، و يقتضيه الجمع بينها و بين نصوص المقام.

ثمَّ إن ظاهر النصوص و الفتاوي ناقضية النوم بنفسه، في قبال بقية النواقض، بل هو كالصريح منها، و من ثمَّ جزم به بعضهم.

و في الحدائق أنه قد يفهم من بعض كلماتهم كون ناقضيته باعتبار احتمال حصول الناقض حينه.

و ربما يستشهد له برواية أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يخفق في الصلاة. فقال: إن كان لا يحفظ حدثا منه إن كان فعليه الوضوء و إعادة الصلاة، و إن كان يستيقن أنه لم يحدث فليس عليه وضوء و لا إعادة» «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(2) راجع الوسائل باب: 1، 2، 3، 4 من أبواب نواقض الوضوء.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

ص: 69

______________________________

و ما في العلل و العيون- بسند لا يخلو عن اعتبار- عن الرضا عليه السّلام: «قال: و أما النوم، فإن النائم إذا غلب عليه النوم يفتح كل شي ء منه و استرخي فكان أغلب الأشياء عليه فيما يخرج منه الريح، فوجب عليه الوضوء لهذه العلة» «1».

لكن ظاهر الثاني أن العلة هو التعرض للحدث مع النوم، و هو أمر أدركه الشارع ملاكا أو حكمة للحكم بناقضية النوم بنفسه واقعا مطلقا، و ليست العلة هي احتمال الحدث بنحو يكون هو الموضوع للنقض الظاهري، و يناط تشخيصه بالمكلف، كي لا يحكم بالنقض مع اليقين بعدم الحدث.

و أما الأول، فظاهر ذيله و إن كان هو ناقضية الحدث الذي قد يصاحب النوم- لا النوم بنفسه- إلا أن ظاهر صدره كون موضوع الناقضية واقعا هو كون المكلف بحيث لا يحفظ الحدث لو كان، و إن لم يكن حدث أصلا.

و تنزيل الصدر علي الذيل و إن كان هو الأظهر من الحديث، بجعل ناقضية الحالة المذكورة ظاهرية، بلحاظ استلزامها الشك في مصاحبة الحدث لها، إلا أنه قد يتعين- بلحاظ بقية نصوص المقام- تنزيل الذيل علي الصدر، بحمل اليقين في الذيل علي إرادة الالتفات حين الخفق، المستلزم لعدم تحقق النوم، في مقابل ما فرض في الصدر من فقد القوة الماسكة، المستلزم لفقد الالتفات، فيكون الحديث واردا لتحديد النوم الناقض، لأن مفروض السؤال هو الخفق الذي هو أعم منه، لا لبيان عدم ناقضية النوم بنفسه في فرض وجوده.

و إلا فلا مجال للخروج به عن نصوص المقام الكثيرة الظاهرة أو الصريحة في ناقضية النوم بنفسه كسائر النواقض، خصوصا صحيح إسحاق بن عبد اللّه الأشعري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا ينقض الوضوء إلا حدث، و النوم حدث» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 13.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 70

الغالب علي العقل (1)، و يعرف بغلبته علي السمع و البصر.

______________________________

(1) كما في المقنعة، و التهذيب، و المراسم و عن غيرها، و إليه يرجع ما في الناصريات من أنه الغالب علي العقل و التمييز، و ما في الغنية و عن جمل السيد من أنه ما يفقد معه التحصيل.

بل الظاهر أنه يرجع إليه ما في الروض و الروضة و المسالك و عن البيان من أنه الغالب علي مطلق الإحساس، و حدد بما يغلب علي السمع و البصر في المبسوط و النهاية و الخلاف و الوسيلة و المعتبر و الشرائع و النافع و المنتهي و الإرشاد و اللمعة، و نسب للأكثر.

و الظاهر رجوعه للأول مع كون منشأ الاختلاف بينهما اختلاف عبارات النصوص، أو نظر من ذكر الأول لحقيقة النوم، و من ذكر الثاني لطريق معرفته، كما جري عليه في المتن، و هو المستفاد من مجموع النصوص، بعد النظر في مفهوم النوم عرفا.

و توضيح ذلك: أن النصوص و إن اختلفت في بيان النوم الناقض، و أنه ما ذهب بالعقل- كما في صحيح عبد اللّه بن المغيرة و محمد بن عبد اللّه «1» - أو خالط القلب- كما في حديث الأربعمائة «2» - أو ما غلب علي السمع- كما في صحيح معمر بن خلّاد «3» و موثق بكير المتقدم «4» - أو ما غلب عليه و علي البصر- كما في مرسل سعد «5» - أو ما غلب عليهما و علي العقل- كما في صحيح زرارة «6» - إلا أن الأقرب عرفا في الجمع بينها تلازم الأمور المذكورة خارجا و عدم الفرق بينها

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(6) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 71

______________________________

عملا، لما فيه من المحافظة علي ظهور كل منها في كفاية تحقق موضوعه في صدق النوم الناقض، و إنما يحتاج لتقييد بعض الأدلة ببعض و رفع اليد عن الظهور المذكور مع العلم بعدم تلازم موضوعاتها.

و يناسب ما ذكرنا قوله عليه السّلام في صحيح زرارة المتقدم: «و النوم حتي يذهب العقل. و كل النوم يكره إلا أن تكون تسمع الصوت» «1»، لعدم ظهوره في تقييد إحدي الفقرتين بالأخري، و لا يصح التحديد في مقام العمل بحدين إلا مع تطابقهما موردا.

و حينئذ، فحيث كان النوم عرفا حالة مقابلة للالتفات، و يلزمها عدم قيام الحواس بوظائفها، كان ذلك قرينة علي حمل ما تضمن التحديد بذهاب العقل علي الإشارة لحقيقته، و حمل ما تضمن التحديد بتعطل الحاستين علي بيان لازمه الخارجي الذي يصلح لأن يكون علامة له.

كما أن المستفاد من النصوص المعتبرة سندا هو كفاية كل من ذهاب العقل و ذهاب السمع- الذي عرفت رجوعه إليه لتلازمهما- دون ذهاب البصر، بل لا حاجة لضمه لذهاب السمع- و إن تضمنه المرسل و كلام الأصحاب- بل من القريب كونه أعم منه، كما قد يستفاد من قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن، فإذا نامت العين و الاذن و القلب وجب الوضوء» «2»، لأن التنبيه فيه علي نوم العين مع عدم نوم القلب و الاذن، دون العكس مشعر أو ظاهر في ذلك.

و لعل الجمع بينهما في المرسل و كلام من عرفت للتنبيه لما أشير إليه في الصحيح من عدم الاكتفاء بنوم العين، لا لبيان عدم الاكتفاء بذهاب السمع أيضا.

و لعله لأجل ما ذكرنا كان ظاهر الأصحاب عدم الفرق عملا بين التحديدين المذكورين في كلماتهم، و إلا لزم إهمال كلتا الطائفتين لنصوص الطائفة الأخري بلا

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 72

______________________________

وجه، و لذا لم ينبه أكثرهم علي الخلاف من هذه الجهة، بل وقع كل من التحديدين في معاقد بعض الإجماعات السابقة، حتي أنه ادّعي الإجماع علي كل منهما من شخص واحد، فقد ادعي الشيخ قدّس سرّه الإجماع في التهذيب علي الأول، و في الخلاف علي الثاني.

بل هو كالصريح من المحقق في المعتبر، حيث جعل الموضوع في صدر كلامه النوم الغالب علي الحاستين، ثمَّ ذكر في بعض الفروع أن نقض النوم مشروط بذهاب العقل.

و أما ما ذكره المحقق و الشهيد الثانيان و نسب لجمع من الأصحاب من أن ذكرهم إبطال السمع و البصر لأنهما أعم الحواس إدراكا، فإذا بطل إحساسهما فقد بطل إحساس غيرهما، و لذا ذكر الشهيد الثاني أن المدار علي إبطال الإحساس مطلقا، فهو لا يخلو عن خفاء، و لذا تنظّر فيه في المدارك.

إلا أن يرجع إلي ما ذكرنا من أن المعيار الغلبة علي العقل المستلزم لبطلان الحاستين.

ثمَّ إن المراد بذهاب العقل هو ذهاب الإدراك بالوجه المعهود الذي تبتني عليه المسؤولية بنظر العقلاء، لا مطلق الإدراك، و إلا فهو قد يصاحب النوم.

كما أن المراد بإبطال الحاستين، هو إبطالهما بالوجه المصاحب للإحساس المذكور، الذي عبر عنه في الناصريات بالتمييز، و في الغنية بالتحصيل، إذ قد لا يوجب النوم تعطيلهما مطلقا، بل يتأثر النائم بهما تأثرا يشبه التأثر الغريزي، و لا يبتني علي التحصيل بالوجه المعهود.

هذا، و ظاهر النصوص المتقدمة تقييد ناقضية النوم بأحد الأمور المذكورة، مع كونه أعم منها موردا، إلا أنه يتعين حملها علي تحديد نفس النوم، مع كونه ناقضا مطلقا، و أنه عبارة عن المرتبة التامة، و أن ما نقص عنها من مبادئه، لا منه حقيقة، لعدم صدقه عرفا عليه، و للنصوص الظاهرة في أن مسمي النوم ناقض.

و لا سيما صحيح زيد الشحام: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخفقة

ص: 73

من غير فرق بين أن يكون قائما و قاعدا و مضطجعا (1).

______________________________

و الخفقتين. فقال: ما أدري ما الخفقة و الخفقتين، إن اللّه تعالي يقول:

بَلِ الْإِنْسٰانُ عَليٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، إن عليا عليه السّلام كان يقول: من وجد طعم النوم فقد وجب عليه الوضوء» «1». و قريب منه صحيح ابن الحجاج الآتي.

(1) كما هو معقد الإجماع المتقدم من الانتصار و الناصريات و المنتهي و محكي شرح الموجز، و عن الأكثر التصريح به.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق نصوص ناقضيته و عموم بعضها- صحيح عبد الرحمن بن الحجاج، المطابق لصحيح زيد الشحام المتقدم، إلا أنه حكي فيه عن علي عليه السّلام أنه كان يقول: «من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا، فقد وجب عليه الوضوء» «2».

و دعوي: معارضته بصحيح زيد لعدم تضمنه الزيادة المذكورة، و لا سيما مع قرب اتحادهما، لأن الذي روي صحيح زيد عنه هو عبد الرحمن بن الحجاج، فليس في المقام إلا صحيح واحد مضطرب السند و المتن.

مدفوعة: بأن الاختلاف بالزيادة إنما يوجب التعارض إذا كانت موجبة لتبدل المعني، دون ما إذا أوجبت زيادته أو توضيحه- كما في المقام- لإمكان كون عدم اشتمال أحد النقلين عليها لعدم تعلق الغرض بها.

و اتحادهما- مع مخالفته للأصل، لعدم كون القرينة المذكورة قطعية- لا يضر مع صحة كلا السندين.

و مثله في ذلك صحيح عبد الحميد بن عواض عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«سمعته يقول: من نام و هو راكع أو ساجد أو ماش، علي أي الحالات،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

ص: 74

______________________________

فعليه الوضوء» «1».

و ربما ينسب للصدوق الخلاف في عموم ناقضية النوم، لأنه أورد في الفقيه موثق سماعة: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخفق رأسه و هو في الصلاة قائما أو راكعا. قال: ليس عليه وضوء» «2»، و قال: «و سئل موسي بن جعفر عليهما السّلام عن الرجل يرقد و هو قاعد هل عليه وضوء؟ فقال: لا وضوء عليه ما دام قاعدا إن لم ينفرج» «3». لما ذكره في أول الكتاب من أنه لا يودع فيه إلا ما يفتي به و يكون حجة بينه و بين ربه.

و ما عن غير واحد من عدوله عن ذلك، غير ظاهر المأخذ.

و اشتمال الكتاب علي بعض النصوص المعلوم عدم حجيتها- كما ما يرويه عن العامة- لعله لأجل التأييد بها، أو لاشتمالها علي السنن.

و لا ينافي فتواه بمضمون الخبرين ذكره لبعض مطلقات ناقضية النوم في صدر كلامه، لقرب إرادة تقييدها بهما.

و كيف كان، فلا مجال للتعويل علي الخبرين.

أما الموثق، فهو و إن اعتضد بخبر الكاهلي: «سألت العبد الصالح عن الرجل يخفق و هو جالس في الصلاة، قال: لا بأس بالخفقة ما لم يضع جبهته عن الأرض أو يعتمد علي شي ء» «4».

إلا أن الخفق لا يلازم النوم، كما يظهر من صحيحي ابن الحجاج و زيد الشحام و خبر الكناني المتقدمة، فإنه: تحريك الرأس عند النعاس، كما في مجمع البحرين، و القاموس، و غيرهما.

علي أن خصوصية الصلاة في عدم انتقاض الوضوء ملغية عرفا، لبعد دخلها

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 11.

(4) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 75

______________________________

جدا، و لا سيما مع ما في بعض النصوص من عدم الترخيص به للصلاة «1»، و غاية ما يستفاد منه خصوصية القيام و الركوع، فيعارض بصحيح ابن الحجاج و خبر عبد الحميد المتقدمين.

و أما المرسل، فهو و إن اعتضد بخبر بكر الحضرمي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام هل ينام الرجل و هو جالس؟ فقال: كان أبي يقول: إذا نام الرجل و هو جالس مجتمع فليس عليه وضوء، و إذا نام مضطجعا فعليه الوضوء» «2».

إلا أنهما- مع ضعف سندهما و ظهور إعراض الأصحاب عنهما- معارضان بصحيحي ابن الحجاج و عبد الحميد المتقدمين، و صحيح معمر الآتي الوارد فيمن أغفي و هو قاعد «3»، و صحيح عبد اللّه بن المغيرة و محمد بن عبد اللّه الوارد في نوم الرجل علي دابته «4».

فلا بد من رفع اليد عنهما، لمخالفتهما لعمومات ناقضية النوم، و موافقتهما لبعض العامة، الملزمة بحملهما علي التقية، أو يحملان علي غلبة كون الاجتماع و عدم الانفراج مستلزما لاحتمال عدم تحقق النوم- كما حمله عليه الشيخ، و لعله مراد الصدوق- فلا ينافي عموم وجوب الوضوء لو علم بتحققه و لو مع عدم الانفراج.

و مثلهما رواية عمران بن حمران: «أنه سمع عبدا صالحا عليه السّلام يقول: من نام و هو جالس لا يتعمد النوم فلا وضوء عليه» «5».

لوضوح أنه لا مجال لحمل النصوص المتضمنة نقض النوم حال الجلوس علي خصوص صورة التعمد، لغلبة عدم تعمده حينه، فيتعين تقديم تلك النصوص عليها، و لا سيما مع ضعف سندها و ظهور إعراض الأصحاب عن مضمونها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 14.

ص: 76

______________________________

و أما صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل هل ينقض وضوؤه إذا نام و هو جالس؟ قال: إن كان يوم الجمعة في المسجد فلا وضوء عليه، و ذلك أنه في حال ضرورة» «1»، فلا مجال للتعويل عليه، بعد ظهور إعراض الأصحاب عنه.

مع أن التعليل فيه بالضرورة لا يناسب عدم انتقاض وضوئه، بل عدم تكليفه بالوضوء.

و من القريب أن يكون تطبيق الضرورة عليه بلحاظ منع الزحام له من الخروج مع رجحان صلاة الجمعة و لو ببعض مراتبها، المناسب لتشريع التيمم، كما تضمنه موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السّلام: «أنه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة، فأحدث أو ذكر أنه علي غير وضوء و لا يستطيع الخروج عن المسجد من كثرة الناس. قال: يتيمم و يصلي معهم، و يعيد إذا انصرف» «2»، و نحوه موثق سماعة «3»، المحمولان علي الاستحباب، و من ثمَّ حمله الشيخ علي ذلك.

و أما حمله علي إجزاء الصلاة للتقية- كما عن المنتقي- لما ذكره بعض مشايخنا من أن الخروج و ترك صلاة الجمعة معهم رأسا من دون بيان العذر مخالف للتقية بعد وجوبها عندهم، كما أن بيان العذر مخالف للتقية أيضا، لأن مذهب كثير منهم عدم الانتقاض بالنوم بالوجه المذكور، فهو كما لو توضأ بالمسح علي الخفين.

فيشكل بعدم التنبيه في الصحيح علي التقية بالوجه المذكور. و الضرورة أعم منها. كما لا دليل من غيره علي الاجزاء حينئذ، لأن المتيقن من دليل الإجزاء في التقية هو الإتيان بالعمل علي طبق مذهبهم، لا تركه رأسا، كما تقدم في محله.

و من الظاهر أن الصلاة بدون وضوء ليس مذهبا لهم، و الخلاف في انتقاض الوضوء ليس خلافا في كيفية أدائه بل في وجوده و عدمه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 16.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 77

و مثله كل ما غلب علي العقل (1)

______________________________

كما أنه لم يفرض في مورد الصحيح التفاتهم لجهة الخلاف و متابعتهم فيما يقولون، لعدم فرض تنبيههم علي تحقق النوم بالوجه المذكور.

و لا سيما مع إمكان الاعتذار بحدث آخر مجمع علي ناقضيته- كالريح- فلو فرض تحقق موضوع التقية في المقام فهو في الصلاة معهم من دون وضوء، لمحذور في بيان عدمه، و هو لا يقتضي الإجزاء، كما تقدم.

(1) كما هو المعروف بينهم، علي اختلاف عباراتهم، حيث جعل بعضهم العنوان المذكور في قبال النوم، و جعل آخر النوم من صغرياته، و استغني ثالث بذكره عن النوم، و عطف رابع علي النوم بعض أفراده، كالمرض المانع عن الذكر، و السكر و الإغماء و الجنون. إلي غير ذلك مما يستفاد منه عدم اختصاص الناقضية بالنوم و عمومها لكل ما غلب العقل.

و عن الكفاية نسبته للأصحاب، و في المدارك و عن الدلائل دعوي الإجماع عليه، و عن الخصال أنه من دين الإمامية، و في التهذيب دعوي إجماع المسلمين عليه، و في المنتهي: «لا نعرف فيه خلافا بين أهل العلم»، و في البحار: «أكثر الأصحاب نقلوا الإجماع علي كونها ناقضة».

و قد استدل عليه الشيخ و غيره بصحيح معمر بن خلاد: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل به علة لا يقدر علي الاضطجاع، و الوضوء يشتد عليه و هو قاعد مستند بالوسائد، فربما أغفي و هو قاعد علي تلك الحال. قال: يتوضأ. قلت له: إن الوضوء يشتد عليه لحال علته، فقال: إذا خفي عليه الصوت فقد وجب عليه الوضوء.» «1»، بدعوي: أن مقتضي إطلاق الذيل فيه وجوب الوضوء بكل ما يخفي معه الصوت.

و فيه- كما أشار إليه غير واحد-: أنه ظاهر في تحديد الإغفاء الناقض الذي

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 78

______________________________

هو النوم. و لا ظهور له في عموم الانتقاض مع خفاء الصوت و لو مع النوم- إما لناقضيته بنفسه أو لملازمته لما هو الناقض- كي يدعي أن المورد لا يخصص الوارد، لعدم الابتداء ببيان ناقضيته، بل سيق لتأكيد ناقضية الإغفاء و تحديده.

و أضعف منه ما عن بعض متأخري المتأخرين من حمل الإغفاء فيه علي الإغماء، لظهور «ربما» في التكثير، لأنه الأكثر فيها- كما في مغني اللبيب- بل عن الشيخ الرضي أنه صار لها كالمعني الحقيقي، و التقليل كالمعني المجازي المحتاج للقرينة، و الذي يكثر في حال المرض هو الإغماء لا النوم.

و أما الإشكال في الاستدلال المذكور بأنه لا يطرد في السكر و الجنون، لعدم خفاء الصوت فيهما.

فهو مندفع، بأن المراد بخفاء الصوت ليس هو خفاءه رأسا، كيف و هو لا يخفي حتي في النوم، بل خفاؤه بالوجه المصاحب للإحساس المبني علي المسؤولية بنظر العقلاء، الذي عبر عنه في كلماتهم بالتحصيل و التمييز- كما تقدم في النوم- و هو حاصل فيهما ببعض مراتبهما، الذي هو المتيقن من كلماتهم في المقام، بقرينة سياقه مساق النوم فيها.

علي أنه إذا تمَّ ناقضية بعض أفراد فقد العقل أمكن التعدي لغيره بعدم الفصل. فتأمل.

و نظير الاستدلال المذكور في الضعف، الاستدلال بما تضمن تعليق ناقضية النوم بذهاب العقل، بدعوي: أنه يدل علي مناط الحكم.

لاندفاعه: بأنه ظاهر في تحديد النوم الناقض بما يذهب العقل، لا في عموم ناقضية ما يذهبه.

و كذا الاستدلال بعموم التعليل في خبر العلل و العيون المتقدم في أول الكلام في ناقضية النوم.

لاندفاعه: بأنه لا ظهور له في التعليل بما هو موضوع الحكم، بل في حكمة تشريعه، و لذا لا يظن من أحد البناء علي عموم الحكم لما يوجب الاسترخاء بنحو

ص: 79

______________________________

لا يحفظ من الريح مع بقاء العقل، علي أنه لم يتضح ملازمة ذهاب العقل للاسترخاء بالوجه المذكور.

و منه يظهر ضعف ما ذكره غير واحد من أنه إذا وجب الوضوء مع النوم الذي يجوز معه الحدث فمع الإغماء و السكر أولي.

إذ لو أريد الأولوية القطعية بلحاظ فهم علة الحكم، فهي- مع توقفها علي أولوية مورد التعدي من النوم في احتمال الحدث- موقوفة علي كون علة ناقضية النوم مجرد احتمال الحدث، و هو ممنوع، فإنه لو كانت ناقضية النوم طريقية لأجل احتمال الحدث- و غض النظر عما تقدم من منع ذلك- فهي لخصوصية في النوم، لا للانتقاض بمجرد ذلك الاحتمال، كي يتعدي عن النوم، إذ لا ريب في عدم الانتقاض به مع بقاء العقل.

و أشكل من ذلك ما لو أريد الأولوية العرفية الموجبة لظهور الكلام في العموم، الذي هو المعيار في مفهوم الموافقة- كما يظهر مما في المعتبر من الاستدلال بالمفهوم لا بالقياس- لأنها موقوفة علي كون العلة المشتركة من الظهور بحيث تكون من القرائن المحيطة بالكلام الموجبة لظهوره في التعدي لمورد الأولوية.

و نحو ذلك ما عن الأسترابادي من الاستدلال بتنقيح المناط.

نعم، في خبر الدعائم عن الصادق عليه السّلام: «إن المرء إذا توضأ صلي بوضوئه ذلك ما شاء من الصلوات ما لم يحدث، أو ينم، أو يجامع، أو يغمي [يغم. ظ] عليه» «1».

لكنه- مع اختصاصه بالإغماء- ضعيف السند غير منجبر بعمل الأصحاب، لعدم اعتمادهم عليه في الحكم المذكور، حيث لم يتعرضوا له، و مجرد موافقته لهم لا يكفي في انجباره.

فلم يبق في المقام إلا الإجماع الذي صرح غير واحد من المتأخرين بأنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 80

______________________________

العمدة في المقام، لاستفاضة نقله.

بل قال الفقيه الهمداني: «قلما يوجد في الأحكام الشرعية مورد يمكن استكشاف قول الإمام عليه السّلام أو وجود دليل معتبر من اتفاق الأصحاب مثل المقام، كما أنه قلما يمكن الاطلاع علي الإجماع لكثرة ناقلية و اعتضاد نقلهم بعدم الخلاف كما فيما نحن فيه. فاتفاق كلمة الأصحاب هو العمدة في المقام».

لكن في بلوغ دعوي الإجماع حدا يصلح لإثبات الحكم المذكور إشكال، إذ لا أهمية لنقله في كلمات المتأخرين- كصاحب المدارك- لما هو المعلوم من تعسر اطلاعهم عليه من طريق الحس، بل تعذره، و لا وثوق بحدسهم بعد خلو عبارات بعض الأصحاب عنه، بل ظهور حصرهم الناقض فيما عداه في الخلاف، كما هو الظاهر من حال أهل الأخبار الذين يظهر منهم الفتوي بمضمونها، و منهم الطبقة الأولي المتصلة بعصور المعصومين عليهم السّلام، الذين لم يتعودوا تحرير الفتاوي، حيث ذكروا في المقام النصوص المتضمنة للحصر المذكور.

و من هنا لزم حمل نسبة الحكم للأصحاب في الكفاية علي شيوعه بين أهل الفتوي منهم، لا الإجماع المصطلح.

كما لا مجال للتعويل علي ما تقدم من المنتهي، حيث يتعين حمله علي عدم العثور علي مصرح بالخلاف، و هو أعم من الإجماع.

و ما تقدم من البحار من نسبة دعوي الإجماع إلي أكثر الأصحاب و إن كان يزيد علي دعوي الاستفاضة- كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه- إلا أنه يوثق- بل يعلم- بعدم إرادة ظاهره، لقلة المدعين للإجماع منهم- كما سبق- و اطلاعه علي دعاوي كثيرة قد خفيت علي غيره مقطوع بعدمه، كيف و ظاهر آخر كلامه التشكيك في حصول الإجماع، حيث قال: «فالعمدة الإجماع إن ثبت».

و ما تقدم عن الخصال لم نتحققه، حيث لم يعهد من الصدوق فيه التعرض لشرح دين الإمامية، و إنما تعرض لذلك في الأمالي، و من المعلوم بسبر ما ذكره إرادته في كثير منه ما هو من دينهم بنظره الشريف، لا ما هو المجمع عليه بينهم.

ص: 81

من جنون أو إغماء أو سكر (1) أو غير ذلك.

______________________________

علي أنه صرح فيه بانحصار النواقض بما يخرج من الطرفين و النوم إذا ذهب بالعقل.

فلم يبق إلا دعوي إجماع المسلمين من الشيخ في التهذيب، و هي و إن لم تخل عن الأهمية، و لا سيما مع اعتضادها بجري من تأخر عنه عليها، إلا أن في كشفها عن تسالم قدماء الأصحاب علي الحكم بنحو يكشف عن رأي المعصومين عليهم السّلام إشكال، لقرب ابتنائها علي ملاحظة كلام المدونين للفتاوي كالمفيد و المرتضي و ابن الجنيد، مع استنادهم- كالمتأخرين- لما سبق من الاستدلالات.

و ما ذكره الفقيه الهمداني من أن تلك الاستدلالات لتطبيق الدليل علي المدعي- مع استغنائه عنه لوضوحه- لا لاستفادة المدعي من تلك الأدلة، بحيث لولاها لأفتوا بخلافه، غير ظاهر، بل لا يناسبه كلام بعضهم.

و لا مجال مع ذلك لإحراز موافقة الطبقة الأولي من الأصحاب الذين عرفت ظهور حالهم في متابعة النصوص الظاهرة في الحصر بما يخرج من الطرفين و النوم، لقوة ظهورها في خصوصية النوم و عدم كون ذكره لأنه من أفراد العنوان المذكور، و إلا كان المناسب التنبيه فيها له أو لبقية أفراده و عدم إغفال ذلك، لأنه مورد الحاجة.

و من هنا لا مجال للوثوق بالحكم، فضلا عن القطع به.

و لذا كان ظاهر الوسائل و الحدائق، بل البحار، التوقف في الحكم، و به يشعر ما في المفاتيح و عن الكفاية. فلاحظ.

(1) فإن هذه الأمور قد ذكرت في كلمات بعضهم بالخصوص، و الظاهر أن المراد منها ما يكون بمرتبة يخرج به الإنسان عن المسؤولية بالنحو المعهود عند العقلاء، و إن بقي الإدراك ببعض مراتبه معها، كما تقدم في النوم.

و ما دون ذلك من مراتبها خارج عن المتيقن من كلماتهم، بل يشكل صدق عناوينها عليه، فيتعين البناء علي عدم ناقضيته، كما هو الحال في غيرها من أفراد

ص: 82

الخامس الاستحاضة

الخامس: الاستحاضة، علي تفصيل يأتي إن شاء اللّه تعالي (1).

______________________________

العنوان المذكور في المتن.

(1) في الفصل الثالث من مباحث الأغسال.

هذا، و قد صرح جملة من الأصحاب بانتقاض الوضوء بطروء أحد أسباب الغسل. و الظاهر أنه ليس موردا للإشكال بينهم، و إنما أهمله بعضهم هنا لأنه بصدد بيان ما يوجب الوضوء وحده، و الاتكال في غيره علي ما يذكر في الأغسال.

و إنما الإشكال في أن إجزاء الغسل عن الوضوء في الجميع، أو يختص بالجنابة.

فالإشكال في إيجابها للوضوء، لا في ناقضيتها له.

و ليس مرجع النزاع في إجزاء الغسل عن الوضوء فيها إلي النزاع في توقف ارتفاع الحدث الأكبر المسبب عنها علي الوضوء، مع عدم إيجابها الحدث الأصغر.

و لذا لا يختص إجزاء غسلها عن الوضوء- علي القول به- بما إذا لم يصاحبه سبب الحدث الأصغر.

و لا إلي النزاع في رافعية غسلها للحدث الأصغر لو تحقق سببه من دون أن تكون هي مسببة له.

و لذا لا يختص عدم إجزاء غسلها عن الوضوء- علي القول به- بما إذا صاحبه سبب الحدث الأصغر.

و كيف كان، فيقتضيه في الجنابة: ما تقدم في صحيح زرارة «1» من جعل المني من جملة نواقض الوضوء، و في الجميع: ما يظهر من نصوص كل من إجزاء الغسل عن الوضوء و عدمه من المفروغية عن تحقق موضوع الوضوء.

و كذا ما تضمن مشروعية الوضوء للجنب و الحائض بلحاظ بعض الغايات، مع ما هو المرتكز عند المتشرعة من أن موضوع الوضوء هو الحدث الأصغر لا الأكبر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

ص: 83

مسألة 89 إذا شك في طروء أحد النواقض بني علي العدم

مسألة 89: إذا شك في طروء أحد النواقض بني علي العدم (1)، و كذا إذا شك في أن الخارج بول أو مذي (2)، فإنه يبني علي عدم كونه بولا (3)، إلا أن يكون قبل الاستبراء، فيحكم بأنه بول (4)، فإن كان متوضئا انتقض وضوؤه.

مسألة 90 إذا خرج ماء الاحتقان و لم يكن معه شي ء من الغائط لم ينتقض الوضوء

مسألة 90: إذا خرج ماء الاحتقان و لم يكن معه شي ء من الغائط، لم ينتقض الوضوء (5).

______________________________

و قد تقدم في مبحث تداخل الأغسال عند الكلام في الاجتزاء بالغسل عن الوضوء مع وجود الجنابة ما له نفع في المقام.

(1) لاستصحاب عدمه، المستغني به عن استصحاب الطهارة، الذي تقدم جريانه، في المسألة الخامسة و السبعين في أوائل أحكام الخلل.

(2) و كذا لو تردد بين البول و غير المذي، أو بين الغائط و غيره من الدود و نحوه مما ليس بناقض.

(3) هذا مبني علي استصحاب العدم الأزلي، الذي يشكل في خصوص المقام بأن البولية ليست من طواري الوجود عرفا، بل من الأمور الذاتية، فلا يقين بسلبها عن المشكوك حتي بلحاظ حال ما قبل وجوده.

فالأولي التمسك باستصحاب عدم خروج البول، لأنه يكفي في البناء علي عدم انتقاض الطهارة و إن لم يحرز حال الخارج، و لو غض النظر عنه أمكن الرجوع لاستصحاب الطهارة بناء علي ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب مع الشك في رافعية الموجود.

و أما الخارج فيتعين الرجوع فيه لأصالة الطهارة، بعد ما ذكرنا من عدم جريان استصحاب عدم كونه بولا.

(4) كما تقدم في الفصل الرابع من مبحث أحكام الخلوة.

(5) فقد صرحوا بأن الخارج من السبيلين غير البول و الغائط و الريح و المني

ص: 84

و كذا لو شك في خروج شي ء من الغائط معه (1).

مسألة 91: لا ينتقض الوضوء بخروج المذي

مسألة 91: لا ينتقض الوضوء بخروج المذي (2)،

______________________________

- كالدود و الحصي و الحقنة و غيرها- لا ينقض الوضوء، و قد ادعي الإجماع علي ذلك في الخلاف و الغنية و ظاهر المنتهي و عن الدلائل.

و يقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة حصر النواقض مما يخرج من السبيلين بالأمور المذكورة المتقدم بعضها، و خصوص النصوص الواردة في ذلك، كموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يكون في صلاته فيخرج منه حب القرع كيف يصنع؟ قال: إن كان خرج نظيفا من العذرة فليس عليه شي ء و لم ينقض وضوءه، و إن خرج متلطخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء» «1»، و غيره من النصوص الكثيرة.

و أما ما رواه الشيخ عن فضيل عنه عليه السّلام: «قال في الرجل يخرج منه مثل حب القرع. قال: عليه الوضوء».

فلا مجال للتعويل عليه بعد رواية الكليني له هكذا: «ليس عليه وضوء».

و من ذلك يظهر ضعف ما عن ابن الجنيد من نقض الحقنة إذا خرجت، و يأتي الكلام في بعض صغريات ذلك إن شاء اللّه تعالي، منا و من المتن.

(1) لاستصحاب عدم خروجه المستغني به عن استصحاب الطهارة، نظير ما تقدم في المسألة السابقة.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب (رضي اللّه عنهم) المدعي عليه الإجماع في الخلاف و الغنية و المنتهي و عن التذكرة و نهاية الاحكام.

و يقتضيه- مضافا إلي أخبار الحصر المشار إليها في المسألة السابقة- النصوص الكثيرة النافية لناقضيته بالخصوص، التي ذكر منها في الوسائل ما يزيد علي خمس عشرة رواية كثير منها معتبر السند:

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 85

______________________________

منها: صحيح بريد: «سألت أحدهما عليهما السّلام عن المذي. فقال: لا ينقض الوضوء و لا يغسل منه ثوب و لا جسد، إنما هو بمنزلة المخاط و البصاق» «1».

خلافا لما عن ابن الجنيد من النقض به إذا كان بشهوة. و عن بعض المتأخرين الاستدلال له بأنه مقتضي الجمع بين النصوص المذكورة و ما تضمن عموم ناقضيته، كصحيح ابن بزيع: «سألت الرضا عليه السّلام عن المذي فأمرني بالوضوء منه، ثمَّ أعدت عليه في سنة أخري فأمرني بالوضوء منه، و قال: إن عليا عليه السّلام أمر المقداد أن يسأل النبي صلّي اللّه عليه و آله و أستحيي أن يسأله، فقال: فيه الوضوء» «2»، و صحيح يعقوب بن يقطين: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يمذي و هو في الصلاة من شهوة أو من غير شهوة. قال: المذي منه الوضوء» «3»، و ما تضمن التفصيل المذكور، كصحيح علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن المذي أ ينقض الوضوء؟ قال: إن كان من شهوة نقض» «4». و مثله صحيح الكاهلي «5» و خبر أبي بصير «6».

و فيه: أنه لا مجال لذلك بعد ظهور إعراض الأصحاب عن هذه النصوص، و لا سيما مع كثرة الابتلاء بهذه المسألة، حيث يمتنع عادة خفاء حكمها عليهم.

و مجرد موافقة ابن الجنيد لها- في الجملة- لا يمنع من وهنها بذلك.

و أما ما ذكره الشيخ في التهذيب بعد ذكره لصحيح ابن بزيع من أنه لو صح لكان محمولا علي المذي الذي يخرج عن شهوة و يخرج عن المعهود من كثرته، فليس هو خلافا منه في المقام، و لا عملا منه بالخبر المذكور، لعدم جزمه بصحته، بل سبق منه أنه خبر ضعيف شاذ، بل اعتباره الكثرة خروج عن مفاد النصوص المذكورة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 17.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 16.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 11.

(5) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(6) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 10.

ص: 86

______________________________

علي أنه لا مجال للجمع المذكور مع إباء بعض نصوص الناقضية عن الاختصاص بصورة الخروج بشهوة، كصحيح يعقوب بن يقطين المتقدم، و صراحة بعض نصوص عدم الناقضية في صورة الخروج بشهوة، كصحيح عمر بن يزيد:

«اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة و لبست أثوابي و تطيبت فمرت بي وصيفة ففخذت لها فأمذيت أنا و أمنت هي، فدخلني من ذلك ضيق، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال: ليس عليك وضوء و لا عليها غسل» «1»، و صحيح ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عنه عليه السّلام: «قال: ليس في المذي من الشهوة و لا من الإنعاظ و لا من القبلة و لا من مس الفرج و لا من المضاجعة وضوء.» «2».

و لا يقدح الإرسال من ابن أبي عمير، كما تقدم غير مرة، و لا سيما مع ظهور الإرسال عن غير واحد في اشتهار الحديث.

بل يظهر مما يأتي أن الغالب خروج المذي عن شهوة، فلا مجال لحمل النصوص الكثيرة المتضمنة لعدم ناقضيته علي خصوص صورة عدم الشهوة.

فلا بد من إهمال نصوص الناقضية المطلقة و المقيدة، إما لما تقدم من سقوطها عن الحجية بإعراض الأصحاب، أو لترجيح نصوص عدم الناقضية عليها بأنها أشهر رواية، و موافقة لعمومات الحصر المشار إليها، و مخالفة لمذهب العامة المدعي عليه إجماعهم.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من ترجيحها بموافقة الكتاب، لأن مقتضي إطلاق الآية الكريمة جواز الدخول في الصلاة بعد الوضوء و الغسل و إن خرج المذي، فهو لا يخلو عن إشكال، إذ الظاهر ورود الآية لبيان إيجاب النوم و الجنابة للوضوء و الغسل، لا لبيان أمد بقائهما و عدم انتقاضهما بغيرهما، لينفع فيما نحن فيه.

نعم، قد تحمل نصوص الناقضية علي الاستحباب إما مطلقا، كما حكاه في

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 13.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

ص: 87

أو الودي (1)،

______________________________

الحدائق عن جملة من متأخري المتأخرين، لما تضمنه صحيح ابن بزيع بطريق آخر صحيح أيضا من قوله: «قلت: و إن لم أتوضأ؟ قال: لا بأس» «1»، أو إذا كان عن شهوة، كما احتمله في الاستبصار، جمعا بين ذلك و نصوص التفصيل.

لكن قد يشكل الحمل علي الاستحباب باختلاف النصوص في جواب النبي صلّي اللّه عليه و آله للمقداد، ففي صحيح إسحاق بن عمار أنه قال: «ليس بشي ء» «2».

بل ذكر الشيخ أن ذلك هو المعروف من هذه القصة، و لا سيما مع إباء لسان بعض نصوص عدم الناقضية عن استحباب الوضوء، لشدة التأكيد فيها علي عدم الحاجة للوضوء بتشبيهه بالبزاق و نحوه.

فإن ذلك موجب للريب في نصوص الناقضية و مقرب لحملها علي التقية جدا.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في عدم وجوب الوضوء به، و ليس هو موردا للشك و حسن الاحتياط، كما يظهر من الحدائق، بل في المدارك بعد تقريب عدم الناقضية: «و الاحتياط هنا مما لا ينبغي تركه، لأن المسألة موضع تردد».

(1) كما نص عليه غير واحد، و ادعي الإجماع عليه في الحدائق، و الخلاف علي إحدي النسختين.

و يقتضيه- مضافا إلي ما تقدم في المسألة السابقة من الإجماع و نصوص الحصر- صحيح زيد الشحام و زرارة و محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

إن سال من ذكرك شي ء من مذي أو ودي و أنت في الصلاة فلا تغسله و لا تقطع له الصلاة و لا تنقض له الوضوء و إن بلغ عقبيك، فإنما ذلك بمنزلة النخامة، و كل شي ء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل و البواسير و ليس بشي ء، فلا تغسله من

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 88

______________________________

ثوبك إلا أن تقذره» «1».

و مرسل حريز عنه عليه السّلام: «قال: الودي لا ينقض الوضوء، إنما هو بمنزلة المخاط و البزاق» [2].

و مرسل ابن رباط الآتي بناء علي استفادة حكمه منه بقرينة السياق.

نعم، في صحيح عبد اللّه بن سنان عنه عليه السّلام: «قال: ثلاث يخرجن من الإحليل، و هن: المني و فيه الغسل، و الودي فمنه الوضوء، لأنه يخرج من دريرة البول. قال: و المذي ليس فيه وضوء، إنما هو بمنزلة ما يخرج من الأنف» «3».

و قد حمله الشيخ و العلامة بقرينة التعليل علي من ترك الاستبراء، لأنه لا يخرج إلا و معه شي ء من البول، و استجوده في الحدائق.

و كأن وجهه: أن دريرة البول سيلانه، و لا معني للخروج منه، فإما أن يراد بالخروج منها الخروج من محلها- و هو الإحليل- أو الخروج معها مصاحبا لها كأنه منها، و حيث لم يكن الأول مناسبا للتعليل، لاشتراك الأمور الثلاثة فيه- كما تضمنه صدر الحديث- تعين الثاني، و يكون المراد به بيان الحال الغالب له لا الدائم، بقرينة ما تضمن عدم النقض بخروجه.

و أما ما في الجواهر و غيره من أن عدم الاستبراء إنما يوجب البناء علي ناقضية البلل المشتبه، دون ما يعلم بأنه غير بول و إن خرجت معه أجزاء بولية، لاستهلاكها بحيث لا تسمي بولا، بل يمكن دعوي طهارته، لخروجه عن المسمي

______________________________

[2] الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 15. ثمَّ ان الاستدلال بالصحيح و المرسل مبني علي رواية الودي فيهما بالدال المهملة، كما في الكافي و التهذيب، و عليه جري في الوسائل، و غير واحد من كتب الفقهاء.

اما روايته فيهما بالذال المعجمة كما في الاستبصار فيخرج عما نحن فيه و ينفع فيما يأتي. لكن يوهنه انه ذكره في الجواب عن صحيح ابن سنان الآتي الوارد في الودي بالمهملة فيكشف عن وقوع التصحيف فيه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 14.

ص: 89

أو الوذي (1)

______________________________

و عدم تنجسه في الباطن.

ففيه: أن مقتضي إطلاق نصوص الاستبراء شمول الناقضية للصورة المذكورة، كما تقدم في آخر فصل كيفية الاستبراء، و تقدم اختصاص عدم النقض بصورة الخلوص عن البول، و هي لا تناسب التعليل المذكور.

نعم، لا يكفي ما سبق في حمل الصحيح علي ما ذكره الشيخ، و لا أقل من إجماله، فلا يخرج به عما سبق.

علي أنه يكفي في وهنه في نفسه إعراض الأصحاب عنه، بل لا أقل من ترجيح معارضه عليه بأنه أشهر رواية، و موافق لعموم نصوص الحصر و غيرها، و مخالف للعامة.

ثمَّ إنه يظهر مما تقدم أنه لا مجال لإثبات استحباب الوضوء منه لأجل الصحيح المذكور، و إن حكي عن بعضهم.

(1) كما نص عليه غير واحد، و ادعي الإجماع عليه في الغنية و المنتهي و الحدائق و الخلاف علي إحدي النسختين.

و يقتضيه- مضافا إلي ما تقدم في المسألة السابقة من الإجماع و نصوص الحصر، و إلي عموم ذيل صحيح زيد الشحام و زرارة و محمد بن مسلم المتقدم- مرسل ابن رباط عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: يخرج من الإحليل المني و الوذي و المذي و الودي. فأما المني فهو الذي تسترخي له العظام و يفتر منه الجسد، و فيه الغسل. و أما المذي يخرج من شهوة، و لا شي ء فيه. و أما الودي فهو الذي يخرج بعد البول. و أما الوذي فهو الذي يخرج من الأدواء، و لا شي ء فيه» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

ص: 90

و الأول (1) ما يخرج بعد الملاعبة (2)،

______________________________

تنبيه تقارب الودي و الوذي في الرسم أوجب التشويش في عبارات الأصحاب، فقد يذكرون أحد الأمرين و يستدلون عليه بالنص الوارد في الآخر، و قد ينسب لأحدهم ذكر أحدهما أو دعوي الإجماع فيه مع أنه قد ذكر الآخر، و ما جرينا عليه في نقل كلماتهم و متون النصوص هو الذي تيسر لنا الاطلاع عليه من النسخ المطبوعة. و الأمر سهل بعد اشتراك الأمرين في وضوح عدم الناقضية و لو بسبب تسالم الأصحاب.

(1) و هو المذي قال في مجمع البحرين: «و فيه لغات: سكون الذال، و كسرها مع التثقيل، و الكسر مع التخفيف. و أشهر لغاته فتح فسكون، ثمَّ كسر ذال و شدة ياء. و عن الأموي: المذي و الودي و المني مشددات». و قريب منه في الحدائق، و ذكر اللغات الثلاث في القاموس، و اقتصر علي الأوليين في الجمهرة و لسان العرب، كما اقتصر علي الأولي في الصحاح و نقل عن الأموي ما تقدم من مجمع البحرين، و نقل في لسان العرب عن الأصمعي و علي بن حمزة الاقتصار علي الثانية.

(2) كما في النهاية، و في أدب الكاتب و الصحاح و لسان العرب و القاموس و مجمع البحرين: أنه ما يخرج عند الملاعبة و التقبيل. و قريب منه عن غيرها. و هو المذكور في كلام غير واحد من الأصحاب.

و مرجع الجميع ما تقدم في مرسل ابن رباط.

و يشير إليه ما تضمنه صحيحا إسحاق بن عمار و ابن بزيع من استحياء أمير المؤمنين عليه السّلام من سؤال النبي صلّي اللّه عليه و آله عنه.

لكن مقتضي صحيحي ابني يقطين المتقدمين و صحيح الكاهلي و خبر أبي بصير المشار إليهما آنفا عدم اختصاصه بالشهوة، كما يناسبه فرض خروجه أثناء

ص: 91

و الثاني (1) ما يخرج بعد خروج البول (2)، و الثالث (3) ما يخرج بعد خروج المني (4).

______________________________

الصلاة في صحيح زيد و زرارة و محمد بن مسلم المتقدم.

فيتعين حمل ما تقدم علي المعهود الشائع من حاله، و يكون التعرض في هذه النصوص للصورة النادرة، لتعلق الحكم الشرعي بها.

و من الغريب ما في الحدائق من الإشكال في مفاد هذه النصوص لأجل ما تقدم.

(1) و هو الودي. قال في مجمع البحرين: «بسكون الدال، و كسرها و تشديد الياء، و هو- علي ما قيل- أصح و أفصح من السكون». و قريب منه في الحدائق.

و ذكر اللغتين في الصحاح و مختاره و النهاية، و في لسان العرب حاكيا لهما عن ابن سيده. و اقتصر في الجمهرة و مفردات الراغب علي الأولي منهما.

(2) كما في الجمهرة و أدب الكاتب و النهاية و الصحاح و مختاره و القاموس و مجمع البحرين. و ذكره غير واحد من الأصحاب. و تقدم في مرسل ابن رباط، و يناسبه ما تقدم في صحيح ابن سنان.

لكن عن ابن الأنباري تقييده بما إذا كان قد جامع قبل ذلك أو نظر. و عممه في مفردات الراغب. قال: «و كني بالودي عن ماء الفحل عند الملاعبة و بعد البول.

فيقال فيه: أؤدي نحو أمذي و أمني». و قد يناسبه ما يأتي من الجمهرة في الوذي.

(3) و هو الوذي. قال في مجمع البحرين: «بالذال المعجمة الساكنة و الياء المخففة، و عن الأموي: بتشديد الياء: ماء يخرج عقيب إنزال المني، و في الحديث: هو ما يخرج من الأدواء. و ذكر الوذي مفقود في كثير من كتب اللغة».

و حكي في لسان العرب عن ابن الأعرابي فيه كلتا اللغتين.

(4) كما ذكره الصدوق في الفقيه، و في الحدائق أنه صرح به جملة من الأصحاب، و في الجواهر: «لم يحضرني من كتب اللغة ما أتحقق به ذلك، بل عن

ص: 92

______________________________

شارح الدروس: أنه لم يقف فيما يحضره من كتب اللغة علي شي ء مناسب له».

لكن تقدم من مجمع البحرين ما يشهد به.

و عن ابن الأعرابي تفسيره بالمني، و في الجمهرة: «و وذي الحمار و غيره وذيا إذا سال منيه. و هو مثل ودي بالدال. و ودي أكثر و أعلي».

نعم، ينافيهما ما في مرسل ابن رباط من أنه الذي يخرج من الأدواء، و ظاهره المرض.

و قد يناسبه ما في كلام غير واحد من اللغويين من أن الوذية العيب و العلة و الداء و الجراح، بل عن ابن الأعرابي: الوذي هي الخدوش. و في الحدائق: «و نقل بعض مشايخنا عن بعض نسخ الاستبصار «الأوداج» بدل «الأدواء» قال: و كأنه أريد بها العروق مطلقا، و إن كان الودج اسما لعرق في العنق».

فالأمر فيه لا يخلو عن إشكال، و إن لم يكن مهما، بعد ما سبق من عدم نقض ما يخرج من السبيلين غير الأمور الأربعة المتقدمة.

بقي في المقام أمور قال بعض أصحابنا بناقضيتها:

الأول: خروج الدم من أحد السبيلين إذا احتمل مصاحبته لشي ء من النواقض، فقد حكي عن ابن الجنيد ناقضيته، و كأن مراده النقض به ظاهرا.

و هو مخالف لعموم أدلة الاستصحاب. و احتمال النقض به واقعا- مع منافاته للاستصحاب أيضا- مناف لعموم الحصر المتقدم، و لإطلاق ما تضمن عدم الوضوء بخروج الدم مما يأتي الكلام فيه.

و أما ما تضمن الوضوء بخروج الدم «1»، فهو يقتضي النقض به و إن علم بخلوصه عن النواقض، مع أن المحكي عنه البناء علي عدم النقض به.

الثاني: مس الرجل باطن دبره أو باطن إحليله أو فتحه إحليله، فقد حكم الصدوق في الفقيه بإعادة الوضوء بها. و إلي الأولين يرجع ما عن ابن الجنيد من النقض بمس ما انضم عليه الثقبتان.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

ص: 93

______________________________

و يشهد له موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يتوضأ ثمَّ يمس باطن دبره. قال: ينقض وضوءه، و إن مس باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء، و إن كان في الصلاة قطع الصلاة، و يتوضأ و يعيد الصلاة، و إن فتح إحليله أعاد الوضوء و أعاد الصلاة» «1».

لكن إعراض الأصحاب عنه مسقط له عن الحجية، خصوصا في مثل هذا الحكم الذي يشيع الابتلاء به، فيمتنع عادة خفاؤه علي جمهور الأصحاب.

و أما معارضته بعموم الحصر المشار إليه، و بما تضمن عدم النقض بمس الفرج «2»، فهو كما تري! لأنه أخص منهما.

نعم، لا يبعد قوة ظهور صحيحي زرارة المتضمنين للحصر بما يخرج من السبيلين و النوم في عدم نقض ما عداها، لأن عدم السنخية بين ما يخرج من السبيلين و النوم موجب لقوة ظهورهما في الاستيعاب و الحصر ردعا عما عليه العامة من النقض بغيرها، فيصعب رفع اليد عنهما بمثل هذه الرواية. فتأمل.

مضافا إلي ما في صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يعبث بذكره في الصلاة المكتوبة فقال: لا بأس به» «3».

و في موثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك و هو قائم يصلي، يعيد وضوءه؟ فقال: لا بأس بذلك، إنما هو من جسده» «4».

فإن العبث بالذكر و مسه حال القيام مبني علي نحو من الترسل و عدم التقيد، فكثيرا ما يستلزم فتح الإحليل، فعدم التنبيه علي ذلك ظاهر جدا في عدم قدحه، فيصعب رفع اليد عن ذلك بالموثق المذكور.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 10.

(2) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء و غيرها.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

ص: 94

______________________________

بل مثل هذا الحكم المخالف للقاعدة الارتكازية و لنصوص الحصر المشهورة، و البعيد عن الأذواق و الارتكازيات، و المستلزم لكثير من الضيق و الكلفة، لا يجتزأ في بيانه بخبر واحد، بل لو كان ثابتا لكثر السؤال عنه و كثرت النصوص في بيانه.

هذا، و في حمل الموثق علي الاستحباب أو التقية وجهان، أولهما مناسب لطريقتهم في سائر الموارد من حمل الأوامر علي الاستحباب إذا تعذر حملها علي الوجوب، لأنه نحو من الجمع العرفي المقدم علي التصرف في الجهة.

إلا أن ظاهر الأصحاب (رضي اللّه عنهم) في نواقض الوضوء الخروج عن ذلك، لعدم تصدي متقدميهم من أهل الفتوي لبيان ما يستحب منه الوضوء، كما تعرضوا لما يستحب له الوضوء و لما يستحب منه و له الغسل.

حيث يظهر منهم عدم قبول هذه النصوص للحمل علي ذلك بنحو يصلح لأن يعمل عليه و يفتي به، و إنما ذكره الشيخ احتمالا في مقام الجمع بين الأخبار و توجيه اختلافها، علي ما هي طريقته، و جري عليه بعض المتأخرين تبعا للقاعدة المشار إليها.

و يناسب عدم الاستحباب ورود النصوص المذكورة في موارد أقوال العامة بالنقض.

كما يناسبه في خصوص المقام قوة ظهور الموثق في الوجوب و صعوبة حمله علي الاستحباب، حيث تضمن قطع الصلاة مؤكدا علي ذلك في فروض المسألة.

بل إشعار التعليل في موثق سماعة بأنه من جسده في عدم المقتضي للوضوء حتي استحبابا. فلاحظ.

الثالث: مس ظاهر فرج الغير إذا كان محرما بشهوة، و مس باطنه مطلقا.

فعن ابن الجنيد النقض به- علي اضطراب في النقل عنه، كما قيل- و لم يتضح وجه التفصيل المذكور.

ص: 95

______________________________

نعم، في موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا قبّل الرجل مرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء» «1».

لكنه- مع عدم مطابقته للدعوي، و ظهور إعراض الأصحاب عنه- معارض بما تضمن عدم النقض بمس الفرج، كمرسل ابن أبي عمير المتقدم في المذي، و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ليس في القبلة و لا المباشرة [الملامسة خ ل] و لا مس الفرج وضوء» «2» و خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن رجل مس فرج امرأته. قال: ليس عليه شي ء، و إن شاء غسل يده، و القبلة لا تتوضأ منها» «3».

و دعوي: أن مقتضي الجمع بين الموثق و الأوّلين حملهما علي مس الإنسان فرج نفسه، و الثالث ضعيف السند فلا ينهض بمعارضة الموثق.

مدفوعة: بأن سياق الأوّلين يأبي الحمل علي خصوص مس الإنسان فرج نفسه، بل مس فرج المرأة كالمتيقن منهما، فحمل الموثق لأجله علي الاستحباب أو التقية أقرب.

و مما تقدم يظهر أن الثاني أنسب بالمقام، و لا سيما مع ما تضمنه خبر عبد الرحمن من التنبيه علي غسل اليد، حيث يظهر منه عدم المقتضي لغيره.

الرابع: القبلة بشهوة، فقد حكي عن ابن الجنيد ناقضيتها مطلقا، أو إذا كانت لمحرم.

و لا وجه له إلا موثق أبي بصير المتقدم و هو يناسب الإطلاق.

لكنه- مع وهنه بإعراض الأصحاب- معارض بمرسل ابن أبي عمير و صحيح زرارة و خبر عبد الرحمن المتقدمة، و مثلها في ذلك صحيح الحلبي «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 5.

ص: 96

______________________________

و دعوي الجمع بينها و بينه بحملها علي القبلة بغير شهوة، كما تري، لندرة ذلك و إباء سياق المرسل عنه جدا.

و مما تقدم يظهر حال حمله علي الاستحباب.

الخامس: القهقهة في الصلاة متعمدا لنظر أو سماع ما أضحكه، فقد حكي عن ابن الجنيد ناقضيتها فيما حكي عنه.

و يقتضيه موثق سماعة: «سألته عما ينقض الوضوء، قال: الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه، و القرقرة في البطن إلا شيئا تصبر عليه، و الضحك في الصلاة و القي ء» «1».

لكنه- مع إعراض الأصحاب عنه، و كونه أعم من المدعي- معارض بصحيح زرارة و موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: القهقهة لا تنقض الوضوء و تنقض الصلاة» «2».

و حمله علي القهقهة في غير الصلاة يأباه سياقه جدا، لظهوره في أنها لو وقعت في أثناء الصلاة نقضتها دون الوضوء.

و صحيح ابن أبي عمير عن رهط سمعوه يقول: «إن التبسم في الصلاة لا ينقض الصلاة و لا ينقض الوضوء، إنما يقطع الضحك الذي فيه القهقهة» «3» و غيرهما.

و مما تقدم يظهر الحال في حمله علي الاستحباب.

ثمَّ إنه تقدم في أول فصل الاستنجاء من الصدوق وجوب إعادة الوضوء لمن توضأ قبل الاستنجاء. و هو راجع لكون نجاسة الموضع من سنخ الناقض، لمانعيتها من صحة الوضوء، كالحدث حال خروجه. و تقدم الكلام في ذلك.

هذا، و قد تضمنت كثير من النصوص النقض ببعض الأمور التي لا يعرف منا

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 10.

ص: 97

______________________________

قائل بناقضيتها، ينبغي التعرض لها، لاحتمال استحباب الوضوء منها:

منها: القي ء، فقد تقدم في موثق سماعة النقض به، و مثله صحيح أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الرعاف و القي ء و التخليل يسيل الدم إذا استكرهت شيئا ينقض الوضوء، و إن لم تستكرهه لم ينقض الوضوء» «1».

و قد يظهر من الأخير الاختصاص بصورة التعمد بجعل الاستكراه كناية عنه، فيكون شاهد جمع بين الموثق و النصوص الكثيرة المتضمنة عدم النقض بالقي ء «2».

لكن- مع عدم خلو الصحيح عن الإجمال- لا مجال لذلك بلحاظ موثق روح بن عبد الرحيم أو صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القي ء. قال: ليس فيه وضوء و إن تقيأت متعمدا» «3».

هذا، و قد تقدم الإشكال في الحمل علي الاستحباب، و يزيد هنا بما يأتي في خبر أبي هلال من استنكار السؤال عن الوضوء و نسبة القول به للمغيرة بن سعيد.

و منها: الرعاف، بل مطلق خروج الدم. ففي خبر عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أصابه دم سائل. قال: يتوضأ و يعيد. قال: و إن لم يكن سائلا توضأ و بني. قال: و يصنع ذلك بين الصفا و المروة» «4».

و تقدم في صحيح أبي عبيدة ما يشهد به، و صحيح الحسن الوشاء: «سمعته يقول: رأيت أبي صلوات اللّه عليه و قد رعف- بعد ما توضأ- دما سائلا فتوضأ» «5».

لكنها معارضة بالنصوص الكثيرة الواردة في الرعاف و الحجامة و غيرها. «6».

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(2) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب نواقض الوضوء.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 13.

(6) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء.

ص: 98

______________________________

و قد عرفت بعد الجمع في هذه الموارد بالاستحباب، و لا سيما مع ما في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: «سمعته يقول: لو رعفت دورقا ما زدت [دما و رقي ما زدت. خ ل] علي أن أمسح مني الدم و أصلي» «1».

و في خبر أبي هلال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: أ ينقض الرعاف و القي ء و نتف الإبط الوضوء؟ فقال: و ما تصنع بهذا؟ هذا قول المغيرة بن سعيد، لعن اللّه المغيرة، يجزيك من الرعاف و القي ء أن تغسله و لا تعيد الوضوء» «2».

و منها: مس الكلب، ففي صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من مس كلبا فليتوضأ» «3».

و لا مجال للتعويل عليه بعد تسالم الأصحاب علي عدم ناقضيته، كما هو ظاهر بعض نصوص نجاسته، كصحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام:

عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل. قال: يغسل المكان الذي أصابه» «4»، لظهوره في بيان تمام ما يلزم المس.

و في حمل الأمر في الصحيح الأول علي الاستحباب- كما عن بعضهم- أو حمل الوضوء فيه علي غسل الموضع- كما ذكره الشيخ في التهذيب و الاستبصار- وجهان، ثانيهما أنسب بما تقدم من ظهور إعراض الأصحاب عن التعرض لاستحباب الوضوء.

و دعوي: أن الأول أقرب عرفا، لا تخلو عن خفاء.

و أما الحمل علي التقية، فهو موقوف علي وجود قول للعامة بناقضيته، و لم أعثر علي من نقله من أصحابنا عنهم.

و منها: مصافحة المجوسي، ففي خبر عيسي بن عمر [عمرو. خ ل]: «أنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

ص: 99

______________________________

سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يحل له مصافحة المجوسي؟ فقال: لا، فسأله:

يتوضأ إذا صافحهم؟ قال: نعم، إن مصافحتهم تنقض الوضوء» «1».

و لا مجال للتعويل عليه بعد تسالم الأصحاب علي عدم ناقضيته، و معارضته بصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن رجل صافح مجوسيا. قال: يغسل يده و لا يتوضأ» «2».

و قد حمله الشيخ في كتابيه علي غسل اليد، و يبعده عدم تعارف التعبير بالنقض في النجاسة الخبثية.

و مثله الحمل علي الاستحباب، لما تقدم، و لظهور الصحيح في عدم مشروعيته، إذ يكفي في بيان عدم وجوبه الاقتصار علي بيان غسل اليد. فتأمل.

و أما الحمل علي التقية، فيجري فيه ما تقدم في مس الكلب.

و منها: قبل الأكل و بعده. و محل الكلام الثاني، لأن الكلام فيما يتوضأ منه، الذي يناسب البحث في النواقض، لا فيما يتوضأ له، و إنما جمعا معا لاشتراكهما في الأدلة و كلام الأصحاب.

و كيف كان، فقد تضمن غير واحد من النصوص الأمر بهما، بنحو يظهر منه الاستحباب لا الوجوب، كصحيح أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: يا أبا حمزة الوضوء قبل الطعام و بعده يذيبان الفقر.» «3»، و غيره.

و لا إشكال في عدم الوجوب بملاحظة الإجماع، و السيرة، و النصوص الكثيرة، كصحيح بكير: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الوضوء مما غيرت النار. فقال:

ليس عليك فيه وضوء، إنما الوضوء مما يخرج ليس مما يدخل» «4» و زيد في

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 49 من أبواب آداب المائدة حديث: 1 و في الباب المذكور و ما بعده نصوص كثيرة متضمنة للوضوء.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

ص: 100

______________________________

بعضها: «فإنه يدخل طيّبا و يخرج خبيثا» «1».

و إنما الإشكال في ثبوت الاستحباب بذلك، كما يظهر من الجواهر حاكيا له عن النزهة، قال: «قيل: للأخبار، و ألفاظ الشارع تحمل علي الحقائق الشرعية، فلا معني لحمل الوضوء فيها علي غسل اليد».

لكن سبر النصوص الواردة في آداب المائدة- علي كثرتها- يشرف الناظر فيها علي القطع بإرادة غسل اليدين من الوضوء، بنحو يظهر منه شيوع الاستعمال المذكور، للاقتصار في طائفة علي الوضوء، و في أخري علي غسل اليدين، من دون أن يشار في شي ء منها للجمع بينهما أو أفضلية الوضوء من الغسل، كما ورد ذلك في نصوص أكل الجنب «2».

مع تقارب الطائفتين في بيان الآثار الوضعية لكل منهما، و اشتراكهما في نصوص بعض الاحكام، كنصوص استحباب البدء قبل الطعام بصاحب البيت و الختم بعد الطعام به، و استحباب الغسل للجماعة في إناء واحد، و استحباب التمندل بعد الطعام و تركه قبله «3».

و لا سيما مع أن ظاهر نصوص الوضوء الاقتصار عليه، و هو لا يناسب التنزه المطلوب شرعا و طبعا للطعام، لتعرض اليدين به للتقذر- عرفا- بمسح الرجلين.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك، بالنظر للتعبير بالوضوء في غسل الجماعة في المجلس الواحد «4»، للقطع بعدم إرادة الوضوء المعهود منهم، لما فيه من طول المدة و الخروج عن الوضع المألوف المناسب للاجتماع.

مع أن ذلك صريح خبر هشام بن سالم، لقوله بعد نقل الحث علي الوضوء:

«قال لي الصادق عليه السّلام: و الوضوء هاهنا غسل اليدين قبل الطعام و بعده» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(3) راجع في النصوص المذكورة الوسائل باب: 50، 51، 52 من أبواب آداب المائدة.

(4) راجع الوسائل باب: 50، 51 من أبواب آداب المائدة.

(5) الوسائل باب: 49 من أبواب آداب المائدة حديث: 17.

ص: 101

______________________________

و ظاهر خبر محمد بن عجلان أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

الوضوء قبل الطعام يبدأ صاحب البيت، لئلا يحتشم أحد، فإذا فرغ من الطعام.

يكون آخر من يغسل يده صاحب المنزل.» «1».

و خبر الفضل بن يونس قال: «لما تغدي عندي أبو الحسن عليه السّلام و جي ء بالطشت بدئ به و كان في صدر المجلس، فقال: ابدأ بمن علي يمينك، فلما توضأ واحدا أراد الغلام أن يرفع الطشت، فقال له أبو الحسن عليه السّلام: دعها و اغسلوا أيديكم فيها» «2». للتعبير في صدرهما بالوضوء، و في ذيلهما بغسل اليدين.

هذا كله مضافا إلي عدم مناسبة استحباب الوضوء للتعليل المتقدم في نصوص عدم الناقضية، و لسيرة المتشرعة، لشدة إهمالهم له بنحو لا يناسب استحبابه جدا. فتأمل.

و منها: الغضب، فقد عده في الجواهر مما يستحب الوضوء منه، لما عن القطب الراوندي في دعواته: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إذا غضب أحدكم فليتوضأ» «3».

و من الظاهر ابتناء استدلاله به علي قاعدة التسامح في أدلة السنن.

إلا أن من القريب جدا حمله علي إرادة استحباب الوضوء حين الغضب لتسكينه، نظير ما تضمن الأمر بالجلوس لمن غضب قائما، و القيام لمن غضب جالسا، و مس ذي الرحم لمن غضب عليه «4»، لا استحبابه بعده، ليكون مما يستحب الوضوء منه، بنحو يناسب ما نحن فيه من الكلام في النواقض.

و منها: الإكثار من إنشاد الشعر الباطل. ففي موثق سماعة: «سألته عن نشيد [نشد. إنشاء. استبصار] الشعر هل ينقض الوضوء؟ أو ظلم الرجل صاحبه أو الكذب؟ فقال: نعم، إلا أن يكون شعرا يصدق فيه، أو يكون يسيرا من الشعر:

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب آداب المائدة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 51 من أبواب آداب المائدة حديث: 2.

(3) مستدرك الوسائل باب: 47 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب جهاد النفس حديث: 4، 19.

ص: 102

______________________________

الأبيات الثلاثة و الأربعة، فأما أن يكثر من الشعر الباطل فهو ينقض الوضوء» «1».

و لا مجال للبناء علي الوجوب، بعد ظهور تسالم الأصحاب و سيرة المتشرعة علي عدمه المعتضد بنصوص الحصر.

و خبر معاوية بن ميسرة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن إنشاد الشعر هل ينقض الوضوء قال: لا» «2»، فإنه و إن كان أعم، إلا أن حمله علي غير مورد الموثق لا يخلو عن بعد، لشيوع مورده. فتأمل.

ثمَّ إنه لا مجال لحمله علي التقية، بعد عدم ظهور قول للعامة بناقضيته، بل في المنتهي دعوي إجماع علماء الأمصار علي عدمها.

و من هنا يقرب حمله علي الاستحباب- كما في التهذيب [3]- و لا سيما مع المناسبة الارتكازية بين فرض بطلان الشعر و نقض الوضوء به، بنحو ينبغي إعادته، لأنه آكد في التنفير عنه، بل هو المناسب للتسامح في تحديد الموضوع، لأن الكثرة و إن كانت من الأمور العرفية، إلا أن تطبيقها عندهم لا يبتني علي التدقيق.

و أما ما تقدم من أن إهمال الأصحاب لذكر ما يستحب الوضوء منه موهن للحمل علي الاستحباب، فهو من القرائن النوعية علي عدم حمل النصوص الكثيرة عليه، لأن كثرة الأمور المذكورة في النصوص تقتضي الاهتمام بها و التنبيه إليها لو كانت موضوعا للاستحباب بنظرهم، و هو لا ينافي غفلتهم عن خصوصية بعضها و حملها علي الأعم الأغلب، فلا ينهض إعراضهم في تلك الموارد برفع اليد عن مقتضي القاعدة من حمل الأمر علي الاستحباب بعد تعذر حمله علي الوجوب مع الالتفات لخصوصيتها. فتأمل جيدا.

هذا، و قد استشكل بعض مشايخنا في الحمل علي الاستحباب بعدم ظهور النصوص في الأمر المولوي، بل في كون الوضوء بعد الأمور المذكورة لأجل

______________________________

[3] و قد يرجع إليه ما في الاستبصار من الترديد بينه و بين احتمال التصحيف في «ينقص» و أنه بالصاد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 103

______________________________

ناقضيتها، و لا معني للناقضية الاستحبابية.

و يندفع: بأن مرجع الحمل علي الاستحباب في المقام إلي أن الأمور المذكورة ناقضة لمرتبة من الطهارة يستحب تحصيلها و إن لم تكن ناقضة للمرتبة اللازمة التحصيل منها، نظير ما ورد في آداب الصلاة و الصوم من التعبير بالقطع و الإفطار و نحوهما.

و قد تقدم في حكم البئر ما له نفع في المقام.

بقي في المقام أمران.

الأول: أن المرجع في تحديد الباطل هم المتشرعة، بما لهم من مرتكزات عرفية و شرعية، لأنهم هم المخاطبون بذلك، فمثل شعر الموعظة و التاريخ و العلم و مدح و هجاء من يستحق حق، و مثل شعر الغزل و التشبيب و مدح و هجاء من لا يستحق باطل.

أما المرجع في تحديد الكثرة فهم العرف، إذ ليس للشارع تحديد أو تطبيق يخرج به عن المرتكزات العرفية.

و ما تضمنه الموثق من ذكر الأبيات الأربعة غير وارد للتحديد، بل التمثيل.

فتحديد موضوع استحباب الوضوء بذلك في المدارك في غير محله.

نعم، هو كاشف عن مقاربته للكثرة. فلاحظ.

الثاني: قال في الجواهر: «و الإنشاء أقوي من الإنشاد. و تكرير البيت أو البيتين لا يوصفهما بالكثرة. و لو أنشد ثمَّ حذف منه بحيث أفسد شعريته احتمل خروجه عن الحكم، و لعل الأولي خلافه. و لا دخل للاتصال و الانفصال، فلو قرأ في أوقات متعددة بحيث يكون مجموعها كثرة ترتب الحكم».

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 104

و ما ذكره قريب، عدا جريان الحكم مع إفساد الشعر، فإنه ممنوع، لعدم صدق إنشاد الشعر حينئذ.

كما أن الإنشاء إنما يكون أقوي من الإنشاد إذا ابتني علي قراءة الشعر، كما في الارتجال، بل قد يصدق عليه الإنشاد، أما الإنشاء من دون قراءة، كما لو حرره

ص: 104

______________________________

كتابة، فلا مجال لإلحاقه به، فضلا عن دعوي أقوائيته منه.

و منها: ظلم الرجل صاحبه، لموثق سماعة المتقدم، و يظهر الكلام فيه مما سبق.

و منها: الغيبة، إما لأنها من أفراد الظلم، أو للنبوي: «من اغتاب أخاه المسلم بطل صومه، و نقض وضوءه» «1». و الكلام فيه كما في سابقة.

و منها: الكذب، كما في الجواهر و غيرها. و يقتضيه موثق سماعة المتقدم، و موثقه الآخر: «سألته عن رجل كذب في شهر رمضان، فقال: قد أفطر و عليه قضاؤه و هو صائم يقضي صومه و وضوءه إذا تعمد» «2».

و قد يشكل فيه: باحتمال كون نقض الوضوء لأجل نقض الصوم بالكذب، كما يناسبه عطفه علي القضاء المتفرع علي الإفطار، لا لأجل الكذب بنفسه.

فالعمدة الموثق الأول، فيجري فيه ما تقدم.

لكن قد يدعي لزوم تقييده بموثق أبي بصير أو صحيحه: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: الكذبة تنقض الوضوء و تفطر الصائم. قال: قلت له: هلكنا. قال:

ليس حيث تذهب، إنما ذلك الكذب علي اللّه و رسوله و علي الأئمة عليهم السّلام» «3».

و فيه: أن كون المفطر الناقض للوضوء هو الكذب الخاص لا ينافي كون مطلق الكذب ناقضا للوضوء فقط.

علي أنه بعد حمل النقض علي مرتبة من النقض في الطهارة تقتضي استحباب الوضوء فهو قابل للشدة و الضعف، بأن يكون المراد بالموثق المرتبة الضعيفة منه، و بحديث أبي بصير المرتبة الشديدة منه، و هو أقرب من تقييده بالفرد القليل غير الشائع.

نعم، المناسبات الارتكازية تقتضي تقييده بالتعمد، كما هو مقتضي الموثق

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و وقت الإمساك حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و وقت الإمساك حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و وقت الإمساك حديث: 2.

ص: 105

______________________________

الثاني، لو تمَّ الاستدلال به.

هذا ما تيسر لنا العثور عليه من موارد النصوص و كلمات الأصحاب. و ربما فاتنا شي ء قد يظهر الحال فيه مما تقدم.

بقي في المقام أمران.

الأول: لو قيل باستحباب الوضوء من هذه الأمور أو بعضها، فقد قال في الجواهر: «و لعل الاستحباب في هذه الأمور و ما شابهها إنما هو تأكد استحباب التجديد».

و لعله مقتضي إطلاق نصوص التجديد «1» المتضمنة أن الوضوء علي الوضوء كفارة لما مضي في ليله أو نهاره من الذنوب ما خلا الكبائر، و أنه عشر حسنات.

نعم، مقتضي ما في بعض نصوصه من أنه نور علي نور كونه مؤكدا للطهارة، و مقتضي نصوص المقام كونه مكملا لنقصها المسبب عن الأمور المذكورة، فيتقابل أثراهما.

لكن المضمون المذكور- مع عدم وروده إلا في مرسلة الصدوق «2» - لا ينافي الإطلاقات. فلاحظ.

الثاني: لو صادف الوضوء هنا حدثا ارتفع به، لأن الظاهر اتحاد ماهية الوضوء، و أن اختلاف أثره لاختلاف حال المتوضي، فإن كان محدثا ارتفع حدثه كما تقتضيه نصوص النواقض، و إن كان ناقص الطهارة تكملت طهارته، و إن كان تام الطهارة تأكدت طهارته، كما تقتضيه بعض نصوص التجديد، نظير ما تقدم في آخر المسألة الواحدة و السبعين في الوضوء التجديدي.

و لذا لا ريب ظاهرا في عدم الأثر لهذه الأمور لو وقعت حال الحدث، لاندكاك أثرها فيه، كما لا يستحب الجمع بين الوضوء لها و الوضوء للحدث لو وقع

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 106

______________________________

بعدها، و لا يشرع الوضوء منها بنحو لا يترتب عليه رفع الحدث، كما لو وقع أحدهما في أثناء حدوث الآخر، مع أنه لو كان الوضوء المذكور مباينا بماهيته للوضوء الرافع، كان ذلك مخالفا لإطلاق أدلته.

و منه يظهر الحال فيما لم يثبت مشروعيته، بل جي ء به برجاء المطلوبية، فإنه في فرض مصادفته للحدث تنكشف مشروعيته و صحته، بعد فرض كون الوضوء حقيقة واحدة مقصودة في المقام، و إن لم يكن الداعي لها رفع الحدث.

و أما دعوي: أن عباديته موقوفة علي قصد الأمر به، و المفروض عدم قصد الأمر برفع الحدث للاعتقاد بعدمه، و أن الأمر الاستحبابي المقصود احتمالي غير محرز بنفسه ليحرز صحة الوضوء به و عباديته كي يكون رافعا للحدث، إلا أن يؤتي به بنية الأمر الفعلي، بنحو ينطبق علي الأمر برفع الحدث في ظرف مصادفته، لكنه محتاج إلي عناية يبعد تعمدها مع الاعتقاد بعدم الحدث.

فيظهر اندفاعها مما تقدم في المسألة الواحدة و السبعين من أن عبادية الوضوء إنما تقتضي إيقاعه بوجه قربي و إن لم يصادف الأمر، و يكفي في ذلك الإتيان به في المقام برجاء المطلوبية. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و له الحمد.

ص: 107

الفصل السادس في المسلوس و المبطون

اشارة

الفصل السادس من استمر به الحدث في الجملة (1)- كالمبطون و المسلوس و نحوهما (2)- له أحوال أربع.

______________________________

(1) بنحو يشمل ما إذا كان متقطعا يتعذر في بعض الوقت إيقاع الصلاة بدونه، ليشمل جميع الصور المفروضة، خصوصا الأولي منها.

(2) النصوص إنما تعرضت للمسلوس و المبطون و المستحاضة التي يأتي الكلام فيها في محلها، و كلام جمهور الأصحاب مختص بها، مع ظهور كلام بعضهم في دخول مستمر الريح في المبطون حقيقة أو حكما.

نعم، حكي في مفتاح الكرامة التعدي لغيرها من الأحداث عن بعض الأصحاب من دون تعيين، و ظاهر الجواهر الجري عليه.

و هو غير ظاهر الوجه بعد قصور النصوص عنه.

و لا مجال لفهم عدم الخصوصية لمواردها بعد عدم كون الحكم ارتكازيا، بل تعبديا مخالفا للقواعد المقتضية لتعذر الصلاة بتعذر شرطها، خصوصا مثل الطهارة التي لا تسقط بالتعذر عند المشهور علي ما يأتي في فاقد الطهورين إن شاء اللّه تعالي.

و عدم ناقضية الحدث في المقام للضرورة ليس بأولي ارتكازا من عدم ناقضية الحدث السابق في فاقد الطهورين لأجلها.

و مثله التعدي بتنقيح المناط، إذ لا طريق لإحراز المناط، و لا سيما مع اختلاف الاستحاضة عن المسلوس و المبطون في أحكام بعض الفروض، مع

ص: 108

الأولي أن تكون له فترة تسع الوضوء و الصلاة الاختيارية

الأولي: أن تكون له فترة تسع الوضوء و الصلاة الاختيارية (1)، و حكمه وجوب انتظار تلك الفترة (2)

______________________________

اشتراكها معهما في استمرار الحدث، بل احتمال الاختلاف بين المسلوس و المبطون في الاحكام.

و من هنا يتجه الاقتصار علي ما إذا كان استمرار الحدث لمرض يصدق معه العناوين التي تعرضت لها النصوص، دون ما إذا كان لضرورة خارجية، من إكراه، أو نحوه.

بل يتعين في الجميع الرجوع فيه للقاعدة المقتضية للمحافظة علي الصلاة في فترة تسع الطهارة المائية ثمَّ الترابية مع الصلاة بدون حدث إن كانت هناك فترة، و إلا فالبناء علي تعذر المشروط بتعذر شرطه و سقوط الأداء و انتظار القضاء بعد ارتفاع العذر، لو لم نقل بسقوط القضاء، لعموم ما ورد في المغمي عليه من أن ما غلب اللّه عليه فهو أولي بالعذر.

و أما ما عن شرح المفاتيح من عدم سقوط الصلاة- يعني في الوقت- إجماعا، فهو غير ظاهر بنحو ينهض بالخروج عن القاعدة، لعدم تحرير المسألة في كلماتهم، و عدم قيام الارتكازيات عليها بنحو معتد به.

علي أنه لو تمَّ أو كان الشفاء ميؤوسا منه أو بعيد الأمد بنحو يقطع بعدم رضا الشارع بترك الصلاة في الوقت، فاللازم ملاحظة القواعد العامة في اختيار الصلاة الميسورة، فإذا أمكنت الصلاة التامة مع الطهارة المائية ثمَّ الترابية تعينت، كما ذكرنا، و إلا لزم ملاحظة الأهمية في الأجزاء و الشرائط، و لا يجوز اختيار الصلاة مع الحدث المتجدد- كما في المسلوس و المبطون- ابتداء، إلحاقا له بهما بعد ما سبق، فلاحظ.

(1) و أما لو لم تسع إلا الصلاة الاضطرارية بنقص بعض الأجزاء أو الشرائط، فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما في جامع المقاصد، و ذكره في المسلوس في الروض و المسالك

ص: 109

______________________________

و المدارك و محكي التذكرة و علّله في الروض و المدارك بما يقتضي التعميم للمبطون، و في الجواهر في المسلوس: كما صرح به جمع من الأصحاب، بل لا أجد فيه خلافا هنا سوي ما ينقل عن الأردبيلي.»، و ذكر في المبطون أن التأمل في كلماتهم، بل تصريح بعضهم شاهد بخروجه عن محل النزاع. و يستفاد بالأولوية ممن أوجب عليه المحافظة علي الصلاة الاضطرارية مع الطهارة لو تمكن منها، كما في كشف اللثام و عن السرائر.

و كيف كان، فهو مقتضي القاعدة في الواجب الاختياري، حيث يجب المحافظة عليه مع القدرة.

و منه يظهر ضعف ما عن الأردبيلي في مجمع البرهان. قال: «يجوز له الصلاة في أول الوقت، لعموم أدلة الأوقات و الصلاة، و كون العذر موجبا للتأخير غير متيقن، و للحرج و الضيق».

لاندفاعه: بأنه يلزم الخروج عن العموم بعد تقييده بالصلاة عن طهارة بالمحافظة عليها. و هو الدليل علي إيجاب العذر للتأخير.

و الحرج النوعي- لو تمَّ- لا يسقط التكليف، و الشخصي- مع عدم اطراده- لا يقتضي بدلية الناقص، بل سقوط التام، فالاكتفاء بالناقص يبتني علي اقتضاء القاعدة له، لنظير ما تقدم في غير المسلوس و المبطون من أفراد مستمر الحدث.

و أما نصوص المقام فقد ادعي سيدنا المصنف قدّس سرّه انصرافها عن ذلك، بقرينة ورودها مورد العذر و الاضطرار، و لا سيما مع قوله عليه السّلام في صحيح منصور بن حازم:

«إذا لم يقدر علي حبسه فاللّه أولي بالعذر.» «1».

لكن يصعب حمل النصوص علي صورة عدم الفترة واقعا، و منها صحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه قال: إذا كان الرجل يقطر منه البول و الدم، إذا كان حين الصلاة أخذ كيسا و جعل فيه قطنا ثمَّ علقه عليه و أدخل ذكره فيه، ثمَّ صلي، يجمع بين صلاتين، الظهر و العصر، يؤخر الظهر و يعجل العصر بأذان و إقامتين،

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

ص: 110

______________________________

و يؤخر المغرب و يعجل العشاء بأذان و إقامتين، و يفعل ذلك في الصبح» «1».

فإن حمل التقطير علي خصوص المستمر الذي لا فترة فيه أصلا بعيد جدا، لندرة ذلك، كحمله علي ما فيه فترات لا تسع الطهارة و الصلاة، لعدم القرينة علي التحديد المذكور، بل و بعده بعد كون المتعارف بين من يبتلي بذلك عدم الضابط له، بلحاظ طول الفترات و قصرها و اختلاف أوقاتها، فعدم التنبيه لذلك و لاحتمال حصول الفترة المطلوبة بعد الصلاة ظاهر في عموم الحكم لصورة وجود الفترة واقعا، و عدم وجوب تحريها و الفحص عنها و انتظارها، كما تقتضيه القاعدة الأولية.

و أظهر من ذلك ما ورد في المبطون، كموثق محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المبطون فقال: يبني علي صلاته» «2».

فإن المراد من البناء علي الصلاة فيه ليس محض الإتيان بالصلاة في مقابل تركها لتعذر الطهارة، و إلا ناسب أن يقول: «يصلي».

و لا إكمالها من دون وضوء للحدث المتجدد في أثنائها في مقابل استئنافها من غير وضوء أيضا، إذ لا حاجة لطرد احتمال وجوب الاستئناف من دون وضوء، لعدم المنشأ له بعد كون الإكمال حينئذ أقرب للصحة ارتكازا من الاستئناف، لما فيه من وقوع بعض الصلاة بطهارة.

و احتمال مبطليته للصلاة دون الطهارة بعيد جدا، يبعد أن يكون هو المثير للسؤال، كاحتمال أهمية مبطليته للصلاة من شرطية الطهارة فيها، كيف و المرتكز تفرّع مبطليته للصلاة علي مبطليته للطهارة التي هي شرط فيها.

بل المراد من البناء علي الصلاة في الموثق هو إكمالها بعد الوضوء للحدث المتجدد، دفعا لتوهم وجوب استئنافها بعد الوضوء- الذي تضمنته النصوص في غير المبطون «3» - فرارا من محذور مبطلية الحدث للصلاة، كما هو مقتضي الجمع

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(3) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 111

______________________________

بين الموثق و النصوص الأخر الواردة في المقام، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه قال: صاحب البطن الغالب يتوضأ و يبني علي صلاته» «1».

و خبره [2] عنه عليه السّلام: «قال: صاحب البطن الغالب يتوضأ ثمَّ يرجع في صلاته، فيتم ما بقي» «3».

و عليه يكون واردا مورد المفروغية عن توقع الفترة التي بها يمكن استئناف الصلاة بعد الوضوء، فكيف يمكن حمله علي عدمها؟! فتأمل.

مضافا إلي صعوبة حمل جميع هذه النصوص علي عدم الفترة بالنحو المذكور، مع أن المفروض فيها وجود الفترة في الجملة، و لا سيما مع ما أشرنا إليه آنفا من عدم الضابط غالبا للفترات، فلو كان الأمر دائرا مدار وجود الفترة واقعا لصعب تحديد موضوع النصوص و العمل عليها إلا بانتظار آخر الوقت، و هو بعيد عنها جدا.

و من هنا يتعين حمل العذر في صحيح منصور علي العذر بلحاظ العجز عن

______________________________

[2] عده غير واحد- أولهم العلامة في المختلف علي ما حكي عنه- موثقا، مع أن في سنده محمد بن نصير، المشترك بين جماعة، و المردد في هذا الحديث بحسب الطبقة بين الكشي الثقة و النميري الضال الملعون الذي وردت فيه الذموم العظيمة و نسبت له الأفعال الشنيعة و المقالات المهلكة، و لم يتضح حتي الآن المرجح للأول.

نعم قد يقال: لما كان الراوي عنه العياشي، الذي هو من الأعيان الذي يمتنع عادة روايته عن النميري حال انحرافه، كما يمتنع اهتمام الأصحاب بالحديث مع ذلك، فلا بد أن يكون المراد به الكشي أو النميري في حال استقامته، فيكون الحديث معتبرا و إن لم يكن من الموثق اصطلاحا، لكن الشيخ أرسل في التهذيب الحديث عن العياشي و لم يذكر فيه سنده إليه، و سنده المذكور في الفهرست قد اشتمل علي أبي المفضل محمد بن عبد اللّه الشيباني، الذي قال عنه في الفهرست: «حسن الحفظ غير أنه ضعّفه جماعة من أصحابنا»، و قال عنه النجاشي «كان في أول أمره ثبتا ثمَّ خلط، و رأيت جل أصحابنا يغمزونه و يضعفونه. سمعت منه كثيرا ثمَّ توقفت عن الرواية عنه إلا بواسطة بيني و بينه». إلا أن يقال: إن الرواية عن كتاب العياشي، و هو معروف عند الشيخ قدّس سرّه و ذكر السند له لمحض التبرك بالاتصال بالمعصوم عليه السّلام. فتأمل.

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه باب: 50 حديث: 11، ج: 1، ص: 237، طبع النجف الأشرف.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 112

______________________________

حبس البول، لا العجز عن الصلاة بالطهارة التامة، لاستيعاب العذر للوقت، فإنه يناسب الامتنان بنسبة العذر للّه تعالي، لأنه لا بد منه مع التعذر. فلاحظ.

و أما ما سبق من الجواهر من خروج هذه الصورة عن محل الكلام، فلم يتضح بنحو معتد به، بعد اضطرابهم في عنوان محل الكلام و شدة خلافهم في الحكم، كما اعترف به بعضهم، و يشهد به النظر في كلماتهم.

بل في الحدائق أن المفهوم من كلام بعضهم حمل النصوص علي ما إذا دخل في الصلاة متطهرا ثمَّ فجأه الحدث، كانت له فترة تسع الصلاة كلا أو بعضا أو لا.

و لعل منشأ ما ادعي من خروج ذلك عن محل الكلام هو قوة ارتكازية القاعدة المقتضية لتحصيل الواجب الاختياري، بنحو يصعب حمل كلماتهم علي ما يشمل الصورة المذكورة.

لكن المتيقن من ذلك ما إذا كانت الفترة مضبوطة معلومة وقتا و قدرا، حيث لا يحتاج تحريها إلي كلفة و مئونة، فإن بعد الاكتفاء بالصلاة مع الحدث حينئذ ارتكازا لعدم الحاجة له موجب لانصراف كلماتهم عنه بقرينة ورودها مورد العذر و الاضطرار، و لا سيما مع ندرة الصورة المذكورة.

و من ثمَّ لا يبعد انصراف النصوص عنها أيضا، بخلاف ما لو لم تكن الفترة معلومة كذلك، كما هو الغالب، حيث يصعب الالتزام بمانعيتها من جريان الأحكام الآتية، بحيث يجب تدارك الصلاة لو وقعت مع الحدث في أول الوقت لتخيل عدم الفترة ثمَّ صادف تحققها في آخره- كما التزم به في العروة الوثقي و جملة من شروحها و حواشيها- لصعوبة حمل النصوص علي ذلك، كما عرفت، و خروجه عن محل الكلام بين الأصحاب غير ظاهر بنحو يرفع به اليد عن مقتضي النصوص.

فلاحظ.

ثمَّ إنه بناء علي انصراف النصوص عن صورة ضبط الفترة قدرا و وقتا، يتجه الاكتفاء فيها بما يسع الصلاة الاضطرارية ببعض المراتب التي يلزم الإخلال فيها

ص: 113

و الوضوء و الصلاة فيها (1).

الثانية أن لا تكون له فترة أصلا

الثانية: أن لا تكون له فترة أصلا، أو تكون له فترة يسيرة لا تسع الطهارة و بعض الصلاة. و حكمه الوضوء و الصلاة، و ليس عليه الوضوء لصلاة أخري (2)،

______________________________

بما يعلم من الشارع الأقدس أنه دون الطهارة في الأهمية، كالسورة و نحوها مما يتعين تركه في غير المسلوس و المبطون ممن يستمر منه الحدث عند مزاحمته للطهارة.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك، بالإضافة إلي الطهارة المائية.

فلو دار الأمر بين الصلاة بطهارة ترابية لا حدث فيها و الصلاة بطهارة مائية يتخللها الحدث تعينت الأولي، عملا بالقواعد العامة.

نعم، لا يبعد عدم جواز الإخلال بالقيام أو الركوع و السجود الاختياريين لأجل ذلك، لأن دخل ذلك في منع الحدث مما يحتمل حتي في مورد النصوص، فعدم التعرض فيها له ظاهر في عدم سقوطها، كما هو ظاهر الأصحاب.

و منه يظهر حال ما في كشف اللثام و عن السرائر من أنه إن أمكنه التحفظ من الحدث إذا اختصر الصلاة أو جلس أو اضطجع أو أومأ للركوع و السجود، وجب.

فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) فلو لم يصلّ فيها وجب عليه الصلاة فيما بعدها بالنحو اللازم علي مستمر العذر، لدخوله في موضوع النصوص حتي بناء علي اختصاصها بصورة الاضطرار، لتحقق الاضطرار و إن كان مستندا إليه، سواء كان ترك الصلاة تقصيرا أو عن عذر، و إن لزم الإثم في الأول، بناء علي بقاء ملاك الواجب الاختياري في حال الاضطرار.

(2) اختلفت كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في حكم هذه الصورة، فإن تصويرها بهذا الوجه و إن لم يذكره القدماء، بل ذكره جمع من

ص: 114

______________________________

المتأخرين- كما في الحدائق- إلا أنه قد يستفاد حكمها عند غيرهم من إطلاق كلماتهم أو قرائن فيها.

و يستفاد من مجموع كلماتهم أن فيها أقوالا ثلاثة.

الأول: ما ذكره في المتن من الاكتفاء بوضوء واحد للصلوات المتعددة، و سبقه إليه في العروة الوثقي، و أمضاه جماعة من محشيها.

و اختاره في خصوص المسلوس في المبسوط، و عن كشف الرموز الميل إلي موافقته، و عن شرح الإرشاد لكاشف الغطاء أنه قوي جدا.

و ربما يكون عدم تعرضهم له في المبطون لعدم فرضهم الاستمرار فيه بالنحو المذكور، لا للفرق بينه و بين المسلوس في ذلك.

الثاني: وجوب الوضوء لكل صلاة، كما هو المصرح به في المعتبر و النافع و الإرشاد و القواعد و الروض و جامع المقاصد و كشف اللثام، و محكي التذكرة و المختلف و الدروس و الذكري و غيرها، و في جامع المقاصد أنه المشهور، و ذكر ذلك في خصوص السلس في الخلاف مدعيا في ظاهر كلامه الإجماع عليه، و خصصه في المنتهي بالبطن.

الثالث: جمع الظهرين بوضوء و العشائين بوضوء و يتوضأ لكل صلاة غيرها، كما ذكره في السلس في المنتهي، و مال إليه في المدارك و الحدائق، و عن مجمع البرهان نفي البعد عنه.

و أما القول في المبطون بوجوب الوضوء في أثناء الصلاة و البناء علي ما مضي منها علي من دخل فيها متطهرا ثمَّ فجأه الحدث، فلا يبعد ابتناؤه علي فرض تحصيل الطهارة لتمام الصلاة بذلك، لفرضهم الفترة التي تسع الطهارة و بعض الصلاة، كما في الصورتين الآتيتين، لا في هذه الصورة.

نعم، ظاهر من قيد الحدث المفاجئ بالاستمرار- كما في المعتبر و المنتهي- وجوبه مرة واحدة لتخفيف الحدث نظير الوضوء من مستمر الحدث لكل صلاة قبل الدخول فيها، الذي تقدم عن المشهور.

ص: 115

______________________________

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في أن مقتضي عموم تقييد الصلاة بالطهارة و عموم ناقضيته الأحداث المعهودة للطهارة هو سقوط الصلاة تبعا لتعذر قيدها.

و توهم قصور عموم الناقضية عن الفرض و اختصاصه بالخروج المعهود المبني علي الاختيار، و الذي يصدق معه التبول و التغوط، موهون بملاحظة ما سبق في أول فصل النواقض. فراجع.

نعم، بعد فرض مشروعية الصلاة بالإجماع و النصوص، فلا بد إما من سقوط شرطية الطهارة رأسا، أو تبعيضها بلحاظ الأحداث، بأن يكون كل فرد من الحدث ناقضا لمرتبة من الطهارة، و الساقط هو المرتبة التي يستند ارتفاعها لاستمرار الحدث، أو عدم ناقضية الحدث المستمر للطهارة، تخصيصا لعموم ناقضية الحدث.

و علي الأول يحتاج وجوب الوضوء للصلاة إلي دليل، و مع عدمه فالأصل البراءة من اعتباره فيها بعد فرض تخصيص عموم شرطية الطهارة لها.

أما علي الثاني، فهو مقتضي العموم المذكور المقتصر في الخروج عنه علي المتيقن.

كما أنه علي الثالث، يكون وجوب الوضوء مقتضي عموم ناقضية الحدث المقتصر في الخروج عنه علي المتيقن من الحدث المستمر.

لكن لا مجال للأول، بعد ما هو المفروغ عنه بينهم من عدم جواز الصلاة مع غير الحدث المستمر من أفراد الحدث، لارتكاز كونه من صغريات اعتبار الطهارة في الصلاة، لا اعتبارا لأمر آخر بدلا عنها. و لذا لم يحتج إلي تكلف الاستدلال علي عمومه لجميع أفراد الأحداث الأخر، بل أوكل لما هو المعلوم من عموم ناقضية تلك الأحداث، حيث يكشف عن مفروغية ابتنائه علي اعتبار الطهارة و انتقاضها بالحدث.

كما لا إشكال ظاهرا في كونه من الأركان مع اختصاص حديث: «لا تعاد.»

بالطهور، دون الوضوء الذي ليس طهورا.

ص: 116

______________________________

بل عدم التنبيه عليه في نصوص المقام لا بد أن يكون بسبب وضوح اعتباره، و لا منشأ لوضوح ذلك إلا عموم اعتبار الوضوء في الصلاة، الراجع لاعتبار الطهارة فيها، و لو كان واجبا تعبديا مع عدم حصول الطهارة به لمصاحبته للحدث لاحتاج للتنبيه، لمخالفته للأصل.

بل الإنصاف أن قوة ارتكاز كون جميع أفراد الوضوء مؤثرة للطهارة مغن عن تكلف الاستدلال لذلك.

و ما في بعض الكلمات من كون الوضوء في المقام مبيحا لا رافعا، مبني علي قوة ارتكاز عموم ناقضية الحدث شرعا، لصعوبة التفكيك بين أفراده جدا، لعدم دخل الضرورة في التسبيبات ارتكازا، و لا ينافي الوجه الثاني المبني علي ملاحظة العمومين بالتزام تبعض الطهارة بلحاظ مراتبها و وجوب تحصيل الميسور منها.

فكأنه مبني علي عدم تحقق الرفع التام به.

و منه يظهر ضعف الوجه الثالث، و لا سيما بعد قوة ارتكاز نقصان العمل في المقام و بقاء الملاك للفائت، و لذا لا إشكال ظاهرا في وجوب المبادرة للطهارة التامة لو علم المكلف من نفسه أنه سيبتلي باستمرار الحدث، و وجوب انتظار الفترة لو كانت مضبوطة قدرا و وقتا، و لو كان الاضطرار في المقام مانعا من ناقضية الحدث و موجبا لتبدل الموضوع نظير صيرورة المسافر حاضرا لم يكن وجه لذلك.

و من ثمَّ كان الأظهر هو الوجه الثاني، و قد سبق في ذيل الكلام في نية الرفع و الاستباحة أنه المناسب لارتكاز كون الأحداث من سنخ القذرات العرفية القابلة للتعدد و التأكد.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من ظهور كلماتهم في وحدة الحدث و أنه عبارة عن انتقاض الوضوء غير القابل للتعدد و التأكد، و أن وجوب الوضوء في المقام بعد فرض وجود الحدث محض تعبد مستفاد من الإجماع.

لا مجال للتعويل عليه بعد ما ذكرنا هنا و هناك، و لا سيما مع صراحة كلماتهم في المقام في أن وجه وجوب الوضوء هو عدم استباحة الصلاة مع

ص: 117

______________________________

الحدث إلا بقدر الضرورة، لكشفه عن مفروغيتهم عن رافعية الوضوء للحدث الذي لا يضطر للصلاة معه، و عدم ابتناء الإجماع علي محض التعبد، بل علي اعتبار الطهارة في الجملة، الذي عرفت مناسبته للمرتكزات.

إذا عرفت هذا، ظهر لك أن القول الثاني أقرب الأقوال لمقتضي العمومين المتقدمين، مع تأيده بما ورد في المستحاضة.

و أنه لا مجال لما في المبسوط من أن حمل المسلوس علي المستحاضة قياس، و لا دليل علي وجوب الوضوء عليه لكل صلاة.

لكفاية العمومين المذكورين في إثبات ذلك.

بل لو احتمل وجوب الوضوء عليه في أثناء الصلاة تخفيفا للحدث الواقع فيها لكان مطابقا لهما، إلا أنه لا مجال لاحتماله بعد ظهور التسالم علي عدم وجوبه، كما ادعاه صريحا في المعتبر، بل لا ينبغي التأمل فيه بعد النظر في كلماتهم، إذ لو كان واجبا لم يخف عليهم عادة بعد ابتنائه علي كلفة خارجة عن الوضع المتعارف، و عدم الضابط الارتكازي لعدده و موقعه من الصلاة كي يمكن إيكاله إليه.

بل سكوت النصوص الواردة في المسلوس عن التنبيه عليه مع ذلك موجب لظهورها في عدمه، و ليس هو كالوضوء لكل صلاة و يأتي تمام الكلام في ذلك في آخر الكلام في هذه الصورة إن شاء اللّه تعالي. فليس الإشكال إلا في كفاية الوضوء الواحد لأكثر من صلاة واحدة، الذي عرفت أنه مخالف للعمومين المذكورين.

و قد يستدل لما في المبسوط بغير واحد من النصوص.

منها: النصوص الكثيرة الواردة في سقوط القضاء عن المغمي عليه و من يستمر به العذر بين رمضانين «1»، المتضمنة لقولهم عليهم السّلام: «كلما غلب اللّه عليه فهو أولي بالعذر»، و نحوه مما يتضمن معذورية المغلوب.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات و باب 25 من أبواب أحكام الصوم.

ص: 118

______________________________

فإن سوقها لبيان عدم وجوب القضاء الذي هو عبارة عن تكليف جديد بسبب عدم الإتيان بالواجب في وقته، أو بقاء التكليف بأصل الواجب لذلك- كما هو الظاهر- كاشف عن أنه ليس المراد بالعذر فيها ما يقابل المؤاخذة من العقاب و ما هو من سنخه شرعا كالكفارة، بل ما يعم عدم حدوث التكليف أو سقوطه، و عموم ذلك يقتضي في المقام عدم وجوب الوضوء علي المكلف بسبب البول و نحوه إذا غلب اللّه عليه، إما لعدم ناقضيته أو عدم وجوب الطهارة منه.

و فيه- مع أن لازمه عدم وجوب الوضوء للقطرات المذكورة مع وجود الفترة المضبوطة بل حتي بعد الشفاء، بل في سائر موارد العجز عن تجنب الحدث، و لا يظن التزامه من واحد-: أن الكبري المذكورة لا تخلو عن إجمال، بسبب تطبيقها في المورد المذكور، لأن ظاهر العذر عدم المؤاخذة، فتطبيقه علي القضاء موقوف إما علي تنزيل القضاء منزلة المؤاخذة، لأنه عرفا من سنخ التدارك و فيه نحو من الثقل و الكلفة تزيد علي ابتداء التكليف، فيقتصر فيه علي مورده و نحوه مما ثبت فيه التنزيل المذكور. أو حمل العذر علي ما يعم عدم التكليف أو سقوطه- كما ذكر في وجه الاستدلال- لينفع فيما نحن فيه.

و ليس الثاني بأولي من الأول، لو لم يكن الأول أولي، لما فيه من المحافظة علي ارتكازية الكبري، و لا سيما مع لزوم كثرة التخصيص علي الثاني، خصوصا لو حمل علي ما يعم بقاء التكليف، لكثرة موارد بقائه مع غلبة اللّه تعالي في الترك، بل لم نعهد في المؤقت موردا لسقوط التكليف في الوقت مع الترك في أوله.

بل قد يدعي أن ذلك لازم حتي علي الأول لكثرة موارد وجوب القضاء بالترك مع غلبة اللّه تعالي، و هو مما يوجب إجمال هذه النصوص و يلزم بالاقتصار علي موردها، و إن صرح في بعضها بالعموم بمثل قوله عليه السّلام: «هذا من الأبواب التي يفتح كل باب منها ألف باب» «1». لا يخلو عن إشكال أو منع علي ما يأتي في حكم فاقد الطهورين من مباحث التيمم. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 9.

ص: 119

______________________________

و منها: صحيح منصور بن حازم: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يعتريه البول و لا يقدر علي حبسه. فقال لي: إذا لم يقدر علي حبسه فاللّه أولي بالعذر يجعل خريطة» «1».

و صحيح الحلبي عنه عليه السّلام: «سئل عن تقطير البول. قال: يجعل خريطة» «2».

بدعوي: أن الاقتصار في بيان الوظيفة علي جعل الخريطة ظاهر في عدم وجوب الوضوء، و لا سيما مع التنبيه في الأول للمعذورية بسبب العجز، حيث يدل علي عدم الأثر للقطرات في وجوب الوضوء، للعجز عن حبسها.

و أما عدم التنبيه للوضوء لغير القطرات المذكورة من أفراد الحدث، فلأنه خارج عن مورد السؤال، و لا سيما مع ما في الأول من المعذورية بسبب العجز عن الحبس، حيث يناسب عدمها مع القدرة عليه.

و فيه: أن الاقتصار علي جعل الخريطة قد يكون مسببا عن انصراف السؤال لخصوص جهة الخبث، مع استيضاح حكم الحدث، بل هو الظاهر من الأول بسبب التمهيد لجعل الخريطة ببيان المعذورية لظهوره في كون المعذورية من جهة الخبث التي اهتم الإمام عليه السّلام بعلاجها.

علي أن الأمر بجعل الخريطة منصرف لحال الصلاة، لأجل منع التنجس بما يتقاطر حين إرادتها بالقدر الممكن، فلو دلّ علي العفو عن الحدث المسبب عنها فالمتيقن منه العفو عنه بالإضافة للصلاة الواقعة حينه، و لا يدل علي العفو عنه بالإضافة لصلاة أخري.

و لا سيما مع أن التعبير بأولوية اللّه تعالي بالعذر ظاهر في المفروغية عن تحقق موضوعه عرفا، و هو لا يعم ما عدا الصلاة الواقع حينها، حيث لا عذر في الصلاة معه مع تيسر رفعه قبل الدخول فيها. فلاحظ.

و منها: موثق سماعة: «سألته عن رجل أخذه تقطير من قرحة [فرجه. يب] إما دم و إما غيره. قال: فليصنع خريطة و ليتوضأ و ليصل، فإنما ذلك بلاء ابتلي به،

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 120

______________________________

فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه» «1».

بدعوي: أنه ظاهر في عدم وجوب الوضوء إلا للحدث المتعارف، دون الذي ابتلي به من التقطير.

و فيه: أن الأقرب من ذلك جعل الجواب قرينة علي المراد بغير الدم في السؤال مثل القيح و الصديد، دون الحدث الذي يتوضأ منه، كما هو المتعين علي نسخة الوسائل، المتضمنة ل «قرحة» بدل «فرجه».

و منها: خبر عبد الرحيم [2]: «كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام في الخصي يبول فيلقي من ذلك شدة و يري البلل بعد البلل. قال: يتوضأ و [ثمَّ. في، فقيه] ينتضح [3] في النهار مرة واحدة» «4».

و فيه: أن الاستدلال إن كان بلحاظ قوله عليه السّلام: «مرة واحدة». فالمتيقن رجوعه

______________________________

[2] رواه الصدوق مرسلا عن الكاظم عليه السّلام. و رواه الشيخ في التهذيب في موضعين بسندين عن سعدان ابن مسلم عن عبد الرحيم. و الأول لم يصرح أحد من القدماء بتوثيقه، و إنما ذكر الشيخ في الفهرست أن له أصلا. لكن رواية غير واحد من أجلاء أصحابنا عنه و رواية جماعة لكتابة- كما ذكره النجاشي- و نحوهما مقرب لوثاقته جدا. و لا سيما مع قرب كونه قائد أبي بصير الذي روي عنه في كامل الزيارة، بل عن السيد الداماد: أنه شيخ كبير القدر جليل المنزلة. و الثاني هو القصير علي الظاهر، كما صرح به في أحد الموضعين من التهذيب. و يشترك مع سابقة في عدم التوثيق الصريح و في رواية بعض الأجلاء عنه. و قد يظهر من بعض الروايات أن له منزلة.

أما الكليني فقد رواه عن سعدان بن عبد الرحمن، كما في الوسائل. لكن في الطبعة الحديثة من الكافي: «سعدان عبد الرحمن» فيكون هو سعدان بن مسلم، بناء علي ما في جامع الرواة من أن اسمه عبد الرحمن و لقبه سعدان، و قد يؤيد بكون الراوي عنه أحمد بن إسحاق الذي هو يروي عن سعدان ابن مسلم. بل قد يعينه عدم ذكر سعدان بن عبد الرحمن في كتب الرجال.

و كيف كان، فمن القريب اعتبار الخبر و لا سيما مع رواية المشايخ الثلاثة له و ظهور حال الصدوق و الكليني في الاعتماد عليه.

[3] كذا في الكافي و أحد الموضعين من التهذيب، و في الموضع الآخر منه و في الفقيه: «ينضح ثوبه».

و منه يتضح الإشكال في الاستدلال به علي العفو عن نجاسة ثوب من تواتر بوله.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

ص: 121

______________________________

للانتضاح، و لا قرينة علي رجوعه للوضوء أيضا، لو لم يكن مخالفا للظاهر، و لا سيما علي تقدير العطف ب «ثمَّ» كما في بعض طرق الحديث. كيف و لا إشكال ظاهرا في وجوب الوضوء عليه لغير البول من الأحداث، و لا وجه لفرض وقوعه مرة واحدة في اليوم؟

بل ظاهر الخبر ناقضية البول في المرة الأولي فقط، و هو لا يناسب القول بعدم وجوب الوضوء للبول مطلقا- كما يظهر من المتن- أو لخصوص المتقاطر منه- كما يظهر من بعضهم- إذ علي الأول لا يجب الوضوء للبول حتي في المرة الأولي، و علي الثاني يجب الوضوء للبول غير المتقاطر لو تكرر.

و إن كان بلحاظ إطلاق الوضوء، بدعوي ظهوره في وجوب الوضوء للبول، و الانتضاح للبلل من دون وضوء.

فهو لا يخلو عن إشكال، إذ لا يبعد عن تركيب الكلام رجوع كلا الأمرين للبلل، و لم يتعرض للوضوء للبول، اتكالا علي المفروغية عن وجوبه له، كما لم يتعرض للغسل منه بالاستنجاء لذلك أيضا.

نعم، لو أريد من البلل ما لم يحكم عليه بالبولية تعين الحمل علي الاستحباب. و لعله المتعين بلحاظ الأمر بالنضح الذي ورد الأمر به استحبابا في غير مورد من موارد اشتباه النجاسة و غيره، كالثوب يصيبه المذي «1»، أو الكلب و الخنزير الجافان «2»، و أثر الفأرة إذا لم ير «3»، و ما يشك في إصابة النجاسة له من الجسد أو الثوب «4»، كثياب المجوس «5» و بيوتهم «6» و معاطن الإبل و مرابض البقر

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب النجاسات.

(2) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب النجاسات.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 2، و باب 40 منها حديث 3.

(5) الوسائل باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(6) راجع الوسائل باب: 14 من أبواب مكان المصلي.

ص: 122

______________________________

و الغنم «1» لمن أراد أن يصلي فيها، و الندي و الصفرة تخرج ممن به جرح في مقصدته «2»، و لا قائل بالاكتفاء به لإصابة البول في مورد النص، بل غاية ما قيل به وجوب غسل الثوب مرة في اليوم لمن تواتر بوله، و لا ينهض به الخبر.

هذا و لا أقل من عدم التصريح في السؤال بكون البلل بولا، لينفع فيما نحن فيه لو تمَّ الوجه المذكور.

إلا أن يستفاد ذلك من ظهور السؤال في الضيق من الحال المذكورة و شدة التحير بسببها، مع وضوح الحكم ظاهرا بالطهارة و عدم الناقضية في المشتبه مع الاستبراء. كما يشكل لأجله الحمل علي الاستحباب، لأن ضيق الحال يناسب التخفيف ببيان السعة أو الاقتصار علي ما لا بد منه.

اللهم، إلا أن يكون منشأ السؤال هو الاضطراب النفسي الحاصل من قوة احتمال البولية، و لو مع السعة ظاهرا، فيكون الجواب مسوقا لبيان الوظيفة الاستحبابية حال الشك، لرفع الاضطراب المذكور بأداء وظيفة مقررة، نظير ما في صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المذي يصيب الثوب.

قال: لا بأس به، فلما رددنا عليه قال: ينضحه بالماء» «3». فتأمل جيدا.

و قد ظهر مما تقدم أنه لا مجال لما في المبسوط.

و لا ينهض شي ء مما تقدم للخروج عن القاعدة المعتضدة بصحيح حريز المتقدم في حكم تحري الفترة، المتضمن للأمر بالجمع بين الصلاتين، لقرب كونه إرشادا للمحافظة علي الوضوء، فيدل علي انتقاضه بالحدث المتخلل بينهما علي تقدير التفريق، كما أمر به في بعض أقسام المستحاضة إرشادا، للمحافظة علي الغسل.

و أما احتمال أن يكون إرشادا لتجنب زيادة الخبث، فلا يخلو عن بعد، لعدم

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب مكان المصلي.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 123

______________________________

ملازمة التفريق لزيادة موضع الملاقاة من البدن مع وضع الكيس المفروض فيه، بل لا يتنجس معه غالبا إلا الذكر.

و لو خرج البول عن الكيس لكثرته و نجّس موضعا من البدن، كان التنبيه علي وضع الكيس كافيا في بيان وجوب التطهير منه بلا حاجة للأمر بالجمع. و أما زيادة خروج البول في الكيس فهو غير قادح للعفو عن نجاسة الكيس لعدم تمامية الصلاة به.

علي أن أهمية الوضوء ارتكازا من الخبث توجب انصراف الأمر بالجمع في الصحيح له. فلاحظ.

و لأجله يقوي ما في المنتهي من جواز الجمع بين الظهرين و بين العشائين بوضوء واحد، لقوة ظهور الصحيح في ذلك، بسبب عدم تعرضه للوضوء بين الصلاتين و التصريح بجمعهما في أذان واحد، الظاهر في عدم الفصل بينهما.

و دعوي: سقوط الصحيح عن الحجية بسبب إعراض المشهور عنه.

ممنوعة، لاختصاص ذلك بشهرة القدماء، و لم يتضح حكم المسألة بينهم، لقلة المتعرضين منهم لها، كما ذكرت في كلمات بعضهم عرضا، مع اضطراب بعضهم في حكمها، كالشيخ في المبسوط و الخلاف.

بل يظهر من ذكر الصدوق قدّس سرّه للصحيح في الفقيه الاعتماد عليه و العمل به.

بل الطبقة الوسطي المخالفة لمضمون الصحيح ليست من الكثرة بنحو يعتد به، إذ عمدتهم ابن إدريس و الفاضلان و الشهيدان و المحقق الثاني في بعض كتبهم، و لا مجال لإهمال الصحيح لأجلهم، و لا سيما مع ظهور كلام بعضهم في المنع من دلالته، و قرب كون إعراض بعضهم عنه لقوة استحكام عموم مانعية الحدث في نفوسهم بنحو يتجلي لهم شذوذه، أو لعدم حجيته بنظره ذاتا، كما يناسبه مسلك ابن إدريس في الأخبار، و ظهور التردد من بعضهم في بعض كتبه كالمحقق في الشرائع، و العمل بالصحيح من آخر، كالعلامة في المنتهي.

و بالجملة: لم يتضح إعراض الأصحاب عن الصحيح بنحو يكشف عن

ص: 124

______________________________

وضوح بطلان مضمونه عندهم ليسقطه عن الحجية، فالعمل عليه متعين.

بقي في المقام أمران.

الأول: أن الصحيح مختص بالسلس، و عليه اقتصر العلامة في المنتهي، و رجع في البطن للقاعدة المقتضية لوجوب الوضوء لكل صلاة، و هو المتعين، إذ لا مجال للتعدي للبطن بإلغاء خصوصية المورد عرفا، و لا بتنقيح المناط بعد مخالفة الحكم للقاعدة، و لما ورد في المستحاضة، التي هي من أفراد مستمر الحدث.

و ما قد يظهر من المشهور من اتفاق المسلوس و المبطون في أحكام الصور لو تمَّ، مختص بما يطابق القاعدة بنظرهم، لتنزيل دليل كل منهما علي الصورة الملائمة لها، حيث نزلوا ما ورد في المبطون من الوضوء و البناء علي صورة الفترة لتحصيل الطهارة التامة في مجموع الصلاة، و ما دل في السلس علي عدم الوضوء في الأثناء علي صورة الاستمرار الذي تتعذر معه الطهارة التامة، فلا مجال للتسوية بينهما في مثل هذا الحكم المخالف للقاعدة.

و منه يظهر أنه لا مجال للتعدي لغير الظهرين و العشائين في جواز الجمع، اقتصارا فيما خرج عن القاعدة علي المتيقن.

الثاني: لو دخل ذو السلس و البطن في الصلاة بطهارة تامة ثمَّ فجأه الحدث مستمرا بنحو لا يسعه الوضوء لتمام الصلاة و لو بنحو التقطيع، فهل يمضي في صلاته، كما قد يظهر ممن أطلق الاكتفاء بوضوء واحد للصلاة الواحدة لمن ليس له فترة يمكن إيقاع الصلاة معها بطهارة تامة و لو بنحو التقطيع، أو يتوضأ و يبني علي ما مضي منها، كما ذكره في المعتبر و المنتهي في المبطون، حيث تقدم في عرض الأقوال أن فائدته تخفيف الحدث الواقع في الأثناء، نظير الوضوء قبل الصلاة لمستمر الحدث؟ وجهان:

استدل علي ثانيهما في المعتبر و المنتهي بالنصوص المتقدمة الواردة في المبطون و المتضمنة أنه يتوضأ و يبني علي صلاته، و يشكل بعدم ظهورها في الاستمرار، بل هي منصرفة لصورة تحصيل تمام الصلاة بطهارة المستلزم لوجود

ص: 125

______________________________

فترات، كما يأتي في الصورة الثالثة.

و دعوي: استفادة الاستمرار من تفسير البطن بالغالب في بعض تلك النصوص.

ممنوعة، لظهور الوصف المذكور في الكناية عن ذهاب الماسكة، لأن البطن قد لا يكون كذلك، فإنه عبارة عن داء البطن، كما يأتي في ذيل الكلام في الصورة الثالثة، و هو أعم من ذلك.

نعم، قد لا يكون مرادهما الاستمرار الحقيقي بل الاستمرار المانع من الإتيان بتمام الصلاة بطهارة، فيرجع القيد المذكور إلي اعتبار تحري الفترة الذي تقدم الكلام فيه، و يخرج عما نحن فيه.

و كيف كان، فالوضوء لتخفيف الحدث في الأثناء- الذي هو محل الكلام- هو المناسب، للقاعدة المتقدمة، مع خروجه عن المتيقن من الإجماع علي الاكتفاء بوضوء واحد للصلاة الواحدة، و لا سيما بملاحظة ما تقدم من أن عدم الضابط الارتكازي لعدد الوضوء في الصلاة الواحدة و موقعه منها موجب لكون سكوتهم عن التعرض لذلك كاشفا عن وضوح عدم وجوبه في الأثناء، و هو لا يجري في الفرض، لأن الحدث المفاجئ مثير لاحتمال وجوب الوضوء بعده.

و أما ما دل علي بطلان الصلاة بالحدث في أثنائها «1»، فهو غير شامل للمقام، للقطع بعدم بطلانها بالحدث المذكور، و إنما الكلام في وجوب الوضوء من الحدث المذكور لإكمالها.

و مثله ما دل علي مبطلية الفعل الكثير، لما يأتي في الصورة الثالثة.

نعم، قد يشكل في المرأة، لاستلزام الوضوء منها الإخلال بالستر المعتبر في الصلاة غالبا، فمع عدم الدليل علي العفو عنه- كما يأتي في الصورة الثالثة- يقع التعارض بين عموم اعتباره و عموم اعتبار الطهارة.

لكن سبر أدلة الحكمين شاهد بأقوائية عموم اعتبار الطهارة و أهميته،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 126

______________________________

فيتعين تقديمه لو كان المقام من صغريات التعارض- كما هو الظاهر- و ترجيحه لو كان من صغريات التزاحم، و لذا لا يظن بأحد التوقف في جريان حكم الصورة الثالثة في المرأة، لأن النسبة بين دليل العفو عن الفعل الكثير و دليل التستر لها العموم من وجه.

بل لا يبعد ورود عموم اعتبار الطهارة في الصلاة علي عموم اعتبار الستر، لظهوره في عدم اجتماع الصلاة مع الحدث، بحيث يكون الحدث موجبا لانقطاع الصلاة و عدم صدق التلبس بها، و ليس إكمالها في المبطون بعد الوضوء إلا عودا إليها بعد الانقطاع لا استمرارا فيها، و ظهور عموم اعتبار الستر في اعتباره حال الانشغال بالصلاة و التلبس بها عرفا، و إن كان حال السكون المتعارف المتخلل بين الأجزاء. فتأمل.

هذا، و لكن لا بد من رفع اليد عن القاعدة المذكورة بالنصوص الواردة في المسلوس، خصوصا صحيح حريز المتقدم، لشمولها لصورة وجود الفترة التي لا تسع الطهارة و الصلاة مع انضباطها، فضلا عن عدمه، لأن ما تقدم من انصرافها عن صورة ضبط الفترة التي تسع الطهارة و الصلاة ناش من ورودها مورد العذر العرفي لإيقاع الصلاة مع الحدث، و هو حاصل في الفرض.

و إنما الإشكال في المبطون الذي لا وجه للاكتفاء في صلاته مع استمرار الحدث إلا الإجماع أو نصوص المسلوس مع إلغاء خصوصية موردها أو الإجماع.

و الأول لا يخلو في نفسه عن إشكال، كما تقدم في نظير المقام.

و الثاني غير ظاهر الشمول للمقام.

بل يشكل تحقق الإجماع في المبطون، لأن ظاهر جمهور الأصحاب فرضهم له- كالنصوص- في صورة عدم الاستمرار، بنحو يمكن تحصيل الصلاة بطهارة تامة و لو بنحو التقطيع، و من صرح بجريان حكم المسلوس له مع الاستمرار ليس من الكثرة بنحو يحقق الإجماع الكاشف عن الحكم الشرعي. و دعوي إرادة

ص: 127

إلا أن يحدث حدثا آخر، كالنوم و غيره (1)، فيجدد الوضوء لها.

الثالثة أن تكون له فترة تسع الطهارة و بعض الصلاة

الثالثة: أن تكون له فترة تسع الطهارة و بعض الصلاة (2)،

______________________________

الكل لذلك خالية عن الشاهد.

نعم، يبعد جدا- بعد النظر في نصوص المقام و المستحاضة- سقوط الصلاة عنه في الصورة المذكورة. و تكليفه فيها بالوضوء في الأثناء، مما يقطع بعدمه بعد ما سبق في تقرير مقتضي القاعدة، و هو مما يقرب مشروعية الصلاة له بوضوء واحد قبلها. و لعل التشكيك فيه ملحق بالوسواس.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما احتمل غير واحد لكونه مراد الشيخ في المبسوط، كما احتملوا أيضا إرادته عدم ناقضية خصوص ما يتقاطر مع ناقضية ما يسانخه إذا خرج بالوجه المتعارف، كما جري عليه في العروة الوثقي، و أمضاه غير واحد من محشيها.

و الأول مبني علي أن يكون منشأ الاكتفاء بالوضوء الواحد للصلوات المتعددة سقوط اعتبار الطهارة، و أن وجوب الوضوء محض تعبد للإجماع، حيث يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن.

أما لو كان منشؤه عدم ناقضية الحدث مع اعتبار الطهارة فيتعين الثاني، و هو المناسب للاستدلال بنصوص قاعدة: «كلما غلب اللّه عليه.»، و صحيح منصور، و موثق سماعة، و ثاني وجهي الاستدلال بخبر عبد الرحيم.

أما علي الوجه الأول فيكفي وضوء واحد في النهار، و الظاهر عدم القائل به.

فراجع.

(2) يعني: فيستطيع تحصيل الصلاة كاملة بطهارة تامة بنحو التقطيع، فلو تعذر ذلك، لعدم تكرر الفترة بالمقدار المذكور، بل لا يستطيع إلا تحصيل بعض الصلاة بطهارة تامة، خرج عن مفروض هذه الصورة و لحقه ما تقدم في ذيل الكلام

ص: 128

و لا يكون عليه في تجديد الوضوء في الأثناء مرة أو مرات حرج، و حكمه الوضوء و الصلاة في الفترة، و كلما فاجأه الحدث جدد الوضوء و بني علي صلاته (1)،

______________________________

في الصورة الثانية و يأتي في الصورة الرابعة. فلاحظ.

(1) لا يخفي أن هذه الصورة كسابقتها لم تحرر بهذا الوجه في كلام متقدمي الأصحاب- و إنما حررت في كلام بعض المتأخرين- إلا أنه يمكن استفادة رأيهم فيها من إطلاق كلماتهم أو من قرائن فيها.

و الكلام. تارة: في وجوب الوضوء قبل الدخول في الصلاة، و عدم الاكتفاء بالوضوء المتعقب بالحدث القهري الحاصل قبلها.

و أخري: في وجوب تكرار الوضوء في أثناء الصلاة للحدث المفاجئ، لتحصيل الصلاة بطهارة تامة بنحو التقطيع.

أما الأول، فهو مقتضي إطلاق من أوجب الوضوء لكل صلاة علي المبطون و المسلوس، ممن تقدم التعرض له في الصورة الثانية.

و يستفاد أيضا ممن أوجب الوضوء عليه في الأثناء لو فجأه الحدث، علي ما يأتي التعرض لهم، لابتناء ذلك منهم علي وجوب تحصيل الطهارة لتمام الصلاة مع القدرة.

نعم، قد يظهر الخلاف فيه في المسلوس من الشيخ قدّس سرّه في المبسوط و غيره ممن حكم بجواز الجمع له بين صلوات كثيرة بوضوء واحد، بناء علي شمول كلامهم لصورة الفترات بالنحو الذي هو محل الكلام، أما لو كان منصرفا عن الصورة المذكورة، فلا يكون خلافا فيها.

و كيف كان، فتقتضيه القاعدة، بالتقريب المتقدم في الصورة الثانية، و النصوص الواردة في المبطون، لظهورها في لزوم المحافظة علي الطهارة في تمام الصلاة.

ص: 129

______________________________

فلو فرض عدم تمامية القاعدة- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه- و إهمال النصوص أو الاقتصار فيها علي موردها- و هو المبطون- يكون وجوب الوضوء مبنيا علي التفكيك بين أجزاء الصلاة في اعتبار الطهارة، و يأتي الكلام فيه في الصورة الرابعة إن شاء اللّه تعالي.

و أما الثاني، فقد صرح به في المبطون في المبسوط و النهاية و النافع و اللمعتين و الروض، و حكي عن الوسيلة و السرائر و كشف الرموز و الذكري و الدروس و البيان و التنقيح و مجمع البرهان و غيرها، و تقدم في ذيل الكلام في الصورة السابقة احتمال حمل ما تقدم من المعتبر و المنتهي من التقييد بالاستمرار عليه، و في جامع المقاصد و عن البيان و حاشية النافع أنه المشهور، و في المدارك أنه قول المعظم، و عن الذكري أنه قول الجماعة، و عن الدروس أنه الأشهر.

و أما المسلوس، فمقتضي مقابلته في كلام غير واحد بالمبطون و الحكم فيه بوجوب الوضوء لكل صلاة، أو الجمع بوضوء واحد بصلاتين أو أكثر، عدم جريان ذلك فيه عندهم.

لكن عن السرائر و الوسيلة و الذكري و البيان و الدروس أنه إذا كان له فترات ساوي المبطون، و استقربه في الجواهر.

و ربما يظهر من بعضهم حمل ما تقدم من المشهور علي خصوص صورة الاستمرار، و يأتي الكلام فيه.

و كيف كان، فيقتضيه في المبطون النصوص المتقدمة عند الكلام في وجوب تحري الفترة.

منها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه قال: صاحب البطن الغالب يتوضأ و يبني علي صلاته» «1»، لظهور البناء علي الشي ء في إبقائه و عدم رفع اليد عنه كالأساس، بل هو كالصريح من قوله عليه السّلام في خبره: «ثمَّ يرجع

______________________________

(1) الفقيه باب: 50 حديث: 11 ج: 1 ص: 273 طبع النجف الأشرف.

ص: 130

______________________________

في صلاته فيتم ما بقي» «1».

و تأويلها بحملها علي استئناف الصلاة بعد الوضوء لوجود الفترة الكافية لهما، أو إتمامها بلا وضوء، أو الوضوء بعد إكمال الصلاة لما بقي من الصلوات- كما يظهر من بعضهم، علي اختلاف نصوص المقام- بعيد جدا عن مجموع النصوص، كما تقدم هناك.

فالمتعين العمل بالنصوص بعد وضوح دلالتها، و اعتبار أسانيد غير واحد منها، و عمل الأصحاب بها، بل شهرتها بينهم- كما في اللمعة- خصوصا المتقدمين، كما في الروضة.

و منه يظهر ضعف ما في القواعد و الإرشاد و جامع المقاصد و كشف اللثام و عن التذكرة و المختلف و نهاية الاحكام و المقتصر و حاشية الشرائع، من عدم وجوب الوضوء في الأثناء. قال في محكي المختلف: «و الوجه عندي أن عذره إن كان دائما لا ينقطع، فإنه يبني علي صلاته من غير أن يجدد وضوءه، و إن كان يتمكن من تحفظ نفسه بمقدار زمان الصلاة فإنه يتطهر و يستأنف الصلاة. و يدل علي التفصيل أن الحدث المتكرر إن نقض الطهارة أبطل الصلاة، لأن شرط صحة الصلاة استمرار الطهارة».

إذ فيه: أنه مجال للبناء علي عدم نقض الحدث للطهارة، لمنافاته لعموم الناقضية الذي يصعب تخصيصه، كما تقدم في الصورة الثانية، و لنصوص المقام.

بل مقتضي الجمع بينها و بين أدلة اعتبار الطهارة في الصلاة، و نصوص بطلانها بتجدد الحدث فيها «2»، كون الشرط في الصلاة أمران: الطهارة حين الانشغال بالأجزاء الصلاتية، و استمرارها من أولها لآخرها من دون تخلل الحدث بينها، و أن الإخلال بالثاني لطروء العذر في المقام يسقطه دون الأول، و هو المناسب لأهمية شرطية الطهارة، بمقتضي ارتكازيات المتشرعة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4 و في الباب المذكور بقية أحاديث المسألة.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 131

______________________________

و من ثمَّ كان قريبا في نفسه مقبولا ارتكازا.

خلافا لما في الروضة من غرابته و استبعاده، و إن لم يرفع اليد عن النصوص لأجل ذلك. إلا أن يريد به قلة النظير له، لا غرابته عن مقتضي المرتكزات.

و مثله الإشكال بمنافاته لما دل علي قادحية الفعل الكثير في الصلاة، لعدم الدليل علي قادحيته إلا الإجماع، و هو لا ينهض بتحديد الكثرة بنحو ينطبق علي الوضوء، و لا سيما مع ورود النصوص بجواز الإتيان فيها بما قد لا يقصر عنه عرفا، كغسل الثوب من الدم «1»، و الأنف من الرعاف «2»، و إحراز الصبي و الدابة «3»، و إرضاع الصبي و تسكيته «4»، و شرب الماء في الوتر لمن يريد الصيام «5»، و المشي لمن ركع بعيدا عن الجماعة حتي يلحق بها «6»، و ضم المرأة المحللة «7» علي أنه لو فرض ثبوت قادحية مثله، كان المقام من دوران الأمر بين شرطية الطهارة و قادحية الفعل الكثير. و لو لم يحرز أهمية الأولي بنحو يقطع بتنازل الشارع عن الثانية فلا أقل من التوقف الراجع للعلم الإجمالي بوجوب الاستمرار في الصلاة مع الحدث، أو تجديد الوضوء لما بقي منها، فيلزم الاحتياط بتكرار الصلاة بالوجهين. و لو فرض العلم بعدم تكليف الشارع بالاحتياط لزم التخيير بينهما أو ترجيح محتمل الأهمية.

و منه يظهر ضعف ما في كشف اللثام من تأييد عدم وجوب الوضوء في الأثناء- مع قطع النظر عن النصوص- بالاحتياط لكون الوضوء أفعالا كثيرة، إذ لا معني للاحتياط بترك محتمل الشرطية، و كذا تأييده بالأصل و الحرج، لأن الأصل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 44 من أبواب النجاسات.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب قواطع الصلاة.

(3) راجع الوسائل باب: 21 من أبواب قواطع الصلاة.

(4) راجع الوسائل باب: 24 من أبواب قواطع الصلاة.

(5) راجع الوسائل باب: 23 من أبواب قواطع الصلاة.

(6) راجع الوسائل باب: 46 من أبواب صلاة الجماعة.

(7) راجع الوسائل باب: 22 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 132

______________________________

محكوم لعموم شرطية الطهارة، و الحرج الشخصي غير مطرد، مع أنه لا ينهض بتشريع الاكتفاء بالناقص، بل يقتضي سقوط الأداء و انتظار القضاء، فتأمل.

و النوعي بالنحو الكاشف عن عدم تشريع مثل هذا الحكم ممنوع.

هذا كله مع قطع النظر عن نصوص المقام، و أما بملاحظتها فهي تنهض بإثبات عدم قادحية الوضوء و إن كان فعلا كثيرا، و الخروج عن مقتضي الأصل.

و عدم مانعية مثل هذا الحرج النوعي- لو فرض لزومه- من تشريعه.

نعم، هي محكومة لعمومات رفع الحرج بالإضافة للحرج الشخصي الذي عرفت حاله، و يأتي تمام الكلام فيه في الصورة الرابعة.

و أما في المسلوس فقد يستدل له.

تارة: بنصوص المبطون لفهم عدم الخصوصية لموردها أو لتنقيح المناط.

و اخري: بعموم اعتبار الطهارة في الصلاة، فإن سقوط اعتبار الاستمرار فيها للعذر لا يستلزم سقوط شرطية الطهارة لها، و قد تقدم نهوض ما دل علي قادحية الفعل الكثير برفع اليد عنه.

لكن الأول ممنوع، كما تقدم في نظائره غير مرة. و لا سيما مع عموم نصوص المسلوس لصورة وجود الفترة بالنحو المذكور، إذ لا قرينة علي حملها علي خصوص المستمر الذي لا فترة له، إن لم يكن حملا علي الفرد النادر، كما تقدم في أول الكلام في وجوب تحري الفترة التي تسع الطهارة و الصلاة بلا حدث.

غاية ما تقدم هو انصرافها- كجميع نصوص المقام بقرينة ورودها مورد العذر- عن صورة وجود فترة مضبوطة تسع الطهارة و تمام الصلاة، و لا موجب لخروج ما عدا ذلك عنها.

كما لا موجب للانصراف المذكور في كلام الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) و إن ادعي لتوجيه اتفاقهم علي مشاركة المسلوس للمبطون في الحكم المذكور.

و منه يظهر ضعف الثاني، لأن نصوص المسلوس تكفي في رفع اليد عن العموم المذكور بعد كونها أخص منه. فتأمل جيدا، و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 133

______________________________

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه استدل غير واحد في المقام بصحيح الفضيل بن يسار: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أكون في الصلاة فأجد غمزا في بطني أو أذي أو ضربانا. فقال:

انصرف ثمَّ توضأ و ابن علي ما مضي من صلاتك ما لم تنقض الصلاة [بالكلام.

فقيه] متعمدا، و إن تكلمت ناسيا فلا شي ء عليك فهو بمنزلة من تكلم في الصلاة ناسيا. قلت: و إن قلب وجهه عن القبلة؟ قال: نعم و إن قلب وجهه عن القبلة» «1»، و خبر أبي سعيد القماط: «سمعت رجلا يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل وجد غمزا في بطنه أو أذي أو عصرا من البول، و هو في صلاة المكتوبة. فقال: إذا أصاب شيئا من ذلك فلا بأس بأن يخرج لحاجته تلك فيتوضأ ثمَّ ينصرف إلي مصلاه الذي كان يصلي فيه فيبني علي صلاته من الموضع الذي خرج منه لحاجته ما لم ينقض الصلاة بالكلام. قلت: و إن التفت يمينا أو شمالا أو ولي عن القبلة. قال: نعم كل ذلك واسع.» «2».

لكنهما غير ظاهرين في المبطون، بل فيمن يستطيع إمساك الحدث و إن طرأت له حاجة إليه.

و الجمع بينهما و بين نصوص مبطلية الحدث و إن كان ممكنا في الجملة، و لو بالاقتصار علي صورة الحاجة للحدث توسعا في العذر.

إلا أنه يصعب الاعتماد عليهما مع ظهور إعراض الأصحاب عنهما.

و ظاهر الصدوق و إن كان هو الاعتماد علي الأول، لذكره له في الفقيه، إلا أن إدراجه له في باب: «صلاة المريض و المغمي عليه و الضعيف و المبطون و الشيخ الكبير و غير ذلك» قد يظهر في عدم عمله به فيما هو ظاهر فيه، بل تنزيله علي المبطون، الذي هو ليس عملا به في الحقيقة، نظير ما حكي عن الشيخ من حمل الخبرين و نحوهما علي بعض المحامل البعيدة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 11.

ص: 134

______________________________

علي أنه لا يكفي عمل الصدوق وحده مع إعراض بقية الأصحاب.

و لا سيما في مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به.

و ربما يأتي في قواطع الصلاة إن شاء اللّه تمام الكلام في ذلك.

الثاني: أن سوق بعض نصوص المقام لبيان عدم وجوب الاستئناف- كما تقدم عند الكلام في وجوب تحري الفترة- موجب لظهوره في توقع استمرار الطهارة بعد الحدث بنحو لا يحتاج الاستئناف فضلا عن البناء علي ما مضي من الصلاة إلي الوضوء أكثر من مرة، و لا ينعقد له إطلاق شامل لما لو احتاج للتكرار.

إلا أن إلغاء الخصوصية المذكورة و استفادة جواز التكرار قريب جدا، لظهورها في الاهتمام بمقارنة أجزاء الصلاة للطهارة و إن لم تستمر.

بل هو مقتضي إطلاق الصحيح المتقدم: «صاحب البطن الغالب يتوضأ و يبني علي صلاته».

كما هو أيضا مقتضي إطلاق بعض الأصحاب و صريح آخر.

نعم، لو لزم الحرج من ذلك دخل في الصورة الرابعة.

الثالث: أن النصوص حيث دلت علي عدم قادحية الوضوء من حيثية كونه فعلا كثيرا فهي تدل أيضا علي عدم قادحية مقدماته المتعارفة، كالخروج للموضع المعدّ له بالوجه المتعارف و رفع الأكمام لغسل اليدين و نحوهما، لأن عدم التنبيه علي تجنب ذلك مع الغفلة عنه موجب لظهور النصوص تبعا في عدم قدحه.

أما المقدمات الطويلة كاستقاء الماء من البئر و نحوه، مما يتعارف تهيئته قبل الصلاة لمثل هذا الشخص، فيشكل العفو عنها لو فرض قيام الدليل علي قادحيتها من حيثية كونها فعلا كثيرا.

و أشكل منه ما لو استلزم الإخلال ببعض الشروط المنصوصة، كالتستر و الاستقبال.

لكن أشرنا في ذيل الكلام في الصورة الثانية إلي العفو عن الإخلال بالستر بالمقدار الذي يقتضيه الوضوء.

ص: 135

______________________________

بل تقدم احتمال قصور أدلة شروط الصلاة عن مثل حال الحدث المتخلل، حيث يظهر من الأدلة عدم اجتماعه معها، و أن البناء علي ما مضي منها بعد الوضوء عود فيها بعد انقطاعها، لا استمرار فيها.

و يؤيده ما تضمنه صحيح الفضيل و خبر القماط من جواز ترك الاستقبال.

نعم، يشكل البناء علي ذلك في القواطع، كالكلام و القهقهة و الضحك، لظهور أدلتها في نقضها لو تخللت بين أجزاء الصلاة.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك، بالإضافة للكلام، لكثرة النصوص الدالة علي نقضه للصلاة و إن وقع في حال الاشتغال ببعض الأفعال في أثنائها- كغسل النجاسة و نحوه- و منها صحيح الفضيل و خبر القمّاط. فتأمل جيدا.

الرابع: أنه لا ظهور لنصوص المقام في وجوب المبادرة للوضوء بعد الحدث، و لا للصلاة بعد الوضوء، بل قد يدعي أن مقتضي إطلاقها جواز التأخير.

لكن الظاهر عدم انعقاد إطلاق لها من هذه الجهة، لعدم ورودها لتشريع الوضوء و الصلاة، بل لبيان جواز البناء و عدم وجوب الاستئناف مع المفروغية عن وجوب الصلاة التامة بمقتضي أصل التشريع و وجوب الوضوء بمقتضي ارتكاز عموم شرطية الطهارة. فهي لا تنهض ببيان عدم وجوب المبادرة بالمقدار اللازم لتحقيق الموالاة المعتبرة في الصلاة عندهم، و لا طريق لإثبات سقوط الموالاة إلا بالمقدار المتعارف لتحقيق الوضوء، نظير ما سبق في العفو عن الفعل الكثير.

الخامس: ألحق في المنتهي و المستند بالمبطون من يستمر منه الريح، بل ظاهر جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة أنه من أفراده.

و في جامع المقاصد: «و في الرواية تنبيه عليه»، و كأنه يشير إلي صحيح الفضيل و خبر القمّاط المتقدمين.

لكنهما- مع أنهما أجنبيان عما نحن فيه، كما تقدم- إنما يدلان علي جريان حكم المبطون المتقدم عند خروج الريح، لا عموم المبطون له مفهوما.

نعم، هو مقتضي عموم المعني المذكور له في الصحاح و مختاره و نهاية ابن

ص: 136

______________________________

الأثير و مفردات الراغب و لسان العرب و القاموس، حيث عرّفوه بعليل البطن أو من يشتكي بطنه. كما عرّفوا البطن بدأ البطن، و هو المناسب للاشتقاق. لكن في مجمع البحرين: «و المبطون من به اسهال أو انتفاخ في بطن، أو من يشتكي بطنه».

و قد يظهر منه تردده بين المعاني المذكورة، فيكون المتيقن منه في المقام من به الإسهال، كما هو المناسب لما عن التذكرة و جماعة من تعريفه بالذرب.

و الذي ينبغي أن يقال: اشتقاق الكلمة يناسب عموم البطن لكل داء في البطن مرتبط بالأكل و الطعام الذي هو أظهر خواص البطن.

و تخصيصه ببعض الأدواء، كالإسهال أو الانتفاخ، موقوف علي ثبوت وضع آخر له غير ما يقتضيه الاشتقاق. و لعله مخالف للأصل، المؤيد بكلام من عرفت من اللغويين.

نعم، ورود النصوص في مورد الوضوء و الصلاة موجب لانصرافه فيها لخصوص عدم إمساك الحدث، من دون فرق بين الغائط و الريح، و تخصيصه بالأول بلا وجه.

هذا، و لو غض النظر عن ذلك و بني علي ورود النصوص في ذي الإسهال- و لو لأنه المتيقن من المبطون- فلا ينبغي التأمل في عموم الحكم للمبتلي بالريح، إما لاستفادته من نصوص المقام بالفحوي، أو بفهم عدم الخصوصية لموردها، أو بتنقيح المناط، أو تبعا لغلبة التلازم بين الريح و الغائط، و إما لأنه مقتضي عموم شرطية الطهارة، بعد عدم الإشكال ظاهرا في عدم مبطلية الحدث للصلاة و عدم سقوط الصلاة في حق الشخص المذكور.

نعم، الثاني قاصر عمن له فترة تسع الوضوء و الصلاة و إن لم تكن مضبوطة، إذ لا إجماع علي عدم انقطاع الصلاة معها، فالبناء علي صحة الصلاة حينئذ موقوف علي إلحاقه بالمبطون موضوعا أو حكما- كما هو غير بعيد- حيث تقدم عموم نصوصه لصورة وجود فترة غير مضبوطة. و كذلك الحال في التوسع من

ص: 137

و إذا أحدث بعد الصلاة توضأ للصلاة الأخري.

الرابعة الصورة الثالثة لكن يكون تجديد الوضوء في الأثناء حرجا عليه

الرابعة: الصورة الثالثة، لكن يكون تجديد الوضوء في الأثناء حرجا عليه. و حكمه الاجتزاء بالوضوء الواحد لكل صلاة (1).

______________________________

حيثية كثرة مقدمات الوضوء و الخلال بالموالاة و غيرهما، حيث يتوقف التسامح بالمقدار المتعارف فيها علي إلحاقه بالمبطون، و بدونه يتعين الاقتصار علي أقل الممكن.

ثمَّ إن ما عن التذكرة من ذكر ذي الريح مع المسلوس، كأنه مبني علي عدم الفرق بين المسلوس و المبطون في الحكم، و إلا فلا مناسبة بينهما.

(1) كما ذكره في العروة الوثقي و تبعه غير واحد من محشيها، و سبقهم إليه في الحدائق و الجواهر، و جعله في مفتاح الكرامة احتمالا في كلمات الأصحاب، قال- بعد التنبيه للزوم الحرج من الوضوء في الأثناء لو كانت الفترات قصيرة-: «إلا أن يستثنوا مثل هذا الحرج، كما في شرح المفاتيح».

و قد استدل عليه في كلام غير واحد بقاعدة رفع الحرج، لكنها تقتضي سقوط وجوب الصلاة الأدائية بالطهارة بالنحو المذكور، لا الاكتفاء بالصلاة الفاقدة لها، كما هو الحال في سائر موارد لزوم الحرج من فعل الطهارة أو تعذرها.

نعم، لو كان منشأ الحرج المرض، لقصر الفترات المستلزم لكثرة التكرار، لم يبعد استفادة عدم سقوط الأداء المستلزم للاكتفاء بالصلاة الناقصة من نصوص المبطون و المسلوس و المستحاضة و غير ذلك مما يظهر منه اكتفاء الشارع من المريض بالميسور له، نظير ما تقدم في المبطون الذي لا فترة له أصلا.

و هذا بخلاف ما إذا كان الحرج لطارئ خارجي لا دخل له بالمرض من برد أو نحوه، حيث لا طريق للعلم بعدم سقوط الأداء فيه من بين موارد تعذر الطهارة.

و لعل هذا خارج عن مفروض كلامهم، بل يختص بالأول، كما هو ظاهر من ذكر الحرج في صورة التكرار أو عدم سعة الفترة.

ص: 138

______________________________

ثمَّ إنه بناء علي العفو عن الحدث المتخلل، فوجوب الوضوء لكل صلاة ظاهر، بناء علي ما تقدم في الصورة الثانية في تقريب القاعدة المقتضية لتخفيف الحدث.

أما بناء علي عدم تماميتها، فقد علله سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه إذا أمكن إيقاع أول الصلاة بطهارة وجب.

و هو مبني علي التفكيك بين أجزاء الصلاة في اعتبار الطهارة، لملاحظتها بنحو تعدد المطلوب، الذي هو خلاف ظاهر دليل شرطيتها، لظهوره في شرطيتها لمجموع الصلاة.

و لا دليل عليه من نصوص المقام، لعدم التعرض في نصوص المسلوس للوضوء، و اختصاص نصوص المبطون بما إذا أمكن تحصيل الطهارة لتمام الصلاة و بنحو التقطيع، فبعد فرض سقوط شرطية الطهارة للمجموع يكون المرجع أصل البراءة من شرطيتها لبعض الأجزاء، فيجوز الجمع بين أكثر من صلاة بالوضوء الواحد، و لا ينتقض الوضوء إلا بالحدث الآخر، كما سبق منه قدّس سرّه في الصورة الثانية.

اللهم إلا أن يقطع بذلك بمعونة الارتكازيات أو نحوها.

بقي شي ء، و هو أنه قال في الجواهر بعد فرض لزوم الحرج من التكرار:

«فهل يترك التكرير من أول الأمر، أو إلي أن يصل إلي حدّ الحرج؟ وجهان، منشؤهما: تقدير الضرورة بقدرها و احتمال وجوب تقليل الحدث مهما أمكن، و من أن التكليف الحرجي لا يلحظ فيه نحو ذلك كما في كثير من أفراده».

و لا يخفي أنه لما كان دليل المسألة قاعدة رفع الحرج تعين الوجه الثاني، لأن موضوعها الحرج الشخصي الفعلي غير الحاصل من أول الأمر.

و ما ذكره من عدم ابتناء كثير من أفراد الحرج علي ذلك إنما يتم في الموارد التي يكون الحرج النوعي فيها مانعا من جعل الحكم، و هو محتاج إلي دليل، و لا تنهض به القاعدة المذكورة.

و حينئذ يتمسك لوجوب المقدار الذي لا يلزم منه الحرج بالقاعدة

ص: 139

مسألة 92 الأحوط في الصورة الثالثة أن يكرر الصلاة بلا تجديد

مسألة 92: الأحوط في الصورة الثالثة أن يكرر الصلاة بلا تجديد (1).

مسألة 93 الأحوط وجوبا لمستمر الحدث الاجتناب عما يحرم علي المحدث

مسألة 93: الأحوط وجوبا لمستمر الحدث الاجتناب عما يحرم علي المحدث (2).

______________________________

المتقدمة المقتضية وجوب تخفيف الحدث مهما أمكن، إذ هي كما تقتضي وجوب التخفيف برفع ما يقع قبل الصلاة تقتضي وجوبه برفع ما يقع في أثنائها.

هذا كله في المبطون، و أما المسلوس فلا يجب عليه الوضوء في الأثناء مع عدم الحرج، فضلا عما لو لزم، كما تقدم في الصورة الثالثة.

(1) يعني: للوضوء في الأثناء، بل يقتصر علي الوضوء قبل الصلاة، خروجا عن شبهة قدح الوضوء في الأثناء، لكونه فعلا كثيرا.

و حيث تقدم ضعفها يكون الاحتياط المذكور استحبابيا، كما هو ظاهر المتن، لأنه مسبوق بالفتوي، و إن لم يتضح وجه تخصيصه بالذكر من بين غيره من الاحتمالات الموافقة للاحتياط.

(2) كما في العروة الوثقي، و تبعه جملة من محشيها، و ظاهر الجواهر البناء علي المنع في حال الصلاة فضلا عن غيرها.

و لا ينبغي التأمل في المنع مع عدم الوضوء من الحدث الخارج بالوجه المتعارف، لعدم الإشكال في ناقضيته و عدم الدليل عن العفو عنه في المقام.

و أما مع الوضوء منه و الابتلاء بما يخرج قهرا فالاجتناب مقتضي ضم عموم الناقضية لعموم مانعية الحدث من الفعل المذكور، علي ما يتضح بملاحظة ما تقدم في تقريب مقتضي القاعدة في الصورة الثانية.

و العفو في الصلاة عن الحدث المذكور في الجملة لا يستلزم العفو في غيرها مما يحرم تكليفا مع الحدث، إلا أن يرجع إلي عدم انتقاض الطهارة في محل

ص: 140

______________________________

الكلام، و قد سبق المنع منه.

و أما إلحاق ما نحن فيه بالصلاة في العفو عن الحدث، فهو و إن لم يكن بعيدا، و لا سيما بلحاظ ما ذكرنا من عمومه لصورة وجود الفترة غير المضبوطة، حيث يقرب ابتناؤه علي الإرفاق و الامتنان في حق المريض، لعجزه عن تجنب الحدث.

إلا أن في بلوغ ذلك حدا يقتضي إلغاء خصوصية المورد و فهم عموم الحكم لما نحن فيه عرفا، أو القطع بالعموم له لتنقيح المناط إشكال، بل منع، لعدم المقتضي للفعل المذكور، و ليس هو كالصلاة الراجحة في نفسها.

نعم، لو لزم الحرج من المنع سقط، كما يسقط مع الحدث المتعارف، و كذا لو زوحم بتكليف آخر، كما لو توقف منع هتك حرمة الكتاب علي مسه، حيث تجري حينئذ قواعد التزاحم من الترجيح بالأهمية و التخيير مع عدمها.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال في العفو عن الحدث في الطواف الواجب، حيث يعتبر في صحته الطهارة، بل ظاهر الشيخ قدّس سرّه في التهذيب و المبسوط و النهاية عدم صحة الطواف منه، بل يطاف عنه و يصلي هو الركعتين، و إن كان ظاهر بعضهم المفروغية عن مشروعيته للمسلوس، بل للمبطون لو لا النصوص المتضمنة أنه يطاف عنه «1»، التي وقع الكلام في مفادها. و تمام الكلام في محله.

و أما الوضوء من المسلوس و المبطون لما يعتبر في كماله الطهارة- كقراءة القرآن- فلا يبعد استحبابه، بعد استفادة قابلية الحدث للتخفيف من أدلة المقام، و إن كان ظاهر الجواهر التوقف فيه، و لا أقل من رجحان الإتيان به برجاء المطلوبية.

هذا، و الظاهر عموم العفو عن الحدث لجميع الصلوات من الفرائض و النوافل الراتبة و غيرها، لأنه- مضافا إلي ظهور مفروغية الأصحاب عنه- مقتضي إطلاق نصوص المبطون، بل بعض نصوص المسلوس أيضا، و هو: صحيحا منصور و الحلبي، لأنهما و إن لم يتعرضا للوضوء و الصلاة، إلا أن تعرضهما لوضع الخريطة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 49 من أبواب الطواف.

ص: 141

______________________________

ظاهر في المفروغية عن فرض إرادة الصلاة، و لا خصوصية- ارتكازا- لبعض الصلوات دون بعض، بل المناسبة الارتكازية تقتضي التعميم و تبعد التخصيص باليومية جدا، و إن كان قد يظهر من الجواهر نحو تردد فيه.

نعم، قيّد سيدنا المصنف قدّس سرّه في حاشيته علي العروة الوثقي جواز الجمع بين أكثر من صلاة بوضوء واحد في الصورة الثانية بما إذا كانت الصلوات مضيقة، و كأن مراده بالمضيقة ما يلزم فوته لو انتظر به حال الشفاء و القدرة علي الطهارة التامة.

فيبتني علي ما تقدم منه في وجه اعتبار عدم الفترة التي تسع الصلاة و الطهارة من أن ورود الحكم مورد الاضطرار موجب لانصراف أدلته عن صورة القدرة علي الصلاة التامة في بعض الوقت، و هو يقتضي عدم الفرق بين جميع صور المسألة في المنع عن الصلاة الموسعة، حتي الصورة الثالثة المبنية علي تحصيل الصلاة بطهارة تامة بنحو التقطيع، لأن مشروعية التقطيع و عدم بطلان الصلاة بالحدث للعذر أيضا.

و أما بناء علي ما ذكرنا من أنه مع عدم وجود الفترة المضبوطة يجوز التعجيل و إن كانت هناك فترة واقعا، فيجوز للمبطون الإتيان بكل صلاة مع احتمال استمرار العذر احتمالا معتدا من دون أمارة علي ارتفاعه، لإطلاق نصوصه.

بل قد يدعي شموله لما إذا كان الشفاء بعيد الأمد، لأن ما ذكرنا من الوجه لانصراف الإطلاق عن صورة وجود الفترة المضبوطة- و هو عدم العذر لإيقاع الصلاة حين الحدث عرفا- غير جار فيه.

نعم، إذا كان المبطون مستمر الحدث بنحو تتعذر عليه الصلاة مع الطهارة و لو بنحو التقطيع خرج عن موضوع النصوص، و انحصر الدليل فيه بالإجماع، و المتيقن منه الصلاة التي يتعذر إيقاعها بالطهارة، لاستمرار العذر في تمام وقتها.

ص: 142

مسألة 94 حكم صلاة الاحتياط و الأجزاء المنسية حكم أبعاض الصلاة

مسألة 94: حكم صلاة الاحتياط و الأجزاء المنسية حكم أبعاض الصلاة في عدم لزوم تجديد الوضوء مع الحرج و لزوم تجديده بدونه (1).

______________________________

و كذا الحال في المسلوس، لاختصاص صحيح حريز بالصلاة الأدائية، لتضمنه التعجيل و التأخير، و عدم التعرض في صحيحي منصور و الحلبي للصلاة، و هو يناسب الاتكال فيهما علي المفروغية عن جوازها من حيثية الحدث.

و لا مجال لإحراز عموم المفروغية للصلاة الموسعة، لأن فرض العذر يناسب احتمال الاختصاص بالمضيقة، المضطر لإيقاعها مع الحدث، فرارا من محذور فوئها، و ليس هو كالاختصاص باليومية- مما لا مناسبة ارتكازية تقتضيه- كما سبق، فتأمل جيدا.

(1) هذا يتجه في صورة وجود الفترة التي يمكن إيقاع الوضوء و بعض الصلاة فيها، بناء علي ما سبق من أن المعيار في عدم وجوب التجديد في الأثناء و وجوبه هو الحرج و عدمه.

أما بناء علي عدم وجوبه مطلقا، بل يكتفي بالوضوء لكل صلاة- كما سبق منا في المسلوس- فالوجه في عدم وجوب التجديد لقضاء الأجزاء المنسية أن القضاء عين الأداء و إن تغير محله، فيلحقه حكمه، فتأمل.

مع أنه حيث كان من توابع الصلاة الواحدة كان الاجتزاء بوضوئها له مستفادا من نصوص المسلوس تبعا، كسجود السهو لو استفيد وجوب الوضوء، لأنه من توابع الصلاة.

و منه يظهر عدم وجوب التجديد لصلاة الاحتياط، فتأمل.

مع أن ظاهر نصوصها ترددها بين أن تكون متممة للصلاة التي وقع السهو فيها، و أن تكون نافلة مستقلة، و علي الأول يلحقها حكمها من الاجتزاء بوضوئها، و علي الثاني لا يضر بطلانها بالحدث بصحة الصلاة التي وقع السهو فيها.

ص: 143

______________________________

و دعوي: لزوم الجزم بمشروعيتها، خالية عن الشاهد.

نعم، لو أراد إحراز صحتها علي كلا التقديرين، انحصر بالوضوء لها لو غض النظر عما ذكرنا من فهم العفو فيها تبعا.

و لا يضر احتمال تتميم الصلاة بها، المستلزم لاحتمال الفصل بالوضوء بين المتمّم و المتمّم، الذي قيل: إنه فعل كثير، لعدم ثبوت قادحية مثل الوضوء- كما سبق- و لا سيما مع وقوعه بين صلاتين تتمم إحداهما الأخري، لا في أثناء صلاة واحدة، و يأتي ما ينفع في المقام في المستحاضة.

و منه يظهر الحال في صورة استمرار الحدث، التي تقدم أن مقتضي القاعدة فيها وجوب الوضوء لكل صلاة، و أنه لم يخرج عن ذلك إلا الجمع بين الظهرين و بين العشائين بوضوء واحد، فإن تبعية كل من قضاء الأجزاء المنسية و صلاة الاحتياط للصلاة التي وقع فيها السهو موجب لاستفادة العفو عن الحدث فيها تبعا لها أيضا.

نعم، يشكل في المبطون، الذي انحصر دليل الاكتفاء بالوضوء الواحد لكل صلاة فيه بالإجماع، حيث قد يستشكل في شموله لذلك- و إن كان قريبا جدا- بلحاظ كون وجوب الوضوء لها مغفولا عنه بسبب تبعيتها لصلاتها ارتكازا، فعدم التنبيه منهم علي وجوبه ظاهر في مفروغيتهم عنه.

هذا، و أما بناء علي ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من الاجتزاء مع استمرار الحدث بوضوء واحد للصلوات الكثيرة، فاللازم عدم تجديد الوضوء و لو مع عدم الحرج، كما نبه له في مستمسكه، و لعل صورة الاستمرار خارجة عن مفروض كلامه هنا.

ثمَّ إن الظاهر وجوب الوضوء لكل صلاة من النوافل الرواتب- كغيرها من النوافل- و لا يجتزأ لها بوضوء فريضتها، لعدم الوجه في الإلحاق، بل عدم التعرض لها في صحيح حريز مع التعرض فيه للأذان و الإقامة ظاهر في عدمه.

ص: 144

مسألة 95 يجب علي المسلوس و المبطون التحفظ من تعدي النجاسة إلي بدنه و ثوبه

مسألة 95: يجب علي المسلوس و المبطون التحفظ من تعدي النجاسة إلي بدنه و ثوبه (1)

______________________________

(1) كما صرح به في المسلوس في المعتبر و المنتهي و موضع من المبسوط و غيرها، و نسبه في الجواهر لجماعة من الأصحاب، و ذكره في جامع المقاصد في المبطون و المسلوس معا ناسبا للأصحاب التصريح به.

و كأنه لفهم عدم خصوصية المسلوس من كلماتهم.

و كيف كان، فهو مقتضي اعتبار الطهارة من الخبث في الصلاة، حيث يجب تحصيل الشرط مع القدرة.

مضافا إلي صحاح حريز و منصور و الحلبي المتقدمة «1» الواردة في المسلوس المتضمنة وضع الكيس و الخريطة.

و منه يظهر ضعف ما في النهاية و موضع من المبسوط من التعبير بالاستحباب لو أراد منه ما يقابل الوجوب.

إلا أن يكون مراده صورة عدم اليقين بخروج النجاسة، حيث لا دليل علي وجوب الاحتياط حينئذ، و لا إطلاق في النصوص المتقدمة يشمل صورة الشك، لظهورها في علاج أمر النجاسة في ظرف وجودها، لا بيان الحكم الظاهري في ظرف احتمالها.

و حينئذ لو خرجت النجاسة لحقه حكم من ابتلي بالنجاسة في أثناء الصلاة من وجوب التطهير و الإتمام.

نعم، لو فرض لزوم محذور من التطهير ككشف العورة، فلا دليل علي العفو عنه، بل هو مخالف لمرتكزات المتشرعة جدا، كما لا دليل علي العفو عن النجاسة، بل نصوص المسلوس ظاهرة في اختصاص العفو بما من شأنه أن

______________________________

(1) عند الكلام في لزوم تحري الفترة و في الصورة الثانية، و هي مذكورة في الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1، 2، 5.

ص: 145

______________________________

يتنجس مع وضع الخريطة، دون ما زاد عليه، و هو راجع لوجوب الاحتياط بالتحفظ.

لكن قد يستشكل في المبطون، لعدم اشتمال نصوصه علي وجوب التحفظ مع العلم، فضلا عن الشك، و لا في العفو عن نجاسة الموضع، فضلا عن غيره، و مقتضي القاعدة لزوم التطهير عليه في الأثناء مطلقا مع التحفظ و عدمه، كما هو الحال في كل من يبتلي بالنجاسة في الأثناء.

ففائدة التحفظ سهولة التطهير لقلة موضع النجاسة، من دون أن يكون له أثر في صحة الصلاة.

و فيه: أن الاقتصار في بعض نصوص المبطون علي الوضوء ظاهر في عدم وجوب التطهير من الخبث، و لا سيما مع إباء مرتكزات المتشرعة عنه، مع ما يستلزمه- عادة- من كشف العورة.

بل لا ينبغي التأمل فيه بملاحظة ظهور مفروغية الأصحاب عنه، لاكتفائهم بالتحفظ.

و المتيقن منه العفو عن خصوص ما لا بد منه مع التحفظ، لأن التحفظ هو مقتضي الوضع الطبيعي لمن يتعرض لخروج النجاسة قهرا، و لا يحتاج إلي تنبيه، فعدم التنبيه علي تطهير الخبث الزائد بسبب عدم التحفظ لا يدل علي العفو عنه، فلاحظ.

هذا، و قد قال في الجواهر: «نعم، الظاهر المنع بالممكن بوضع القطن، فلا يتعين نحو الكيس، و إن أمكن القول بوجوبه مع إمكانه، لاحتمال أنه أقرب إلي صيرورته من قبيل الأجزاء الباطنة، إلا أني لم أقف علي كلام لهم في وجوب خصوص ذلك، بل أوجبوا الاستظهار الشامل له و لغيره»، و قد سبقه في الحدائق إلي احتمال كون خصوصية الخريطة، لأنها كالجزء من البدن، و إن لم يظهر منه تعينها.

ص: 146

مهما أمكن بوضع كيس أو نحوه، و لا يجب تغييره لكل صلاة (1).

______________________________

لكن لا منشأ للاحتمال المذكور عرفا، فلا يمنع من فهم عدم الخصوصية للكيس و الخريطة من النصوص، تبعا لعموم الجهة الارتكازية لها، و هي التحفظ.

(1) كما في المعتبر و المنتهي، و نسبه في الجواهر «1» لجماعة، لعدم الدليل علي وجوب التبديل، خلافا لما عن السرائر من الجزم بوجوبه، و عن الذكري أنه أحوط، و كأنه لعموم مانعية النجاسة المقتصر في الخروج عنه علي المتيقن، و هو صلاة واحدة.

لكن العموم المذكور لا يقتضي وجوب تبديل مثل الخريطة مما لا تتم به الصلاة، و تلوثه بعين النجاسة غير قادح، كما تشهد به نصوص العفو عن مثله.

علي أنه لا يبعد استفادة عدم وجوب التبديل من عدم التنبيه عليه في صحيحي منصور و الحلبي بعد ورودهما لعلاج مشكلة النجاسة، فإن المستفاد منهما أن المهم عدم تعدي النجاسة.

و أظهر منهما في ذلك صحيح حريز، لأن الحكم فيه بالجمع بين الصلاتين كالصريح في عدم وجوب التبديل، و إن كان قاصرا عن إثبات العفو في أكثر من صلاتين.

و منها يظهر عدم وجوب تطهير موضع النجاسة من البدن، و إن كان هو مقتضي العموم لو كان ينفع في تقليل مقدار المتنجس منه حين الصلاة، و لو احتمالا.

نعم، يشكل تعميم ذلك للمبطون، لتوقفه علي فهم عدم الخصوصية لمورد النصوص المذكورة، أو تنقيح المناط، و قد تكرر الإشكال في الأمرين.

كما أنه يلزم التبديل في المسلوس و المبطون لو كان التحفظ بما تتم به

______________________________

(1) ذكره هو و من قبله في أحكام المستحاضة.

ص: 147

______________________________

الصلاة، عملا بالعموم بعد قصور النصوص عن إثبات العفو عنه، لانصراف الخريطة و الكيس عنه.

بل مقتضي ذلك عدم جواز التحفظ به، و اختيار ما لا تتم به الصلاة مع الإمكان.

فرعان.

الأول: صرح في العروة الوثقي بأنه لو تبين في أثناء الصلاة العذرية أو بعدها وجود الفترة الواسعة للصلاة الاختيارية وجب استئنافها فيها، و عليه جري جماعة من محشيها.

خلافا للمستند، فإنه- مع حكمه بوجوب تحري الفترة مع احتمالها- ذكر أنه لو فجأه الحدث في الأثناء في زمان الفترة توضأ و بني علي صلاته و لم ينتظر فترة أخري لو كانت له.

و الظاهر أن وجوب الإعادة مبني علي اختصاص النصوص بصورة عدم الفترة واقعا، و قد تقدم المنع عنه، و أنها تشمل وجود الفترة إذا لم تكن مضبوطة، كما لعله مفروض الكلام.

فاللازم البناء علي عدم وجوب الاستئناف في مورد النصوص، و هو المسلوس مطلقا، و المبطون الذي يصلي بطهارة تامة بنحو التقطيع، و أما في غيرهما، كالمبطون المستمر الحدث، و ذي الريح مطلقا- بناء علي عدم إلحاقه بالمبطون موضوعا أو حكما- فالمتعين الاستئناف، لاختصاص الدليل علي مشروعية الصلاة العذرية فيه بالإجماع و نحوه مما يكون المتيقن منه صورة عدم الفترة و إن لم تكن مضبوطة، كما جرينا علي التفصيل المذكور في غير موضع.

الثاني: هل يجب معالجة السلس و البطن مع القدرة علي ذلك أو لا؟ ظاهر محكي شرح المفاتيح الأول. و يقتضيه إطلاق التكليف بالصلاة التامة، المقتضي لوجوب تحصيل القدرة عليها و حفظها في المقام بالعلاج مع التمكن منه قبل

ص: 148

______________________________

الوقت، فضلا عما بعده.

لكن استشكل في ذلك في العروة الوثقي و تبعه جملة من محشيها، بل قرّب سيدنا المصنف قدّس سرّه عدم الوجوب بعد الاعتراف بما ذكرنا. قال: «إلا أنه يمكن دعوي استقرار السيرة علي خلافه، لا سيما مع عدم الأمر بالعلاج في النصوص».

و فيه: أن عدم الأمر في النصوص قد يكون لغلبة اهتمام المكلف بالعلاج مع التمكن بنحو لا يحتاج للتنبيه، بل ورود النصوص مورد العذر مانع من استفادة عدم الوجوب منها.

نعم، ذلك مختص بما إذا كان العلاج سهلا، أما مع صعوبته أو ضعف احتمال القدرة عليه بنحو يترتب عليه الشفاء، فقرينة العذر لا تصلح لإيجابه في المقام، لأن تركه مورد للعذر عرفا، و هو المتيقن من السيرة علي عدم الاهتمام بالعلاج، و لا طريق لإحرازها مع سهولته.

اللهم إلا أن يقال: ظهور النصوص في عدم وجوب تحري الفترة كاشف عن كون طروء المرضين رافعا لملاك وجوب الصلاة بطهارة تامة من دون أن يتخللها الحدث، و مع ذلك لا موجب لحفظ القدرة علي الصلاة المذكورة بالعلاج في مورد النصوص، و إنما يتجه في غيره مما ينحصر دليله بالإجماع، حيث لا طريق لاستكشاف قصور الملاك في مورده، نظير ما تقدم في الفرع السابق.

هذا، و لو أمكن منع الحدث مقدار أداء الصلاة من دون حرج وجب- كما صرح به في العروة الوثقي و جري عليه جملة من محشيها- سواء كان باستعمال دواء أم بتقليل غذاء أم بالتحفظ الخارجي منه، لانصراف النصوص عن صورة القدرة علي الفترة المضبوطة، نظير انصرافها عن صورة وجودها.

و كأن ما ذكره بعض مشايخنا من عدم وجوب ذلك كعدم وجوب علاج أصل المرض مع التزامه بوجوب تحري الفترة، مبني علي عدم ناقضية الحدث القهري في المقام بنظره، و قد سبق في الصورة الثانية المنع من ذلك، فلاحظ، و اللّه سبحانه و تعالي العالم، و له الحمد.

ص: 149

الفصل السابع في غايات الوضوء

اشارة

الفصل السابع لا يجب الوضوء لنفسه (1).

______________________________

(1) كما صرح به جماعة، و ظاهر غير واحد ممن اقتصر علي بيان ما يجب أو يستحب له الوضوء المفروغية عنه، و في المدارك: أنه المعروف من مذهب الأصحاب، و في الجواهر: «بل هو المشهور نقلا و تحصيلا، بل عن العلامة و الكركي نقل الإجماع عليه»، و ربما يلوح دعوي الإجماع من محكي البيان و قواعد الشهيد، بل هو صريح مجمع الفوائد.

و لا ينبغي التأمل في ذلك، إذ لو كان واجبا لكثر السؤال عنه من حيثية السعة و الضيق و أمدهما و فروع ذلك و احتيج لبيانه، فعدم التعرض في النصوص و الفتاوي لذلك و اقتصارها علي بيان وجوبه و استحبابه للغايات الخاصة كاشف عن وضوح عدم وجوبه نفسيا بين المتشرعة من الصدر الأول، كما هو الحال في عصورنا، و هو مما يجعله من الضروريات.

و بذلك يستغني عن الاستدلال بمفهوم الشرط في الآية الشريفة، و في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: قال: «إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة، و لا صلاة إلا بطهور» «1».

علي أنه لا يخلو عن إشكال، لأن الأمر بالوضوء في الآية ظاهر في الإرشاد لبيان شرطيته للصلاة، لأنه المناسب للتعليق علي نفس فعل الصلاة و إرادة

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 150

______________________________

إيجادها، دون الأمر المولوي كي ينهض المفهوم بالاستدلال، لوضوح أن الأمر به مولويا نفسيا وجوبا أو استحبابا تابع للحدث، و الأمر به غيريا تابع لدخول الوقت، و لذا يشمل جميع أفراد الصلاة حتي ما لا يستحب في حق المباشر لو فرض تحققه، كما قد يقال به في النيابة بجعالة، و في النيابة عن الأبوين الناصبيين، لبعض النصوص «1».

هذا، و أما بناء علي ما في موثق ابن بكير من أن المراد بالآية هو القيام من النوم «2» فالأمر أظهر، لأنه يكون مسوقا لبيان ناقضية النوم للطهارة و شرطيتها للصلاة.

و أما الصحيح، فهو و إن كان ظاهرا في الوجوب المولوي، إلا أن المتيقن منه تعليق وجوب الأمرين معا بنحو الارتباط المسبب عن شرطية الطهارة في الصلاة التي صرح بها في ذيله، و لا ظهور له في تعليق وجوب كل منهما منفردا و بنحو الانحلال، لينفع فيما نحن فيه.

و لذا لا يكون ما دل علي وجوب الوضوء لغير الصلاة منافيا للشرطية المذكورة في الآية و الصحيح عرفا، بنحو يكون مخصصا لعموم مفهومها. فتأمل.

هذا، و في الذكري بعد أن ذكر الخلاف في أن وجوب الغسل نفسي أو غيري قال: «و ربما قيل بطرد الخلاف في كل الطهارات، لأن الحكمة ظاهرة في شرعيتها مستقلة» قال في مفتاح الكرامة بعد نقل كلامه هذا: «و يحتمل أن يكون ذلك احتمالا منه، لأني قد تتبعت فلم أعثر علي هذا القول للعامة [3] أيضا».

و لعل ما في الذكري هو المنشأ لما حكاه عنه في المدارك من حكاية قول بوجوب الطهارات أجمع بحصول أسبابها وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بظن الوفاة أو

______________________________

[3] لكن ذكر الرازي في تفسيره أن لهم قولين في ذلك و ذكر احتجاج الطرفين. كما نسب الشهيد في القواعد إلي القاضي أبي بكر العنبري القول بالوجوب النفسي و أنه يتضيق بضيق وقت الصلاة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 8 و باب: 20 من أبواب النيابة في الحج حديث:

1 و باب: 25 من الأبواب المذكورة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 151

______________________________

تضيق وقت العبادة المشروطة بها.

و قد استدل قدّس سرّه عليه بإطلاق الآية، و كثير من الأخبار، كصحيح ابن الحجاج المتضمن لقوله عليه السّلام: «من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب عليه الوضوء» «1»، و صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يواقع أهله أ ينام علي ذلك؟ قال: إن اللّه يتوفي الأنفس في منامها و لا يدري ما يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل.» «2»، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة، فإن خرج فيها شي ء فلا تغتسل، و إن لم تر شيئا فلتغتسل، و إن رأت بعد ذلك فلتوضّ و لتصل» «3».

لكن لا يخفي ضعف الاستدلال بما عدا صحيح ابن الحجاج، إذ لا إطلاق للآية بعد تقييد الأمر بالوضوء فيها بالقيام للصلاة.

و مثله ما عن بعض العامة من الاستدلال بقوله تعالي في ذيلها وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ، لأن ذلك مسوق لتعليل التنزل عن الوضوء و الغسل للصلاة إلي التيمم لها عند تعذرهما، و من الظاهر أن تعليل ذلك بإرادة التطهير انما يحسن لو أريد به إرادتها للصلاة لا إرادتها لنفسها.

و أما صحيح عبد الرحمن، فهو وارد للتعجيل، و لا بد من حمله علي الاستحباب، لجواز النوم للجنب بالنص و الإجماع حتي من القائل بالوجوب النفسي.

و أما ما تضمنه من تعليل التعجيل بخوف الموت، فهو لا يدل علي حرمة إبقاء الجنابة للموت بعد كون الحكم المعلل به غير إلزامي.

و أما صحيح محمد بن مسلم، فهو ظاهر في بيان مشروعية الغسل بانقطاع الدم في مقابل ما تضمّنه صدره من عدم مشروعيته حال خروجه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 152

______________________________

و نحوه في ذلك ما في موثق سماعة من قول الصادق عليه السّلام: «و غسل الحائض إذا طهرت واجب، و غسل المستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف و جاز الدم الكرسف، فعليها الغسل لكل صلاتين.» «1».

نعم، صحيح ابن الحجاج لا يخلو عن ظهور في نفسه في وجوب الوضوء بمجرد حصول النوم و لو قبل وجوب غاياته المستلزم لكونه نفسيا.

و مثله في ذلك جملة من النصوص الواردة في نواقض الوضوء المتضمنة للتعبير بأنه يجب بها، أو بأن من حصلت منه فعليه الوضوء، و كذا ما تضمن التعبير بالوجوب في بعض الأغسال من دون تقييد بدخول وقت الغايات، كموثق سماعة المتقدم.

إلا أنه لا مجال للخروج بها عما تقدم من ظهور المفروغية عن عدمه، فيتعين حملها علي بيان تحقق موضوع الوضوء و الغسل ممن يبتلي بحدثهما، لا علي الوجوب النفسي، و لا سيما بالوجه المذكور، حيث لا ريب في عدمه بملاحظة عدم التنبيه من المعصومين عليهم السّلام لوجوب الطهارة أو الوضوء علي المحتضر و المحارب و نحوهما ممن يتعرض للموت، مع غلبة الابتلاء بالحدث، خصوصا الأصغر حينه، و إهمال أهل الفتوي و سائر المتشرعة لذلك، كما نبه له غير واحد.

و أما ما أشار إليه في الذكري من ظهور الحكمة في شرعيتها مستقلة.

فهو لا يستلزم الوجوب، بل يقتضي مشروعيتها و لو بنحو الاستحباب النفسي المطابق لارتكاز حسن الطهارة عند المتشرعة، تبعا للنصوص و نحوها مما يأتي الكلام فيه.

و مثله ما ذكره قدّس سرّه في قواعده من أن الذي ألجأ للقول بالوجوب النفسي ما عبر عنه بالإشكال اليسير، و هو الناشئ من أن الطهارة و الستر و القبلة معدودة من واجبات الصلاة، مع الاتفاق علي فعلها قبل الوقت، و الاتفاق في الأصول علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 153

و تتوقف صحة الصلاة واجبة (1) كانت أو مندوبة (2) عليه. و كذا أجزاؤها المنسية (3).

______________________________

عدم إجزاء غير الواجب عن الواجب.

لاندفاع ذلك: بأنه لا مانع من إجزاء غير الواجب عن الواجب، و لا سيما الغيري منه، بل بناء علي ما هو الظاهر من أن الشرط هو الطهارة التي هي أثر الأفعال الخاصة فتقديم الأفعال المذكورة علي الوقت لا يستلزم تقديم الواجب، لوضوح أن الواجب هو بقاء الطهارة حين الصلاة، الذي هو بعد الوقت. و كذا الحال في الستر و الاستقبال، فتأمل.

(1) بلا ريب و لا إشكال. و يقتضيه الكتاب المجيد، و السنة الشريفة المتواترة، و الإجماع المنقول مستفيضا، بل هو من الضرورات الفقهية، بل الدينية، كما صرح به بعضهم.

نعم، يخرج من ذلك الصلاة علي الميت، إما لأن إطلاق الصلاة عليها مجازي- كما صرح به بعضهم- أو للأدلة الخاصة المخرجة عن العموم المذكور، التي يأتي التعرض لها في محلها إن شاء اللّه تعالي.

(2) الكلام فيها كما سبق، لعموم كثير من الأدلة المتقدمة، و خصوص بعضها.

(3) كما ذكره في القواعد في قضاء السجدة المنسية، و حكي عن نهاية الاحكام و التحرير و الألفية و شروحها الأربعة.

و قد يظهر من نزاعهم في جواز تخلل الحدث بينها و بين الصلاة المفروغية عن لزوم إيقاعها بطهارة.

و كيف كان، فيقتضيه عموم دليل شرطيتها في الصلاة، إذ لا يراد به إلا شرطيتها لأجزائها، و المقضي جزء صلاتي و إن تبدل محله، فدليل القضاء موسع

ص: 154

بل سجود السهو (1) علي الأحوط وجوبا.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 155

______________________________

عرفا للمقضي من حيثية المحل، من دون أن يقتضي التوسع فيه من سائر الجهات من الأجزاء و الشروط، و ليس هو كدليل الكفارة و الضمان و نحوهما من التداركات بالأمور المباينة.

و لذا لا يظن بأحد التوقف في وجوب اشتمال السجود المقضي علي الذكر الواجب في سجود الصلاة، مع خلو النصوص عنه.

و كأن وضوح ذلك ارتكازا هو الذي أوجب غفلة الأكثر عن التنبيه عليه بالخصوص، من دون خلاف منهم فيه.

(1) فقد ذهب إلي اعتبارها فيه في الروضة و محكي السرائر و الألفية و الهلالية و الدرة، و عن المقاصد العلية أنه أقوي، و عن نهاية الاحكام أنه الأقرب.

و لعله ظاهر من أطلق أنه يعتبر فيه ما يعتبر في سجود الصلاة، كما في اللمعة و محكي الذكري و الدروس و البيان و الجعفرية و الغرية و شرح الألفية للكركي و غيرها. بل ربما يستفاد من قدماء الأصحاب، لعدم تنبيههم علي عدم اعتبارها، مع تنبيههم إلي عدم اعتبار القراءة و الركوع، كما أشار إليه في مفتاح الكرامة.

لكن تنظر في القواعد و محكي التذكرة، و هو مقتضي الاقتصار في المدارك و محكي التنقيح و المفاتيح و الذخيرة علي أنه أحوط، بل حكي في مفتاح الكرامة عن الجواهر عدم اعتبارها، و عن التحرير أنه الأقرب.

و يقتضيه- مضافا إلي الأصل، بناء علي التحقيق من جريان البراءة مع الشك في تقييد المكلف به- إطلاق الأمر بهما المعتضد بإطلاق ما تضمن الأمر لمن نسيهما بالإتيان بهما متي ذكر «1».

و منه يظهر ضعف الاستدلال لاعتبار الطهارة بأنه مقتضي الاحتياط.

و مثله الاستدلال بأنهما مكملتان و جابرتان للصلاة التي يشترط فيها

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2.

ص: 155

______________________________

الطهارة، لمنعه صغري و كبري، إذ لا دليل علي إكمال الصلاة و جبرها بهما، بل هو خلاف ظاهر ما تضمنه بعض النصوص من أنهما المرغمتان للشيطان «1»، كما لا دليل علي لزوم موافقة الجابر للمجبور في الشروط إذا لم يكن جزءا منه.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي كون ذلك منشأ لانصراف إطلاق الخطاب بهما لصورة الطهارة.

علي أنه لو سلم فهو لا يقتضي نهوض الإطلاق باعتبار الطهارة، غاية الأمر قصوره عن نفي اعتبارها و إجماله من هذه الجهة، فيكون المرجع أصل البراءة منها.

هذا، و لكن الإنصاف أن النظر في جميع نصوص سجود السهو مقرب لأصالة تبعيته للصلاة في الاحكام- كما سبق من بعضهم- و أنه ليس المراد به مطلق السجود بنحو يكون ما زاد عليه قيودا أو واجبات تحتاج إلي دليل، كما يناسبه الأمر به متصلا بها في حال الجلوس قبل الكلام «2» و النهي عن الإتيان به قبل ذهاب شعاع الشمس «3» و الأمر بالسلام فيه «4» الذي هو للتحليل، فإن الأحكام المذكورة تناسب كونه عملا قائما بنفسه ملحقا بالصلاة في الاحكام، إذ هي غير دخيلة في إرغام الشيطان الذي شرع له السجود.

و ذلك و إن لم يصلح للاستدلال، إلا أنه مقرب لفهم إلحاقه بالصلاة من فحوي الأدلة و مساقها. و لا سيما مع التنبيه في النصوص علي أنه لا ركوع فيه و لا قراءة «5»، إذ لو لا أصالة الإلحاق بالصلاة التي ترتبط السجدتان فيها بالقراءة و الركوع

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2، و باب: 19 منها حديث: 9، و باب:

32 منها حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب التشهد حديث: 4، 5 و باب: 9 منها حديث: 3 و باب: 5 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3 و باب: 11 منها حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 5 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2 و باب: 11 منها حديث: 8 و باب: 14 منها حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2 و باب: 14 منها حديث: 4 و باب: 26 منها حديث: 2.

ص: 156

و مثل الصلاة الطواف الواجب (1)،

______________________________

لم يحتج للتنبيه علي عدم وجوبهما فيه، و لو لم تعتبر فيه الطهارة و نحوها من الشروط لكان أولي بالتنبيه.

و لعل هذا هو المنشأ لإغفال قدماء الأصحاب التعرض لذلك و ظهور بنائهم علي اعتبار الطهارة، و عدم ظهور الخلاف فيه حتي بدأ به العلامة، علي اضطراب منه في المسألة، فإن ما نقله في مفتاح الكرامة عن الجواهر لم أجده في جواهر القاضي بل هو لا يناسب مسلكه فيه، لإكثاره من الاستدلال بالاحتياط.

و لأجل ذلك كله يشكل التعويل علي الإطلاق أو أصالة البراءة بنحو يجتزأ بالسجود الفاقد لجميع شروط الصلاة و الفاقد لموانعها و قواطعها، بل هو مما يصعب جدا بالنظر لمرتكزات المتشرعة.

و أما إطلاق ما تضمن أن الناسي يأتي به متي ذكر، فلا يراد به إلا الإتيان به بشروطه، كما ورد نظيره في الصلاة.

نعم، في بلوغ ذلك حدا ينهض بإثبات الحكم الشرعي المخالف للأصل إشكال. و لا سيما مع أن الأمر بالإتيان به متصلا بالصلاة قبل الكلام راجع لوجوب المبادرة تكليفا لا لمانعية الكلام وضعا. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) بلا خلاف ظاهر، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في الجواهر، و بالإجماع صرح في الخلاف و الغنية و المنتهي و المسالك، و نسب في مفتاح الكرامة دعواه إلي خمسة عشر موضعا.

و يقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

لا بأس أن يقضي المناسك كلها علي غير وضوء إلا الطواف بالبيت. و الوضوء أفضل» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 1.

ص: 157

______________________________

و صحيح محمد بن مسلم: «سألت أحدهما عليهما السّلام عن رجل طاف طواف الفريضة و هو علي غير طهور. قال: يتوضأ و يعيد طوافه. و إن كان تطوعا توضأ و صلي ركعتين» «1».

و غيرهما مما ورد فيمن طاف علي غير وضوء أو أحدث في أثناء الطوف «2».

و بها يجمع بين إطلاق خبر زيد الشحام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل طاف بالبيت علي غير وضوء. قال: لا بأس» «3» و إطلاق صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «. و سألته عن رجل طاف ثمَّ ذكر أنه علي غير وضوء. قال: يقطع طوافه و لا يعتد به» «4» و خبر الواسطي عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال: إذا طاف الرجل بالبيت و هو علي غير وضوء فلا يعتد بذلك الطواف، و هو كمن لم يطف» «5».

نعم، في معتبرة أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه سئل أ ينسك المناسك و هو علي غير وضوء؟ فقال: نعم، إلا الطواف بالبيت، فإن فيه صلاة» و مثله صحيح جميل «6»، و قريب منهما صحيحا معاوية بن عمار و رفاعة بن موسي «7».

و مقتضي التعليل المذكور أن اعتبار الوضوء لأجل الصلاة دون الطواف فاعتبارها فيه بالعرض و المجاز.

لكنه- مع وهنه في نفسه بإعراض الأصحاب- مخالف لتلك النصوص، لإبائها عن الحمل علي ذلك جدا، و لا سيما مثل صحيح محمد بن مسلم المتقدم.

فلا بد من طرحه، أو تنزيله علي كون ذلك حكمة في اعتبار الوضوء في نفس الطواف، و لعله لذا استدل غير واحد بالنصوص المذكورة في المقام. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الطواف حديث: 3.

(2) راجع الوسائل باب: 38، 40 من أبواب الطواف.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 11.

(6) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 6 و ملحقة.

(7) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 1، 2.

ص: 158

و هو ما كان جزءا من حجة أو عمرة (1)،

______________________________

هذا، و مقتضي ما سبق بطلان الطواف لو وقع مع الحدث و لو نسيانا أو جهلا، كما صرح به غير واحد منهم الشيخ في المبسوط، و نفي في الجواهر الخلاف فيه و الإشكال.

لكن قد يظهر من الشيخ قدّس سرّه في موضع من التهذيب الخلاف فيه، حيث قال عند التعرض لخبر زيد المتقدم: «فأما ما رواه زيد الشحام. فمحمول علي من طاف ناسيا أو ساهيا، فأما إذا كان متعمدا فعليه الإعادة، و قد بينا الكلام في هذا المعني فيما تقدم» «1». و هو كما تري، لضعف الخبر في نفسه.

و حمله علي طواف النافلة أولي من حمله علي ذلك، لخلوه عن الشاهد، بل هو لا يناسب صحيح علي بن جعفر المتقدم الوارد في النسيان، لأنه و إن ورد في التذكر في الأثناء، إلا أن إلغاء خصوصيته قريب جدا.

بل ظاهر الشيخ قدّس سرّه نفسه في الموضع الذي أشار إليه من التهذيب «2» البناء علي الإعادة حتي مع النسيان، حيث استدل عليها بصحيح علي بن جعفر.

(1) كما صرح به بعضهم و يظهر من آخرين، بل يظهر منهم أن ذلك هو المراد بطواف الفريضة في سائر الموارد و الاحكام.

و يقتضيه النصوص المتقدمة المشتملة علي عنوان المناسك، لوضوح أن المراد بها أفعال الحج و العمرة و إن كانا مندوبين.

و أما ما في نهاية ابن الأثير و مفردات الراغب و لسان العرب و مجمع البحرين من اختصاصها بأفعال الحج، فكأنه مبني علي التغليب و إرادة ما يعم أفعال العمرة.

و قد علل إطلاق الفرض علي ذلك و قرب الاستدلال بالنصوص المتضمنة له في المقام بأن وجوب إكمال الحج و العمرة المندوبين إجماعا- كما في المنتهي-

______________________________

(1) التهذيب ج: 5 ص: 470.

(2) التهذيب ج: 5 ص: 116.

ص: 159

دون المندوب (1) و إن وجب بالنذر (2)، نعم، يستحب له (3).

______________________________

يقتضي وجوب الطواف الذي هو جزء منهما بالشروع فيهما.

لكن مقتضاه شمول الفرض للوجوب العرضي- و هو في المقام الناشئ من الشروع- و لازمه شموله للمنذور، و لا يظن منهم البناء عليه، بل هو خلاف صريح بعضهم.

و من هنا لم يبعد أن يكون إطلاق الفرض بلحاظ فرضه بعنوان الخاص و لو من جهة جزئيته في الحج و العمرة، لا التكليف به، فلا يشمل المنذور و المستأجر عليه و نحوهما، لعدم كونه مفروضا بعنوانه، بل بعنوان آخر يتحقق به، كالوفاء بالعقد و النذر.

و بعبارة أخري: المستفاد من النصوص و كلمات الأصحاب في الموارد المتفرقة أن الفرض و النقل عنوانان منوعان لا متوردان علي شي ء واحد.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب (رضي اللّه عنهم)، للنصوص الكثيرة المتقدم بعضها.

خلافا لما عن أبي الصلاح الحلبي و العلامة في النهاية من اشتراطه فيه أيضا، لإطلاق بعض النصوص المتقدمة و عموم تنزيله منزلة الصلاة المستفاد من النبوي: «الطواف بالبيت صلاة» «1».

و يتعين رفع اليد عنهما بما تقدم، و لا سيما مع عدم العثور علي رواية النبوي من طرقنا.

بل ربما يدعي كون التنزيل بلحاظ الثواب، لا الاحكام، فتأمل.

(2) كما في الجواهر، و يظهر وجهه مما تقدم.

(3) كما ذكره غير واحد، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه، و نفي الريب

______________________________

(1) عن سنن البيهقي ج: 5 ص: 87 و كنز العمال: ج 3 ص: 10 رقم 206. و ذكره مرسلا في الخلاف و المسالك.

ص: 160

______________________________

فيه في الجواهر، و في مفتاح الكرامة أنه اتفاقي.

و قد استدل عليه في كلام غير واحد بإطلاق بعض النصوص المتقدمة، و بعموم التنزيل الذي تضمنه النبوي المتقدم.

لكن النصوص ظاهرة في الشرطية و بعد حملها علي طواف الفريضة لا مجال لاستفادة الاستحباب منها في غيره.

بل صحيح معاوية و نحوه مما ورد في المناسك يقصر عن الطواف المندوب تخصصا، لعدم كونه منها، فالاستدلال به في الجواهر غريب.

و منه يظهر الحال في عموم التنزيل- لو تمَّ في نفسه- لوضوح أن الوضوء شرط في صحة الصلاة المندوبة لا في كمالها، فلا ينهض العموم بإثبات شرطيته في كمال الطواف المندوب دون صحته.

و كأن منشأ استدلالهم به اختلاط الاستحباب الشرطي بالاستحباب الكمالي، لاهتمامهم بتمييز موارد وجوب الوضوء من موارد استحبابه، من دون نظر لسنخ الاستحباب، فيتوجه حينئذ تخيل أن مقتضي عموم التنزيل استحباب الوضوء للطواف المندوب، كما يستحب للصلاة المندوبة.

علي أن عموم التنزيل بين شيئين إنما يقتضي الاشتراك بينهما في الأحكام العامة، لا الاشتراك بين أنواعهما المتشابهة في الأحكام الخاصة بكل منها، فعموم تنزيل الطواف منزلة الصلاة إنما يقتضي ثبوت أحكام ماهية الصلاة له بعمومه، لا مشاركة الواجب منه للواجب منها و المندوب منه للمندوب منها في أحكامهما المختصة بكل منهما.

نعم، لو كان كل من الصلاة و الطواف ماهية واحدة و الوجوب و الاستحباب حالتين لهما، تمَّ ذلك.

لكنه خلاف الظاهر، بل الفرض و النفل ماهيتان من كل منهما.

هذا، و قد يستدل بموثق ابن فضال أو صحيحه: «قال أبو الحسن عليه السّلام: لا

ص: 161

مسألة 96 لا يجوز للمحدث مس كتابة القرآن

مسألة 96: لا يجوز للمحدث مس كتابة القرآن (1)،

______________________________

تطوف و لا تسعي إلا بوضوء» «1».

و حمله علي النهي عن مجموع الأمرين ليبقي علي ظهوره في الإلزام و يختص بطواف الفريضة- كما في التهذيب و احتمله في الاستبصار- لا يناسب تكرار: «لا» جدا، بل يتعين حمله علي الاستحباب- كما احتمله في الاستبصار- فيشمل بإطلاقه الطواف المندوب.

لكن حمله علي الاستحباب بالإضافة للسعي لا يقتضي الخروج عن ظاهره بالإضافة للطواف، الملزم بحمله علي طواف الفريضة الذي هو المنصرف منه في نفسه بمقتضي جمعه مع السعي، لأنه مثله من المناسك. فلاحظ.

و من هنا كانت إقامة الدليل علي استحباب الوضوء للطواف بخصوصيته في غاية الإشكال.

نعم، المناسبات الارتكازية المتشرعية تقضي بأولوية إيقاع الطواف المندوب عن طهارة، بما أنه عبادة، لأن الطهارة دخيلة في أهلية العبد للاتصال به تعالي، و لو بلحاظ ما تضمن أن الوضوء مخفف للذنوب و سبب لغفرانها، حيث يكون أقرب لقبول العمل، و أولي بالعبادية. فتأمل جيدا.

(1) كما في الفقيه و التهذيب و الخلاف و الشرائع و المعتبر و النافع و القواعد و المنتهي و مجمع البيان و جامع المقاصد و الروض و ظاهر التبيان و عن الحلبي و ابن سعيد و الراوندي و الدروس و الذكري و غيرها، بل هو المعروف من مذهب الأصحاب، و في المعتبر و المدارك و المفاتيح و عن المقتصر و الذخيرة و الكفاية و غيرها أنه المشهور، و عن كشف الرموز أنه الظاهر بين الطائفة، و ادعي في الخلاف الإجماع عليه، و هو ظاهر مجمع البيان، بل التبيان.

خلافا لما في المبسوط و عن ابني البراج و إدريس من الحكم بالكراهة، بل

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 7.

ص: 162

______________________________

هو مقتضي ما عن ابن الجنيد من الحكم بها للجنب، و تبعهم بعض متأخري المتأخرين، و إن لم يبعد كون مراد القدماء من الكراهة الحرمة، و لا سيما الشيخ في المبسوط، لظهور اهتمامه بالحكم، حيث فرع عليه أنه ينبغي منع الصبيان من المس، و أطال في ذلك.

و كيف كان، فعمدة الدليل علي الحرمة موثق أبي بصير أو صحيحه [1]:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمن قرأ في المصحف و هو علي غير وضوء. قال: لا بأس و لا يمس الكتاب» «2»، إذ ليس المراد بالكتاب إلا القرآن الكريم المحكي بالخط، كما هو المتبادر منه في عرف المسلمين و به استعمل في الكتاب و السنة، لا المصحف، كي يتعين حمله علي الكراهة، كيف و إلا كان المناسب أن يقول: «و لا يمسّه». بل فرض القراءة في المصحف من دون مس له بعيد جدا. و لا سيما و قد روي في الاستبصار هكذا: «و لا يمس الكتابة»، حيث قد يكون الاختلاف بينهما ناشئا من النقل بالمعني. فتأمل.

هذا، و يعضد الصحيح خبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السّلام:

«قال: المصحف لا تمسه علي غير طهر و لا جنبا، و لا تمس خطه و لا تعلقه، إن اللّه تعالي يقول لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «3».

و صحيح حريز عمن أخبره: «قال: كان إسماعيل بن أبي عبد اللّه عليه السّلام عنده.

______________________________

[1] إذ ليس في طريقه من وقع الكلام فيه إلا الحسين بن المختار الذي رماه الشيخ في موضع من كتابه بالوقف.

لكنه من رجال كامل الزيارة، و قد حكي عن ابن عقدة عن علي بن الحسن أنه ثقة، و عده الشيخ المفيد قدّس سرّه في الإرشاد ممن روي النص علي الرضا عليه السّلام من خاصة أبيه عليه السّلام و ثقاته و أهل الورع و العلم و الفقه من شيعته، و قد روي عنه جماعة من الأعيان. و كفي بذلك في إثبات وثاقته، بل ما فوقها. بل كلام المفيد موجب للتشكيك فيما صدر من الشيخ من نسبة الوقف له، و لا سيما مع عدم تعرضه له في موضع آخر من كتابه و لا في الفهرست عند ذكره له.

______________________________

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 163

______________________________

فقال: يا بني اقرأ في المصحف، فقال: إني لست علي وضوء. فقال: لا تمس الكتاب و مس الورق و اقرأه» «1».

و إن أشكل استقلالهما بالحجية علي ذلك، لضعف سندهما في الجملة و عدم وضوح انجبارهما بعمل الأصحاب مع إمكان اعتمادهم علي غيرهما و سوقهم لهما مؤيدا لا دليلا.

مضافا إلي أن السياق في الأول قد يمنع من حمله علي التحريم، لعدم الحرمة فيما قبله و ما بعده، و لا سيما مع روايته في الاستبصار هكذا: «و لا تمس خيطه»، و أن النهي في الثاني مسوق للإرشاد، لتجنب المرجوحية المتوهم منعها من القراءة، و لا قرينة علي كون منشئها الحرمة، و ليس ابتدائيا مولويا ليكون ظاهرا في الحرمة، كما نبه له الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

هذا، و قد اشتهر بين الأصحاب الاستدلال بقوله تعالي إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ.

فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ. لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ «2» بحمل المس فيه علي المس بالبدن، لأنه المعني الحقيقي له أو الظاهر منه، و إرجاع الضمير للقرآن المذكور بالأصل، لا للكتاب المذكور تبعا، و حمل «لا» علي النهي أو النفي المساوق له [3]، و «المطهرون» علي من يكون طاهرا و لو بأن يتطهر.

لكنه مخالف للظاهر جدا، لإباء سياق الكلام عن الحمل علي بيان أمر جعلي تشريعي، بل هو ظاهر في وصف القرآن الكريم بذلك، كوصفه بأنه فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ، و أنه تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ.

كما أن الظاهر من «المطهرين» ليس هم المتطهرين من الحدث، و لا كل طاهر، بل خصوص من طهرهم اللّه تعالي، الملزم بحمله علي من طهرهم بعصمته

______________________________

[3] لأن ضم الفعل كما يجتمع مع رفعه لكون «لا» نافية يجتمع مع جزمه لكونها ناهية، لما في التصريح علي التوضيح من أن الفعل المضاعف المجزوم إذا اتصل به ضمير الغائب وجب ضمه، و أجاز الكوفيون فيه الفتح و الكسر. و بالوجهين صرح بعض من تعرض لإعراب الآية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) سورة الواقعة: 77- 80.

ص: 164

حتي المد و التشديد و نحوهما (1)،

______________________________

لهم عن الذنوب، فيحمل المس علي مس الملائكة له و هو في اللوح المحفوظ، أو علي الكناية عن إحاطة المعصومين عليهم السّلام بعلمه و غوصهم في معانيه و استجلائهم لغامضه.

و أما خبر إبراهيم المتقدم، فربما لا يكون الاستشهاد فيه بالآية للاستدلال علي ما تضمنه من النهي عن المس، بل للتنبيه علي أن تعظيمه تعالي للقرآن بذلك مناسب للأحكام المذكورة فيه، بل لعل هذا هو الأظهر بلحاظ اشتماله علي غير المس، كما نبه له غير واحد. و كذا ما في مجمع البيان من قوله في تفسير الآية:

«و قيل: المطهرون من الأحداث و الجنابات. و قالوا [و قيل. خ ل]: لا يجوز للجنب و الحائض و المحدث مس المصحف عن محمد بن علي الباقر عليهما السّلام»، لعدم ظهوره في نسبة التفسير المذكور له عليه السّلام، بل نسبة الحكم- المناسب للتفسير المذكور- له عليه السّلام.

هذا، و قد يستدل للجواز بما تضمن جواز مس الجنب الدراهم البيض، و التي عليها اسم اللّه تعالي و اسم رسوله صلّي اللّه عليه و آله «1».

لكن لا مجال للخروج به عما تقدم، فلو أمكن العمل به لزم الاقتصار علي مورده و نحوه مما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي، لاحتمال خصوصيته و لو من جهة الحرج.

(1) قال في جامع المقاصد: «و يراد بالكتابة الرقوم الدالة علي مواد الكلمات، كما يسبق إلي الأفهام، فالإعراب لا يعدّ منها، بخلاف نحو الهمزة و التشديد. مع احتمال عدّ الجميع. و العدم، لخلوّ الكتابة السابقة عن الجميع».

و قال في الروضة في مبحث الجنابة: «و هو كلماته و حروفه المفردة و ما قام مقامها، كالتشديد و الهمزة».

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة.

ص: 165

______________________________

و عن اللوامع نسبة تحريم مس المد و التشديد للأكثر و اختاره في المستند، و زاد عليه الفقيه الهمداني الإعراب، و قوّي ذلك صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم قدّس سرّهما.

خلافا للحدائق، فاختار الجواز في الجميع، تبعا لما حكاه عن بعض مشايخه المحققين.

هذا، و لما كان موضوع حديث أبي بصير الكتاب- و هو القرآن المجيد- فالظاهر منه رسمه برسم مواد كلماته، و هي حروفه، كما ذكره في جامع المقاصد، لتقوّمه بها، أما الهيآت الإعرابية فلما لم تكن جزءا منه، فلا يكون رسمها رسما له، بل لكيفية النطق به، و هي مباينة للقرآن، فإن القرآن هو المنطوق لا هيئة النطق، و لذا لا يعد الرسم الخالي عنها نقصا في رسم القرآن.

و أما ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أنها حين وجودها تكون جزءا من القرآن و إن لم تكن حين عدمه نقصا فيه، نظير كثير من المركبات الصادقة علي بعض أجزائها ما دامت متصلة بها مع عدم نقصها لو لم تتصل بها أو انفصلت عنها، كزيد بالإضافة لمثل الشعر و الظفر و السن.

ففيه- مع أن المسمي في الإنسان ليس هو الجسم القابل للزيادة و النقص، بل الذات غير القابلة لهما و إن كانت متحدة معه نحو اتحاد-: أن ذلك قد يتم في بعض الماهيات الاعتبارية، حيث قد تتقوم بنحو من الاتصال بين الأجزاء من دون أن يؤخذ فيها كم خاص، كالدار الصادقة علي الواجدة للحمام و الفاقدة له، و علي ذات الغرف الكثيرة و القليلة، و لا مجال لذلك في مثل القرآن الشريف من الماهيات الحقيقية، فإنه مشتمل علي مادة و هيئة، فإن أريد بخطه رسمهما معا كان الفاقد لرسم الهيئة ناقصا، و إن أريد به رسم المادة وحدها خرج عنه رسم الهيئة، و لم تلحقه أحكامه، و هو الظاهر، كما عرفت.

و لا بد أن يبتني صدق رسم القرآن علي المجموع حين وجوده علي التغليب لتبعيته له، أو علي إرادة الكتابة المعهودة المعروفة في العصور المتأخرة،

ص: 166

______________________________

حيث قد يصدق بلحاظها علي بعض النقوش الخارجة عن المادة و الهيئة، كعلامات الوقف و نحوها، و مثل ذلك لا يكفي في ترتب الحكم.

نعم، لو كانت هذه الأمور موجودة معروفة في مورد النص، لم يبعد دلالته علي حرمة مسّها تبعا، لغفلة العرف عن استثنائها مع ذلك، و لا يكفي في ذلك وجودها في العصور المتأخرة.

و من ذلك يظهر الإشكال في المدّ و التشديد، لأنهما ليسا رسما لحرف منطوق، بل إشارة لكيفية النطق بالحرف المرسوم.

و كذا مثل ألف واو الجماعة، فإنها بيان حقيقة المنطوق، فضلا عما يتمحض في الزيادة، كألف يَتَفَيَّؤُا ظِلٰالُهُ «1».

اللهم إلا أن يستفاد حرمة مسها تبعا، لوجودها في المصاحف القديمة مع غفلة العرف عن استثنائها. فتأمل.

هذا، و الظاهر حرمة مس الهمزة المكتوبة علي الألف، فضلا عن غيرها، خلافا لما تقدم من الحدائق، لأنها رسم للحرف المنطوق، و إن أمكن الاستغناء عنها برسم الألف.

و كذا ألف الوصل و الحروف، لأنها رسم لجزء من القرآن و إن لم ينطق به في بعض الحالات أو دائما.

نعم، لا مجال لذلك في علامة التنوين، لعدم كونه جزءا قرآنيا، بل هو من لوازم النطق به.

بقي في المقام شي ء، و هو أن مقتضي إطلاق النص حرمة مس الكتابة مع الخطأ الإملائي، لصدق القرآن عليها. و لا سيما مع استحداث القواعد الإملائية في العصر المتأخر، و قد رسم الكتاب الشريف مخالفا لها في الصدر الأول و بقي علي ذلك.

و أما الخطأ في الكتابة بزيادة حرف أو نقصه أو تبديله، فإن قصد رسم كلمة

______________________________

(1) سورة النحل: 48.

ص: 167

و لا مس اسم الجلالة و سائر (1)

______________________________

غير قرآنية لتخيل قرآنيتها، كما لو كتب «إذا» بدل «إذ» للخطإ في تشخيص ما تضمنه القرآن، فلا إشكال في عدم جريان حكم القرآن، لمباينة المكتوب له، و إن قصد رسم كلمة قرآنية و أخطأ في رسمها، فالظاهر حرمة مس ما يتم به رسم الكلمة القرآنية من الحروف دون الزائد، إذا لم تختل هيئة رسم الكلمة، كالألف و الذال من:

«إذا» إذا قصد بها كتابة «إذ» القرآنية.

بل لا يبعد ذلك في النقيصة إذا رجع إلي الاجتهاد في وجه النقص الراجع للخطإ في الإملاء، نظير حذف همزة الوصل لعدم النطق بها، أو ألف عمران قياسا علي ألف رحمن.

و أما في النقيصة غير الراجعة لذلك، أو الزيادة المخلة بالهيئة أو التبديل، فالأمر لا يخلو عن إشكال، بل لا يبعد جواز المس، لعدم صدق رسم القرآن علي ذلك، و إن قصد به. فلاحظ.

(1) كما قواه في الجواهر و يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه و هو المحكي عن الموجز الحاوي و كشف الالتباس، و عن الذكري حكايته عن أبي الصلاح.

و كأنه لاستفادته مما تضمن حرمة مس الكتاب بالأولوية، لأنه أحق بالتعظيم من سائر ألفاظ القرآن، لأنه خير الأسماء، و لذا اختص به تعالي، كذا في الجواهر.

لكنه غير ظاهر، لاحتمال خصوصية القرآن في التعظيم الخاص، كما اختص بكراهة قراءة الجنب و الحائض له في الجملة، بل حرمة قراءتهما للعزائم منه، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و مثله الاستدلال بعموم التعليل في الآية الكريمة، بناء علي تمامية الاستدلال بها علي حرمة المس، بدعوي: ظهور قوله تعالي إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ في تعليل حرمة مسه بكرامته.

لاندفاعه: بعدم سوق ذلك لتعليل الحكم المذكور، بل هو أمر آخر في قباله.

ص: 168

أسمائه (1) و صفاته (2)، علي الأحوط وجوبا. و الأقوي عدم إلحاق أسماء الأنبياء و الأوصياء و سيدة النساء- صلوات اللّه عليهم أجمعين- به (3)، و إن كان أحوط استحبابا (4).

______________________________

علي أنه لو تمَّ فلا مجال للاستدلال بعمومه، لاستلزامه كثرة التخصيص المستهجن الموجب لإجماله و الاقتصار فيه علي المتيقن.

و لعله لهذا و نحوه لم يتعرض له كثير من الأصحاب أو أكثرهم، بل عن بعض المتأخرين- كالمحقق الخوانساري- إنكاره.

نعم، لا مجال للاستدلال علي جواز مسه بما دل علي جواز مس الدراهم للجنب، لما تقدم في مس الكتاب.

هذا، و قد يستدل للحرمة بصحيح داود بن فرقد الآتي في الفرع التاسع من الفروع الملحقة منا بهذه المسألة، المتضمن النهي عن مس الحائض للتعويذ. و هو لا يخلو عن إشكال.

(1) إما خصوص المختصة به تعالي- كما قيدها بذلك صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم- أو مطلقا- كما هو مقتضي إطلاق غيرهما- مع كون المدار في النسبة له تعالي علي قصد الكاتب، كما يأتي في المسألة التاسعة و التسعين.

(2) الظاهر أن غير لفظ الجلالة من أسمائه تعالي منتزع من صفاته فيكون العطف تفسيريا، و إن كان هو خلاف ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

(3) إذ لا دليل علي ذلك إلا توهم عموم التعليل في الآية الشريفة، و قد سبق ضعفه.

(4) خروجا عن الاحتمال الذي يظهر من الجواهر و شيخنا الأعظم التوقف لأجله، و عن كشف الالتباس و الموجز و شرحه البناء علي مقتضاه، و إن لم يتعرض فيها لسيدة النساء عليها السّلام، و لا لمن عدا الأئمة عليهم السّلام من الأوصياء، بل لم يتعرض في محكي كشف الالتباس لمن عدا النبي صلّي اللّه عليه و آله من الأنبياء عليهم السّلام.

ص: 169

مسألة 97 لا يجوز جعل المس غاية للوضوء

مسألة 97: لا يجوز جعل المس غاية للوضوء (1)،

______________________________

(1) أما مع عدم الأمر به لا وجوبا و لا استحبابا، فلعدم رجوع قصده حين الوضوء إلي امتثال أمر بالوضوء ليقع عبادة، و أما مع الأمر به وجوبا- كما لو توقف تخليصه من الهتك عليه- أو استحبابا- لتوقف تعظيمه بمثل التقبيل عليه- فلما ذكره قدّس سرّه من أن المتوقف علي الوضوء جواز المس، لا نفس المس الواجب، فلا يكون الأمر بالوضوء غيريا مولويا، بل عقليا من باب لزوم الجمع بين غرضي الشارع، و هو لا يكفي في تشريع الوضوء المصحح لعباديته.

و بعبارة أخري: كل من التكليفين لا يدعو للوضوء لتحقق الغرض من المس الواجب- كمنع هتك القرآن- بالمس مع الحدث، و تحقق غرض تحريم المس علي المحدث بترك المس رأسا، و إنما يلزم الوضوء للجمع بين التكليفين في الامتثال الذي هو واجب عقلا، لا شرعا.

و قد يستشكل في ذلك بوجهين.

الأول: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن مقدمة الواجب التي تجب غيريا تبعا لوجوبه النفسي كما تكون أمرا يتوقف عليه الواجب تكون أمرا يرتفع به المانع عنه، من دون فرق بين المانع الشرعي و العقلي، و حيث كانت الحرمة في المقام مانعا شرعيا من المس الواجب، فيجب الوضوء الرافع لها مقدمة له.

و يندفع: بأن المانع الشرعي الذي هو كالمانع العقلي هو الذي تنتزع مانعيته من شرطية عدمه شرعا للواجب، كالحدث بالإضافة للصلاة، حيث يتعذر الواجب واقعا بدونه بسبب الجعل الشرعي، لا التكليف التحريمي في مثل المقام، فإن مرجع مانعيته إلي قبح معصيته مع القدرة علي الواجب معه من دون أن يكون دخيلا في القدرة علي الواجب، ليجب رفعه غيريا و يكون الإتيان به شروعا في امتثاله.

و إن شئت قلت: الواجب الغيري هو الذي يجب بملاك الواجب النفسي

ص: 170

______________________________

و في طوله لعدم القدرة عليه بدونه، و هو إنما يتم فيما يتوقف عليه ذات الواجب أو قيده الشرعي، دون مثل رفع الحرمة في المقام مما لا دخل له في القدرة علي الواجب، فإنه إنما يجب لأجل وجوب امتثاله عقلا بعد فرض جعله بملاك مستقل.

الثاني: أن الجمع بين غرضي الشارع لما كان مرغوبا له أيضا لزم رجوع الغرضين إلي غرض واحد مركب منهما، فيلزمه تقييد متعلق كل منهما بما يلائم الآخر، و يمتنع إطلاق متعلق كل منهما و إن كان وافيا بغرضه، لاستلزامه تفويت الغرض الآخر.

فإذا تعلق الغرض بتكريم زيد الحاصل بزيارته و بالسلام عليه و بالتنويه باسمه، و تعلق الغرض أيضا بعدم إيذائه، و استلزمت زيارته إيذاءه، رجع ذلك إلي غرض واحد مركب من الغرضين متعلق بالتكريم بغير الزيارة، و لم يبق التكريم المطلوب علي إطلاقه، لئلا يلزم الإخلال بالغرض الثاني، فإذا وجب مس الكتاب تخليصا له من الهتك مثلا و كان المس مع الحدث محرما لزم تقييد المس الواجب بما يكون عن طهارة، فيكون الوضوء مقدمة للمس الواجب، فيجب غيريا و إن لم يكن مقدمة لذات المس الذي هو ليس واجبا علي إطلاقه، نظير مقدميته للصلاة الواجبة مع عدم مقدميته لذات الصلاة.

و كأنه إلي هذا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا من أن الوضوء و إن لم يكن مقدمة لذات المس، إلا أنه مقدمة للحصة الواجبة منه.

و إلا فهو مدفوع: بأن المفروض أن الواجب مطلق المس، لا المقيد بالطهارة منه، لعدم دخلها في ملاكه. غاية ما في الأمر دخلها في جواز المس، كما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و كيف كان، فيندفع الوجه المذكور بأن الجمع بين الغرضين و إن كان مرغوبا للآمر إلا أنه لا يرجع إلي وحدة الغرض، و لا إلي تقييد متعلقه، بل إلي تزاحم الغرضين من دون تقييد لمتعلق كل منهما، كما هو الحال في سائر موارد التزاحم،

ص: 171

______________________________

و لا يلزم من ذلك تفويت أحد الغرضين بعد صلوح التكليف الآخر- كتحريم مس المحدث- لحفظه.

بل التقييد المذكور لا يطابق الغرض، لاستلزامه عدم إجزاء الفاقد للقيد مع اقتضاء الغرض إجزاءه.

و دعوي: أن المقام من صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي، فبناء علي الامتناع و تقديم النهي يتعين خروج المس حال الحدث عن حيز الأمر و اختصاص المأمور به بالمس عن طهارة، فيجب الوضوء، لأنه مقدمة له.

مدفوعة. أولا: بأن المس في كثير من صغريات المقام لا يكون مأمورا به نفسيا لا بعنوانه الأولي، و لا بعنوان ثانوي، بل يكون مقدمة لأمر لازم كإنقاذ الكتاب عن الهتك، أو راجح، كالتقبيل و نحوه مما يكون مباينا للمس حال الحدث وجودا، و لا يتحد معه ليكون من صغريات مسألة الاجتماع، نظير ما لو كان للوصول لإنقاذ الغريق طريقان أحدهما مغصوب.

و ثانيا: بأن قصور متعلق الأمر في مسألة الاجتماع لا يقتضي تقييده بنحو يدعو للقيد و يجب تحصيل القيد مقدمة، لتبعية التقييد للغرض، و المفروض عدم تعلقه بالقيد، و ليس قصور الأمر عن مورد الاجتماع إلا لوجود المانع منه نظير قصوره عن مورد العجز. فلاحظ.

نعم، ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه مبني علي ثبوت الأمر الغيري، و أن عبادية الوضوء عند قصد غاياته تابعة لقصده.

أما بناء علي التحقيق من عدم ثبوته، بل ليس هناك إلا الأمر النفسي بذي المقدمة، و وجوب المقدمة عقلي لتوقف الامتثال عليها، فلا بد من البناء علي كون قصد الغاية في الوضوء راجعا إلي التقرب بأمرها النفسي، لكون الإتيان به شروعا في امتثالها، و حينئذ كما يتجه ذلك في قصد الغاية المأمور بها مقيدة بالطهارة، لكونه شروعا في امتثال أمرها، كذلك يتجه في المقام، فإن الوضوء يكون شروعا في امتثال كلا التكليفين- و هما الأمر بالمس، و النهي عن المس حال الحدث-

ص: 172

______________________________

لتوقف امتثالهما معا عليه، و إن لم يتوقف عليه امتثال كل واحد منهما وحده، فهو و إن لم يدع إليه كل من التكليفين وحده، إلا أنهما معا يدعوان إليه.

و الفرق في العبادية بين انفراد التكليف في الداعوية و اجتماع تكليفين أو أكثر عليها لا تساعد عليه المرتكزات جدا.

هذا كله، بناء علي أن عبادية الطهارات علي حدّ عبادية سائر العبادات راجعة إلي لزوم التقرب بالأمر أو بما يلازمه من الملاك، و قد سبق في المسألة الواحدة و السبعين في فصل شرائط الوضوء إنكار ذلك، و أن مرجع عباديته إلي لزوم إيقاعه بوجه قربي و لو لا بقصد أمر أصلا لا نفسي و لا غيري.

و من الظاهر أن قصد تجنب حرمة المس علي المحدث في ظرف الإتيان به كاف في التقرب و إن لم يكن المس مأمورا به، فضلا عما إذا كان مأمورا به. فالبناء علي صحة الوضوء بقصده متعين، و لا سيما مع ما يأتي من أن الوضوء بقصد غاية أخري مخالف للإطلاقات المقامية لبعض النصوص الواردة فيما يشبه المقام.

بقي شي ء، و هو أنه لا إشكال في عدم وجوب المس لنفسه بعنوانه الأولي.

و أما وجوبه بالنذر، فهو موقوف علي رجحانه ذاتا، و هو غير ثابت، و إن نسب لجماعة.

نعم، قد يجب باليمين بناء علي عدم اعتبار الرجحان في متعلقها. كما يستحب لانطباق عنوان راجح عليه كالتبرك. و قد يجب أو يستحب غيريا لمقدميته لأمر واجب- كإنقاذه من الهتك- أو راجح- كالتقبيل- كما أشرنا إليه، و ذكرنا عدم تقييده حينئذ بالطهارة، لعدم دخلها في ترتب غرضه.

و لو نذر في هذا الحال لم يبعد عدم انعقاد النذر، إلا أن ينصرف المنذور لخصوص ما يكون منه بطهارة، لأنه الراجح و غيره مرجوح و الجامع بينهما غير راجح، فتجب الطهارة غيريا، لتوقف المس المنذور عليها، فتأمل.

و أظهر من ذلك ما لو قيد المنذور بها صريحا، فيخرج عن محل الكلام السابق.

ص: 173

فإن أراد المس توضأ لغاية أخري (1)، و كذا غيره من الغايات التي لم يؤمر بها مقيدة (2) به، سواء لم يكن مأمورا بها أصلا (3)، أم كانت مأمورا بها لكنها غير مقيدة به (4)،

______________________________

(1) هذا موقوف علي صلوح تلك الغاية للداعوية استقلالا، لتوقف العبادية علي ذلك، و هو قد يتعذر أو يحتاج إلي مئونة شديدة.

(2) كما هو مقتضي الوجه المتقدم منه قدّس سرّه.

هذا، و نظير ذلك الوضوءات المستحبة للكون علي الطهارة في حال خاص، كالوضوء للنوم من الجنب و غيره، و للسعي في الحاجة و لجماع الحامل و معاودة الجماع و نحوها مما كان ظاهر أدلتها استحباب الطهارة حال الأمور المذكورة، لا استحباب الأمور المذكورة مقيدة بها، فإن إيقاع الوضوء قبل الانشغال بها لا يستند لأمر فعلي، لعدم فعلية الأمر به قبل الانشغال بها، فلا مجال لقصد امتثاله.

و حسن الإتيان به قبل تحقق الأمور المذكورة، لتوقف حصول الطهارة حينها علي ذلك، كسائر المقدمات المفوتة، لا يقتضي الأمر به شرعا، بل عقلا، لتوقف تحصيل الغرض عليه، نظير ما سبق.

لكن الإتيان بالوضوء للأمور المذكورة بغاية أخري لما كان محتاجا لعناية فهو لا يناسب إطلاق أدلتها المقامية جدا، حيث لم ينبه فيها إليه مع الغفلة عنه.

و هو شاهد بما سبق منا من أن عبادية الوضوء ليست علي حدّ عبادية سائر العبادات.

و يناسب ما ذكرنا ما يأتي في أحكام الجنب من وجوب التيمم للمحتلم في أحد المسجدين الشريفين للخروج منهما، كما ننبه عليه هناك إن شاء اللّه تعالي.

(3) كمس حواشي الكتاب بعنوانه الأولي، بناء علي كراهة مسها للمحدث.

(4) كمس حواشي الكتاب لو توقف عليه إنقاذه من الهتك.

ص: 174

أما الغايات المأمور بها مقيدة به فيجوز الإتيان به لأجلها، و يجب (1) إن وجبت و يستحب إن استحبت، سواء أتوقف عليه صحتها (2) أم كمالها (3).

مسألة 98 لا فرق في جريان الحكم المذكور بين الكتابة بالعربية و الفارسية

مسألة 98: لا فرق في جريان الحكم المذكور بين الكتابة بالعربية و الفارسية و غيرهما (4)،

______________________________

(1) يعني: غيريا.

(2) كالصلاة المستحبة.

(3) كدخول المساجد.

(4) لإطلاق النص، سواء كان التعميم بلحاظ أنواع الخط العربي، كالكوفي و النسخي و الفارسي، أم بلحاظ أسناخ الخطوط، كما لو كتب المصحف بالخط الانكليزي أو الصيني، لصدق المصحف في الجميع.

و إن كان الأمر في الأول أظهر، لصعوبة التفكيك عرفا بين أفراده، و لا سيما مع تأخر تصنيف الخطوط العربية عن عصر صدور النص.

نعم، لا يبعد اعتبار تعارف الخط في الثاني، و لا تكفي الكتابة المصطلحة لشخص خاص، لعدم وضوح صدق الكتابة عليها عرفا، بل هي من سنخ الإشارة عندهم.

و لعله إليه يرجع ما في المستند من التنظر في التعدي للخطوط المجعولة، و إلا فجميع الخطوط مجعولة مصطلحة بعد العدم.

و أما تنظره في الكتابة المقطعة، فإن كان مراده بها ما يتعارف في كتابة كثير من اللغات من عدم اتصال حروف الكلمة، فهو ضعيف، لصدق المصحف مع الكتابة بها.

و إن كان مراده بها الخروج عما هو المتعارف في الكتابة العربية من اتصال حروف الكلمة غالبا، فهو لا يخلو عن وجه بلحاظ ما سبق من عدم الاعتداد بالخط الشخصي غير المتعارف، و إن كان لا يخلو عن إشكال بلحاظ صدق الكتابة هنا،

ص: 175

و لا بين الكتابة بالمداد و الحفر و التطريز و غيرها (1).

______________________________

و التقطيع أشبه بالخطإ الإملائي الذي سبق عدم قادحيته. فلاحظ.

(1) و ما في المستند من الإشكال في حرمة مس الكتابة البارزة- كالتطريز- ضعيف بعد شمول الإطلاق لها، لصدق المصحف مع الكتابة بها.

و منه يظهر أنه لا مجال للإشكال في الكتابة المجوفة، الحاصلة من إحاطة الخط الأسود بصورة الكلمة.

هذا، و قد استشكل شيخنا الأعظم قدّس سرّه في حرمة مس الكتابة المحكوكة- التي يراد بها ظاهرا الكتابة بالحفر- لعدم قابلية الكتابة للمس، بل منع منه في المستند، لخروجه عن المتعارف. لكن التعارف لا يصلح لتقييد الإطلاق.

و يتحقق مس الكتابة المذكورة بمس القعر.

نعم، لا يتحقق مع عدم الوصول للقعر، كما لا يتحقق في التخريم الذي لا قعر له، فيتوقف التعدي لهما علي فهم عدم الخصوصية من النص، بحمل المس فيه علي ما يعم وضع البدن علي موضع الكتابة، و هو لا يخلو عن إشكال.

و أشكل منه رسم الكتابة الحاصل من تخلل النور في الكتابة بالتخريم أو التجسيم، لوضوح أن المس ملازم لانعدام رسم الكتابة فيها، فلا يصدق المس لعدم الموضوع، و إن ادعي سيدنا المصنف قدّس سرّه شمول الإطلاق لها، و لا سيما مع أن مورد النص المصحف الذي لا تتحقق كتابته في مثل ذلك.

علي أن من القريب انصراف الكتابة عن مثل ذلك مما لا استقرار له في الوجود، فيجوز تنجيس الموضع و إن حرم تنجيس القرآن.

و أما الكتابة المقلوبة فقد يشكل الأمر فيها، لا لما في المستند من خروجها عن المتعارف، لما سبق من عدم الخروج عن الإطلاق بذلك، بل لعدم وضوح صدق المصحف بالكتابة بها. إلّا أن يدعي إلغاء خصوصيته عرفا، و أن المعيار علي مس كتابة القرآن الصادقة بها.

ص: 176

كما لا فرق في الماس بين ما تحله الحياة و غيره (1).

______________________________

و لا يبعد جريان ما تقدم في الكتابة المقطعة هنا.

و أما الكتابة بما لا يظهر و إن ظهر أثره بعد عمل- كالكتابة بماء البصل التي تظهر بمقابلة النار- فلا يبعد قصور النص عنها قبل الظهور، فيجوز مسها حينئذ، لا لخروجها عن المتعارف- كما في المستند- لما سبق، بل لانصراف الكتابة لما يكون له نحو من الوجود العرفي، و إلا لزم شمولها لما لا يظهر أصلا، كالكتابة بالماء بعد الجفاف و إن اشتمل علي بعض الأجزاء التي لا تتبخر و لا تظهر.

(1) كما صرح به غير واحد من المتأخرين، و هو مقتضي إطلاق المشهور.

و يقتضيه إطلاق النص، لصدق المس بالأمرين عرفا.

خلافا لما عن بعضهم- بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه المحكي عن جماعة- من الاختصاص بما تحله الحياة. إما لعدم شمول أحكام البدن له، حيث لا يتنجس بالموت- كما أشار إليه في الحدائق- أو لاختصاص المس بما تحله الحياة انصرافا أو وضعا. و لعله لذا تردد شيخنا الأعظم قدّس سرّه في السن و الظفر.

لكن الأول قياس. و الثاني ممنوع، بل لم يظهر دعواه من أحد.

نعم، عن التذكرة و المهذب البارع التردد في اختصاص المس بباطن الكف أو عمومه لأجزاء البدن.

و كأن منشأه ما في بعض كلمات اللغويين، ففي النهاية: «و يقال: مسست الشي ء أمسه مسا إذا لمسته بيدك، ثمَّ أستعير للأخذ و الضرب لأنهما باليد، و أستعير للجماع لأنه لمس.»، و في لسان العرب: «و المس مسك الشي ء بيدك.

و يقال: مسست الشي ء.» إلي آخر ما تقدم من النهاية، و في القاموس فسر المس باللمس و فسر اللمس بالمس باليد، و في مجمع البحرين و الدر النثير للسيوطي:

«المس اللمس باليد».

لكنه- مع عدم اختصاصه بباطن الكف- يشكل الخروج به عن ظهور المس

ص: 177

نعم، لا يجري الحكم في المس بالشعر (1).

______________________________

عرفا في العموم، المؤيد بإطلاقه و لو مجازا علي غير المس باليد، كالجماع، و المس بالعذاب و الطيب و الماء، و مس الشيطان أو الجنون، و الرحم الماسة، و نحو ذلك مما يناسب عمومه لمطلق الملاقاة للشي ء، بل في مجمع البحرين أيضا:

«و يقال: مسسته إذا لاقيته بأحد جوارحك»، و في المنتهي أن العموم أقرب من حيث اللغة و ظاهر المعتبر و الروض أنه المتعين لغة.

علي أن التعدي لغير اليد بفهم عدم الخصوصية قريب جدا، و لذا لا يظن منهم الاقتصار عليه في مس الميت.

نعم، لو فرض الشك في ذلك جاز المس، للشك في أصل التكليف الذي هو مورد البراءة.

و ما في الجواهر من وجوب الاجتناب عما يشك في صدق المس عليه، للمقدمة، ضعيف جدا.

(1) كما في مفتاح الكرامة و المستند و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم و غيرها، كما ذكروا ذلك أيضا في مس الميت.

و العمدة فيه عدم وضوح شمول المس له، بل الظاهر عدمه، لخروجه عن البدن عرفا، بل هو نظير الحاجب و إن كان نابتا فيه.

من دون فرق بين الشعر الكثيف و الخفيف، خلافا لبعض مشايخنا في الثاني، لدعوي صدق المس بالعضو المشتمل عليه، كاليد و الوجه.

و هي ممنوعة، إلا أن يكون المراد به ما يعم المس به مع الحاجب، في قبال الشعر الكثيف، حيث قد لا يصدق معه المس بالعضو و لو مع الحاجب، بل مس الشعر لا غير، كما لو أخذ بنفسه و جعل علي الممسوس.

لكن صدق المس مع الحاجب لا يكفي في التحريم، لظهور دليله في المس بدونه.

ص: 178

مسألة 99 الألفاظ المشتركة يعتبر فيها قصد الكاتب

مسألة 99: الألفاظ المشتركة يعتبر فيها قصد الكاتب (1)،

______________________________

مع أنه لا يقتضي التفصيل بين الكثيف و الخفيف، بل بين نحوي المس للشعر، لتوقف صدق مس العضو و لو مع الحاجب علي نحو من التضام بينه و بين الممسوس، و هو غير لازم في المس بالشعر الخفيف و الكثيف معا.

(1) كما في الجواهر و مصباح الفقيه و غيرهما، لعدم صدق كتابة القرآن بغير ذلك، لأن إضافتها للقرآن ليست بأولي من إضافتها لغيره بعد فرض الاشتراك، كما هو الحال في القراءة و التصور في الذهن.

هذا، و في الجواهر: «و هل يجري نحو ذلك منه في الكلمات و الحروف و أبعاضها؟ إشكال، سيما في الأخيرين، و سيما مع العدول عنه و جعله جزء كلمة أخري أو كلام آخر».

و كأن مراده ما أشار إليه الفقيه الهمداني من الإشكال في صدق القرآن علي الكلمة التي وجدت من كاتبها بقصد كتابة القرآن من دون أن ينضم إليها ما يمحّضها للقرآنية.

و الظاهر تمامية ما ذكره بالإضافة لجزء الحرف لعدم حكايته عن شي ء، بل و كذا بالإضافة لجزء الكلمة من حروف المباني، لعدم استقلال المحكي به، بحيث يصدق عليه أنه جزء من القرآن عرفا.

نعم، لا مجال لذلك في الكلمة التامة لاستقلالها و قيامها بنفسها، فلا وجه لعدم صدق القرآن عليها، سواء رجع إلي دعوي توقف صدق القرآن علي الانضمام أم إلي دعوي انسلاخه عنه بعد صدقه عليه بمجرد الإعراض عن الانضمام.

إلا أنه قد يستشكل في عموم النص له، لاختصاص مورده بالمصحف.

و التعدي عنه لأبعاض القرآن بفهم عدم الخصوصية بقرينة وروده مورد التعظيم لو تمَّ- كما سيأتي- مختص بما إذا كان البعض جملة قرآنية ذات معني

ص: 179

بل كذا المختصة علي إشكال ضعيف (1)

______________________________

مستقل، لأنه المتيقن من القرينة المذكورة، دون الكلمات المتفرقة.

و أما ما أشير إليه في ذيل كلامه من العدول بالمكتوب عن القرآنية و جعله جزء كلام آخر، فليس المعيار فيه علي قلة المكتوب و كثرته، بل علي أن المدار في إضافة الكتابة لما تحكي عنه علي قصده منها حين حدوثه، كما في القراءة، أو يكفي قصده منها بعد ذلك إذا ضم إليه التغيير فيها بما يناسبه من إضافة أو حذف.

و لا يبعد الثاني، لأن حكاية الكتابة عما تضاف إليه استمرارية، تبعا لاستمرار وجودها، فمع التغيير فيها تتبدل إضافتها تبعا لتبدل حكايتها، بخلاف القراءة، فإنها حيث لا يكون لها استمرار تكون إضافتها تابعة لحال حدوثها، و لا تنقلب عما وقعت عليه.

و عليه، فكما يجوز مس ما عدل به عن القرآن لغيره لا يجوز مس ما عدل به إلي القرآن عن غيره، و إن لم يخل عن الإشكال مع كثرته، فلاحظ.

(1) لعله يرجع إلي أنه مع فرض الاختصاص بالقرآن تتعين الكتابة له، من دون تعيين.

و لعله لذا خص اعتبار القصد بالمشترك في الجواهر و العروة الوثقي، بل صرح بعض مشايخنا بعدم اعتباره في المختص.

لكنه إنما يتم لو قصد بالكتابة الحكاية عن كلام متقرر، لفرض عدم التقرر لغير القرآن بمقتضي فرض الاختصاص، و هو راجع لقصد القرآن إجمالا، فيخرج عن محل الكلام، أما لو لم يقصد ذلك، بل قصد محض كتابة الكلام، فلا وجه لتعينه للقرآن، بل يكون كتابة للمماثل، كما هو الحال في القراءة أيضا.

و بعبارة أخري: لا يكفي في صدق القراءة للكلام المتقرر في نفسه محض التماثل بين الألفاظ، كما لا يكفي في صدق الكتابة له محض رسم الحروف المطابقة له، بل لا بد مع ذلك من قصد الحكاية عنه به بحيث تجعل الألفاظ

ص: 180

و إن شك في قصد الكاتب جاز المس (1).

______________________________

و النقوش أداء له، فإن هذا هو المعيار في صحة إضافة القراءة و الكتابة له عرفا، بحيث تكون من أنحاء وجوده، و إن كانت مباينة له حقيقة، و بدونه يكون المقروء و المكتوب مباينا له و إن كان مماثلا، كما يظهر بملاحظة الفرق بين إنشاد شعر الغير و إنشاء مثله لتوارد الخاطر.

و لا خصوصية للاشتراك في ذلك، بل يجري مع الاختصاص أيضا.

و قد تعرض لذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه في مسائل القراءة في الصلاة.

و أما ما ذكره في المقام من صدق القراءة و الكتابة للكلام مع عدم قصده إذا كانت الإضافة بمعني اللام و توقف صدقهما علي القصد إذا كانت بنحو إضافة الفعل للمفعول، و أن جواز المس مع عدم القصد لعدم ثبوت إرادة الإضافة بالمعني الأول من النص.

فهو غير ظاهر، بل الظاهر توقف الإضافة بالمعنيين علي القصد لخصوصية في المورد- كما سبق- و إلا فإضافة الفعل للمفعول لا تتوقف علي القصد كالإضافة بمعني اللام. و ليس الفرق بينهما في المقام إلا في لحاظ القراءة و الكتابة في الأولي مصدرا، و في الثانية بمعني الألفاظ و النقوش المقروءة و المكتوبة، و مرجع تحريم القراءة و الكتابة أو كراهتهما إلي الأول، كما أن موضوع المس في المقام هو الثاني.

(1) كما في الجواهر، لأصالة البراءة، بل لاستصحاب عدم كون المكتوب قرآنا، بناء علي جريان استصحاب العدم الأزلي.

و أما استصحاب عدم قصد الكاتب القرآن إلي حين الكتاب، فهو من الأصل المثبت.

بقي في المقام فروع أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه، و لم نجد فيما تقدم مناسبة لذكرها، فالمناسب اختتام الكلام في المس بها.

الأول: لا فرق بين المس ابتداء و استدامة، فيزداد العصيان باستمرار المس،

ص: 181

______________________________

و لو مس الغافل أو المتطهر ثمَّ التفت أو أحدث وجبت المبادرة برفع اليد، لأن النص و إن تضمن النهي عن أن يمس، و المتيقن من مدلول هيئة الفعل الحدوث، إلا أن المنصرف من النهي كون منشئه مبغوضية نتيجة المصدر القابلة للاستمرار من دون خصوصية لحال الحدوث، و لا سيما في المقام، بلحاظ مناسبته لارتكاز كون منشأ الحكم هو التعظيم.

الثاني: لا فرق في التحريم بين كون الممسوس جزءا من القرآن مكتوبا في ضمن المصحف التام و كونه جزءا مكتوبا في ضمن كتاب آخر أو مستقلا علي قرطاس أو ثوب أو ستر أو غيرها، لأن النص و إن اختص بالأول، إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بإلغاء الخصوصية المذكورة و أن المدار علي مس القرآن.

لكن عن الشهيد في الذكري أنه يجوز للجنب مس كتب الحديث و الدراهم المكتوب عليها القرآن، لعدم صدق المصحف، و للحرج، و لبعض النصوص الواردة في مس الجنب للدراهم.

و يعتبر ضعف الأول مما سبق.

و الحرج الشخصي غير مطرد، و النوعي- لو تمَّ- غير صالح للرفع.

و أما النصوص، فهي- لو تمت- أخص من المدعي، لورودها في الدراهم، و هي مورد للابتلاء الشائع، حيث يكون التحريم فيها منشأ للحرج النوعي، و معه لا مجال لإلغاء خصوصية موردها. غاية الأمر التعدي للدنانير لصعوبة التفكيك بينها و بين الدراهم عرفا، بل تفهم من النصوص تبعا.

اللهم إلا أن يقال: احتمال خصوصية الدراهم و إن كان معتدا به بنحو يمنع من استفادة عموم الترخيص لكل ما يكون في غير المصحف من نصوصها، إلا أنه قد يمنع أيضا من إلغاء خصوصيته مورد نصوص المنع، فلا يستفاد منها العموم لغير المصحف، فتأمل.

و كيف كان، فاللازم النظر في النصوص الواردة في الدراهم، و هي صحيح [1]

______________________________

[1] بناء علي ما تقدم في بحث تحديد العدالة من وثاقة احمد بن محمد بن يحيي العطار.

ص: 182

______________________________

إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السّلام: «سألته عن الجنب و الطامث يمسان أيديهما [بأيديهما. يب، صا] الدراهم البيض. قال: لا بأس» «1».

و ما رواه في المعتبر، قال: و في جامع البزنطي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض و هو جنب؟ فقال: و اللّه إني لأوتي بالدرهم فآخذه و إني لجنب. و ما سمعت أحدا يكره من ذلك [شيئا إلا. ظ] ان عبد اللّه بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا يقول: جعلوا سورة من القرآن في الدرهم، فيعطي الزانية و في الخمر و يوضع علي لحم الخنزير». و في كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن أبي الربيع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الجنب يمس الدراهم و فيها اسم اللّه و اسم رسوله. فقال: لا بأس ربما فعلت ذلك» «2».

و حملها علي ما إذا خلت الدراهم عما يحرم مسه علي الجنب و الحائض- مع امتناعه في الأخيرين- بعيد في نفسه جدا، إذ لا منشأ لتوهم حرمة مسها حينئذ ليكون مثارا للسؤال و يحتاج للدفع، بل الظاهر اشتمال جميع الدراهم الإسلامية الرائجة في عصر صدور الروايات علي شي ء من القرآن و علي بعض أسمائه تعالي و أن الدراهم البيض في قبال الدراهم السود غير الإسلامية.

و مثله حملها علي مس ما عدا الكتابة منه، لأن إهمال التنبيه علي ذلك مع ما فيه من المؤنة عملا، بل الظاهر كونه المنشأ للسؤال، موجب لقوة ظهورها في جواز مس الكتابة، بل هو كالمتيقن منها.

و أما معارضتها بموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يمس الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّه تعالي، و لا يستنجي و عليه خاتم و فيه اسم اللّه، و لا يجامع و هو عليه، و لا يدخل المخرج و هو عليه» «3» فهي غير قادحة في الاستدلال بها، لإمكان الجمع بينه و بينها بحمله علي الكراهة المناسبة لسياقه لتعينها في بقية

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) المعتبر ص: 50 راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث 36، 4.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 183

______________________________

ما اشتمل عليه من الاحكام.

نعم، قد يوهن الاستدلال بها بلحاظ ظهور إعراض الأصحاب عنها، لعدم تعرضهم لاستثناء موردها من عموم حرمة المس، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لكن بعض الأصحاب قد أهمل ذكر حرمة المس، و بعضهم لم يطلق حرمته كي يحتاج للاستثناء، بل اقتصر علي ذكر المصحف، كما هو ظاهر الكليني و الصدوق.

و لعل عدم تنبيه بعضهم علي الاستثناء للغفلة عنه بسبب السيرة التي سيأتي الكلام فيها، و لم يظهر التعميم إلا من بعض القدماء و المتأخرين كالشيخين في المقنعة و التهذيب و غيرهما، و لعله يبتني علي الاستدلال بالموثق أو العمومات، لتخيل لزوم تقديمها علي النصوص المتقدمة، و مثل ذلك لا يكفي في تحقق الإعراض الموهن للنصوص، و لا سيما مع قرب كون المس مقتضي سيرة المتشرعة، لاشتمال جميع الدراهم و الدنانير في أكثر عصور الأئمة عليهم السّلام علي ما يحرم مسه علي المحدث، فلو كان البناء علي الاجتناب لزم الهرج و المرج و ناسب كثرة الأسئلة عن ذلك و عن فروعه، فمن القريب جدا البناء علي الجواز و استثنائها من عموم حرمة المس لو تمَّ.

ثمَّ إن الكلام في بعض الفروع الآتية و المتقدمة يبتني علي ثبوت العموم المذكور.

الثالث: الظاهر حرمة مس الصورة الفتوغرافية لكتابة القرآن الكريم، لصدق الكتاب عليها، الذي هو موضوع النهي في حديث أبي بصير الذي هو عمدة أدلة المقام، و إن فرض عدم صدق الكتابة، بل لا يبعد استفادة ذلك مما تضمن عنوان الكتابة و لو بإلغاء خصوصيتها عرفا، لمناسبته لاحترام القرآن الذي هو المنشأ للحكم ارتكازا.

الرابع: لا إشكال في ارتفاع موضوع المس المحرم بانعدام مادة الكتابة حقيقة بالمحو، أو عرفا بتلويث الموضع بالحبر بنحو يستولي علي

ص: 184

______________________________

الكتابة و يستوعبها.

بل و كذا في الشطب بنحو يضيع الكتابة، لكثرة الخطوط الواردة عليها، لعدم وضوح صدق الكتاب عرفا، و لأن مورد النص هو الكتابة المقروءة.

و لا مجال لاستصحاب حرمة مسه، لتعدد الموضوع، و هو المس، لمباينة المس حال اليقين للمس حال الشك، و لا ينفع فيه اتحاد الممسوس حقيقة، لأنه ليس موضوعا للمستصحب و هو الحرمة.

نعم، الظاهر عدم كفاية الشطب بخطوط قليلة تتميز معها الكتابة القرآنية، لشمول النص لذلك.

و أما انعدام هيئة الكتابة بتقطيع الجسم الذي كتب عليه و تفريق أجزائه فلا يبعد جواز المس معه أيضا، لخروجه عن المتيقن من النص، كما تقدم في المشطوب.

و منه يظهر جواز مس الباقي بعد محو البعض، لانعدام الهيئة بانعدام بعض المادة.

نعم، المدار في زوال الهيئة المسوغ للمس علي ارتفاع هيئة ما يحرم مسه إما الحرف أو الكلمة أو الجملة علي ما تقدم في أول المسألة التاسعة و التسعين.

الخامس: يحرم المس اللازم من محو القرآن بالبدن، لإطلاق دليله.

نعم، يجوز محو الباقي مما قد محي بعضه إذا كان بالمقدار الذي يجوز مسه، علي ما تقدم التنبيه عليه في الفرع السابق.

السادس: في جواز كتابة المحدث القرآن بإصبعه بمثل الخط في الرمل و عدمه وجهان لم يستبعد الأول منهما في العروة الوثقي و جزم به في المستند، لدعوي: أن الخط يوجد بعد المس. و منع من ذلك بعض مشايخنا، لدعوي التقارن بينهما، و أن الترتب بينهما ليس زمانيا، بل رتبيا، و لا عبرة به.

هذا و لا يخفي أن وضع الإصبع علي الأرض يحقق جزءا من الكلمة، فيتحقق المس له متأخرا عن حدوثه آنا ما ثمَّ تتمم الكلمة بإمراره فيها مماسا لكل

ص: 185

______________________________

جزء منها بعد حدوثه، فإن عمم موضوع حرمة المس لأجزاء الحرف كان البدء بالكتابة محرما، و إن اعتبر فيه تمامية الحرف حرم إتمامه، و إن اعتبر فيه تمامية الكلمة حرم إتمامها، و هكذا، فيبتني الكلام في ذلك علي ما تقدم في أول المسألة التاسعة و التسعين.

اللهم إلا أن يدعي خروج المس المذكور عن المتيقن من النص، و لا سيما مع اختصاصه بمس المصحف المكتوب، و إلغاء خصوصيته بنحو يشمل محل الكلام غير ظاهر.

السابع: الظاهر جواز كتابة القرآن و نحوه علي بدن المحدث له و لغيره، لعدم صدق المس بها، إذ لا يراد به إلا مس موضع الكتابة بما يباينه من الجسد، و هو غير حاصل فيه. و التعدي له من النص بفهم عدم الخصوصية أو بتنقيح المناط غير ظاهر.

الثامن: الظاهر عدم وجوب منع غير المكلف من المس حال الحدث، كما صرح به في الروض و الجواهر و حكي عن جماعة من المتأخرين.

خلافا للمعتبر و المنتهي و محكي السرائر و التذكرة و التحرير و الذكري و غيرها، و أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و قد يستدل لهم- كما في كلام غير واحد- بظهور الآية في تكليف الكل تكليفا كفائيا بعدم تحقق مس المحدث المستلزم لوجوب منع المكلفين له من المس و إن لم يكن مكلفا بنفسه، و كأنه لإطلاق المكلف المستفاد من حذف المتعلق، و إطلاق المس المكلف به، و عدم توجيه الخطاب لكل شخص بتحريم مس نفسه بنحو الانحلال.

و فيه- مضافا إلي ما سبق من منع الاستدلال علي أصل الحكم بالآية الشريفة- أن لازمه وجوب منع من لم يتنجز عليه التحريم من المكلفين، كالمحدث المستصحب للطهارة، أو المعتقد بها، أو بعدم كون الممسوس قرآنا، أو بعدم تحقق المس منه، بل وجوب منع من يكون التكليف بحرمة المس في حقه حرجيا أو

ص: 186

______________________________

يكون مضطرا للمس و لو برفع ضرورته، و لا يظن منهم البناء علي ذلك، و ما ذلك إلا لظهور كون التحريم انحلاليا عينيا في حق كل مكلف بالإضافة لخصوص مسه، فلا يجب عليه منع غيره إلا من باب النهي عن المنكر، المشروط بفعلية التكليف و تنجزه في حق الغير.

و ليس تنزيل الآية علي ذلك بعيدا، بل لعله المنصرف من التكليف بالماهية التي يختص كل مكلف بفرد منها، لاحتياج تكليف الإنسان بفعل غيره لعناية يبعد حمل الإطلاق عليها، نظير قوله تعالي وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «1» حيث لا يراد بها تكليف الكل بتحقيق الحج من المستطيع، بل تكليف كل مستطيع أن يحج بنفسه.

و أما الاستدلال بمنافاته للتعظيم، فضعفه ظاهر، لعدم وضوح منافاة مس الحدث للتعظيم عرفا، مضافا إلي عدم وجوب التعظيم، بل تحرم الإهانة غير الحاصلة بذلك، و هو لا ينافي ابتناء أصل الحكم علي التعظيم، بل تحرم الإهانة غير الحاصلة بذلك، و هو لا ينافي ابتناء أصل الحكم علي التعظيم ارتكازا، إذ يراد به نحو من التعظيم الذي يدركه الشارع، و لا طريق لنا لتحديده إلا من طريق الحكم، و لا مجال لإدراك الحكم من طريقه.

و مثله ما في الحدائق من أن عدم توجه التكليف للصبي لا ينافي توجهه لوليه، لاندفاعه بعدم الدليل علي قيام الولي مقامه في التكليف، بل يقطع بعدمه في سائر الموارد، و لا يقتضيه دليل المقام الظاهر في تكليف الماس نفسه.

و من هنا تعين عدم وجوب المنع لا علي الولي و لا علي غيره، كما تناسبه السيرة، لكثرة الابتلاء من الصدر الأول بتعليم الصبيان القرآن المستلزم لتعرضهم للمس، فلو وجب منعهم لزم الهرج و المرج، و لكثر السؤال عن ذلك و عن فروعه بنحو لا يخفي.

كما أن الظاهر جواز التسبيب لمسهم بتحقيق الإمساس- فضلا عن تحقيق بعض مقدماته، كمناولة المصحف- لظهور دليل المقام في تحريم المس علي

______________________________

(1) سورة آل عمران: 97.

ص: 187

______________________________

المحدث، لا إمساسه، و عدم الدليل علي حرمة التسبيب لإيقاع الحرام بالذات ممن لم يخاطب به.

التاسع: صرح غير واحد بجواز مس غير الخط من ورق المصحف و جلده و حمله من غير وضوء، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه، بل ادعي الإجماع عليه في المعتبر و المنتهي و استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه.

و قد يظهر جواز المس من موثق أبي بصير، لأن العدول فيه عن النهي عن المصحف مع تضمن السؤال القراءة فيه إلي النهي عن مس الكتاب قد يظهر في إرادة خط القرآن و اختصاص التحريم به. بل هو صريح مرسل حريز.

و من هنا يتعين حمل خبر إبراهيم بن عبد الحميد علي الكراهة.

هذا، و في صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «أنه سأله عن الرجل أ يحل له أن يكتب القرآن في الألواح و الصحيفة و هو علي غير وضوء؟ قال: لا» «1».

و يظهر من بعضهم- كالعلامة في المنتهي- حمل النهي علي كونه عرضيا بلحاظ ملازمة الكتابة غالبا للمس، حيث استدل به علي حرمة مس الكتابة علي المحدث.

فإن أمكن ذلك، و إلا تعين حمله علي الكراهة، لظهور المفروغية عن عدم تحريم كتابته علي المحدث.

مضافا إلي صحيح داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن التعويذ يعلق علي الحائض. فقال: نعم لا بأس. قال: و قال: تقرؤه و تكتبه و لا تصيبه بيدها» «2» و نحوه مرسله «3»، لتعذر حمله علي التعويذ بغير القرآن، لندرته.

العاشر: لا ينبغي التأمل في جواز مس ترجمة القرآن، لقصور النص عنها، بل هي كتفسيره باللغة العربية.

كما أن الظاهر عموم حرمة مس اسمه تعالي- لو تمت- لأسمائه بغير العربية

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 188

مسألة 100 يجب الوضوء إذا وجبت إحدي الغايات المذكورة آنفا

مسألة 100: يجب الوضوء إذا وجبت إحدي الغايات المذكورة آنفا، و يستحب إذا استحبت (1).

______________________________

بالنظر للأدلة المتقدمة.

نعم، لو كانت مستفادة من دليل لفظي فقد يدعي انصرافه للاسم العربي، و إن لم يخل عن الإشكال.

الحادي عشر: بناء علي حرمة مس المحدث اسمه تعالي فقد يدعي تعميمه لما يقع في ضمن أسماء الأعلام المركبة تركيبا إضافيا، كعبد اللّه و عبد الرحمن، لعدم انسلاخها عن الحكاية عن ذاته المقدسة في الحال المذكور في طول حكايتها عن المسمي بها، لعدم تجريد التركيب المذكور عن معناه، و لذا ابتنت التسمية علي الإشارة لمضمونه، و ليست كالتسمية بأسماء المعصومين عليهم السّلام حيث لا يراد بها إلا التبرك بمشابهة أسمائهم مع تجريدها عن معانيها الاولي.

و يشكل: بأن المعني الأصلي للتركيب المذكور إنما يلحظ داعيا للتسمية، نظير التسمية بمثل (فرح) بلحاظ الفرح بولادة المسمي، لا علي أن يبقي المعني الأصلي معني للاسم بعد التسمية، بحيث يحكي عنه في طول حكايته عن المسمي، فيطلقه من لا يعرف المعني الأصلي بالنحو الذي يطلقه من يعرفه.

نعم، قد يقال: إن الاسم الشريف و إن لم يحك عن الذات المقدسة حال الاستعمال إلا أن الاستعمال لما ابتني علي الوضع، و كان مبني الواضع علي تعيين الاسم الشريف من حيثية كونه اسما له تعالي، فهو لا ينسلخ عن العنوان المذكور بالاستعمال، بل يصدق عليه أنه اسمه تعالي، فيلحقه حكمه، كما يناسبه الارتكاز، فتأمل، و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الثاني عشر: لا يجوز مس المحدث قبل إكمال الوضوء حتي بالعضو الذي غسل، كما صرح به غير واحد، لإطلاق النص، لعدم صدق كونه علي وضوء إلا بالتمام، كما هو ظاهر.

(1) الوجوب و الاستحباب المذكوران غيريان مولويان، بناء علي ثبوت

ص: 189

و قد يجب بالنذر و شبهه (1). و يستحب للطواف المندوب (2) و لسائر أفعال الحج (3)،

______________________________

الأمر الغيري بالمقدمة، و بناء علي عدم ثبوته- كما هو الظاهر- فهما عقليان من شؤون إطاعة الأمر النفسي.

بل سبق منه قدّس سرّه في المسألة السابعة و التسعين في توجيه عدم جواز جعل المس غاية للوضوء أن الأمر بالمس لا يقتضي الأمر الغيري بالوضوء، لعدم كونه مقدمة له، بل يكون مأمورا به عقلا للجمع بين غرضي المولي.

و كيف كان، فيكفي قصد التقرب بأمر الغاية في عبادية الوضوء مطلقا، علي ما سبق هناك.

(1) و هما العهد و اليمين.

لكن لا يخفي أنها لا تصلح لتشريع ما ليس بمشروع في نفسه، و حيث يأتي منه قدّس سرّه إن شاء اللّه تعالي عدم مشروعية الوضوء لنفسه، بل للغايات المترتبة عليه، فلا يتعلق النذر و شبهه به، إلا أن يرجع لنذر إحدي غاياته، فيجب تبعا لها عقلا أو شرعا.

اللهم إلا أن يقال: تعلق أحد هذه الأمور بالوضوء لإحدي الغايات يقتضي وجوبه ذاتا و وجوبها عرضا لتحقيق قيد الواجب، أما إذا تعلق بالغايات فهو يقتضي وجوبها ذاتا و وجوبه عرضا، لأنه مقدمة الواجب، و الفرق بينهما ظاهر.

لكن الفرق المذكور- لو تمَّ جمودا علي اللفظ- إنما يتجه فيما لا يعتبر في متعلقه الرجحان- كما قيل به في اليمين- أما ما يعتبر في متعلقه الرجحان- كالنذر- فلا مجال لتعلقه بالوضوء ذي الغاية، لعدم رجحانه إلا عرضا، و ليس الراجح إلا غايته، فلا ينعقد إلا إذا تعلق بها، كما ذكرنا.

(2) كما تقدم في أول الفصل.

(3) فيكون شرطا لكمالها، لا مستحبا مستقلا حينها، لأنه المنسبق من

ص: 190

و لطلب الحاجة (1)،

______________________________

صحيح معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا بأس أن يقضي المناسك كلها علي غير وضوء إلّا الطواف بالبيت، و الوضوء أفضل» «1» و خبر يحيي الأزرق: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: رجل سعي بين الصفا و المروة، فسعي ثلاثة أشواط أو أربعة ثمَّ بال ثمَّ أتم سعيه بغير وضوء. فقال: لا بأس. و لو أتم مناسكه بوضوء لكان أحب إلي» «2» و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يصلح أن يقضي شيئا من المناسك و هو علي غير وضوء؟ قال: لا يصلح إلا علي وضوء» «3» و ما ورد في السعي و الرمي «4». فراجع.

(1) كما صرح به غير واحد. ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سمعته يقول: من طلب حاجة و هو علي غير وضوء فلم تقض فلا يلومن إلا نفسه» «5».

و مرسل الصدوق: قال الصادق عليه السّلام: «إني لأعجب مما يأخذ في حاجة و هو علي وضوء كيف لا تقضي حاجته» «6».

و عن بعض المتأخرين طعن الاستدلال بذلك بأنه إنما يدل علي عدم قضاء الحاجة بدون الوضوء، لا استحبابه له.

و دفعه في الحدائق و غيرها بأن الظاهر من ذلك الحث عليه شرعا، نظير ما ورد في التحنك من بيان فوائده، حيث يستفاد منه حث الشارع عليه و استحبابه.

لكن لا يخفي أن التنبيه علي الأثر الوضعي للشي ء إنما يكشف عن الأمر

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 8.

(4) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب السعي و باب: 2 من أبواب رمي جمرة العقبة.

(5) الوسائل باب: 6 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 6 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 191

______________________________

المولوي به أو النهي، بلحاظ خروج بيان الآثار الوضعية عن وظيفة الشارع، فالمناسب حمل بيانها منه علي اهتمامه بالشي ء بإحداث الداعي الدنيوي له أو بيان الحكمة المقتضية للأمر به مولويا، و كلاهما لا ينفع في المقام بعد الأمر بالوضوء للكون علي الطهارة، حيث لا طريق معه لإحراز خصوصية السعي للحاجة في الأمر زائدا علي الكون علي الطهارة، بل لعل بيان الأثر المذكور لبيان حكمته أو لتأكيد الداعي له كما هو الظاهر.

و بعبارة أخري: لعل غرض الشارع الحث علي الكون علي الطهارة- المعلوم مطلوبيته له- ببيان أثره الدنيوي، و هو تيسر الحاجة معه، لا الحث علي خصوصية كون طلب الحاجة عن وضوء ببيان الأثر المذكور له، و ليس هو كطلبه حال السعي للحاجة ظاهرا في خصوصية الحال المذكور في المحبوبية، و تميزه عن بقية الأحوال التي يستحب فيها الكون علي الطهارة.

هذا، و قد يستشكل في الوضوء بداعي قضاء الحاجة، لعدم كونه داعيا قريبا محققا لعبادية الوضوء، بل لا بد من استقلال الأمر الشرعي بالداعوية، و هو الأمر به للكون علي الطهارة أو للسعي في الحاجة علي الكلام في ذلك و إن انضم إليه قصد انقضاء الحاجة علي ما سبق في مبحث النية.

لكن ظاهر النص دافع للإشكال المذكور، لظهور أن الغرض من التنبيه فيه علي قضاء الحاجة إحداث الداعي للوضوء، و مع حدوث الداعي المذكور يحتاج استقلال غيره في الداعوية إلي عناية لو كانت لازمة كان المناسب جدا التنبيه عليها.

و ربما يوجه ذلك بأن المناسبات الارتكازية لا تساعد علي كون قضاء الحاجة أثرا وضعيا للوضوء لا دخل فيه للقرب منه تعالي، نظير تأثير الغسل للتنظيف، و شرب الماء رفع العطش، بل هو ارتكازا من سنخ الفيض الإلهي علي العبد جزاء لتطهره الذي هو محبوب له تعالي.

فهو من سنخ الثواب الدنيوي الذي هو كالثواب الأخروي كاف في العبادية

ص: 192

و لحمل المصحف الشريف (1)، و لصلاة الجنائز (2)،

______________________________

علي ما تقدم في مباحث النية. فراجع و تأمل.

و لو لا ذلك أشكل قصده، لعدم كناية قصد الفائدة الدنيوية في العبادية، و إن أمكن أن يكون منشأ للثواب لو رجع إلي تصديق الشارع في ترتبه و التسليم له ثقة بمعرفته و شفقته، الذي هو حسن كحسن الظن به في قضائه و معرض لرحمته و لطفه بعبده.

(1) يظهر مما تقدم في الفرع التاسع وجه كراهة حمله و مس غير الخط منه و كتابته للمحدث، لا استحباب الوضوء لهذه الأمور، لتضمن النص النهي عنها حينه.

و ما في الجواهر من تبادر الاستحباب من عبارته، غير ظاهر.

(2) فقد صرحوا باستحباب الطهارة لها، بل في الخلاف و الغنية و عن ظاهر التذكرة دعوي الإجماع عليه.

و استدل عليه غير واحد بخبر عبد الحميد: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: الجنازة يخرج بها و لست علي وضوء، فإن ذهبت أتوضأ فاتتني الصلاة، أ يجزيني أن أصلي عليها و أنا علي غير وضوء؟ فقال: تكون علي طهر أحب إلي» «1».

لكنه لا يخلو عن اضطراب، إذ مع فرض فوت الصلاة بالوضوء لا فائدة في بيان محبوبية الطهارة.

إلا أن يحمل علي بيان محبوبيته في الصلاة ذاتا مع قطع النظر عن التعذر.

أو أفضلية الكون علي الطهارة من الصلاة بدونها- كما ذكرهما في الجواهر.

أو أفضلية الطهارة للصلاة و لو بتيمم، حيث يشرع لها مطلقا أو مع استلزام الوضوء فوتها.

و الأول- مع أنه لا يطابق السؤال- مستغني عنه، لظهور السؤال في

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 193

و تلاوة القرآن (1)،

______________________________

المفروغية عن رجحان الوضوء لصلاة الجنازة.

و الثاني- مع عدم مناسبته للاستدلال بالخبر علي استحباب الطهارة لصلاة الجنازة- لا يناسب السؤال عن إجزاء الصلاة بلا طهارة.

و الثالث تكلف ظاهر، إذ لو أريد ذلك كان الأمر بالتيمم أخص و أفود.

فالأولي الاستدلال بما تضمن الأمر بالتيمم عند تعذر الوضوء، كصحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل تدركه الجنازة و هو علي غير وضوء، فإن ذهب يتوضأ فاتته الصلاة. قال: يتيمم و يصلي» «1» و غيره.

لظهور أن الأمر بالتيمم لكونه موجبا للطهارة في عرض الوضوء أو في طوله- علي النزاع في ذلك الموكول إلي محله- فيدل علي استحباب الوضوء و لو تخييرا.

نعم، في الرضوي: «و إن كنت جنبا و تقدمت للصلاة عليها فتيمم أو توضأ و صل عليها. و قد أكره أن يتوضأ إنسان عمدا للجنازة، لأنه ليس بالصلاة، إنما هو التكبير، و الصلاة هي التي فيها الركوع و السجود» «2».

لكن لا بد من حمله بقرينة النص و الفتوي علي قصد الوجوب، مع إرادة الحرمة التشريعية من الكراهة، كما هو المناسب لصدره و للتعليل الذي تضمنه.

(1) ففي خبر محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام: «سألته: أقرأ المصحف ثمَّ يأخذني البول، فأقوم فأبول و أستنجي و أغسل يدي و أعود إلي المصحف، فأقرأ فيه؟ قال: لا حتي تتوضأ للصلاة» «3».

و لعل المراد به كوضوء الصلاة في مقابل غسل اليدين الذي تضمنه السؤال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6.

(2) مستدرك الوسائل باب: 8 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب قراءة القرآن من كتاب الصلاة حديث: 1.

ص: 194

و للكون علي الطهارة (1)،

______________________________

و في حديث الأربعمائة الذي لا يخلو سنده عن اعتبار: «لا يقرأ العبد القرآن إذا كان علي غير طهور حتي يتطهر» «1».

و مرسل ابن فهد: «لقارئ القرآن بكل حرف يقرؤه. متطهرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطهر عشر حسنات.».

و الظاهر عدم ورود النهي في الأولين لبيان الكراهة المولوية، بل للإرشاد إلي أفضل الأفراد- كما هو الحال في النهي عن العبادة- مع استحباب القراءة مطلقا كما هو صريح الثالث، فيكون الوضوء مستحبا، لأنه شرط في كمالها لا رافعا لكراهتها مع عدم استحبابه. و يناسبه الحث علي القراءة في كل حال «2»، و في حال الحدث الأصغر في مرسل حريز المتقدم «3» و للحائض في وقت الصلاة «4».

بل هو المنسبق من النصوص الكثيرة المرخصة للجنب و الحائض و النفساء في قراءة القرآن «5» المتضمن بعضها قراءتهم ما شاؤوا منه مع عطف الذكر عليه، لوضوح أنهم يقرؤونه لاستحبابه كما يذكرون اللّه تعالي، خصوصا مع كثرة المقروء منه، فهو ظاهر في إقرارهم علي قصد الاستحباب.

(1) الوضوء مأخوذ من الوضاءة، و هي الحسن و النظافة، كما صرح به غير واحد من اللغويين قال الشاعر:

مراجيح و أوجههم وضاء

و قد أطلق شرعا علي الأفعال المخصوصة، و هي غسل الوجه و اليدين

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب قراءة القرآن حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب قراءة القرآن.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة و باب: 28 من أبواب الحيض.

ص: 195

______________________________

و مسح الرأس و الرجلين، كما تضمنته النصوص الكثيرة الشارحة له بذلك، و عليه جري استعمال المتشرعة.

و كأنه بلحاظ كونها سببا توليديا للطهارة النفسية و النظافة الشرعية، كما قد يطلق علي مثل غسل اليدين من الطعام، بلحاظ ترتب النظافة الخارجية عليه، فهو من عناوين الفعل المنتزعة من الأثر المترتب عليه.

و بلحاظ الأثر المذكور صح التوسع و فرض الاستمرار فيه بفرض كون المكلف علي وضوء، و فرض نقض الحدث له في النصوص و استعمالات المتشرعة، و إلا فالأفعال المذكورة لا تقبل الاستمرار و لا النقض، فالاستمرار في الحقيقة ليس للوضوء، بل لأثره.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من تفسير الوضوء بنفس الغسلتين و المسحتين، و أنه بالمعني المذكور شرط في الصلاة و غيرها و مورد للأحكام، و يكون أحد الطهارات الثلاث، لدعوي كشف النصوص المذكورة عن أن الغسلتين و المسحتين- لا بالمعني المصدري الإيجادي- أمران مستمران.

فهو جمود علي عبارة النصوص لا يمكن البناء عليه، حيث لا بد من تنزيلها علي ما ذكرنا. بل هو أولي من تنزيل الغسلتين و المسحتين علي غير المعني المصدري الإيجادي، الذي هو فعل المكلف بالمباشرة، و به يكون تقربه، و هو المراد من نصوص تحديده بها قطعا، لعدم تعقل المعني المذكور.

إلا أن يرجع إلي الأثر الحاصل من الغسلتين و المسحتين، كما ذكرنا، و لكنه يقطع بعدم إرادته من نصوص تحديده بها.

هذا، و من الظاهر أن مرجع شرطية الوضوء في الصلاة و غيرها من الواجبات و المستحبات إلي شرطية الأثر المذكور، و هو الطهارة، لأنها المناسبة للشرطية ارتكازا، و لأن ذلك مقتضي الجمع بين أدلة شرطيته و أدلة شرطية الطهارة و مانعية الحدث، و لأنه القابل للاستمرار حين الإتيان بالمشروط، و للانتقاض بالحدث، إلي غير ذلك مما يوجب وضوحه.

ص: 196

______________________________

و لولاه صعب إثبات عموم مانعية الحدث الحاصل بعد أفعال الوضوء من إيقاع المشروط به.

و أما أفعال الوضوء فليست إلا محصلة للشرط و مقدمة له، و لذا كان المرجع الاشتغال عند الشك في اعتبار شي ء في الوضوء، كما تكرر التنبيه له في هذا الشرح.

إذا عرفت هذا، فقد صرح غير واحد من الأصحاب باستحباب الوضوء للكون علي الطهارة، بل في كشف اللثام: «كأنه لا خلاف فيه»، و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و عن الطباطبائي دعوي الإجماع عليه».

و يقتضيه- مضافا إلي المرتكزات المتشرعية- عموم قوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «1»، و قوله سبحانه فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «2».

و ما تضمنته جملة من النصوص «3» من نزول الآية الاولي في الاستنجاء بالماء، و مرسل مجمع البيان عن الصادقين عليه السّلام من نزول الثانية فيه أيضا، لا يمنع من الاستدلال بعمومهما الشامل للمقام، فإن المورد لا يخصص الوارد، و لا سيما مثل هذا العموم الارتكازي.

و مثلهما النصوص الكثيرة المتضمنة الحث علي استمرار الطهارة، كخبر أنس: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يا أنس أكثر من الطهور يزيد اللّه في عمرك، و إن استطعت أن تكون بالليل و النهار علي طهارة فافعل، فإنك تكون إذا مت علي طهارة شهيدا» «4» و غيره مما ذكره في مستدرك الوسائل «5».

مضافا إلي ما تضمن الأمر بالوضوء علي ما يأتي الكلام فيه.

______________________________

(1) سورة البقرة: 222.

(2) سورة التوبة: 108.

(3) راجع الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة.

(4) الوسائل باب: 11 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(5) في باب: 11 من أبواب أحكام الوضوء. و قد ذكر جملة من النصوص المتضمنة لذلك.

ص: 197

______________________________

و قد يستدل أيضا بما تضمن استحباب التجديد بالأولوية العرفية، بناء علي عمومه لغير حال الصلاة، علي ما يأتي الكلام فيه، من دون فرق بين ما تضمن الوضوء و الطهور، لأن نسبته التجديد للوضوء إنما تصح بلحاظ بقاء أثر الوضوء الأول و تأكده بالوضوء التجديدي، و كذا عنوان الوضوء علي الوضوء.

هذا، و قد استدل في المستند بصحيحة ابن عمار: «الوضوء أفضل علي كل حال». قال: «فإن الظاهر منها الكون علي الوضوء، لا الإتيان به، لمكان قوله: «علي كل حال».

لكن لم أعثر علي الصحيحة المذكورة في الوسائل و لا في غيرها بعد التتبع فيما خطر بالبال من المواضع المناسبة، و إنما الموجود صحيح معاوية بن عمار المتقدم في مسألة استحباب الوضوء لجميع أفعال الحج، و لم يتضمن قوله: «علي كل حال».

و لو فرض تضمنه له أشكل عمومه لغير أفعال الحج من الأحوال، بملاحظة صدره المتضمن جواز ترك الوضوء في المناسك كلها إلا الطواف. فهو ظاهر في بيان دخل الطهارة في كمال أفعال الحج، لا استحبابها في نفسها.

كما أنه لو فرض إرادته حديثا آخر خاليا عن الصدر المذكور، أمكن حمله علي استحباب إيقاع الوضوء علي كل حال و لو للتجديد، فيلحقه ما يأتي في النصوص المتضمنة للحث علي الوضوء، و لا ملزم بحمله علي ما ذكره من إرادة كون المكلف علي وضوء الذي هو كناية عن الطهارة.

فالعمدة ما سبق، الذي لا إشكال معه في استحباب الكون علي الطهارة.

و إنما الإشكال في استحباب الوضوء بنفسه، كما مال إليه في العروة الوثقي، و جري عليه بعض مشايخنا بل أرجع إليه استحباب الكون علي الطهارة، بناء علي ما سبق منه، و قد عرفت حاله.

نعم، قد يستدل له بما تضمن الحث علي الوضوء، كموثق السكوني عن أبي

ص: 198

______________________________

عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الوضوء شطر الإيمان» «1».

و ما أسند عن الكاظم عليه السّلام عن السجاد عليه السّلام: «أخبرني أبي أن أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كانوا إذا بالوا توضؤوا أو تيمموا مخافة أن تدركهم الساعة» «2».

و مرسل الديلمي في الإرشاد: «قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: يقول اللّه تعالي: من أحدث و لم يتوضأ فقد جفاني، و من أحدث و توضأ و لم يصل ركعتين فقد جفاني. و قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من أحدث و لم يتوضأ فقد جفاني.» «3».

و مرسل عبد اللّه بن سلام: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من توضأ لكل حدث و لم يكن دخالا علي النساء في البيوتات و لم يكن يكتسب مالا بغير حق رزق من الدنيا بغير حساب» «4» و نحوها.

لكن المراد باستحبابه نفسيا إن كان هو عدم استحباب أثره و هو الطهارة، بل هو نظير الملاك الملحوظ غرضا للآمر مع التكليف بذي الملاك لا غير. فلا مجال له، بعد ما عرفت من أدلة استحباب الكون علي الطهارة.

و كذا لو كان المراد به استحبابه بالملاك المذكور مع استحباب الكون علي الطهارة أيضا، لأن وحدة الغرض تستلزم وحدة التكليف، لعدم الأثر للتكليف الآخر في حفظ الغرض بعد فرض وحدة المكلّف و المكلّف.

فلا بد من حمل دليل استحبابه لذلك علي استحبابه عرضا لأجل استحباب الطهارة جمعا بينه و بين دليل استحبابها، لبعض ما تقدم في وجه تعين الطهارة للشرطية.

و إن كان المراد به استحبابه لملاك آخر غير الكون علي الطهارة، فالأدلة المتقدمة لا تنهض به، لأن إطلاق الأمر إنما يقتضي التكليف النفسي إذا استلزم التكليف الغيري تقييد الخطاب، لاختصاص مطلوبية ذي المقدمة ببعض

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) مستدرك الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 8.

ص: 199

______________________________

الأحوال، لا في مثل المقام مما كان فيه ذو المقدمة- كالطهارة- مطلوبا مطلقا، حيث تكون المقدمة مطلوبة كذلك فلا يكون الوجوب الغيري منافيا للإطلاق.

غاية ما قد يدعي حينئذ أن أخذ الشي ء بعنوانه موضوعا للحث مناسب لتعلق الغرض به بنفسه، لا بلحاظ إيصاله لأمر آخر.

إلا أن ذلك لو بلغ مرتبة الظهور الحجة لا مجال له في المقام، لأن عنوان الوضوء و إن كان حاكيا عن نفس الأفعال، إلا أنه منتزع من ترتب الطهارة عليها، كما سبق، و ظاهر أخذ العناوين الانتزاعية في موضوع الحكم تعلق الغرض بمنشإ انتزاعها، و لا سيما مع اقتضاء المناسبات الارتكازية العرفية و الشرعية محبوبية الطهارة بنفسها.

بل الحديث الأول و نحوه منصرف للوضوء للطهارة بلحاظ دخله في الصلاة التي هي عمود الدين، حيث يناسب ذلك الأهمية التي تضمنها، دون ما يقع منه لمحض الكون علي الطهارة، فضلا عن الوضوء لنفسه و إن كان مستحبا.

و الثاني حيث لم يتضمن الحث علي الوضوء إلا ببيان فعل الصحابة فهو مجمل من حيثية الغرض منه، كإجمال الفعل المحكي به.

بل التعليل فيه بخوف إدراك الساعة ظاهر في أن الغرض منه الطهارة، لأنها القابلة للاستمرار إلي حين الموت المخوف، و التي يظهر من بعض النصوص الآمرة بالكون علي الطهارة و الناهية عن النوم علي الجنابة «1» رجحان تحققها حينه.

كما أن الثالث حيث تضمن تعقيب الوضوء بالصلاة فهو يناسب إرادة الوضوء لأجل الطهارة التي تقدم أنها الشرط فيها و في غيرها.

و كذا الحال في الرابع، لأن المنصرف من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «من توضأ لكل حدث» ليس مجرد الوضوء عقيب الحدث، بل من حيثية إزالته له، التي هي عبارة عن الطهارة. و من هنا كان ظاهر بعضهم اشتراك هذه النصوص و نصوص الكون علي الطهارة في المفاد، حيث سيقت في مساقها.

و لعل ما ذكرنا هو المنشأ لإهمال الأصحاب استحباب الوضوء لنفسه مع

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة، حديث 40، و قد سبق ذكره في أول هذا الفصل.

ص: 200

و لغير ذلك (1).

______________________________

قطع النظر عن الكون علي الطهارة.

بل صرح بعضهم بعدم مشروعيته، و ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه المفروغية عن ذلك، قال: «و هنا قسم خامس [سادس. خ ل] و هو ما لو نوي المحدث بالأصغر وضوءا مطلقا. ذكره الفاضلان و الشهيد في الذكري مقابلا للوضوء للغايات- حتي الكون علي الطهارة- و حكموا فيه بالبطلان، و لم يعلم مرادهم منه. و لو أريد به الوضوء المأتي به لا لغاية و لا للكون علي الطهارة خرج عن المقسم- و هو الوضوء المندوب- لكونه علي هذا الوجه تشريعا محرما».

ثمَّ إنه بناء علي اعتبار قصد الأمر في صحة الوضوء، يتعين بطلانه مع قصد الأمر النفسي- كما سبق عن الفاضلين و الشهيد، لعدم ثبوته، بل لا بد من قصد أمر الكون علي الطهارة أو نحوه و لو إجمالا بقصد الأمر الفعلي.

أما بناء علي ما سبق منا «1» من الاكتفاء بالتقرب و لو بقصد أمر غير متحقق، فيتجه صحة الوضوء بقصد الأمر النفسي.

إلا أن يدعي رجوع الإجماع علي عبادية الوضوء إلي الإجماع علي اعتبار التقرب بتحصيل الطهارة.

أو يرجع قصد الأمر المذكور إلي قصد التقرب بالأفعال الخاصة بعناوينها الأولية، لا بعنوان كونها وضوءا.

لكن الأول غير ثابت.

و الثاني خروج عن الفرض. فلاحظ. و اللّه سبحانه العالم.

(1) فقد ذكروا استحبابه لأمور غير ما سبق.

منها: دخول المساجد، حيث صرح به جماعة من الأصحاب، بل في مفتاح

______________________________

(1) في الفصل الثالث في شروط الوضوء في المسألة الواحدة و السبعين و تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابعة و التسعين في هذا الفصل.

ص: 201

______________________________

الكرامة أن عليه الإجماع المنقول في مواضع.

و يقتضيه صحيح مرازم عن الصادق عليه السّلام: «أنه قال: عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت اللّه في الأرض، من أتاها متطهرا طهره اللّه من ذنوبه، و كتب من زواره» «1» و غيره مما يقاربه في اللسان.

بل قد يظهر كراهة الجلوس في المسجد بغير طهارة من مرسل العلاء بن فضيل عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا دخلت المسجد و أنت تريد أن تجلس فلا تدخله إلا طاهرا» «2»، و مثله خبر جابر عنه عليه السّلام «3».

و لا يبعد كون الجلوس كناية عن مطلق البقاء المعتد به دون العبور أو وضع شي ء فيه أو أخذه منه أو نحوها، و إن استلزم الجلوس قليلا.

كما أن الظاهر قصور نصوص استحباب الطهارة عن مثل الدخول المذكور، بقرينة تضمنها عنوان الزيارة المنصرفة عن مثل ذلك.

نعم، في مرسل جامع الأخبار: «قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: لا تدخل المساجد إلا بالطهارة» «4». و مقتضاه كراهة مطلق الدخول بلا طهارة.

هذا، و عمم في الوسيلة الحكم لكل موضع شريف. و في محكي كشف الغطاء: «و يقوي القول برجحانه للدخول في كل مكان شريف علي اختلاف المراتب بقصد تعظيم الشعائر، من قباب الشهداء و محال العلماء و الصلحاء من الأموات و الأحياء».

لكنه غير ظاهر، لعدم ظهور النصوص في كون استحباب التطهر لدخول المساجد لأجل شرفها، بل لعله لأجل انتسابها له تعالي، حيث يكون إتيانها زيارة له سبحانه، فيندب التطهر لمناسبته لزيارته، و لا طريق لتعميم ذلك لغيرها من

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الوضوء حديث: 2.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 202

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 1.

(4) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 4.

ص: 202

______________________________

الأماكن الشريفة غير المنتسبة له تعالي.

نعم، لزيارة المعصومين عليهم السّلام و نحوهم آداب خاصة مروية مذكورة في كتب المزار قد يستفاد من بعضها استحباب الطهارة لا مجال لإطالة الكلام فيها، بل قد يستفاد استحباب الوضوء من الأمر في بعض النصوص بالغسل بالأولوية.

كما أنه ذكر غير واحد و حكي عن جماعة استحباب الطهارة لزيارة قبور المؤمنين.

و يستفاد مما في المدارك و عن الذكري و محكي الدلائل أنه مروي.

لكن في الحدائق بعد أن نسب عدّ زيارة المقابر للمشهور، قال: «و لم أقف بعد الفحص علي مستنده».

و منها: الدعاء، كما نسب للمشهور، و ظاهر العروة الوثقي استفادته مما تضمن الوضوء لطلب الحاجة، بحمل طلب الحاجة عليه.

و هو مخالف للظاهر جدا. بل طلب الحاجة ظاهر في السعي الخارجي لتحصيلها. مع أنه لا ينهض باستحباب الوضوء، لما تقدم.

نعم، ربما يستفاد من بعض نصوص الدعاء، و هو محتاج لنحو من التتبع لا يسعه المقام.

و منها: تغسيل الجنب للميت، و جماع المغسل للميت قبل أن يغتسل، ففي صحيح شهاب بن عبد ربه «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: عن الجنب أ يغسل الميت؟

و من غسل الميت أ يأتي أهله ثمَّ يغتسل؟ فقال: هما سواء لا بأس بذلك إذا كان جنبا غسل يديه و توضأ و غسل الميت و هو جنب، و إن غسل ميتا توضأ ثمَّ أتي أهله، و يجزيه غسل واحد لهما» «1».

و منها: ورود المسافر علي أهله، فيستحب قبله، كما ذكره في الحدائق، قال:

«لما رواه الصدوق في المقنع، قال: و روي عن الصادق عليه السّلام قال: من قدم من سفر فدخل علي أهله و هو علي غير وضوء و رأي ما يكره فلا يلومن إلا نفسه»، و نقل

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 203

______________________________

الرواية في المستند دون أن ينسبها للصدوق.

لكن ذكر محققا الحدائق و المستمسك في طبعتهما الحديثة أنهما لم يعثرا علي الرواية في مظانها من المقنع. و كذلك لم أعثر أنا عليها فيه و لا في الوسائل و مستدركها.

مضافا إلي أنها لا تنهض بإثبات استحباب الوضوء لخصوصية القدوم من السفر، لنظير ما تقدم في الوضوء للسعي في الحاجة.

و منها: النوم، لغير واحد من النصوص، كخبر محمد بن كردوس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من تطهر ثمَّ آوي إلي فراشه بات و فراشه كمسجده» «1».

و ما في حديث الأربعمائة الذي لا يخلو سنده عن اعتبار: «لا ينام المسلم و هو جنب، و لا ينام إلا علي طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد، فإن روح المؤمن تروح إلي اللّه عز و جل.» «2»، و غيرهما.

و منها: سجدة الشكر، ففي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: «من سجد سجدة الشكر لنعمة و هو متوضئ كتب اللّه له بها عشر صلوات و محا عنه عشر خطايا عظام» «3».

و منها: سجود التلاوة، كما في العروة الوثقي، و لم أقف له علي مستند.

و لا مجال لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه ربما يستفاد من نحو قوله عليه السّلام في رواية أبي بصير: «فاسجد و إن كنت علي غير وضوء» «4»، لظهور ذلك في دفع توهم اعتبار الطهارة قياسا علي سجود الصلاة، لا في كون السجود مع الحدث أقل فضلا، لأن مدخول «إن» الوصلية الفرد الخفي، لا الضعيف. و لعله لذا أمر قدّس سرّه بالتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب سجدتي الشكر حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 42 من أبواب قراءة القرآن حديث: 2.

ص: 204

______________________________

هذا، و العمل علي الاستحباب- لو تمَّ- إنما يكون بقراءة آية السجدة عن طهارة، و عدم الحدث بعدها قبل السجود، لا بالوضوء بعد قراءتها قبل السجود، لإخلاله بالفورية المعتبرة عندهم.

و منها: جلوس القاضي في مجلس القضاء، كما عن النزهة، و صرح في كشف اللثام و الحدائق بعدم العثور علي نص فيه بخصوصه.

و منها: تكفين الميت لمن غسله، كما ذكره غير واحد من القدماء و المتأخرين مخيرين بينه و بين الغسل.

و لم يتضح مستنده- كما اعترف به غير واحد- سواء أريد به تقديم ما يجب بالمس- اللازم من التغسيل غالبا- من وضوء و غسل علي التكفين، أم مشروعية وضوء و غسل آخر له.

و إنما علل في بعض كلماتهم بوجوه استحسانية تقصر عن إفادة المطلوب، و لا سيما مع التصريح في غير واحد من النصوص بتأخير غسل المس و الأمر بغسل اليدين إلي المرفقين و الرجلين إلي الركبتين، كما في موثق عمار «1»، أو بغسل اليدين إلي المنكبين، كما في صحيحي يعقوب بن يقطين «2» و محمد بن مسلم «3».

فراجع.

و منها: دفن الميت، كما صرح به بعضهم. بل في المدارك أنه مروي.

و كأنه لخبر الحلبي و محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام أنه قال: «توضأ إذا أدخلت الميت القبر» «4». لكنه غير ظاهر في استحباب الوضوء قبل الدفن بل بعده، كما يظهر من الوسائل.

نعم، في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام في حديث: «قلت له:

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب التكفين حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب الدفن حديث: 7.

ص: 205

______________________________

من أدخل الميت القبر عليه وضوء؟ قال: لا، إلا أن يتوضأ من تراب القبر إن شاء» «1».

و كما يمكن الجمع بينهما بحمل الأول علي الاستحباب، يمكن بحمل الوضوء فيه علي الغسل للتنظيف من التراب.

لكن لا يبعد أولوية الأول، لظهور الثاني في أن الغسل للتنظيف راجع لرغبة المكلف، لا مستحب شرعا، فلا يناسب الأمر بالوضوء في الأول. فلاحظ.

و منها: معاودة الجماع. خصوصا مع تتعدد الموطوءة، بل في المبسوط نفي فيه الخلاف حينئذ.

ففي خبر الوشاء: «قال فلان بن محرز: بلغنا أن أبا عبد اللّه عليه السّلام كان إذا أراد أن يعاود أهله للجماع توضأ وضوء الصلاة، فأحب أن تسأل أبا الحسن الثاني عليه السّلام عن ذلك. قال الوشاء: فدخلت عليه فابتدأني من غير أن أسأله، فقال: كان أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا جامع و أراد أن يعاود توضأ وضوء الصلاة، و إذا أراد أيضا توضأ للصلاة» «2».

و في مرسل عثمان بن عيسي [3] عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا أتي الرجل جاريته ثمَّ أراد أن يأتي الأخري توضأ» «4». و ربما يجمع بينهما بحمل المرسل علي التأكد في فرض تعدد الموطوءة.

هذا، و في المنتهي و عن غير واحد استحباب الوضوء للمحتلم إذا أراد الجماع، و في المدارك و عن الذكري أنه مروي و لعله راجع لما في النهاية و عن الوسيلة و الشرائع و النافع و القواعد و عن المهذب و غيره من كراهة الجماع له قبل الغسل و الوضوء.

______________________________

[3] كذا في الوسائل عن التهذيب لكن الموجود في التهذيب و الحدائق و الجواهر و محكي الوافي أنه مرسل ابن أبي نجران.

______________________________

(1) الوسائل باب: 53 من أبواب الدفن حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 155 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

ص: 206

______________________________

لكن لم أعثر في المحتلم علي الرواية المتضمنة لذكر الوضوء، كما صرح به غير واحد.

و استفادته من خبر الوشاء المتقدم بإلغاء خصوصية مورده و حمله علي مطلق الجنب- كما قد يظهر من العروة الوثقي. في غير محلها، بعد ظهور النص في تعين الغسل لخصوصية في الاحتلام يخشي منها علي الولد تقتضي كراهة الجماع حال الجنابة، لا استحباب الطهارة له، كما هو مفاد خبر الوشاء، ففي خبر حماد بن عمر: «يكره أن يغشي الرجل المرأة و قد احتلم حتي يغتسل من احتلامه الذي رأي، فإن فعل فخرج الولد مجنونا فلا يلومن إلا نفسه» «1»، و نحوه غيره.

اللهم إلا أن يقال: المستفاد من نصوص المقام أن في المقام جهتين.

الأولي: تقتضي كراهة الجماع حال الجنابة، و هي التي يخشي منها علي الولد.

الثانية: تقتضي استحباب الوضوء للجنب إذا أراد الجماع. لكن الوضوء لا يزيل الجهة الأولي، خلافا لما يظهر من الأصحاب.

أما الأولي، فالنص المتقدم إنما يكشف عنها في خصوص الاحتلام، بل في كشف اللثام: أنه فرق في الخبر بأن الاحتلام من الشيطان، بخلاف الجماع.

لكن لم أعثر علي الخبر المذكور، و في الرسالة الذهبية المنسوبة للرضا عليه السّلام:

«و الجماع بعد الجماع من غير فصل بينهما بغسل يورث للولد الجنون» «2».

نعم، هو لا يناسب ما تضمنه خبر الوشاء المتقدم و غيره «3» من عود المعصوم عليه السّلام للجماع من غير غسل. إلا أن يحمل علي صورة توقع الولد.

و أما الثانية، فدليلها و إن كان مختصا بالجماع بعد الجماع، إلا أن إلغاء خصوصية مورده و التعدي لغيره من أفراد الجنب- ممن ينزل بالاحتلام أو الملاعبة

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 117 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 19.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 207

______________________________

أو غيرهما- غير بعيد.

بل لعل المستفاد من النصوص و المناسب لمرتكزات المتشرعة أولوية غير الجماع منه، لاستحبابه و بركته المناسب لضعف حدثيته من بين أفراد الجنابة، خصوصا الاحتلام، فتأمل.

و مما ذكرنا يظهر ضعف ما عن ابن سعيد و استحسنه في كشف اللثام من تقييد الوضوء للمحتلم بصورة تعذر الغسل، إذ لا دليل علي رافعية الوضوء في حقه لكراهة الجماع مع الجنابة حتي مع تعذر الغسل، بل الأنسب التنزل مع الضرورة للتيمم بدلا عن الغسل.

كما أنه لو تمَّ ما ذكرنا في وجه استحباب الوضوء له، فلا وجه لتقييده بتعذر الغسل.

و منها: الوضوء لجماع الحامل، كما ذكره غير واحد. لما في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلا و أنت علي وضوء، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون أعمي القلب بخيل اليد» «1».

و منها: الوضوء في ليلة الزفاف للزوجين، كما ذكره غير واحد. و استدل له بصحيح أبي بصير: «سمعت رجلا و هو يقول لأبي جعفر عليه السّلام: إني رجل قد أسننت و قد تزوجت امرأة بكرا صغيرة و لم أدخل بها، و أنا أخاف إذا دخلت علي أن تكرهني لخضابي و كبري، فقال أبو جعفر عليه السّلام: إذا دخلت فمرهم قبل أن تصل إليك أن تكون متوضئة ثمَّ أنت لا تصل إليها حتي توضأ، و صلّ ركعتين، ثمَّ مجّد اللّه و صلّ علي محمد و آله، ثمَّ ادع اللّه و مر من معها أن يؤمنوا علي دعائك، و قل.» «2».

لكنه- مع اختصاصه بصورة الصلاة و الدعاء- غير ظاهر في الاستحباب، بل في محض بيان الفائدة. و لا مجال لما تقدم في الوضوء للسعي في الحاجة من أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 55 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

ص: 208

______________________________

بيان الفائدة قد يظهر في الأمر المولوي، لأن ذلك مختص بما إذا كان بيان فائدة الشي ء في مقام الحث عليه، لا ما إذا تمحض الكلام في بيان الفائدة، كما في المقام، حيث سيق السؤال لأجل الفائدة المذكورة.

و منها: التهيؤ للصلاة قبل وقتها، كما في الوسيلة و المنتهي و عن نهاية الاحكام و الجامع و النزهة و الدروس و البيان و النفلية و الذكري و غيرها.

و قد يستدل عليه بأمور.

الأول: ما دل علي استحباب الصلاة في أول وقتها من النصوص الكثيرة و عمومات المسارعة للخير [1]، و هو لا يمكن إلا بتقديم الطهارة، كما أشار إليه في المنتهي و غيره.

لكن المراد بذلك إن كان هو استحباب الوضوء قبل الوقت غيريا، لتوقف التعجيل المستحب عليه- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه فيندفع- بعد تسليم ثبوت الأمر الغيري بالمقدمة- بأن فعلية الخطاب بتعجيل الصلاة فرع مشروعية أصل الصلاة، فحيث لا تشرع الصلاة قبل الوقت لا يكون الخطاب فعليا، لتجب مقدمته.

و لا مجال للتفكيك بين الأمر النفسي و الغيري في الإطلاق و الاشتراط، كما حقق في محله، فلا يكون الأمر بتعجيل الصلاة مشروطا بالوقت، و الأمر بالوضوء فعليا قبله.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في المقام- و يجري في سائر المقدمات المفوتة- من إمكان التفكيك بينهما في نحو الإناطة بالشرط، بأن يكون الوقت مثلا مأخوذا في الأمر النفسي بتعجيل الصلاة بنحو الشرط المقارن، و في الأمر الغيري بالوضوء بنحو الشرط المتأخر.

______________________________

[1] كقوله تعالي وَ سٰارِعُوا إِليٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ. [آل عمران:

133]، و للنصوص المتضمنة الحث علي تعجيل فعل الخير و كراهة تأخيره، التي ذكر بعضها في الباب السابع و العشرين من أبواب مقدمة العبادات من الوسائل.

ص: 209

______________________________

فهو- لو تمَّ في نفسه- مستلزم لوجوب الوضوء غيريا قبل الوقت، تبعا لوجوب الصلاة نفسيا بعده، فيكون الوضوء قبل الوقت للتعجيل بالصلاة في أوله، كالوضوء في أول الوقت للتعجيل بها في تاليه واجبا غيريا، لأنه مقدمة لأفضل أفراد الواجب المقدورة، لا مستحبا كما هو المدعي.

و دعوي: أن التفكيك المذكور مخالف للأصل، و إنما التزم به في استحباب التعجيل لتوقف المطلوب النفسي علي تقديم المقدمة علي الوقت، كما يلتزم به في سائر المقدمات المفوتة.

مدفوعة: بأن نحو تبعية الأمر الغيري للنفسي غير مستفاد من عموم لفظي، ليقتصر في الخروج عنه علي المتيقن، بل هو تابع للمرتكزات العقلائية، فإن لم تمنع المرتكزات من التفكيك في المقدمات المفوتة لم تمنع منه في غيرها.

و خصوصية المقدمات المفوتة في توقف المطلوب النفسي علي تقديمها إنما تقتضي تضيق وقت المقدمة المفوتة و قصره علي ما قبل وقت ذيها مع السعة لما قبل الوقت و بعده في غيرها، لا التخصيص فيه بما بعد الوقت.

هذا، مضافا إلي أنه لا مجال لإيقاع الوضوء بقصد الأمر الغيري المذكور إلا إذا قصد التعجيل بالصلاة في أول الوقت الحقيقي، أما إذا أريد إيقاعها بعد ذلك بمقدار يسع الوضوء أو أكثر فالأمر بالتعجيل بالإضافة إليه لا يقتضي الوضوء قبل الوقت، كما لا يقتضيه الأمر بأصل الصلاة، مع أن ظاهر القائلين بالأمر التهيّئي الإطلاق.

و إن كان هو استحباب الوضوء نفسيا قبل الوقت لأجل القدرة علي التعجيل المستحب، بل تكون القدرة عليه ملحوظة للشارع غرضا و ملاكا للاستحباب النفسي المذكور- كما لعله ظاهرهم في المقام، لجعلهم التهيؤ في قبال الغايات الأخر، لا من صغريات غائية الصلاة.

ففيه: أنه لا وجه لاستكشاف الاستحباب المولوي المذكور، غاية الأمر حسن التهيؤ عقلا، لتوقف امتثال استحباب التعجيل عليه، و ليست إرادة الشارع له

ص: 210

______________________________

إلا كإرادته للامتثال لا تصلح لانتزاع التكليف.

و دعوي: تعذر الطهارة قبل الوقت بدون الأمر المولوي المذكور، لأنها من العبادات المتوقفة صحتها علي التقرب بقصد الأمر، و ليست كسائر المقدمات التوصلية.

مدفوعة. أولا: بما سبق منا في المسألة الواحدة و السبعين من عدم توقف الطهارة علي قصد أمر فعلي بها، بل لا يعتبر فيها إلا التقرب، و هو حاصل في المقام بقصد التهيؤ لامتثال الأمر بتعجيل الصلاة، لأنه نحو من الانقياد، بل يكفي قصد التهيؤ لامتثال الأمر بأصل الصلاة و لو بدون التعجيل، و إن لم يتوقف امتثاله علي تقديم الطهارة علي الوقت، إذ لا يعتبر في التقرب و الانقياد بأحد أفراد المقدمة توقف الامتثال عليه، بل يكفي دخله فيه و لو مع عدم الانحصار به.

و ثانيا: بأنه لو غض النظر عن ذلك، فتطبيق العموم في مورد إذا توقف علي إعمال عناية زائدة علي مفاده لم ينهض العموم بإثباتها، فمفاد العمومات المذكورة إنما هو تعجيل الخير في ظرف مشروعيته و القدرة عليه، لا بنحو يقتضي مشروعيته و الإقدار عليه بتشريع ما يقتضي ذلك.

نعم، إذا كان عدم إعمال العناية مستلزما للغوية العام عرفا، لعدم المورد له، أو لندرة موارده، كشف عن إعمال العناية المذكورة.

و قد لا يكون لذلك مجال في المقام، لإمكان تطبيق عموم التعجيل علي أول الوقت في حق من حصلت له الطهارة قبله بأحد الوجوه المشروعة السابقة، و علي أول أزمنة الإمكان في حق من لم تحصل له.

إن قلت: هذا إنما يتم بالإضافة لعمومات المسارعة، لإمكان حملها علي ما لا يتوقف علي هذا النحو من المقدمات، دون نصوص الأمر بتعجيل الصلاة و الحث علي الإتيان بها في أول الوقت، لوضوح أن الغرض منها إحداث الداعي لتحقيق مفادها.

و حملها علي خصوص من صادف منه الطهارة قبل الوقت، من دون أن

ص: 211

______________________________

تدعو لتقديم الطهارة، بعيد جدا عن مساقها، بل هو نظير الحمل علي الفرد النادر.

و مثله حملها علي إحداث الداعي لتقديم الطهارة بداع آخر مطلوب في نفسه، كالكون علي الطهارة، لأن استقلال الداعي الآخر في الداعوية- كما هو المعتبر في العبادية- في ظرف التوجه لداعي امتثال أمر التعجيل محتاج إلي عناية مغفول عنها، فعدم التنبيه عليها ظاهر في صلوح الخطاب بالتعجيل للداعوية للطهارة قبل الوقت بنفسه، بلحاظ توقفه عليها.

و من ذلك يظهر الإشكال فيما في كشف اللثام من أن الوضوء المتقدم للمحافظة علي الصلاة في أول الوقت هو الوضوء للكون علي الطهارة، و لا معني للتأهب للفرض إلا ذلك.

وجه الإشكال: أن مجرد قصد الكون علي الطهارة في طول قصد الصلاة لا يكفي في المقربية المعتبرة في العبادية، بل لا بد من استقلال أمره في الداعوية، و هو غير حاصل في محل الكلام غالبا، و لا مراد للقائلين باستحباب الوضوء التهيّئي.

قلت: هذا- مع توقفه علي قوة ظهور نصوص التعجيل في الحث علي الأول الحقيقي، بحيث يكون من أفرادها المتيقنة، كما هو غير بعيد في بعضها، و إلا كفي صلوحه للداعوية بالإضافة للأول في الجملة بنحو لا يخل به الوضوء بعد الوقت- لا يقتضي داعوية الأمر النفسي المذكور، ليستلزم تشريعه، بل داعوية نفس الأمر بالتعجيل للتهيؤ لامتثاله بتقديم الطهارة، و هو راجع لما سبق منا من الاكتفاء في الطهارة بالتقرب الحاصل بقصد التهيؤ المذكور و عدم توقفها علي قصد أمر فعلي بها نفسي أو غيري.

الثاني: بعض النصوص الخاصة، ففي المدارك و عن نهاية الاحكام نسبة الحكم للخبر.

و في الذكري: روي: «ما وقّر الصلاة من أخر الطهارة لها حتي يدخل

ص: 212

______________________________

وقتها» [1]، و في صحيح أبي بصير الوارد في ذم الاشتغال بالتجارة عن الصلاة في قصة رجل اسمه سعد: «و كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إذا أقام بلال الصلاة يخرج و سعد مشغول بالدنيا لم يتطهر و لم يتهيأ كما كان يفعل قبل أن يتشاغل بالدنيا.».

لكن الاستدلال بالمراسيل يبتني علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، التي هي غير تامة في نفسها، و إنما يحسن متابعتها برجاء المطلوبية، الذي لا يحرز صحة الوضوء معه بناء علي اعتبار قصد الأمر فيه، كما تقدم و يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و أما الصحيح فهو- مع توقفه علي كون المراد بعدم التهيؤ بالطهارة عدم التهيؤ قبل الوقت، لا بعده قبل الإقامة حين مرور النبي صلّي اللّه عليه و آله للصلاة- غير وارد للحث علي التهيؤ ليكون ظاهرا في طلبه شرعا لإحداث الداعي له، بل لحكاية حال سعد بنحو يدل علي المفروغية عن حسن التهيؤ، و لعله بلحاظ حسنه عقلا، لما سبق من أنه نحو من الانقياد.

ثمَّ إن ظاهر مرسل الذكري المفروغية عن صلوح الصلاة لأن تكون غاية للطهارة قبل الوقت، كما ذكرنا، لأنه وارد للحث علي الطهارة للصلاة، لا علي كون المكلف علي طهارة حين دخول الوقت.

غاية الأمر أنه يقتضي الحث عليه شرعا، لا محض حسنه عقلا، كما ذكرنا.

الثالث: ما ذكره في الجواهر من أن المعروف من السلف التأهب للفريضة و المحافظة علي نوافل الزوال و الفجر.

لكن من الظاهر أن المحافظة علي نوافل الزوال و الفجر لا تتوقف علي الوضوء قبل الوقت، بل تتيسر للمتوضئ بعده، لعدم احتياج الوضوء لزمان طويل.

نعم، لا ينبغي التأمل في قيام سيرة المسلمين علي الوضوء قبل الوقت،

______________________________

[1] الوسائل باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 5. و رواه في الذكري في التنبيه الثالث من المسألة الخامسة من الفصل الأول من الباب الثالث في المواقيت و في المطبوع منها: «من أخر الوقت لها.»

و صححناه علي نسخة خطية كما هو الموجود في غير واحد من الكتب الفقهية التي نقلت الحديث.

ص: 213

______________________________

خصوصا في الصدر الأول حين كان الالتزام بصلاة الجمعة و حضور الجماعة شائعا معروفا، لوضوح عدم تيسر حضور الجمع الغفير لذلك مع وضوئهم بعد الوقت، كما هو المناسب أيضا لما تضمن الحث علي الحضور في المسجد قبل الوقت و انتظار الصلاة فيه «1».

و احتمال إتيانهم به لغاية أخري، كالكون علي الطهارة، إنما يتجه في حق قليل منهم ممن يهتم بمراعاة السنن و المستحبات، دون عامة الناس، حيث لا همّ لهم إلا أداء الفريضة.

و دعوي: قصدهم الكون علي الطهارة في طول قصد الفريضة، لارتكاز أنها هي الشرط في الفريضة.

مدفوعة: بأن قصد الكون علي الطهارة لا يكفي في المقربية، إلا مع استقلال الأمر به في الداعوية، و هو لا يحصل لعامة الناس، و إنما يتيسر لبعض الخاصة بإعمال روية و عناية، إذ مع الاندفاع لأجل الصلاة و التوجه لذلك يصعب التجرد لغاية أخري، كما سبق في الوجه الثاني.

و بالجملة: السيرة المذكورة من الوضوح بحد يلحقها بالضروريات.

إلا أنه لا مجال للاستدلال بها علي استحباب الوضوء التهيئي، لأن مرتكزات المتشرعة في السيرة المذكورة علي الإتيان بالوضوء للصلاة، لا لأمر شرعي مولوي آخر بعنوان التأهب للفرض، فالتأهب غاية للمكلف من تقديم الوضوء للصلاة، لا عنوان للوضوء المأتي به، علي أنه موضوع لتكليف مستقل في قبال التكليف به في الصلاة.

و هو شاهد بما سبق منا من الاكتفاء في التقرب المعتبر في الوضوء بقصد التأهب و إن لم يقصد به امتثال أمر فعلي به.

و قد تحصّل من جميع ما تقدم: انحصار وجه صحة تقديم الوضوء للصلاة قبل الوقت بذلك، و لا ينبغي التأمل فيه بعد ما سبق في المسألة الواحدة و السبعين،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 2 من المواقيت من كتاب الصلاة.

ص: 214

______________________________

و ذكرناه هنا.

بقي في المقام أمران.

الأول: أن الدليل علي الوضوء التهيئي إن كان هو الوجه الأول اختص بما يؤتي به لإدراك الصلاة في أول الوقت الحقيقي، كما ذكرناه آنفا، و إن كان هو أحد الوجهين الأخيرين لم يختص به و عمّ كل وضوء مأتي به قبل الوقت لأجل التهيؤ للصلاة في وقتها، لأن ظاهر المرسل هو استحباب كون المكلف حين دخول وقت الصلاة علي طهارة لها، كما هو مقتضي السيرة المشار إليها أيضا، بل لعل المتيقن منها عدم الصلاة في أول الوقت الحقيقي، لما هو المعلوم من غلبة تأخر صلاة الجمعة و الجماعة العامة قليلا لأجل تكامل الناس.

الثاني: أن الأدلة المتقدمة لو نهضت بإثبات مشروعية الوضوء التهيئي، فلا يعتبر فيه أن يكون قريبا من الوقت، خلافا لما في العروة الوثقي.

و لا مجال لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن ذلك مقتضي عنوان التهيؤ المذكور في كلمات الأصحاب، لعدم مناسبته للاستعمالات العرفية في مثل التهيؤ للضيوف و للموت و للسفر و غيرها.

و منها: التجديد، كما ذكره جماعة، بل في كشف اللثام نفي الخلاف فيه، للنصوص الكثيرة، كمعتبر محمد بن مسلم و أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الوضوء بعد الطهور عشر حسنات، فتطهروا» «1».

و حديث المفضل عنه عليه السّلام: قال: «من جدد وضوءه لغير حدث جدد اللّه توبته من غير استغفار» «2».

و موثق سماعة: «كنت عند أبي الحسن عليه السّلام فصلي الظهر و العصر بين يدي، و جلست عنده حتي حضرت المغرب، فدعا بوضوء فتوضأ للصلاة. ثمَّ قال لي:

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6 و رواه عن محمد بن مسلم في باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 215

______________________________

توضّ. فقلت: جعلت فداك أنا علي وضوء. فقال: و إن كنت علي وضوء، إن من توضأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضي من ذنوبه في يومه إلا الكبائر، و من توضأ للصبح كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضي من ذنوبه في ليلته إلا الكبائر» «1».

و خبر أبي قتادة عن الرضا عليه السّلام: «تجديد الوضوء لصلاة العشاء يمحو لا و اللّه و بلي و اللّه» «2».

و مرسل الفقيه: «و كان النبي صلّي اللّه عليه و آله يجدد الوضوء لكل فريضة و كل صلاة» «3» و غيرها.

و مقتضي إطلاق الأولين و غيرهما عموم مشروعية التجديد للصلاة و غيرها، كما هو صريح بعضهم و مقتضي إطلاق آخرين، بل الأكثر علي ما حكي.

و ما في مفتاح الكرامة من احتمال كون مراد من أطلق التقييد بالصلاة، غير ظاهر، بل ظاهرهم- كإطلاق النصوص- مشروعيته في كل مورد يشرع فيه الوضوء و لو للكون علي الطهارة.

نعم، اقتصر في المنتهي و المفاتيح علي التجديد للصلاة، و زاد في محكي التذكرة سجود الشكر و التلاوة، و أنكرهما عليه في محكي الذكري، و احتمل شرعيته للطواف، و في مفتاح الكرامة أنه لا يبعد عدم استحبابه لنفسه، بل للعبادة.

لكن الجميع لا وجه له مع الإطلاق المذكور. و مجرد اختصاص بعض النصوص بالتجديد للصلاة لا ينافيه، ليلزم تنزيله عليه، غايته البناء علي تأكده للصلاة، و لا سيما الغداة و المغرب و العشاء- كما في الجواهر- لإشعار النصوص المتقدمة بخصوصيتها في الحث عليه. فلاحظ.

كما أن مقتضي إطلاق أكثر النصوص المتقدمة و غيرها عدم اعتبار فاصل

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 9.

ص: 216

______________________________

فعلي- كصلاة و نحوها- و لا زماني في مشروعيته، كما ذكره في الجواهر، و بعدم اعتبار الأول صرح في محكي التذكرة و الذكري.

نعم، ما تضمن منها عنوان التجديد قد يختص بصورة الفصل الزماني، كما أشار إليه في الجملة في مفتاح الكرامة. لكنه لا ينافي المطلق، ليلزم تنزيله عليه.

و منه يظهر ضعف ما عن بعضهم من اعتبار أحد الأمرين.

و أضعف منه ما عن آخرين من التفصيل بين من يحتمل صدور حدث منه و غيره، فيشترط أحد الأمرين في الثاني، دون الأول، لعدم المأخذ له من النصوص.

و الوضوء لاحتمال الحدث ليس تجديديا، بل احتياطيا، و لا دليل علي استحبابه شرعا، بل هو خلاف ظاهر مثل موثق بكير: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ، و إياك أن تحدث وضوءا أبدا حتي تستيقن أنك قد أحدثت» «1».

ثمَّ إنه صرح غير واحد بمشروعية تكرار الوضوء التجديدي، و هو مقتضي إطلاق الأكثر، تبعا لإطلاق بعض النصوص المتقدمة و غيرها.

خلافا لظاهر الصدوق في الفقيه، حيث نزّل نصوص تثنية الوضوء علي التجديد، ثمَّ قال: «و الخبر الذي روي: «أن من زاد علي مرتين لم يؤجر» يؤكد ما ذكرته، و معناه أن تجديده بعد التجديد لا أجر له، كالأذان: «من صلي الظهر و العصر بأذان و إقامتين أجزأه، و من أذن للعصر كان أفضل، و الأذان الثالث بدعة لا أجر له»».

لكن ظاهر نصوص التثنية و التثليث تعدد الغسل في الوضوء الواحد، فهي أجنبية عن التجديد.

نعم، عن الذكري عدم مشروعية تكرار التجديد للصلاة الواحدة، و كأنه لقصور النصوص المتقدمة الواردة في التجديد للصلاة عن إثبات مشروعية

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 217

______________________________

التجديد لها أكثر من مرة لكفايتها في الامتثال.

إلا أنه إنما يقتضي عدم تحقق خصوصية التجديد لها بما زاد علي ذلك، لا عدم مشروعية الزائد من حيثية التجديد الذي تضمنته النصوص الأخر المطلقة.

بقي شي ء، و هو أن التجديد في الطهارة.

تارة: يكون بالوضوء بعد الوضوء.

و اخري: بالوضوء بعد الغسل المجزئ عنه، كغسل الجنابة.

و ثالثة: بالغسل بعد الغسل.

و المتيقن من النص و الفتوي مشروعية الأول.

و عن المجلسي في البحار استظهار مشروعية الثاني، إذا فصل بصلاة، لمعتبر محمد بن مسلم و أبي بصير المتقدم. كما يمكن الاستدلال عليه بإطلاق موثق سماعة المتقدم، لأنه مسوق لدفع توهم قصور العموم المذكور فيه عن المتوضئ، لا لبيان اختصاصه به، و من الظاهر شمول العموم في نفسه للمغتسل.

بل قد يستفاد مما تضمن الحث علي تجديد الوضوء أو الوضوء علي الوضوء، لأن المستفاد منه ارتكازا قابلية الطهارة المسببة عن الوضوء التجديد و التأكيد، مع إلغاء خصوصية سبب حدوثها، و هو الوضوء.

و عن بعضهم احتمال مشروعية الثالث، لإطلاق مرسل سعدان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الطهر علي الطهر عشر حسنات» «1».

و قوّي في الجواهر و غيرها عدم المشروعية فيهما معا. قال: «لظاهر الفتوي»، و كأنه راجع إلي وهن النصوص بإعراض الأصحاب، ففي الحدائق أن ظاهرهم الاختصاص بالأول.

لكن لا مجال لذلك في الثاني، لما أشرنا إليه في وجه الاستدلال بنصوص تجديد الوضوء من قرب إلغاء خصوصية سبب حدوث الأثر الأول، حيث يجري

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 218

______________________________

ذلك في كلامهم، و لا أقل من عدم إحراز بنائهم مع ذلك علي عدم مشروعيته، ليتحقق الإعراض الموهن للنصوص، و لا سيما مع قرب غفلتهم عن ظهور النصوص في العموم، لمأنوسية أذهانهم بالنصوص الواردة في الوضوء بعد الوضوء.

علي أن إعراض الأصحاب في المندوبات و المكروهات لا يصلح غالبا لتوهين النصوص، كما لا يكون عملهم جابرا لضعفها، لبنائهم علي التسامح في بيانها، و في أدلتها.

و أما ما تضمن أن الوضوء بعد الغسل بدعة، فلا ينهض بإثبات عدم مشروعية التجديد، لا لما عن المجلسي من تبادره لصورة عدم الفصل بالصلاة، بل لظهوره في عدم الحاجة له من حيثية الحدث الأكبر، و لا ينافي مشروعيته للتجديد.

و منه يظهر عدم الحاجة للفصل بصلاة، بناء علي ما سبق.

كما ظهر عدم صلوح الإعراض المذكور لتوهين المرسل و رفع اليد عنه لو نهض بإثبات مشروعية الثالث.

فالعمدة وهنه. أولا: بعدم التعرض فيه لما يحقق الطهر إلا بحمله علي العهد، و المتيقن إرادة الوضوء من العهد، و لا طريق لإحراز إرادة جميع الطهارات منه، و لا سيما مع ظهور المفروغية عن عدم إرادة الطهارة من الخبث منه. فلاحظ.

و ثانيا: بضعف السند و ابتناء العمل به علي قاعدة التسامح في أدلة السنن منه، التي سبق غير مرة عدم تماميتها، و إن حسنت متابعتها برجاء المطلوبية.

هذا، و لو نهض المرسل بإثبات مشروعية التجديد بالغسل، فالمتيقن منه مشروعيته للطاهر من الحدث الأصغر، لأن مقتضي إطلاق الطهر الطهر من جميع الأحداث، و يحتاج إثبات مشروعيته مع الحدث الأصغر لفهم ابتناء التجديد

ص: 219

______________________________

بالإضافة للطهارة علي الانحلال.

و لا مجال لتوهم إجزائه عن الوضوء حينئذ، لأن المتيقن من إجزاء الغسل عن الوضوء إجزاؤه إذا ورد علي الحدث الأكبر، لا ما يعم التجديد.

إلا أن يبني علي إجزاء كل غسل عن الوضوء، لكن لا يظن من أحد البناء علي ذلك في الغسل التجديدي.

ثمَّ ان التجديد بالتيمم عند تعذر الوضوء مبني علي عموم بدلية التيمم للتجديد، و هو غير بعيد.

و أما عند تعذر الغسل، فهو مبني علي الكلام في مرسل سعدان المتقدم.

نعم، لا ينبغي التوقف في إمكان التجديد بالوضوء بعد التيمم بدلا عن الغسل المجزئ عن الوضوء، بناء علي ما سبق في التجديد بالوضوء بعد الغسل، لكن لم أعثر علي من تعرض لذلك. فلاحظ.

هذا ما تيسر لنا ذكره في المقام من الوضوءات المستحبة.

و بقي منها ما يأتي التعرض له في محل آخر، كالوضوء لنوم الجنب و أكله و شربه و مع غسله، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث الجنابة، و الوضوء لذكر الحائض في وقت الصلاة الذي يأتي الكلام فيه في مبحث الحيض، كما يأتي فيه الكلام في الوضوء للحدث الأكبر غير الجنابة، الذي هو راجع للكلام فيما يستحب منه الوضوء، لا ما يستحب له، و توضئة الميت مع تغسيله، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث تغسيل الميت، و الوضوء للأذان و الإقامة، الذي يأتي الكلام فيه في كتاب الصلاة إن شاء اللّه تعالي.

كما أن بعض ما ذكره من الوضوءات المستحبة راجع إلي ما يستحب الوضوء منه، الذي تقدم الكلام فيه في النواقض.

و ربما فاتنا التنبيه علي بعض الوضوءات المستحبة، و نسأله سبحانه العون و التوفيق.

ص: 220

______________________________

تنبيهان:

الأول: الوضوءات المذكورة إن كان دليلها معتبرا في نفسه، فلا إشكال في البناء علي صحتها و ترتب الأثر عليها، و إلا كان استحبابها مبنيا علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، التي تقدم عدم تماميتها، و لا مجال لدعوي انجبار ضعف الدليل بعمل الأصحاب لو تمَّ، لما أشرنا إليه آنفا من عدم صلوح عملهم لذلك في المستحبات و المكروهات.

و حينئذ لا مجال للبناء علي صحة الوضوء و ترتب الأثر عليه بناء علي اعتبار التقرب فيه بقصد الأمر، بل لا بد في ترتيب الأثر عليه من الإتيان به لغاية أخري معلومة المشروعية، بنحو تكون مستقلة في الداعوية، و إنما يتجه البناء علي الاكتفاء فيه بقصد الغايات المتقدمة بناء علي ما سبق منا من الاكتفاء في عبادية الوضوء بقصد القربة بأي وجه اتفق، علي ما سبق التعرض له في المسألة الواحدة و السبعين في الفصل الثالث. فراجع.

الثاني: أن الوضوءات المتقدمة إن كانت مستحبة لاستحباب غاياتها- كالوضوء للكون علي الطهارة أو في المسجد و لقراءة القرآن- فلا إشكال في مقربيتها و الاكتفاء في عباديتها بقصدها.

و إن كانت رافعة لكراهة بعض الأمور- كما لعله ظاهر النص الوارد في الوضوء لجماع الحامل- ابتنت الصحة مع قصدها علي ما سبق في الوضوء للمس في المسألة السابعة و التسعين.

و كذا لو كانت مستحبة لاستحباب الطهارة في حال أمر لاحق غير مأمور به حين إيقاع الوضوء، فقد تقدم هناك الكلام فيه.

ص: 221

مسألة 101 إذا دخل وقت الفريضة يجوز الإتيان بالوضوء بقصد فعل الفريضة

مسألة 101: إذا دخل وقت الفريضة يجوز الإتيان بالوضوء بقصد فعل الفريضة (1)، كما يجوز الإتيان به بقصد الكون علي الطهارة، و كذا يجوز الإتيان به بقصد الغايات المستحبة الأخري (2).

______________________________

كما أن ما يكون مطلوبا للمكلف بلحاظ الأثر الوضعي يبتني قصد أثره علي ما سبق في الوضوء لقضاء الحاجة. فراجع.

(1) و هو المتيقن منهم و من النصوص و السيرة، لتحقق التقرب المعتبر في الوضوء بقصدها، لما فيه من الانقياد بالشروع في امتثال التكليف بالفريضة.

و هو ظاهر، بناء علي ما سبق منا في المسألة الواحدة و السبعين من عدم اعتبار قصد أمر فعلي في عبادية الوضوء.

و أما بناء علي اعتبار ذلك، فلا بد من رجوع قصد فعل الفريضة إلي قصد الأمر الغيري الناشئ من قبل الأمر بالفريضة، بناء علي ثبوت الأمر الغيري بالمقدمة، و أما بناء علي عدمه- كما هو التحقيق- فلا بد من كون مرجع اعتبار قصد الأمر في الوضوء إلي ما يعم الأمر النفسي له عقلا بسبب مقدميته لامتثاله، لما ذكرناه من عدم الإشكال بقصد الفريضة.

هذا، و قد سبق في الوضوء التهيئي الاكتفاء بقصد فعل الفريضة حتي في الوضوء المأتي به قبل الوقت.

كما أن الكلام في غير الفريضة من الغايات الواجبة عند اجتماعها مع الغايات المستحبة هو الكلام فيها.

و أما تعدد الغايات الواجبة، فيظهر الحال فيه مما يأتي في قصد الغايات المستحبة.

(2) من الظاهر أن فعلية وجوب الفريضة بعد الوقت لا تنافي فعلية استحباب الغايات المذكورة، لتعدد الموضوع، فلا يلزم اجتماع الضدين، كما لا تلازم بينها بنحو يستلزم لغوية استحبابها مع وجوب الصلاة، أما في غير الكون

ص: 222

______________________________

علي الطهارة من الغايات المذكورة- كقراءة القرآن و دخول المساجد- فظاهر، و أما فيه فلأن الصلاة و إن كانت مستلزمة له في الجملة، إلا أنها تستلزمه بقدرها في بعض أجزاء الوقت، و المستحب منه هو الكون علي الطهارة في كل آن، فلا يلغو استحبابه بالنحو المذكور مع وجوبها.

نعم، قد يتوجه ذلك في آخر الوقت لمن لم يصل، حيث يتعين عليه فعل الصلاة حينئذ، و هو مستلزم للكون علي الطهارة فيه، كما يتوجه في غير الكون علي الطهارة مما يزاحم الفريضة، و يظهر الحال فيه مما يأتي. و الكلام فعلا في غيره.

فنقول: لا ينبغي التأمل في صحة الوضوء بقصد الغاية المستحبة، بناء علي عدم اعتبار قصد الأمر به- كما تقدم- لكفاية ذلك في التقرب، لما فيه من الانقياد بالشروع في امتثال الغاية المستحبة.

و كذا بناء علي اعتبار قصد الأمر الفعلي، لما سبق من أن المراد بالأمر ما يعم الأمر النفسي بما يتوقف عليه، و قد عرفت فعلية الأمر بالغاية المستحبة في وقت الفريضة.

و أما بناء علي لزوم قصد أمره، و أن قصد الغاية المأمور بها نفسيا عند الوضوء راجع إلي قصد الأمر الغيري المترشح عليه منها، فقد يدعي امتناع قصد الغاية المستحبة بعد دخول وقت الفريضة، لصيرورة الوضوء مجمعا للأمرين الغيريين، الوجوبي و الاستحبابي، تبعا للأمرين النفسيين بالفريضة و الغاية المستحبة، و حيث يمتنع اجتماع الأمرين المذكورين في موضوع واحد، لتضادهما، تعين اندكاك الأمر الاستحبابي بالوجوبي، و لا يكون الأمر الفعلي بالوضوء إلا الوجوبي، و لا مجال مع ذلك لقصد الغاية المستحبة الراجع لقصد أمرها، لعدم ثبوته.

لكنه يندفع. أولا: بأنه موقوف إما علي القول بعدم اختصاص الأمر الغيري بالمقدمة الموصلة، أو علي فرض إيقاع الصلاة بالوضوء المذكور، أما بناء علي ما

ص: 223

______________________________

هو التحقيق من اختصاصه بالموصلة فلو لم تترتب الصلاة علي الوضوء المأتي به فهو غير واجب غيريا، بل مستحب لا غير.

بل لا يظن بأحد البناء علي عدم جواز قصد الاستحباب بالوضوء الذي لا يعلم بترتب الفريضة عليه و لا تقصد منه، بل يراد به الغايات المستحبة.

و إلا لزم تعذر الغايات المذكورة لتعذر الوضوء، لأنه و إن كان متصفا بالوجوب الغيري، بناء علي اتصاف غير الموصلة به، إلا أنه لا يصلح للمقربية المعتبرة فيه، لأن مقربية امتثال الأمر الغيري مشروطة بقصد التوصل به لامتثال الأمر النفسي بلا إشكال.

و ثانيا: بأن اندكاك الاستحباب بالوجوب مختص بما إذا اتفق موضوعاهما في الإطلاق و التقييد، أما إذا اختلفا فلا مجال له، لتعدد الموضوع حقيقة، بلحاظ أن المطلق بحده مباين للمقيد، و كذا المقيدان مع اختلاف قيديهما سعة و ضيقا، و هو الحال في كثير من فروض المقام، لوضوح أن وجوب الوضوء غيريا المترشح من وجوب الصلاة راجع إلي التكليف به موسعا في تمام أجزاء الوقت.

أما استحبابه الغيري المترشح من الغايات المستحبة، فلا بد أن يكون بالنحو المناسب لها، إما مضيقا في الآن الأول فالأول، كما في استحبابه للكون علي الطهارة أو في المسجد، و لقراءة القرآن و نحوها، أو بنحو آخر من التضييق، كما في استحبابه للنافلة التي وقتها أضيق من وقت الفريضة، أو للنوم، أو غير ذلك.

و إلا فلا مجال للالتزام بأن نتيجة اجتماع الاستحباب المضيق و الوجوب الموسع في المقام ثبوت الوجوب فقط، إذ لو كان مضيقا لم يناسب ملاكه، و إن كان موسعا لزم عدم اقتضاء استحباب الغاية المضيقة- الذي عرفت فعليته- فعل مقدمتها.

إن قلت: يمكن الالتزام بوجوب الوضوء موسعا لا غير، مع استحباب تعجيله، لا استحباب نفسه، ليتجه قصد الاستحباب به.

قلت: الحكم تابع للملاك، و من الظاهر أن ملاك الأمر الغيري هو المقدمية

ص: 224

______________________________

للمأمور به النفسي، و ما هو المقدمة للغاية المستحبة ليس هو التعجيل، بل نفس الوضوء المعجل به، حيث تترتب عليه الغاية المستحبة، كما تترتب عليه الغاية الواجبة.

إن قلت: المطلق و إن كان مباينا للمقيد بحده، إلا أنهما متحدان في الخارج، و حيث كان الوضوء الواقع بعد الوقت فردا للواجب الغيري لإمكان ترتب الفريضة عليه امتنع استحبابه مع ذلك.

قلت: امتناع اجتماع الأحكام التكليفية لتضادها إنما هو بلحاظ مقام الجعل و الخطاب، حيث ترد علي الماهيات الكلية القابلة للإطلاق و التقييد، لا بلحاظ مقام الامتثال بالفعل الخارجي، فإنه ظرف سقوط التكليف لا ثبوته.

و ليست هي كالأحكام الوضعية و الأعراض الخارجية، كالزوجية و الرقية و البياض و الحرارة، العارضة علي الأفراد الخارجية دون الماهيات الكلية.

فغاية ما يلزم في المقام امتثال كلا الحكمين بالوضوء الخارجي الواحد، لا اتصافه بهما.

و تمام الكلام في ذلك في مبحث اجتماع الأمر و النهي، و قد أشرنا إلي طرف منه في مبحث تداخل الأغسال في المسألة الثالثة و السبعين، فراجع و تأمل.

و ثالثا: بأن الوجوب و الاستحباب لما كانا مشتركين في الاقتضاء و الطلب و مختلفين في الإلزام و عدمه، فاندكاك الاستحباب بالوجوب عند اجتماعهما إنما هو بمعني ارتفاع عدم الإلزام الذي به امتياز الاستحباب، مع بقاء الطلب و الاقتضاء الناشئ من قبله، لعدم التنافي بينه و بين الطلب و الاقتضاء الناشئ من الوجوب، بل يتأكد أحدهما بالآخر، كما لو اجتمعت جهتان للوجوب أو للاستحباب.

و من الظاهر أن منشأ التقرب بالاستحباب مع انفراده هو الطلب و الاقتضاء، لا عدم الإلزام، فلا يكون اندكاك الاستحباب بالوجوب في المقام مانعا من التقرب به، لبقاء منشأ التقرب معه، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و ربما يرجع إليه ما عن السلطان من استحباب الوضوء في كل وقت حتي

ص: 225

______________________________

وقت الفريضة، كما يحتمل رجوعه لما سبق في الوجه الثاني.

نعم، لو قصد التقرب بالاستحباب مقيدا بوجوده الاستقلالي و بحده غير المندك في الوجوب، اتجه البطلان مع الغض عن الوجهين السابقين.

لكنه محتاج إلي عناية خاصة- كما سبق نظيره في المسألة الواحدة و السبعين- و خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في قصد الغاية المستحبة من حيث هو.

و من هنا ظهر الحال فيما لو ضاق وقت الفريضة حيث يكون استحباب الكون علي الطهارة لغوا، كما سبق، فإن لغوية الاستحباب حينئذ إنما هي بمعني لغوية الحكم بعدم الإلزام، لا بمعني لغوية الطلب و الاقتضاء، الذي هو ملاك التقرب فيه، بل هو باق مع وجوب الفريضة، غير لاغ، لأنه موجب لتأكيد الداعوية نحو الفعل.

و أما الغايات المستحبة المزاحمة للفريضة، و التي عرفت سقوط أمرها، فتبتني صحة الوضوء بقصدها إما علي الأمر الترتبي، أو إمكان التقرب بالملاك، و كلاهما تام، علي ما حرر في مسألة الضد.

هذا كله مع الالتفات للحال، أما مع الغفلة عن وجوب الفريضة و تخيل فعلية الغاية المستحبة لا غير، فلا يتوقف تصحيح الوضوء علي ما تقدم، لما سبق في المسألة الواحدة و السبعين من الاكتفاء في الوضوء بالتقرب و لو بقصد أمر متخيل لا واقع له، فراجع.

ثمَّ إن ما سبق مبني علي عدم اعتبار نية الوجوب و الندب في الوضوء، و أما بناء علي اعتبار نية أحد الأمرين، فظاهر القائلين به إرادتهم من الندب هو الندب غير المجامع للوجوب- كما فيما قبل الوقت- أما المجامع له- مع الاندكاك أو بدونه، علي الكلام السابق- فلا يكفي قصده، لظهور كلامهم في التفصيل القاطع للشركة، فلا يجوز مع الوجوب نية الندب و إن كان ثابتا في الجملة.

لكن أدلتهم المتقدمة قد تقصر عن ذلك، بل تناسب الاكتفاء بنية الندب في

ص: 226

______________________________

محل الكلام.

و الأمر سهل بعد ما سبق في مباحث النية من عدم تمامية المبني المذكور و أنه يكفي التقرب، الذي عرفت حصوله بقصد الغاية المندوبة في المقام.

بقي في المقام شي ء، و هو أنه وقع الكلام بين الأصحاب في أن الوضوء المأتي به لغاية هل يجوز الدخول به في بقية الغايات، أو لا؟ و قد اضطربت كلماتهم في ذلك و كثرت الأقوال المنقولة فيه بما لا مجال لاستقصائه و إطالة الكلام فيه، بل ينبغي التعرض لأمرين يتضح منهما الحال في ذلك.

الأول: الظاهر أن كل وضوء وارد علي الحدث الأصغر مع الطهارة من الأكبر موجب للطهارة من الحدث الأصغر، بأي غاية وقع، فإن أدلة كثير من وضوءات الغايات قد تضمنت إفادتها الطهارة، و من القريب جدا إلغاء خصوصية مواردها، كما هو المناسب للمرتكزات، و لا سيما بملاحظة ما تقدم في استحباب الكون علي الطهارة من أن تسمية الأفعال المخصوصة بالوضوء إنما هو بلحاظ سببيتها للطهارة.

مضافا إلي أنه المستفاد من سبر النصوص الكثيرة.

منها: ما تضمن انتقاض الوضوء بالنواقض المذكورة و عدم انتقاضه بغيرها، لوضوح أنه لا يصح نسبة الانتقاض للوضوء إلا بلحاظ أثره القابل للاستمرار، و ليس أثره المقصود إلا الطهارة، كما يظهر بأدني نظر في النصوص و بالتأمل في المرتكزات.

و لا سيما مع التصريح بأن أثره الطهارة منها فيما عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام بسند لا يخلو عن اعتبار من قوله: «إنما وجب الوضوء مما خرج من الطرفين. لأن الطرفين هما طريق النجاسة. فأمروا بالطهارة عندما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم.» «1».

و منها: ما تضمن إطلاق الموجب علي النواقض، لوضوح أنه لا يراد به

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 227

______________________________

وجوبه بها تكليفا، بل تحقق موضوعه و هو الحدث المرتفع به، فتأمل.

و منها: ما تضمن التعبير بكون المكلف علي وضوء، لظهور أن ما هو القابل للاستمرار هو الأثر، الذي عرفت أنه الطهارة.

و مثله ما تضمن التعبير عنه بأنه متوضئ، لوضوح عدم إرادة صدور الوضوء منه و لو تعقبه الحدث، بل كونه علي وضوء و طهارة.

و منها: ما تضمن إطلاق الطهور و الطهارة علي الوضوء، و هي نصوص كثيرة لا مجال لاستقصائها كقوله عليه السّلام: «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهروا» «1»، و هو الذي أشير إليه في ذيل آية الوضوء و الغسل و التيمم بقوله تعالي:

وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ «2»، و غير ذلك.

فإن بعضها و إن ورد في موارد خاصة إلا أن استفادة العموم من مجموعها قريب جدا، بل هو الظاهر من الطائفة الأولي، لظهورها في انتقاض كل وضوء به الملازم لكونه ذا أثر قابل للانتقاض.

فلا ينبغي التأمل بلحاظ جميع ما تقدم في العموم المذكور.

إن قلت: هذا قد يتم في الوضوء المأتي به للغايات المعلومة المشروعية، دون ما لم تثبت مشروعيته و إنما يؤتي به برجاء المطلوبية أو بتخيل أمر لا واقع له، حيث لا طريق لإثبات ترتب الطهارة عليه، لاختصاص ما تقدم بالوضوء المشروع.

قلت: عدم مشروعية الوضوء بالخصوصية المقصودة حين الإتيان به لا ينافي مشروعيته للكون علي الطهارة أو غيره من الغايات المشروعة، و مقتضي العموم المتقدم ترتب الطهارة عليه و إن لم يقصد أمر تلك الغايات به، لعدم الدليل علي اعتبار قصده في ترتب الطهارة عليه.

علي أن مقتضي أدلة النواقض مشروعيته و تحقق موضوعه و إن لم يكن مأمورا به، و مقتضي أدلة شرحه و تحديده بالغسلتين و المسحتين تحققه و ترتب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

(2) سورة المائدة: 6.

ص: 228

______________________________

أثره و هو الطهارة بها.

غاية ما دل عليه الإجماع اعتبار القربة فيه، و هي لا تتوقف علي اعتبار الأمر به، فضلا عن إحرازه، بل يكفي فيها احتماله و الاعتقاد به و لو خطأ.

فمشروعيته التي لا بد منها هي تحقق موضوعه المعلوم في المقام، لا ورود الأمر به، ليقدح عدم إحرازه.

و مما ذكرنا يظهر تحقق الطهارة بالوضوء الوارد علي الطهارة من الحدث الأصغر، و هو التجديدي، لأنه وضوء أيضا منتقض بالحدث، كما ينتقض غيره بمقتضي إطلاق أدلة النواقض، كما يناسبه التطهر عليه في معتبر محمد بن مسلم و أبي بصير المتقدم، و قد سبق في أواخر المسألة الواحدة و السبعين أن الوضوء الرافع و التجديدي ماهية واحدة مشتركة في أثر واحد قابل للتأكد، فراجع.

بل الظاهر أن الوضوء الوارد علي الحدث الأكبر إما موجب للطهارة من الحدث المقارن له، كالوضوء لمعاودة الجماع و لنوم الجنب، أو لتخفيفه، كما في وضوء الحائض وقت الفريضة- نظير وضوء المسلوس- و لذا لا إشكال ظاهرا في انتقاضه بالحدث، بنحو يمنع من ترتب الأثر المقصود منه عليه، كما هو مقتضي إطلاق نصوص النواقض. و هو المناسب للتعبير عنه في بعض نصوصه بالتطهر.

الثاني: أن تشريع الوضوء لجميع الغايات المأمور بها و غيرها ليس بلحاظ نفسه، بل بلحاظ أثره- و هو الطهارة- عليه، كما هو الظاهر من الأمر بالطهارة في بعضها، و بكون المكلف علي وضوء أو متوضئا في آخر، و بكلا الأمرين في ثالث، و هو الغالب في الغايات المذكورة، بل الظاهر- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- أن جميع أدلة الوضوءات المأمور بها في حال الحدث الأصغر دون الأكبر التي وصلتنا قد تضمنت ذلك.

نعم، بعض النصوص الواردة في الوضوء حال الحدث الأكبر لم تتضمن إلا الأمر بالوضوء، كما ورد في الوضوء لتغسيل الجنب للميت و جماع المغسل له،

ص: 229

مسألة 102 من سنن الوضوء وضع الإناء الذي يغترف منه علي اليمين

مسألة 102: سنن الوضوء- علي ما ذكره العلماء رضي اللّه عنهم- وضع الإناء الذي يغترف منه علي اليمين (1)،

______________________________

و معاودة الجماع.

إلا أن الظاهر رجوعه له أيضا، لأنه المنصرف منه ارتكازا، و لعدم الإشكال ظاهرا في استيناف الوضوءات المذكورة بالحدث الأصغر قبل فعل غاياتها، كما هو مقتضي إطلاق أدلة النواقض.

و قد تقدم في الوضوء للكون علي الطهارة ما له نفع في المقام، فراجع.

إذا عرفت هذا، ظهر أن الوضوء المأتي به لغاية يجوز الدخول به في غيرها من الغايات، من دون فرق بين الصلاة و غيرها، و لا بين الغاية الواجبة و غيرها، لأنه إذا كان الوضوء موجبا للطهارة، و كانت هي الشرط في جميع الغايات، تعين جواز إيقاع تلك الغايات بذلك الوضوء ما لم ينتقض بالحدث.

نعم، لا بد من عدم مانع آخر من إيقاع الغاية، كالحدث الأكبر المانع من كثير من غايات الوضوء، و إن شرع الوضوء حينه لبعض الغايات، حيث لا ينفع الوضوء المذكور إلا للغايات المشروعة حينه، فلو توضأ الجنب للجماع اكتفي به للجماع أو النوم، دون الصلاة.

و بما ذكرنا يظهر ضعف الخلاف في عموم ذلك من بعضهم، كما يظهر ضعف أدلتهم بالنظر فيها.

و لا يسعنا التعرض لأدلتهم و إطالة الكلام فيها بعد ما ذكرنا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و منه نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

(1) فقد أطلق جماعة من الأصحاب استحباب وضع الإناء علي اليمين، و في المدارك أنه المشهور، بل في المعتبر و عن الذكري أنه مذهب الأصحاب.

لكن في المعتبر أن المراد به الإناء الذي يغترف منه باليد، لا الذي يصب منه، بل في المدارك و عن نهاية الاحكام و جملة من الأصحاب تخصيصه بذلك،

ص: 230

______________________________

و أنه إذا كان ضيق الرأس فالمستحب وضعه علي اليسار، و في الجواهر: «و لعل إطلاق كثير منهم استحباب وضعه علي اليمين مبني علي استحباب كون إناء الوضوء مما يغترف منه».

و كيف كان، فقد يستدل عليه.

تارة: بالنبوي المرسل في المعتبر و غيره: «قال صلّي اللّه عليه و آله: إن اللّه يحب التيامن في كل شي ء» «1»، و ما روته العامة عن عائشة: «كان النبي يعجبه التيمن في تنعله و ترجله و طهوره و في شأنه كله» «2».

و اخري: بأنه أمكن في الاستعمال و أدخل في الموالاة، و لا سيما بناء علي ما يأتي من استحباب الاغتراف باليمين. و لعله لذا خصه بعضهم بما يغترف منه، دون ما يصب منه، حيث يكون الأسهل وضعه علي اليسار، كما قيل.

و يشكل الأول: بظهور التيامن و التيمن في العمل باليمين و البدء بها، كما في التطهير و الترجل و التنعل، لا ما يعم وضع الشي ء علي اليمين.

و الثاني- مع عدم اطراده-: بعدم وضوح الدليل علي استحباب الأسهل و الأمكن، و إن ذكر ما في المعتبر من أنه نوع من تدبير.

نعم، في الجواهر: «و كأنه إشارة إلي ما ورد في الأخبار- علي ما قيل-: إن اللّه يحب ما هو الأيسر و الأسهل». لكن لم نطلع علي الأخبار المذكورة ليتضح مفادها.

و أما ما في المدارك و عن الأردبيلي من أن الأولي العمل بما تضمنه صحيح زرارة الحاكي لوضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: «فدعا بقعب فيه شي ء من ماء فوضعه بين يديه» «3».

فيشكل: بأن الصحيح وارد لبيان نفس الوضوء الواجب، دون آدابه

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء حديث: 3 و المعتبر ص 43.

(2) عن صحيح البخاري باب التيمن في الوضوء.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 231

______________________________

و مقارناته، فلا يكون وضع الإناء بين اليدين دالا علي استحبابه، فضلا عن أن ينافي استحباب وضعه علي اليمين أو يخصصه بما يناسب الأمرين.

و منه يظهر ضعف ما في الجواهر من الاستدلال بنصوص الوضوءات البيانية علي استحباب كون الإناء مما يغترف منه، الذي تقدم منه توجيه إطلاق الأصحاب به.

هذا، و لو لم يكن الوضوء من الإناء، بل من نهر أو حوض أو حنفية أو غيرها، كان استحباب جعلها في جانب اليمين أو الاغتراف منها من الجانب المذكور أشكل، و إن احتمله في الجواهر.

و اعلم أنهم كما ذكروا استحباب وضع الإناء علي اليمين ذكروا استحباب الاغتراف بها، بل في المعتبر و عن الذكري نسبته للأصحاب.

و يقتضيه- مضافا إلي النبويين المتقدمين، بناء علي ما سبق فيهما- ما في صحيح ابن أذينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث المعراج: «فدنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من صاد، و هو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن، فتلقي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الماء بيده اليمني، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين» «1».

فما حكاه في مفتاح الكرامة عن المجمع من عدم الدليل علي استحبابه في غير محله.

نعم، ربما يدعي قصور ما تقدم عن الاغتراف لغسل اليمني، لأن النبويين إنما ينهضان بترجيح اليمين عند الدوران في العمل الواحد بينها و بين اليسار، لا في مثل المقام، حيث لا بد من أخذ الماء باليسار، و إنما الشك في استحباب زيادة عمل، و هو أخذه أولا باليمين و إفراغه فيها.

و أما الصحيح، فهو إنما ينهض باستحباب أخذ الماء باليمني للوجه، دون غيره، لأنه التناول الأول الذي حكي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و فرض كونه منشأ للاستحباب.

فلا مجال للبناء علي استحباب الاغتراف باليمني لغسلها، و لا سيما مع اشتمال

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 232

______________________________

غير واحد من نصوص الوضوءات البيانية «1» علي الاغتراف له باليسري.

و يشكل: بأن أخذ الماء باليسري لا يكون عملا بها عرفا إذا كان بنحو الصب فيها، بل يختص بما إذا كان بنحو التناول أو الاغتراف، فمع دوران الأمر بين الاغتراف باليمني و الصب باليسري و الاغتراف باليسري رأسا، يكون مقتضي النبويين استحباب الأول.

كما أن ظاهر الصحيح استحباب أخذ الماء باليمين لجميع أجزاء الوضوء، و إلا كان المناسب التنبيه علي خلاف ذلك في بعضها لمسيس الحاجة لذلك، و ليكن ذلك قرينة علي كون عمله صلّي اللّه عليه و آله كذلك، و إن لم ينبه صريحا لغير تناوله الأول. و أما نصوص الوضوءات البيانية، فهي لا تنهض دليلا في المقام، لما تقدم.

و لا سيما مع ما في صحيح محمد بن مسلم من قوله: «ثمَّ أخذ كفا آخر بيمينه فصبه علي يساره فغسل به ذراعه الأيمن» [2]. فإن تعمده عليه السّلام لذلك مع مخالفته لمقتضي الطبيعة ظاهر جدا في رجحانه، فيتعين الخروج به عن النصوص المتضمنة الاغتراف باليسري لو فرض ظهورها في استحباب ذلك بدوا، و حملها علي الجري علي الوضع الطبيعي من دون تصد لبيان المستحب في ذلك، بل الواجب لا غير.

و من ثمَّ كان استحباب ما تضمنه قويا جدا، كما نسبه في جامع المقاصد للأصحاب.

هذا، و مقتضي صحيح ابن أذينة عموم استحباب أخذ الماء باليمني لغير

______________________________

[2] الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 7. و نقل نحوه سيدنا المصنف قدّس سرّه في صحيح زرارة و بكير. لكنه مروي في الكافي هكذا: «ثمَّ غمس كفه اليسري فغرف بها غرفة فأفرغ علي ذراعه اليمني.» [الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3].

و في التهذيب و الاستبصار هكذا: «ثمَّ غمس كفه اليمني في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمني من المرفق.». [الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 11].

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء الأحاديث: 22، 3، 4، 6، 10.

ص: 233

و التسمية (1)،

______________________________

الاغتراف، و لا سيما مع كون مورده التلقي.

فلا مجال لما يظهر من جامع المقاصد من اختصاصه بصورة الأخذ بالاغتراف، و إن اقتصر الأصحاب عليه.

(1) كما ذكره جماعة كثيرة، بل في الغنية و المعتبر و المنتهي و عن الذكري و غيرها الإجماع عليه.

للنصوص المستفيضة «1»، و في كثير منها أن من سمّي طهر جسده كله و كان كمن اغتسل، و من لم يسم لم يطهر منه إلا ما أصابه الماء.

بل مقتضي ما تضمنه بعضها من أن من لم يسم علي وضوئه و غيره من عمله كان للشيطان فيه شرك، كراهة تركها.

هذا، و في مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إن رجلا توضأ و صلي، فقال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: أعد وضوءك و صلاتك، ففعل و توضأ و صلي، فقال له النبي: أعد وضوءك و صلاتك، ففعل و توضأ و صلي، فقال له النبي صلّي اللّه عليه و آله:

أعد وضوءك و صلاتك، فأتي أمير المؤمنين عليه السّلام فشكا ذلك إليه، فقال له: هل سميت حيث توضأت؟ قال: لا. قال: سمّ علي وضوئك، فسمي و توضأ و صلي، فأتي النبي فلم يأمره أن يعيد» «2». و مقتضي الأمر بالإعادة فيه شرطية التسمية.

و لا مجال للإشكال فيه بالإرسال، لما تقدم في تحديد الكر من حجية مراسيل ابن أبي عمير.

و كذا حمل التسمية فيه علي النية- كما صنعه الشيخ في التهذيب و الاستبصار- لمخالفته للظاهر جدا، بل يمتنع عادة عدم تحقق النية من الرجل المذكور.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 234

______________________________

كما أن حكاية الصادق عليه السّلام له لا تناسب كونه منسوخا، و إن احتمله في الوسائل.

نعم، هو لا ينهض بإثبات الشرطية بعد ظهور تسالم الأصحاب علي عدمها، المطابق للسيرة القطعية، و للنصوص المتضمنة أن من لم يسم لا يطهر منه إلا ما أصابه الماء، فإنه صريح في ترتب الأثر علي طهارته و عدم فسادها.

و من ثمَّ يقرب حمله علي الاستحباب، بل لعله الأنسب بلسانه في نفسه، لأن المهتم بالامتثال لا يترك الشرط إلا غفلة عن شرطيته، فيكفي تنبيهه عليها بأيسر طريق، أما تارك المستحب فكثيرا ما يتركه تسامحا فيه أو استهوانا له، فيناسبه إظهار شدة الاهتمام به بمثل هذا البيان الذي ليس من شأنه أن يغفل عنه.

و لا موجب مع ذلك لحمله علي التقية- حيث حكي عن بعض العامة القول بالوجوب- و إن جعله في الجواهر أولي و استشكل في العمل بمضمونه بالنسبة لمشروعية إعادة الوضوء و الصلاة لترك هذا المستحب.

بقي في المقام أمران.

الأول: حكي عن الذكري أنه لو ترك التسمية ابتداء عمدا أو سهوا أتي بها متي ذكر، و عن التذكرة و نهاية الاحكام التردد مع العمد، و في المنتهي: «لو فعلها خلال الطهارة لم يكن قد أتي بالمستحب».

أما النصوص، فهي مختلفة الألسنة، ففي جملة منها التعبير بالتسمية علي الوضوء، و في صحيح معاوية بن عمار: «فإذا توضأت فقل: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، اللهم.» «1»، و في مرسل ابن أبي عمير: «إذا سميت في الوضوء.» «2»، و في خبر أبي بصير و مرسل الصدوق: «من توضأ فذكر اسم

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 235

______________________________

اللّه.» «1».

و لا إشكال في شمول ما عدا الأول للتسمية في الأثناء، بل لا يبعد شمول الأول لها، و معه لا مجال لما سبق من المنتهي، و لا سيما مع ما ورد في آداب المائدة من مشروعية تدارك التسمية في الأثناء «2»، و هو المناسب للارتكاز هنا.

نعم، تضمن غير واحد من النصوص التسمية حين وضع اليد في الماء عند الاستنجاء مقدمة للوضوء «3»، و عند الوضوء «4»، و بعد الشروع في غسل الوجه «5» و في أول الوضوء «6»، بل في حديث الأربعمائة: «لا يتوضأ الرجل حتي يسمي، يقول قبل أن يمس الماء: بسم اللّه و باللّه.» «7».

إلا أنها لا تنافي الإطلاق المتقدم، بل تحمل علي الفضل، كما هو المناسب للارتكاز، و لما تضمن أن من لم يسم علي عمله كان للشيطان فيه شرك «8»، لأن حجز التسمية للشيطان عن الاشتراك في العمل إنما يكون من حين وجودها لا قبله، فإذا وقعت في الأثناء كان شريكا في أول العمل، فلاحظ.

الثاني: أن مقتضي إطلاق ذكر اسم اللّه تعالي في الوضوء الذي تضمنه غير واحد من النصوص الاكتفاء بذكر أحد أسمائه تعالي و لو مفردا، و إن لم يبعد انصرافه لخصوص ذكره في جملة تناسب تعظيمه، كالاستعانة به و الثناء عليه و تمجيده.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 4، 8.

(2) راجع الوسائل باب: 56، 58 من أبواب آداب المائدة.

(3) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 12، و باب: 26 من الأبواب المذكورة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 21.

(7) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(8) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 12، 13.

ص: 236

و الدعاء بالمأثور (1)،

______________________________

و لا يعتبر خصوص الاستعانة بمثل: بسم اللّه، و إن تضمنته جملة من النصوص، و لعله المنصرف من عنوان التسمية في غير واحد منها، لعدم التنافي بين المطلق و المقيد في المستحبات، و لا سيما مع ما تقدم في صحيح معاوية بن عمار من الاكتفاء بالشهادة و الدعاء.

(1) يعني: للوضوء بجملته، أما الدعاء لأجزائه و مندوباته فسيأتي منه قدّس سرّه التعرض له.

و قد تضمنت ذلك جملة من النصوص علي اختلافها في كيفية الدعاء.

ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «إذا وضعت يدك في الماء فقل: بسم اللّه و باللّه. اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «1».

و نحوه حديث الأربعمائة «2»، إلا أنّه تضمن أن ذلك قبل وضع اليد في الماء.

و صحيح معاوية بن عمار «3»، إلا أنه أبدل التسمية بالشهادة- كما تقدم- و أضاف في ذيله: «و الحمد للّه ربّ العالمين».

و في مرسل الصدوق: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام إذا توضأ قال: بسم اللّه و باللّه و خير الأسماء للّه و أكبر الأسماء للّه، و قاهر لمن في السماء و قاهر لمن في الأرض.

الحمد للّه الذي جعل من الماء كل شي ء حي و أحيا قلبي بالإيمان. اللهم تب علي و طهرني و اقض لي بالحسني و أرني كل الذي أحب و افتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 237

و غسل (1) اليدين (2)

______________________________

و يأتي حديث وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام عند التعرض لأدعية أجزاء الوضوء إن شاء اللّه تعالي.

(1) كما صرح به جمع كثير من القدماء و المتأخرين، بل في الخلاف و الغنية و المعتبر دعوي الإجماع عليه.

و تقتضيه جملة من النصوص، كصحيح الحلبي [عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: سئل كم. كافي]: «سألته عن الوضوء كم يفرغ الرجل علي يده اليمني [يده. في] قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث البول، و اثنتان من حدث الغائط [الغائط.

في] و ثلاث من الجنابة» «1»، و صحيح عبد الكريم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يبول و لم يمس يده اليمني شي ء أ يدخلها في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال:

لا، حتي يغسلها. قلت: فإنه استيقظ من نومه و لم يبل أ يدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا، لأنه لا يدري حيث باتت يده، فليغسلها» «2»، و غيرهما.

و هي محمولة علي الاستحباب أو كراهة ترك غسل اليد، لتسالم الأصحاب علي عدم الوجوب، و للنصوص كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «ثمَّ غمس فيه كفه اليمني، ثمَّ قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة» «3»، و صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السّلام: «سألته عن الرجل يبول و لا يمس يده اليمني شيئا أ يغمسها في الماء؟ قال: نعم و إن كان جنبا» «4»، و غيرهما.

(2) كما هو المصرح به في كلام الأصحاب و معاقد إجماعاتهم.

و يقتضيه- مضافا إلي تثنية اليدين في غير واحد من نصوص الجنابة «5» -

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 28 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(5) راجع الوسائل باب: 26، 44 من أبواب الجنابة.

ص: 238

______________________________

إطلاق اليد في ذيل صحيح عبد الكريم المتقدم، و في حديث حريز عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: يغسل الرجل يده من النوم مرة، و من الغائط و البول مرتين، و من الجنابة ثلاثا» «1»، و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يتوضأ في الكنيف بالماء يدخل يده فيه أ يتوضأ من فضله للصلاة؟ قال: إذا أدخل يده و هي نظيفة فلا بأس، و لست أحب أن يتعود ذلك، إلا أن يغسل يده قبل ذلك» «2» و مرسلي الصدوق الآتيين «3».

و لا ينافيه التقييد باليمني في صدر صحيح عبد الكريم و في صحيح الحلبي علي رواية التهذيب و الاستبصار- كما سبق- لوقوعه في كلام السائل.

علي أن إلغاء خصوصيتها عرفا قريب جدا.

فما في الحدائق و الجواهر من التأمل في استحباب غسلهما معا من النصوص في غير محله.

و مثله توجيهها الاقتصار علي اليمني بأنها هي التي تدخل في الماء يغترف بها لجميع أعضاء الوضوء، لوضوح أنه لا أثر لذلك مع عموم استحباب غسل اليد لصورة عدم الاغتراف بها، و مع تقييده بالاغتراف لا يستحب غسل اليد بدونه و إن كانت اليمني، و يستحب معه و إن كانت اليسري.

و كذا ما في الحدائق من أن ما تضمنته رواية عبد الرحمن الآتية الحاكية لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله عليه السّلام: «فأتاه محمد بالماء فأكفاه فصبه بيده اليسري علي يده اليمني» «4» ظاهر في الاقتصار علي غسل اليمني، لاندفاعه بأن صب الماء عليها لا يستلزم تخصيصها بالغسل، لتعارف غسلهما معا بالصب علي إحداهما. علي أنها لم تتضمن كون الصب لغسل اليد، بل لعله للاستنجاء المذكور

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 4، 5.

(4) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 239

من الزندين (1)

______________________________

بعد ذلك، فلاحظ.

(1) كما في المنتهي و جامع المقاصد و الروضة و كشف اللثام و المدارك و عن الذكري، و إليه يرجع ما في القواعد من الاقتصار علي الكفين.

و هو الظاهر من النصوص المتقدمة- بعد القطع بعدم إرادة المعني الحقيقي منها، و هو تمام العضو إلي الكتف- لأن الكف هو المعد للاستعمال و به يكون تناول الماء من الإناء، و لذا كان هو المنصرف من إطلاق غسل اليد للأكل، و إرادة ما زاد عليه مع ذلك تحتاج للبيان.

بل لم يعهد إطلاق اليد علي ما زاد علي ذلك مما دون الذراع، و إطلاقها علي ما ينتهي بالمرفق- كما في الوضوء- من دون تقييد لو ورد لا مجال للجري عليه هنا، لبعد إرادة ذلك في نفسه بعد كونه هو الواجب في الوضوء، فلا يمكن الاعتماد علي الإطلاق في بيانه، بل يتعين للكفين.

و لعله لذا نسب في الحدائق التحديد بالزندين للأصحاب، مع عدم التحديد به قبل العلامة، و إنما اقتصر الأكثر علي التعبير باليدين، بل هو المنسوب للأصحاب في كشف اللثام و مفتاح الكرامة، و هو مورد جل دعاوي الإجماعات المتقدمة أو كلها.

نعم، ورد الأمر بغسل الذراع في بعض نصوص الجنابة «1»، و نصفه في آخر «2»، و ما دون المرفق في ثالث «3». و هو لا ينافي ظهور الإطلاق في الكفين.

و بهما صرح في جملة منها «4»، و يتعين الجمع باختلاف مراتب الفضل أو بغير ذلك

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6، 16، و باب: 44 من الأبواب المذكورة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 44 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(4) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

ص: 240

قبل إدخالهما في الإناء الذي يغترف منه (1)

______________________________

علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتجه بناء علي استحباب غسل اليدين تعبدا مطلقا، أما بناء علي اختصاصه بما إذا أريد غمسهما في الماء فالأقرب الحمل علي المقدار الذي يغمس و يغترف به، و إن زاد علي الكف، لأنه المناسب لارتكاز كون الغسل فرارا عن انفعال الماء بأثر الحدث المذكور، حيث يصلح ذلك لأن يكون قرينة عرفا علي تعيين المقدار المغسول بعد تعذر الحمل علي المعني الحقيقي.

(1) كما هو المصرح به في كلام الأصحاب و معاقد إجماعاتهم المتقدمة.

و يقتضيه إطلاق ما تقدم في صحيح عبد الكريم صدرا و ذيلا.

مضافا في النوم لحديث حريز المتقدم و مرسل الصدوق عن الصادق:

«قال عليه السّلام: اغسل يدك من النوم مرة» «1».

و في البول لصحيح الحلبي المتقدم، و مرسل الصدوق الآخر: «قال الصادق عليه السّلام: اغسل يدك من البول مرة، و من الغائط مرتين، و من الجنابة ثلاثا» «2».

نعم، تقدم في حديث حريز أن الغسل من الغائط و البول مرتين.

و قد حمله غير واحد علي إرادة اجتماعهما فيكتفي بالأكثر- الذي هو حكم الغائط- للتداخل، لا علي صورتي انفراد كل منهما، لينافي ما تقدم، و إلا كان الأنسب الفصل بينهما ب «من»، كما فصل بها بين الصور الثلاث.

لكنه مستلزم لخلو ذكر البول عن الفائدة و إهمال حكمه مع شدة الحاجة لبيانه، لشيوع صورة انفراده.

و لعل عدم الفصل بينهما ب «من» لاتحاد حكمهما، لا لإرادة صورة اجتماعهما. و من ثمَّ لم يبعد الجمع بينه و بين صحيح الحلبي و مرسل الصدوق

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 241

لحدث النوم أو البول مرة (1)،

______________________________

بالحمل علي بيان الأفضل.

و لعله الوجه فيما عن المجمع من أن المرة أقل الاستحباب، و إلا فيستحب مرتان في البول و النوم.

نعم، يشكل في النوم، لعدم الدليل.

و أشكل منه ما في اللمعة من إطلاق استحباب المرتين في الوضوء الشامل للوضوء من الريح و بقية النواقض، بل للوضوء التجديدي، مع عدم الدليل علي استحباب غسل اليدين فيهما، فضلا عن كونه مرتين.

(1) فلو لم يكن الوضوء بالاغتراف لم يستحب الغسل، كما هو ظاهر جل الأصحاب، لاشتمال فتاواهم و معاقد إجماعاتهم علي القيد المذكور.

و كأنه لظهور صحيحي الحلبي و عبد الكريم و خبر علي بن جعفر في خصوصية الإدخال في الإناء.

لكن قرّب في كشف اللثام و غيره العموم، لإطلاق حديث حريز و مرسلي الصدوق، لدعوي عدم نهوض النصوص الأول بتخصيصها، و كأنه لأن التقييد به فيها وقع في كلام السائل، و لعدم التنافي بين المطلق و المقيد في المستحبات، كما سبق.

و يشكل: بأن ظاهر النصوص الاولي خصوصية الإدخال في استحباب الغسل، و أنه إنما يكون لأجله، لا مجرد ثبوته معه، فلا بد من الجمع بينها و بين الثانية إما بتأكد الاستحباب لأجل الغمس، أو بحمل الثانية علي صورة إرادة الإدخال، و الثاني أقرب، لقرب عدم صدور الثانية لبيان استحباب الغسل، ليستفاد منه العموم، بل لبيان عدده مع المفروغية عن استحبابه في الجملة من دون تحديد لمورده، و لذا لم يقيد حتي بالوضوء، و بل لو بني علي إطلاقه كان من أحكام نفس الحدث و لو مع العلم بتجدده قبل الطهارة، و هو بعيد جدا، و لذا لم يشر الأصحاب

ص: 242

و الغائط مرتين (1).

______________________________

لذلك في أحكام الخلوة، بل جعلوه من سنن الوضوء.

إن قلت: لما كان الغسل قبل الاغتراف لتجنب تأثير اليد في الماء ارتكازا، فالمناسب عمومه لصورة عدم الاغتراف، لتجنب تأثيرها في الماء المصبوب بها لغسل الوجه.

قلت: ربما لا ينفعل الماء بوضعه في اليد لأجل غسل الوجه بها، بل تنغسل هي به مع الوجه، كما في وضعه فيها عند غسل اليد الأخري، فإن المتعارف غسلهما معا بصب الماء في إحداهما، و ليس هو كوضعها في الماء المستقر في الإناء، فتأمل جيدا.

و من ذلك يظهر اختصاص الاستحباب بالاغتراف بالقليل، كما صرح به في المنتهي و غيره، دون الكثير خصوصا مثل النهر، لا لأن منشأه احتمال النجاسة، لما يأتي، بل لقصور صحيحي الحلبي و عبد الكريم و خبر علي بن جعفر عنه بعد التعبير في الأول بالإناء، و في الثاني بوضوئه- الذي يراد به ما يتوضأ به من الماء، لا ما يتوضأ منه- و في الثاني بفضله، لظهور العناوين المذكورة في القليل العرفي، و لا تنطبق علي الكر، بل و لا علي بعض المراتب التي دونه، و إنما يعمم الحكم لها بفهم عدم الخصوصية، أو بظهور تسالم الأصحاب علي ذلك.

و منه يظهر ضعف ما في كشف اللثام من التعميم للكثير، لابتنائه علي العمل بالمطلقات.

و أضعف منه ما في الروضة من التعميم له مع الجري علي التقييد بالاغتراف، مع أن التقييد به يبتني علي إهمال المطلقات و الرجوع لنصوص التقييد الظاهرة في خصوص القليل.

(1) كما هو المصرح به في كلام الأصحاب و معاقد إجماعاتهم.

و يقتضيه صحيح الحلبي، و حديث حريز سواء حمل علي صورتي انفراد

ص: 243

______________________________

كل من البول و الغائط أم صورة اجتماعهما مع البناء علي التداخل.

لكن عن النفلية و البيان استحباب المرة فيه أيضا. و ردّ بعدم الدليل عليه.

اللهم إلا أن يستدل له بإطلاق خبر علي بن جعفر الشامل لصورة الاستنجاء بعد حدث الغائط، حيث يكون الجمع بينه و بين ما تقدم بالحمل علي الأفضل، لا بالتقييد، لعدم التنافي بين المطلق و المقيد في المستحبات.

و أما الاستدلال عليه بخبر حريز بحمله علي صورة الاجتماع مع البناء علي عدم التداخل، فهو كما تري، لما سبق من منع حمله علي صورة الاجتماع، و لأن الظاهر في المقام التداخل، لتفرع الاستحباب ارتكازا علي سببية الأحداث المذكورة لأثر يرتفع بالغسل، و قد سبق عند الكلام في اعتبار طهارة الأعضاء عند غسلها للوضوء أن مقتضي الإطلاق في الأسباب التداخل، و هو يقتضي في المقام الاكتفاء بغسل واحد لجميع آثار الأحداث.

مضافا إلي بعد عدم التداخل في نفسه جدا، لكثرة تكرر الحدث بنحو يلزم كثرة التكرار في الغسل و هو مغفول عنه، و لا سيما مع التداخل في نفس الوضوء، فعدم التنبيه عليه في النصوص موجب لوضوح التداخل، كما هو ظاهر الأصحاب لذلك أيضا، بل هو المصرح به في المنتهي و غيره.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر أن غسل اليدين ليس لتوهم النجاسة، فيستحب مع اليقين بعدمها، كما في المنتهي و نسبه الوحيد للأصحاب. و كأنه لإطلاق كلامهم.

و هو مقتضي إطلاق النصوص، بل هو متيقن منها، لغلبة اليقين بالطهارة بعد الاستنجاء، و للتصريح بعدم الإمساس في صحيح عبد الكريم و بنظافة اليد في خبر علي بن جعفر، حيث يبعد معهما الحمل علي خصوص صورة احتمال النجاسة، بل هو المناسب لاستحباب الغسل من البول مرة و من الغائط مرتين، مع أن التطهير منهما بالعكس.

و منه يظهر لزوم حمل التعليل في صحيح عبد الكريم بأنه لا يدري حيث

ص: 244

______________________________

باتت يده إما علي بيان الحكمة و لو بلحاظ إمكان خطأ يقين المكلف بالطهارة، أو علي جهله بتحقق ما يقتضي غسلها من مس الشيطان و نحوه، لا خصوص احتمال المكلف التنجس.

كيف و كثيرا ما يقطع المكلف بعدم تنجس يده حال النوم بنحو لا يمكن حمل الصحيح علي خصوص صورة احتماله، إذ لا يحسن إطلاق التعليل بالعلل غير الغالبة.

الثاني: لو لم يقصد الوضوء فهل يستحب غسل اليدين للاغتراف أو لا؟

وجهان، اختار ثانيهما في المنتهي. قال: «لعموم الأمر بالغسل لمريد الغمس».

لكن العموم المذكور غير ظاهر، لأن حديث حريز و مرسلي الصدوق لم يتعرض فيها للغمس، و المتيقن من صحيحي الحلبي و عبد الكريم صورة الغمس للوضوء، للسؤال في أولهما عنه، و في الثاني عن الغمس في الوضوء الذي هو الماء الذي يتوضأ منه.

فلعل الأولي أن يقال: الظاهر من الأمر بالغسل قبل إدخال اليد في الإناء لتجنيب الماء أثر الحدث الذي لا ينبغي معه استعماله، فمرجعه إلي كراهة الاستعمال بإدخال اليد قبل غسلها، و لا أثر في ذلك ارتكازا لنية الوضوء به، كما هو الظاهر من خبر علي بن جعفر، لظهوره في كراهة الوضوء بفضل ماء الاستنجاء مع إدخال اليد فيه للاستنجاء من غير غسل، غاية ما قد يدعي أن المتيقن من الاستعمال الذي يكره هو الوضوء، لأنه مورد النصوص المشار إليها.

و منه يظهر أن الغسل من آداب ماء الوضوء، لا من آداب الوضوء، كما قد يستظهر من الأصحاب و جزم به في الجواهر، فضلا عن أن يكون من أجزائه المستحبة، كما قد يظهر مما صرح به جماعة و حكي عن المشهور و الأكثر من جواز مقارنة نية الوضوء له، بناء علي ما هو ظاهرهم من إرادة النية التفصيلية التي ذكروا لزوم مقارنتها لأول العمل.

ص: 245

و المضمضة و الاستنشاق (1)،

______________________________

كما أنه ليس من آداب مطلق الماء، مع قطع النظر عن الوضوء به، كما هو مقتضي إطلاق ما حكاه في الجواهر عن بعضهم و استضعفه.

و لا من السنن المطلقة، كما احتمله في المنتهي، لدعوي كون منشئه توهم النجاسة التي عرفت ضعفها.

نعم، لو تمت الإطلاقات المتقدمة كان من سنن الأحداث المذكورة، كما سبق، و سبق عدم تماميتها.

الثالث: الظاهر عدم اعتبار النية في غسل اليدين، كما صرح به في المنتهي و محكي التحرير، لا لتعليله بتوهم النجاسة التي لا تعتبر النية في التطهير منها حتي مع العلم بها- و إن ذكره في المنتهي- لما سبق من عدم التعويل علي التعليل المذكور، بل لإطلاق أدلته المتقدمة، كما ذكره في المنتهي أيضا.

و دعوي: لزوم النية فيه، لأنه من سنن الوضوء، أو من أجزائه المستحبة.

مدفوعة: بما سبق من منع كونه من سنن الوضوء، فضلا عن أن يكون من أجزائه المستحبة.

مع أن الدليل علي اعتبار النية في الوضوء منحصر بالإجماع، و المتيقن منه الوضوء الواجب، دون أجزائه المستحبة، فضلا عن سننه و آدابه الخارجة عنه، فلاحظ.

(1) كما ذكره غير واحد، و في المدارك: أنه المعروف من المذهب، و نسبه في المنتهي و محكي التذكرة إلي علمائنا، و ادعي في الناصريات و الخلاف و الغنية الإجماع عليه.

للنصوص المستفيضة، كموثق سماعة: «سألته عنهما، قال: هما من السنة، فان نسيتهما لم يكن عليك إعادة» «1»، و غيره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 246

______________________________

و عن ابن أبي عقيل أنهما ليسا بفرض و لا سنة، و كأنه لخبر زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ليس المضمضة و الاستنشاق فريضة و لا سنة، إنما عليك أن تغسل ما ظهر» «1».

لكنه محمول- بقرينة النصوص المذكورة- علي أنه ليس مما دلت السنة علي وجوبه، كما هو المناسب للذيل المسوق لحصر ما يجب فعله، بل ربما يحمل كلام ابن أبي عقيل علي ذلك.

و به يجمع بين ما تضمن أنهما من الوضوء، كحديث أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عنهما، فقال: هما من الوضوء، فإن نسيتهما فلا تعد» «2» و ما تضمن نفي كونهما منه كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: المضمضة و الاستنشاق ليسا من الوضوء» «3»، و غيره.

و كأنها تعريض بما عن بعض العامة من البناء علي وجوبهما، للسنة، كالنبوي المذكور عنهم في المعتبر: «المضمضة و الاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه» «4».

و أما الجمع بين النصوص بما أشار إليه في الحدائق من أنهما من السنن المطلقة، لا من سنن الوضوء المرتبطة به، و نسب لصاحب رياض المسائل نصرة ذلك و الاستدلال عليه بالوضوءات البيانية، مع استضعاف النصوص الدالة علي ارتباطهما بالوضوء و حمل بعضها علي التقية، لاشتماله علي أحكام أخر تناسبها.

فيدفعه: إباء جملة من نصوصهما الحمل علي ذلك و فيها المعتبر السند، كموثق سماعة المتقدم المتضمن عدم وجوب الإعادة بتركهما، و لا مجال للحمل

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(4) المعتبر ص: 44.

ص: 247

______________________________

علي التقية مع إمكان الجمع العرفي، بمجرد اشتمال الخبر علي ما يوافقها، و لا سيما مع تسالم الأصحاب علي ذلك.

و لا ينافيه خلو النصوص البيانية عنهما، لسوقها لبيان الوضوء الواجب، كما سبق.

بقي في المقام أمران.

الأول: قال في المنتهي: «المضمضة إدارة الماء في الفم، و الاستنشاق اجتذابه في الأنف»، و هو المطابق لما ذكره بعض اللغويين.

لكن الظاهر الاكتفاء عرفا في المضمضة بتحريك الماء في الفم، كما ذكره في مجمع البحرين، لكن مع نحو من الشدة و الدفع و إن لم تتحقق الإدارة.

و لعله لذا قال في المبسوط عند الكلام في المضمضة و الاستنشاق: «و لا يلزم أن يدير الماء في لهواته، و لا أن يجذبه بأنفه» و في مفتاح الكرامة: «و في المجمع أنه يمكن أن يكون ذلك- يعني الإدارة- لتحصيل الكمال، لا لتحصيل نفس الاستحباب». و إلا فلا إشكال في عدم صدق المضمضة بمجرد إدخال الماء أو دخوله في فضاء الفم، بل هما مقدمة له.

و ربما حمل ما سبق من المبسوط علي الإدارة في جميع الفم و الجذب للخياشيم، حيث لا إشكال ظاهرا في عدم اعتبارهما في مفهوم المضمضة و الاستنشاق.

نعم، لا يبعد استحبابهما فيهما، لأنهما من المبالغة فيهما التي ورد الأمر بها في موثق السكوني، ففيه أنه صلّي اللّه عليه و آله قال: «ليبالغ أحدكم في المضمضة و الاستنشاق، فإنه غفران لكم و منفرة للشيطان» «1».

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 248

ثمَّ إن الظاهر أنه يعتبر في المضمضة أن يكون تحريك الماء بقوة الفم، و لا يكفي التحريك بالأصابع، خلافا لما في مجمع البحرين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 248

و تثليثهما (1)،

______________________________

الثاني: أنه لا إشكال في خروج المج و الاستنثار عن المضمضة و الاستنشاق، كما صرح بالأول في المنتهي و محكي نهاية الاحكام، و بالثاني في غيرهما، خلافا لما عن ظاهر التذكرة و الذكري في الأول، و عن بعضهم فيهما معا.

و ربما جعلا مستحبا آخر. و لعله للاستقذار، أو للتعارف، كما في الجواهر، فتأمل.

(1) كما هو صريح اللمعة و عن غيرها و عن ظاهر التذكرة و غيرها، بل التثليث في الجملة مما ذكره جماعة كثيرة، و ادعي عليه الإجماع في الغنية، و نسبه في الجواهر لفتوي الأصحاب.

و لا وجه لما عن بعض متأخري المتأخرين من إنكار مستنده بعد ما في خبر أبي إسحاق الحاكي لعهد أمير المؤمنين عليه السّلام لمحمد بن أبي بكر، من قوله عليه السّلام:

«و انظر إلي الوضوء، فإنه من تمام الصلاة، تمضمض ثلاث مرات، و استنشق ثلاثا.» «1».

و أما ما في كتاب الإمام الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين «2» من الأمر بالتثليث فيهما، فلا مجال للاستدلال به بعد صدور الكتاب للتقية و عدم ذكره في الكتاب الثاني بعد زوال سببها.

بل قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «ترك الأمر بهما عند زوال التقية شاهد بالخلاف، إلا أن يكون المراد به بيان الوضوء الواجب. لكن ذكر فيه الإسباغ، فلاحظ».

لكن لما كان المتروك هو المضمضة و الاستنشاق رأسا لا خصوص تثليثهما فلا يدل علي عدم استحباب تثليثهما لو ثبت استحبابهما.

و كيف كان، فالعمدة في المقام خبر أبي إسحاق الذي يكون الجمع بينه

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 19.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 249

و تقديم المضمضة (1)،

______________________________

و بين المطلقات بالحمل علي الأفضل، لأنه الذي يقتضيه الجمع بين المطلق و المقيد في المستحبات، و لا مجال للبناء علي التقييد، بحيث لا يشرع الاكتفاء بالمرة، و إن كان قد يستظهر من جماعة، بل في المبسوط و النهاية: «و لا يكونان أقل من ثلاث».

هذا، و في الجواهر: «ما ذكره بعضهم من كون الثلاث بثلاث أكف، و مع إعواز الماء يكفي الكف الواحدة لم أقف له علي مستند بالخصوص، بل عن مصباح الشيخ و مختصره و نهايته و المقنعة و الوسيلة و المهذب و الإشارة الاقتصار علي كف لكل منهما، و عن ظاهر الاقتصاد و الجامع الاكتفاء بكف لهما، كما هو مقتضي الإطلاقات. مع التأيد بالنهي عن السرف في ماء الوضوء، و في المبسوط: لا فرق بين أن يكونا بغرفة واحدة أو بغرفتين».

لكن تحقق المضمضة ثلاثا بكف واحدة لا يخلو عن تكلف، لاحتياجها لمقدار معتد به من الماء، و لا تصدق مع قلته، إلا أن يراد تكرار المضمضة بتمام ما في الكف بمجه ثمَّ إرجاعه، و هو بعيد جدا.

و لزوم السرف في ماء الوضوء ليس محذورا إذا لم يزد علي المدّ، و الظاهر عدم زيادته بتعدد الغرفات، فلاحظ.

(1) كما في الوسيلة و المنتهي و الروضة و التذكرة و محكي التحرير و نهاية الاحكام و الذكري و النهاية. و قد يستفاد ممن عطف الاستنشاق ب «ثمَّ»، كما عن المقنعة و البيان و غيرهما. و إن أمكن إرادتهم شرطية الترتيب، كما هو المصرح به في المبسوط و حكي عن جماعة، كما لعله ظاهر من ذكر أنه لو عكس استحب إعادة الاستنشاق.

و قد يستدل لاستحباب الترتيب أو شرطيته.

تارة: بالترتيب بينهما في الذكر في جميع النصوص.

ص: 250

و الدعاء بالمأثور عندهما (1)،

______________________________

و اخري: بوروده في خبر عبد الرحمن الحاكي لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام الآتي في بيان الأدعية المأثورة، بل هو مقتضي السيرة.

و هو كما تري! لاحتمال كون منشأ الجميع الترتيب بينهما طبعا، لأنه الأنسب بالتنزه عن قذر الأنف. علي أنه يأتي رواية الكافي للخبر بعكس الترتيب.

و من ثمَّ تنظر في كشف اللثام في الشرطية.

ثمَّ لو تمَّ الدليل علي الترتيب اقتضي الترتيب بين المضمضة أجمع و الاستنشاق، و لا وجه لما عن نهاية الاحكام من تقريب الاكتفاء بالمضمضة مرة ثمَّ الاستنشاق كذلك و هكذا ثلاثا.

(1) كما تضمنه خبر عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام الحاكي لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام، و فيه: «فأتاه محمد بالماء فأكفاه فصبه بيده اليسري علي يده اليمني، ثمَّ قال: بسم اللّه و باللّه و الحمد للّه الذي جعل الماء طهورا و لم يجعله نجسا. ثمَّ تمضمض فقال: اللهم لقني حجتي يوم ألقاك و أطلق لساني بذكراك، ثمَّ استنشق فقال: اللهم لا تحرّم علي ريح الجنة، و اجعلني ممن يشم ريحها و روحها و طيبها» «1».

و حذف في الفقيه و التهذيب من التسمية قوله: «و باللّه» و أبدلا قوله في دعاء المضمضة: «بذكراك» بقوله: «بذكرك»، و زاد فيه في الفقيه قوله:

«و شكرك».

و عن أربعين البهائي عن بعض الكتب ذكر دعاء الاستنشاق هكذا: «اللهم لا تحرمني طيبات الجنان و اجعلني ممن.».

و روي الحديث في الكافي هكذا: «فأتاه به فصبه بيده اليمني علي يده اليسري، ثمَّ قال: الحمد للّه الذي جعل الماء طهورا و لم يجعله نجسا. ثمَّ استنشق

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 251

و عند غسل الوجه (1) و اليدين (2) و مسح الرأس (3) و الرجلين (4).

______________________________

فقال: اللهم لا تحرّم علي ريح الجنة و اجعلني ممن يشم ريحها و طيبها و ريحانها» «1».

(1) ففي خبر عبد الرحمن المذكور: «ثمَّ غسل وجهه فقال: اللهم بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه و لا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه»، و في بعض نسخ الكافي حذف «فيه» في الموضعين.

(2) ففي الخبر المذكور: «ثمَّ غسل يده اليمني فقال: اللهم أعطني كتابي بيميني و الخلد في الجنان بيساري و حاسبني حسابا يسيرا، ثمَّ غسل يده اليسري فقال: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي [بيساري. فقيه] و لا تجعلها مغلولة إلي عنقي، و أعوذ بك من مقطعات النيران»، و اقتصر في الكافي في دعاء اليمني علي قوله:

«اللهم أعطني كتابي بيميني و الخلد بيساري».

(3) ففي الخبر المذكور: «ثمَّ مسح رأسه فقال: اللهم غشني برحمتك و بركاتك و عفوك»، و حذف في التهذيب و الحدائق قوله: «و عفوك».

(4) ففي الخبر المذكور: «ثمَّ مسح رجليه فقال: اللهم ثبتني علي الصراط يوم تزل فيه الأقدام، و اجعل سعيي فيما يرضيك عني، ثمَّ رفع رأسه فنظر إلي محمد، فقال: يا محمد من توضأ مثل وضوئي و قال مثل قولي خلق اللّه له من كل قطرة ملكا يقدسه و يسبحه و يكبره، فيكتب له ثواب ذلك إلي يوم القيامة» و رواه في الكافي هكذا، إلا أنه قال في الدعاء: «اللهم ثبت قدمي [علي الصراط. خ] يوم.».

ثمَّ إن مقتضي عطف الأدعية علي الأفعال في الخبر بالفاء كونها بعد الفراغ منها متصلة بها، و لا سيما في مسح الرجلين المذكور لهما دعاء واحد، بناء علي الترتيب بينهما، بل هو المقطوع به في دعاء المضمضة و الاستنشاق، لتعذر الكلام

______________________________

(1) فروع الكافي باب النوادر من كتاب الطهارة حديث: 6 ص 70 ج 1.

ص: 252

و تثنية الغسلات (1).

______________________________

حين الانشغال بهما.

فما يظهر من المتن و غيره من كون الدعاء عند الانشغال بالأفعال، محتاج لقرينة صارفة للخبر عن ظاهره.

إلا أن يكون مرادهم من كونه عنده أنه بعده متصل به، كما هو المتعين في المضمضة و الاستنشاق، لما ذكرنا.

هذا، و في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «فإذا فرغت فقل: الحمد للّه ربّ العالمين» «1».

و في حديث الأربعمائة: «فإذا فرغ من طهوره قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صلّي اللّه عليه و آله» «2».

و عن تفسير العسكري عليه السّلام دعاء طويل بعد الفراغ أيضا «3».

كما ذكر في مستدرك الوسائل «4» نصوصا كثيرة تتضمن أدعية أخر بعده، و سورة القدر و آية الكرسي و بعض الآيات الأخر، و لا مجال لاستقصاء ذلك.

(1) أما الاكتفاء في الفرض بالمرة، فهو مقتضي إطلاق الكتاب المجيد و كثير من النصوص، بل هو المقطوع به من جملة منها و من كلمات الأصحاب و معاقد إجماعاتهم، و في الاستبصار: «لا خلاف بين المسلمين أن الواحدة هي الفريضة و ما زاد عليها سنة» و في المنتهي: «و هو مذهب علماء الأمصار، إلا ما نقل عن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز، فإنهما قالا: ثلاثا ثلاثا إلا الرجلين».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 21.

(4) راجع باب: 24 من أبواب أحكام الوضوء.

ص: 253

______________________________

و أما استحباب التثنية، فهو المصرح به في كلام جملة من الأصحاب القدماء منهم و المتأخرين، بل هو المعروف من مذهبهم المدعي عليه الإجماع في الانتصار و الاستبصار- فيما تقدم- و الغنية.

و استدل له بجملة من النصوص:

كصحيح معاوية بن وهب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوضوء، فقال: مثني مثني» «1». و نحوه صحيح صفوان «2».

و صحيح يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الوضوء الذي افترضه اللّه علي العباد لمن جاء من الغائط أو بال! قال: يغسل ذكره و يذهب الغائط، ثمَّ يتوضأ مرتين مرتين» «3».

و رواية زرارة عنه عليه السّلام: «قال: الوضوء مثني مثني من زاد لم يؤجر عليه.

و حكي لنا وضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فغسل وجهه مرة واحدة و ذراعيه مرة واحدة.» «4».

و رواية بكير عنه عليه السّلام: «قال: من لم يستيقن أن واحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر علي الثنتين» «5».

و مرسل الأحول عنه عليه السّلام: «قال: فرض اللّه الوضوء واحدة واحدة و وضع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله للناس اثنتين اثنتين» «6».

و رواية داود الرقي: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: جعلت فداك، كم عدّة الطهارة؟ فقال: ما أوجبه اللّه فواحدة، و أضاف إليها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله واحدة لضعف الناس.» ثمَّ ذكر فتوي الإمام عليه السّلام لداود بن زربي بالتثليث للتقية و أنه بعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 28.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 29.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 15.

ص: 254

______________________________

ارتفاع سبب التقية قال له: «يا داود بن زربي توضأ مثني مثني، و لا تزدن عليه.» «1».

و خبر أبي المقدام: «حدثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين و قد توضأ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله اثنتين اثنتين» «2».

و مرسل الصدوق: «و روي: أن مرتين أفضل» «3».

و مرسل القطب الراوندي قال: «و قد توضأ صلّي اللّه عليه و آله مرة مرة، و قال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به، فمن ترك شيئا منه اختيارا فلا صلاة له، ثمَّ توضأ مرتين مرتين فقال: هذا وضوء من أتي به يضاعف له الأجر مرتين، فمن زاد أو نقص فقد تعدي و ظلم» «4».

و ما تضمن جعلها من الإسباغ- الذي ورد الندب له «5» - مثل ما في كتاب الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين: «و توضأ كما أمرك اللّه تعالي: اغسل وجهك مرة فريضة و اخري إسباغا، و اغسل يديك من المرفقين كذلك» «6».

و رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام: «إن الوضوء مرة فريضة و اثنتان إسباغ» «7» و غيرهما.

لكنها معارضة بجملة أخري من النصوص ظاهرة في أفضلية المرة أو في عدم الفضل في الزيادة عليها، كصحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إن اللّه وتر يحب الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات واحدة للوجه و اثنتان للذراعين.» «8».

و موثق ابن أبي يعفور المروي في مستطرفات السرائر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 16.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 19.

(4) مستدرك الوسائل باب: 28 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 7.

(5) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء.

(6) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(7) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 23.

(8) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 255

______________________________

«قال: اعلم أن الفضل في واحدة واحدة و من زاد علي اثنتين لم يؤجر» «1».

و مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الوضوء واحدة فرض و اثنتان لا يؤجر و الثالث بدعة» «2».

و مرسل الصدوق: «و قال الصادق: من توضأ مرتين لم يؤجر» «3».

و مثلها ما تضمن أن وضوء النبي و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما و آلهما كان مرّة مرّة، كموثق عبد الكريم بن عمرو: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوضوء، فقال: ما كان وضوء علي إلا مرة مرة» «4».

و مرسل الصدوق: «قال الصادق عليه السّلام: و اللّه ما كان وضوء رسول اللّه إلا مرة مرة» «5».

لظهورهما في مداومتهما صلّي اللّه عليه و آله علي ذلك، و هو لا يناسب استحباب المرتين جدا، و لا سيما مع حكاية الإمام عليه السّلام له الظاهر في الحث عليه.

نعم، لا مجال لمعارضتها بنصوص الوضوءات البيانية، بلحاظ الاقتصار فيها- مع كثرتها- علي المرة، لقرب الجمع بينها و بين نصوص التثنية بحملها علي بيان كيفية وضوئه صلّي اللّه عليه و آله من دون نظر لعدد الغسل، في مقابل العامة الذين زادوا و بدلوا في المغسول و الممسوح.

و مثلها ما تضمن اقتصارهم عليهم السّلام في وضوءاتهم المروية علي المرة، كصحيح أبي عبيدة: «وضأت أبا جعفر عليه السّلام بجمع و قد بال، فناولته ماء فاستنجي، ثمَّ صببت عليه كفا فغسل به وجهه [و كفا غسل به ذراعه الأيمن] و كفا غسل به ذراعه الأيسر.» «6».

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 27.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 14.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(6) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 256

______________________________

و صحيح حماد بن عثمان: «كنت قاعدا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدعا بماء فملأ به كفه فعم به وجهه، ثمَّ ملأ كفه فعمّ به يده اليمني، ثمَّ ملأ كفه فعم به يده اليسري، ثمَّ مسح علي رأسه و رجليه، و قال: هذا وضوء من لم يحدث حدثا، يعني التعدي في الوضوء» «1».

و خبر عبد الرحمن بن كثير المتقدم في الأدعية المأثورة، الحاكي لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام و غيرها.

لأن استحباب التثنية لا ينافي اقتصارهم عليهم السّلام علي المرة في بعض الموارد، و إنما ينافي اعتيادهم عليها.

نعم، لا بد من حمل قوله عليه السّلام في صحيح حماد: «هذا وضوء من لم يحدث حدثا.» علي الإشارة لذات الوضوء و كيفيته، لا بقيد المرة، و لو للجمع بينه و بين نصوص التثنية، و إلا فهو ظاهر في حرمة الزيادة، و لا سيما بضميمة ما في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من تعدي في الوضوء كان كناقضه» «2»، مع أن نصوص التثنية و كثير من نصوص المرة صريحة أو ظاهرة في عدم حرمتها.

و كذا الحال فيما تضمن أن الوضوء مرة، كرواية ميسر عن أبي جعفر عليه السّلام:

«قال: الوضوء واحد» «3»، لإمكان الجمع بينه و بين نصوص التثنية بحمله علي بيان خصوص الواجب.

فالعمدة في معارضة نصوص استحباب التثنية ما تقدم.

و لعل الأقرب في الجمع بين الطائفتين حمل نصوص التثنية علي محض المشروعية من باب التخيير بين الأقل و الأكثر، الذي لا مانع منه علي التحقيق، من دون أن تكون أفضل، كما هو مضمون خبر الأعمش الآتي، بل مع أفضلية المرة، عملا ببعض نصوصها الظاهر أو الصريح في ذلك، كصحيح زرارة و موثق بن أبي

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 24.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 257

______________________________

يعفور و ما تضمن أنّ وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام كان عليها، بعد عدم إباء أكثر نصوص التثنية عن الحمل علي ذلك، و لو للجمع العرفي بين الطائفتين.

أما ما تضمن أن الوضوء مثني مثني- كصحاح معاوية و صفوان و يونس و رواية زرارة- فلقرب حملها علي محض بيان الحد من طرف الكثرة، نظير ما سبق من حمل ما تضمن أنه واحدة علي بيان الفرض و الحد من طرف القلة، من دون أن يراد بها الحث علي ذلك.

بل لعل ذلك هو الأنسب بلسانها بعد تعذر حملها علي التحديد التام الظاهر منها بدوا، حيث لا يبعد أن تكون المحافظة علي ظهورها في تحديد الوضوء المعهود مع رفع اليد عن تمامية التحديد، أقرب من حملها علي مجرد الحث، أو علي تحديد الفرد الأفضل من الوضوء.

و لا سيما رواية زرارة، فإن تعقيب تحديد الوضوء فيها بأنه مثني مثني بقوله عليه السّلام: «من زاد عليه لم يؤجر» و بحكاية وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله بالمرة، مناسب لسوقها لبيان محض التحديد من طرف الكثرة لبيان عدم مشروعية الزيادة علي الثنتين.

و أما مرسل الأحول و رواية داود، فلأن إضافة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الثانية لا يستلزم استحبابها، بل لعله لمجرد السعة أو الاحتياط، بلحاظ ما قد يتفق من عدم حصول الاستيعاب الواجب أو الإسباغ المستحب بالواحدة، أو ما قد يختلج في ذهن المتوضئ من التشكيك في حصولهما، كما هو المناسب للتعليل في الثانية بضعف الناس.

و لأجله يتعين حمل الأمر في ذيل الثانية بالتثنية علي محض الترخيص لبيان أكثر المشروع، كما هو المناسب لتعقيبه بالنهي عن الزيادة عليها.

و أما خبر أبي المقدام، فلا يأبي الحمل علي إرادة استنكار الرغبة عن الثنتين لاعتقاد عدم مشروعيتهما، لا لأجل أفضلية الاقتصار علي المرة، بل هو المناسب

ص: 258

______________________________

للتعليل بأنه صلّي اللّه عليه و آله توضأ مرتين مرتين، لوضوح أن وقوع ذلك منه لا يقتضي إلا مشروعيته، و لا يكفي في استحبابه ما لم يكن بنحو الالتزام و الاستمرار، و لم يتضمن التعليل ذلك.

و أما ما تضمن أن الثانية للإسباغ، فهو لا يدل علي توقف الإسباغ المندوب له عليها، و إنما يدل علي أن تشريعها لأجله و لو بلحاظ الإقدار عليه بها لو لم يتحقق بالأولي يقينا أو احتمالا.

و لعله المراد بضعف الناس الذي تضمنته رواية داود- كما سبق- و إلا فالإسباغ لغة و عرفا الإتمام و الاستيفاء، و هو يحصل مع كثرة الماء و لو بمرة، فمن البعيد جدا إرادة خصوص المرتين من إطلاقاته الكثيرة من دون تنبيه، كيف و قد سبق في غير واحد من النصوص الاكتفاء منهم عليهم السّلام في وضوءاتهم بالمرة، و من البعيد جدا تساهلهم في الإسباغ، مع شدة حثهم عليه «1» حتي ورد أنهم قد أمروا به «2».

بل لعله مقتضي الجمع بين ما في صحيح ابن أذينة الوارد في المعراج في وضوئه صلّي اللّه عليه و آله من ماء صاد من قوله عليه السّلام: «ثمَّ أوحي اللّه إليه أن اغسل وجهك، فإنك تنظر إلي عظمتي، ثمَّ اغسل ذراعيك اليمني و اليسري، فإنك تلقي بيديك كلامي.» «3»، و ما في صحيح الحسين بن أبي العلاء من قوله عليه السّلام: «أوحي إليه و أمره أن يدنو من صاد فيتوضأ، و قال: أسبغ وضوءك و طهر مساجدك» «4»، و ما في خبر إسحاق من قوله عليه السّلام: «فدنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من صاد فتوضأ و أسبغ وضوءه» «5»، لقوة ظهور صحيح ابن أذينة في أنه لم يؤمر بالمرتين، فلا بد من تحقق الإسباغ منه صلّي اللّه عليه و آله بالمرة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 259

______________________________

بل هو كالصريح من قول الصادق عليه السّلام في خبر الأعمش الوارد في بيان شرائع الدين: «إسباغ الوضوء كما أمر اللّه في كتابه الناطق: غسل الوجه و اليدين إلي المرفقين و مسح الرأس و القدمين إلي الكعبين مرة مرة و مرتان جائز» «1». فتأمل جيدا.

و لا أقل من لزوم حمل النصوص المذكورة علي ذلك لأجل نصوص المرة جمعا.

نعم، لا مجال لذلك في مرسلي الصدوق و القطب الراوندي [2]، لصراحتهما في أفضلية المرتين.

لكن من القريب أن يكون مرسل الصدوق منقولا بالمعني، بلحاظ تحصيله من نصوص التثنية المتقدمة، و أن يكون مرسل الراوندي جزءا من روايات العامة، لروايتهم ما يقارب ألفاظه مع إضافة أنه صلّي اللّه عليه و آله توضأ ثلاثا ثلاثا و قال: «هذا وضوئي و وضوء الأنبياء قبلي» «3».

علي أنه لا مجال للخروج بهما عن نصوص استحباب المرة مع كثرتها و قوة أسانيد جملة منها. و اعتضادها بنصوص الوضوءات البيانية الواردة مورد الحث علي سهولة الوضوء و خفته، و التي يقوي احتمال ورودها لبيان اقتصاره علي المرة أيضا في مقابل رواية العامة المتقدمة و نحوها في حكاية وضوئه صلّي اللّه عليه و آله، و بالاقتصار في الوضوءات المحكية عنهم عليهم السّلام علي المرة، و لا سيما وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام المحكي في خبر عبد الرحمن بن كثير المتقدم، المبني علي تحري الفضيلة بكثير من الآداب. و بعدم التنبيه علي التثنية في كثير من النصوص الواردة لبيان فضيلة الوضوء و ثواب أفعاله.

______________________________

[2] و أيضا ذكر الوحيد قدّس سرّه في حاشية المدارك ان في كتاب الرضا عليه السّلام للمأمون أن الثانية استحباب، و لم أعثر علي ذلك في كلام غيره، و إنما الموجود رواية الفضل المتضمنة أنها إسباغ، فيلحقها ما تقدم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 18.

(3) نقله في هامش الحدائق الحديثة عن سنن البيهقي ج: 1 ص: 80.

ص: 260

______________________________

و لا مجال لترجيح المرسلين بشهرة الفتوي بمضمونهما بين الأصحاب، لعدم وضوح اعتمادهم عليهما بل المظنون عدمه، و ابتناء فتواهم علي اشتباه وضع النبي صلّي اللّه عليه و آله الثانية بسنته المرغوب اتباعها.

علي أن الانجبار بالشهرة في الآداب غير ظاهر، لما هو المعلوم من تساهلهم فيها.

و من هنا كان الأقوي عدم استحباب التثنية، كما هو صريح من حكم بعدم الأجر فيها، و لا يأباه كلام غيرهم ممن يأتي التعرض له، و إليه مال في كشف اللثام.

بل الأفضل الاقتصار علي المرة، كما هو صريح ما عن البزنطي من التعبير بعبارة موثق ابن أبي يعفور المتقدم.

نعم، لا ينبغي التأمل في مشروعية الثانية، كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، حتي القائلين بعدم استحبابها، علي ما يأتي، لأنها مقتضي مجموع النصوص الواردة في المقام.

لكن في الخلاف: «و في أصحابنا من قال: إن الثانية بدعة»، و نسب القول المذكور في السرائر للصدوق، و هو الذي استظهره في الروض و الحدائق من حكمه بعدم الأجر فيها، كما في المقنع و الهداية و الفقيه، بدعوي: أن عدم الأجر عليها مستلزم لخروجها عن الوضوء الذي هو عبادة، لأن العبادة إما واجبة أو مستحبة.

إلا أنه تقدم إمكان التخيير بين الأقل و الأكثر فلا مانع من حمل كلامه عليه، كما هو المناسب لما في المقنع و الهداية من التفريق بينها و بين الثالثة بعدم الأجر عليها، و كون الثالثة بدعة، لظهوره في جوازها مع عدم الأجر عليها و ليست بدعة كالثالثة، كما هو صريحه في المجالس في بيان دين الإمامية إجمالا.

نعم، كلامه في الفقيه آب عن الحمل علي ذلك، علي ما سيأتي.

و أضعف من ذلك ما في الحدائق من استظهار القول بحرمة الثانية من الكليني قدّس سرّه، لقوله بعد أن ذكر موثق عبد الكريم المتقدم المتضمن أن وضوء أمير

ص: 261

______________________________

المؤمنين عليه السّلام ما كان إلا مرة مرة: «هذا دليل علي أن الوضوء إنما هو مرة مرة، لأنه صلوات اللّه عليه كان إذا ورد عليه أمران كلاهما للّه طاعة أخذ بأحوطهما و أشدهما علي بدنه [1]، و إن الذي جاء عنهم عليهم السّلام: أنه قال: «الوضوء مرتان» إنما هو [لمن.

ظ.] لم يقنعه مرة و استزاده فقال: «مرتان»، ثمَّ قال: «و من زاد علي مرتين لم يؤجر»، و هذا أقصي غاية الحد في الوضوء، الذي من تجاوزه أثم، و لم يكن له وضوء، و كان كمن صلي خمس ركعات. و لو لم يطلق عليه السّلام في المرتين لكان سبيلهما سبيل الثلاث».

بحمل المرة و المرتين علي الغرفة و الغرفتين في غسلة واحدة، و الثلاث علي الغرفة الثالثة للغسلة الثانية بعد الغسلة الأولي بالغرفتين.

و هو كما تري! لبعد حمل المرة و المرتين علي الغرفة و الغرفتين مع تكرارهما و سوقهما خبرا عن الوضوء، لوضوح أن المتحد مع الوضوء هو الغسلة بعد الغسلة، لا الغرفة و الغرفتان، بل هي مقدمة له، فلو أريدت لكان المناسب أن يقول: الوضوء بمرة، أو مرتين.

مضافا إلي ابتناء التفكيك بين الثانية و الثالثة بحمل الثانية علي الغرفة المنضمة للأولي في غسلة واحدة، و الثالثة علي الغرفة المستقلة لغسلة ثانية، علي تكلف ظاهر لا ينبغي التأمل في عدم جري الكليني قدّس سرّه عليه، بل كلامه كالصريح فيما ذكرناه من التخيير بين الغسلة و الغسلتين، و أن إضافة الثانية سعة لملاحظة حال الناس، كما تضمنته رواية داود المتقدمة.

و منه يظهر ضعف ما اعتمده من الجمع بذلك بين النصوص، بحملها علي تحريم الغسلة الثانية بغرفة ثالثة و التخيير في الغسلة الأولي بين الغرفة و الغرفتين.

و مثله ما يظهر من الوسائل و المدارك و احتمله في كشف اللثام، من حمل

______________________________

[1] لعله يشير بذلك إلي ما في صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام الوارد في وصف أمير المؤمنين عليه السّلام و فيه: «و ما ورد عليه أمران كلاهما للّه رضا إلا أخذ بأشدهما علي بدنه.». [الوسائل باب:

20 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 12].

ص: 262

______________________________

النصوص علي إرادة حكم تعدد الغرفة في الغسلة الواحدة.

و كيف كان، فلا يظهر الخلاف من القدماء في مشروعية الثانية إلا من الصدوق في الفقيه، لمناسبة استدلاله لذلك، و قد تبعه في ذلك بعض المتأخرين صريحا- كصاحب الحدائق- أو ظاهرا بمقتضي استدلالاتهم و تأويلاتهم السابقة و الآتية لنصوص التثنية.

و قد يستدل علي ذلك.

تارة: بما أشار إليه في الحدائق من النصوص المتضمنة نفي الأجر عليها، لدعوي: امتناع الإباحة في العبادة.

و يظهر الجواب عنه مما تقدم من إمكان التخيير بين الأقل و الأكثر، فيكون المراد بعدم الأجر عليها عدم زيادة الأجر لأجلها و إن كانت حين تحققها مشاركة للأولي في الوفاء بالغرض و في انطباق عنوان الوضوء عليها، بحيث تترتب آثاره، كجواز المسح بمائها و نحوه.

و يشهد بذلك الحكم في الثالثة بأنها بدعة، حيث يظهر منه مخالفتها للثانية في ذلك، و أنه لا يلزم من عدم الأجر عليها كونها بدعة.

و إرجاعهما لمعني واحد- كما احتمله في الحدائق- تكلف ظاهر.

و اخري: بما في الفقيه، حيث قال: «و توضأ النبي صلّي اللّه عليه و آله مرة مرة فقال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به».

و فيه- مع إرسال الحديث، و احتمال كونه قطعة من الحديث العامي المتقدم- أنه يقرب حمله علي الإشارة للوضوء الصادر منه بذاته، لا بقيد كونه مرة، لبيان عدم جواز إنقاصه،- نظير مرسل القطب الراوندي- لأن ذلك لو لم يكن هو الظاهر منه في نفسه فلا أقل من كونه مقتضي الجمع بينه و بين نصوص مشروعية التثنية.

و ثالثة: بما أشار إليه فيه أيضا من أنها من التعدي في الوضوء، الذي هو كنقضه، كما تقدم في موثق السكوني. و أنه إذا كان الفرض من اللّه تعالي المرة- كما

ص: 263

______________________________

تظافرت به النصوص- يمتنع جعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الثانية، لأنه من تجاوز حدود اللّه و التعدي فيها، و قد قال تعالي وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ «1». قال قدّس سرّه:

«و قد فوّض عز و جل إلي نبيه أمر دينه و لم يفوض إليه تعدي حدوده».

و فيه: أن دليل مشروعية الثانية وارد علي دليل حرمة التعدي في الوضوء.

كما أن فرضه تعالي الوضوء مرة مرة إنما هو بمعني إيجابها، لا بمعني منعه من الزيادة عليها، فلا تكون التوسعة منه صلّي اللّه عليه و آله بوضع الثانية تعديا لحده تعالي، نظير ما ورد من إضافته صلّي اللّه عليه و آله الركعة و الركعتين في الثلاثية و الرباعية «2».

و منه يظهر أنه لا ملزم لما ذكره قدّس سرّه و احتمله في كشف اللثام من حمل مرسل الأحول المتضمن ذلك علي الإنكار دون الإخبار، مع مخالفته لظاهره و صريح رواية داود الرقي.

كما أن غير واحد من وجوه الجمع المذكورة في كلمات الأصحاب بين النصوص مورد للإشكال:

الأول: ما ذكره الصدوق قدّس سرّه من حمل نصوص التحديد بالمرتين، و أنهما أفضل، و أنهما إسباغ، علي التجديد، و احتمله في كشف اللثام، بل عن جماعة من محققي المتأخرين متابعته في الأخير.

و يندفع- مضافا إلي عموم دليل مشروعية التجديد لما زاد علي ذلك- بأنه لم يعهد إرادة التجديد من الاستعمالات المذكورة، بل هو لا يناسب تكرار «مرتين» و «مثني» و «اثنتين» في بعض النصوص، و توصيف الغسل نفسه بذلك دون الوضوء في آخر، كمكاتبة الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين.

و لو بني علي الحمل علي ما ذكره لزم حمل نصوص المرة علي نفي مشروعية التجديد، و لا وجه لحملها علي نفي مشروعية الغسلة الثانية، و إلا كان الجمع بين النصوص بذلك تبرعيا.

______________________________

(1) سورة الطلاق: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها.

ص: 264

______________________________

الثاني: ما عن الوافي من حمل نصوص المرة علي الغسلة و نصوص المرتين علي الغرفتين، فيكون المراد أن الفرض غسلة واحدة، و وضع النبي صلّي اللّه عليه و آله لها غرفتين، و هو موهون في نفسه جدا بملاحظة ما سبق في تعقيب كلام الكليني و غيره، مع أنه جمع تبرعي.

و لا مجال للاستشهاد له بما في صحيح زرارة: «فقلنا: أصلحك اللّه فالغرفة الواحدة تجزي للوجه، و غرفة للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، و الثنتان تأتيان علي ذلك كله» «1»، لعدم الإشعار فيه، بالنظر لمضمون نصوص المقام.

الثالث: ما احتمله في كشف اللثام و الحبل المتين و غيرهما من حمل نصوص التثنية علي أن الوضوء غسلتان و مسحتان في مقابل قول العامة بأنه ثلاث غسلات و مسحة واحدة.

و يظهر الإشكال فيه بملاحظة مجموع النصوص. علي أنه أشبه بالتخرص.

و لا مجال للاستشهاد له برواية زرارة المتقدمة المتضمنة لقوله عليه السّلام:

«الوضوء مثني مثني من زاد عليه لم يؤجر» ثمَّ حكاية وضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله مرّة مرّة، لعدم صلوحها للقرينية علي ذلك، بل هو لا يناسب قوله عليه السّلام: «من زاد عليه لم يؤجر»، إذ ما عليه العامة هو إبدال المسح بالغسل، لا الزيادة، كما لا يناسب التعرض لحكاية الغسل دون المسح. بل المتعين فيها ما تقدم.

الرابع: ما عن المنتقي من حمل نصوص التثنية علي التقية. لأن العامة تنكر الوحدة و تروي في أخبارهم التثنية.

و فيه: أنه فرع استحكام التعارض و تعذر الجمع العرفي، و قد سبق إمكانه.

مع أن المحكي عن جمهور العامة- عدا شاذ منهم- الاكتفاء في الفرض بالمرة- كما سبق- و عن أبي حنيفة و الشافعي و أحمد أن المرتين أفضل و السنة الثلاث، و اختلف النقل عن مالك، ففي الخلاف أنه ذهب إلي أن المرة أفضل، و في المنتهي أنه لم يستحب ما زاد علي الفرض، و عن ابن حجر أن مالك قال في

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 265

______________________________

المدونة: «لا أحب الواحدة»، و عن ابن رشد دعوي اتفاق العلماء علي أن الاثنتين و الثلاث مندوب إليهما، فكيف يمكن حمل نصوص التثنية علي التقية مع اختلافهم و اشتمال كثير منها علي ما هو خلاف المشهور بينهم من عدم مشروعية الثالثة.

هذا، مضافا إلي أنه لا مجال لذلك مع معروفية مشروعية التثنية عندنا، بل استحبابها، و لو كانت من مختصات العامة و مبتدعاتهم التي أنكرها أئمتنا عليهم السّلام لما خفيت علي أصحابنا عادة، لقوة أسباب ظهور ذلك.

و من جميع ما سبق يظهر شدة اضطراب الأصحاب و لا سيما المتأخرين منهم، حتي قال في الجواهر: «و اضطرب الأمر علي متأخري المتأخرين، حتي لا يدري أحدهم كيف يصنع، فأكثروا من الكلام بما هو بعيد من الصواب في المقام».

و الظاهر أن ما ذكرناه مناسب للمهم من نصوص المقام و المتعين عرفا في مقام الجمع بينها، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم، و هو ولي العصمة و السداد.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر أن المعيار في تعدد الغسلة علي النية، فلو كرر احتياطا بنية غسلة واحدة لم تحسب إلا واحدة، و كان الزائد خارجا عن الوضوء، نظير غسل ما خرج عن الحد من باب المقدمة العلمية.

نعم، يجوز ترتيب أثر ماء الوضوء عليه- من جواز المسح به و كون بقائه معيارا في تحقق الموالاة- إذا كان التكرار بالمسح من دون تجديد ماء، إما لعدم خروجه عن ماء الوضوء عرفا و إن خرج الغسل به عن غسله، أو للسيرة القطعية عن التسامح في ذلك، بخلاف ما إذا كان التكرار بتجديد الماء.

و قد تقدم في وجوب المسح ببلة الوضوء ما له نفع في المقام، فراجع.

الثاني: قال في المنتهي: «لو غسل بعض أعضائه مرة و بعضها مرتين جاز،

ص: 266

______________________________

لأنه لما جاز في الكل جاز في الواحدة».

و لا يخفي ضعف التعليل بذلك بعد اختصاص النصوص بصورة اتفاق الأعضاء في العدد، كما يظهر من نسبة المرة و المرتين للوضوء المتحد مع الكل، و من تكرار لفظهما.

نعم، لا تبعد دعوي إلغاء الخصوصية المذكورة عرفا، و لا سيما بناء علي ما يظهر من بعض الأخبار من أن تشريع الثانية للسعة علي المكلفين.

الثالث: لو توضأ مرتين، مرتين بانيا علي وجوب ذلك أو استحبابه للجهل بالحال قصورا أو تقصيرا، فإن رجع إلي تقييد الامتثال بذلك، أو إلي الخطأ في اعتقاد مشروعية وضوء آخر غير ما هو المشروع، تعين البطلان، لتخلف الامتثال بتخلف قيده في الأول، و عدم قصد امتثال ما هو المشروع في الثاني، و إن رجع إلي قصد الوضوء المشروع مع الخطأ في كيفيته- كما هو الغالب- فالظاهر الصحة، لإطلاق الأدلة.

و أما رواية بكير المتقدمة المتضمنة نفي الأجر علي الثنتين لمن لم يستيقن بإجزاء الواحدة، فهي- مع ضعف سندها، و اختصاصها بصورة عدم الاستيقان بالإجزاء- منصرفة لصورة عدم الخضوع للتشريع الأولي في ظرف العلم برأي أهل البيت عليهم السّلام فيه، لارتكاز كون عدم الأجر من سنخ العقوبة.

علي أن نفي الأجر لا يستلزم البطلان، لأن الأجر علي الامتثال تفضل منه تعالي من دون أن يكون حقا للعبد، فنفيه لا يستلزم عدم تحقق الامتثال.

و أما لو ابتني علي التشريع بقصد الوجوب أو الاستحباب، فلا إشكال في البطلان لو رجع إلي تشريع وضوء آخر غير ما هو المشروع، و إن رجع للتشريع في كيفية الوضوء المشروع فلا ينبغي التأمل في الصحة لو كان القصد لذلك بعد الغسلة الأولي، لعدم الدليل علي بطلانها بعد صحتها.

غاية الأمر عدم ترتب آثار الوضوء علي الغسلة الثانية لبطلانها بقصد التشريع المانع من التقرب.

ص: 267

______________________________

و إن كان القصد إليه من أول الأمر، لم يبعد البناء علي البطلان لكون الأولي مقدمة للتشريع المحرم، فتكون مبعدة غير صالحة للتقرب المعتبر في العبادة، كما تقدم نظيره في الرياء، فلاحظ.

الرابع: لا إشكال ظاهرا بين الأصحاب في عدم استحباب الثالثة، بل صرحوا بأنها بدعة، كما في المقنع و الهداية و أمالي الصدوق و المبسوط و الخلاف و النهاية و المعتبر و الشرائع و المنتهي و محكي السرائر و غيرها، و هو المنسوب للأكثر في محكي المختلف و للمشهور في محكي الذكري، بل ظاهر محكي التذكرة الإجماع.

و الظاهر أنه إليه يرجع الحكم بالتحريم في الكافي- علي ما تقدم- و جامع المقاصد و محكي الذكري و الدروس و التنقيح و غيرها، لأن ظاهر غير واحد و صريح آخرين إرادة الحرمة التشريعية.

و يقتضيه مرسل ابن عمير المتقدم، و ما في رواية داود الرقي من أن من توضأ ثلاثا فلا صلاة له، بل هو مقتضي نصوص التحديد بالمرتين، بناء علي ما سبق من أن مقتضي الجمع بينها و بين بقية النصوص الحمل علي بيان الحدّ من طرف الكثرة دون الاستحباب.

خلافا لظاهر المحكي عن المفيد في المقنعة من قوله: «التثليث تكلف، فمن زاد علي ثلاث فقد أبدع و كان مأزورا». و ربما يحمل عليه ما عن العماني و سبق عن البزنطي من أن من زاد علي المرتين لم يؤجر، و عن الكاتب أن الثالثة زيادة غير محتاج إليها.

و قد يستدل لهم. تارة: بإطلاق الأمر بالغسل، بناء علي ما هو التحقيق من عدم اقتضاء الأمر المرة، و أن سقوط الأمر بها لتحقق الامتثال بصرف الوجود، حيث يختص ذلك بالأمر الاستقلالي بالماهية، دون الضمني الارتباطي الذي لا يسقط إلا بسقوط الأمر الاستقلالي بتمام المركب، فقبل سقوطه لعدم تمامية المركب تصدق الماهية علي المتعدد بعين صدقها علي الواحد،

ص: 268

______________________________

و يكون الامتثال بالمجموع.

و اخري: بما تقدم في موثق ابن أبي يعفور من الاقتصار علي نفي الأجر، من دون تنبيه علي الحرمة.

لكن الإطلاق مقيد بما سبق. و به يخرج عن موثق ابن أبي يعفور، إذ ليس هو نصا في مشروعيتها، بل و لا ظاهرا فيها، غاية ما يدعي أنه مشعر بها، و لا سيما مع عدم اختصاصه بالثالثة، بل يشمل ما زاد عليها، و لا إشكال ظاهرا في كونه بدعة.

ثمَّ إنه لا ينبغي التأمل في بطلان الوضوء بها لو تحقق المسح بمائها، لخروجه عن ماء الوضوء بعد فرض عدم مشروعيتها، كما صرح به في المنتهي و جامع المقاصد و المدارك و عن نهاية الاحكام و الذكري و الدروس.

خلافا للمحقق في المعتبر، حيث قال: «الوجه الجواز، لأن يديه لا تنفك عن ماء الوضوء الأصلي»، و قد سبق في المسألة الثالثة و العشرين ضعفه.

و أما لو لم يتحقق المسح بمائها، لعدم التثليث في اليسري مثلا، فظاهر من سبق عدم بطلان الوضوء، أخذا بظاهر تقييدهم و تعليلهم بما سبق، بل هو صريح الدروس.

و مقتضي إطلاق إشارة السبق و ما سبق من الكليني و عن أبي الصلاح و ظاهر مصباح الشيخ [1] البطلان فيه أيضا. كما ربما يستظهر من الصدوق في الفقيه في الغسلة الثانية، حيث قال: «و قول الصادق عليه السّلام: «من توضأ مرتين لم يؤجر». يعني به: أنه أتي بغير الذي أمر به و وعد الأجر عليه، فلا يستحق الأجر.»، إلا أن يكون مراده نفي الأجر علي الثانية، لا علي تمام الوضوء.

و كيف كان، فالبطلان و إن كان مخالفا لإطلاق الأدلة- كما ذكره في محكي الذكري- إلا أنه مقتضي قوله عليه السّلام في موثق السكوني المتقدم: «من تعدي في

______________________________

[1] قال في مفتاح الكرامة: و عن مصباح الشيخ أن ما زاد علي اثنتين تكلف غير مجز. و الظاهر أنه أراد أنها مفسدة.

ص: 269

______________________________

الوضوء كان كناقضه» «1».

و حمله علي مجرد نفي الأجر، نظير ما في صحيح داود بن فرقد من قوله عليه السّلام: «إن للوضوء حدا من تعداه لم يؤجر.» «2» مخالف لإطلاق التنزيل.

اللهم إلا أن يقال: لازم ذلك بطلان الوضوء بالزيادة و لو مع العذر، كالخطإ في الاجتهاد، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك.

و حمله علي خصوص صورة التشريع الذي هو نحو من العدوان الشرعي لا يناسب ظهور كونه تعريضا بالعامة الذين لا تبتني الزيادة منهم غالبا علي التشريع، بل علي الخطأ في الاجتهاد و لو تقصيرا.

و من ثمَّ لم يبعد حمله علي مجرد نفي الأجر، أو علي استحقاق العقاب للتقصير في مقدمات الاجتهاد، و إن لم يبطل الوضوء، فتأمل جيدا.

و أشكل من ذلك الاستدلال بما في رواية داود الرقي المتقدمة من أن من توضأ ثلاثا فلا صلاة له، لظهورها في التثليث في تمام الوضوء المستلزم للمسح بماء الغسلة الثالثة، الذي هو خارج عن محل الكلام.

و كذا ما في الحدائق من التأييد بصحيح زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إنما الوضوء حد من حدود اللّه، ليعلم اللّه من يطيعه و من يعصيه، و إن المؤمن لا ينجسه شي ء إنما يكفيه مثل الدهن» «3» قال: «فإنه صريح- كما تري- في عصيان من زاد علي الوضوء المحدود، و من الظاهر أن العصيان إنما نشأ هنا من مخالفة الأمر في العبادة المستلزمة للإبطال».

إذ فيه- مع أن لازم ذلك جعله دليلا لا مؤيدا-: أن ظاهر الصحيح كون الوضوء بنفسه حدا تلزم المعصية بتركه، لا أن له حدا تحرم الزيادة عليه، و إلا فلا ريب في جواز الزيادة فيه علي مثل الدهن.

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 24.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 270

______________________________

الخامس: الظاهر عدم التقيد في الغسلة الواحدة بعدد معين من الغرفات، بناء علي ما سبق من ضعف حمل نصوص التثنية و التثليث عليها.

و أما ما في صحيح زرارة و بكير: «فقلنا: أصلحك اللّه فالغرفة الواحدة تجزي للوجه و غرفة للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، و الثنتان تأتيان علي ذلك كله» «1».

فهو إنما يقتضي الإجزاء لا التحديد.

نعم، بناء علي حمل التثنية و التثليث علي الغرفات يلزم البناء علي الاقتصار علي ما دون الثلاث، حتي في الغسلة الأولي، كما احتمله في الحدائق- و إن كان المناسب له الجزم به- أخذا بإطلاق ما تضمن بدعية الثلاث.

و لا وجه لما في المدارك، حيث قال: «و لو حملت الثالثة علي الغرفة الثالثة فالظاهر عدم التحريم تمسكا بالإطلاق».

السادس: المعروف المصرح به في كلام جملة من القدماء و المتأخرين و الظاهر من آخرين أنه لا تكرار في المسح، و هو المدعي عليه الإجماع في الانتصار و المنتهي و المدارك و كشف اللثام و محكي التذكرة و التحرير، و في المعتبر أنه مذهب الأصحاب، و في الخلاف دعوي الإجماع علي أن التكرار في مسح الرأس بدعة. و لعله إليه يرجع ما عن الدروس و محكي البيان من أنه مكروه.

و بهذا يخرج عن إطلاق نصوص التثنية، و ظاهر خبر الأعمش «2» المتقدم، بل و كذا خبر الفضل بن شاذان المتقدم أيضا، لأن ظاهر عيون أخبار الرضا عليه السّلام أن ذكر المرة و المرتين فيه بعد شرح الوضوء فيه بالغسل و المسح معا، حيث ذكر فيه أولا الحديث بسنده عن الفضل بن شاذان في بيان شرائع الإسلام هكذا: «. ثمَّ الوضوء، كما أمر اللّه في كتابه: غسل الوجه و اليدين و مسح الرأس و الرجلين مرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الوضوء حديث: 18.

ص: 271

______________________________

واحدة.» «1» ثمَّ ذكر له سندا آخر، و قال: «و ذكر فيه: أن الوضوء مرّة مرّة فريضة و اثنتان إسباغ» «2».

و كيف كان، فتسالم الأصحاب قديما و حديثا علي عدم مشروعية التكرار في المسح ملزم بإرجاع التثنية في جميع ذلك لخصوص الغسل، كما اقتصر عليه في بعض النصوص. و هو الأنسب بتشريعها للإسباغ.

لكن عن ابن الجنيد أنه قال في مسح الرجلين: «يبسط كفه اليمني علي قدمه الأيمن و يجذبها من أصابع رجله إلي الكعب ثمَّ يرد يده من الكعب إلي أطراف أصابعه، فمهما أصابه المسح من ذلك أجزأه و إن لم يقع علي جميعه، ثمَّ يفعل ذلك بيده اليسري علي رجله اليسري»، و ظاهره وجوب التكرار بالنكس و عدمه.

و هو غريب جدا، بعد مخالفته لإطلاق الكتاب و السنة و النصوص البيانية و ما عليه الأصحاب.

و أما الاستدلال له بمرسل يونس: «أخبرني من رأي أبا الحسن عليه السّلام بمني يمسح ظهر القدمين من أعلي القدم إلي الكعب، و من الكعب إلي أعلي القدم، و يقول: الأمر في مسح الرجلين موسع، من شاء مسح مقبلا و من شاء مسح مدبرا، فإنه من الأمر الموسع إن شاء اللّه» «3».

فيندفع بظهور ذيله في إرادة المسح بكل من الوجهين في وضوئين، لا الجمع بينهما في وضوء واحد. مع أنه حكاية حال لا تقتضي الوجوب، بل و لا الاستحباب.

و من ثمَّ فقد يحمل ذلك منه علي التكرار لمحض الاستظهار و الاحتياط في الاستيعاب الطولي- كما احتمله في الجواهر- لا للمشروعية، فضلا عن الوجوب

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 22. عيون أخبار الرضا عليه السّلام ج: 2 ص: 121. طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 23، عيون أخبار الرضا عليه السّلام ج 2 ص: 126 طبع النجف الأشرف.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 272

______________________________

أو الاستحباب الشرعي.

هذا، و في جامع المقاصد: «و لا يبطل به الوضوء قطعا»، و هو المصرح به في كلام غير واحد، و نفي الخلاف فيه في السرائر، و ادعي الإجماع عليه في المدارك. و يجري فيه ما سبق في الغسلة الثالثة إذا لم يلزم المسح بمائها.

نعم، يشكل في مسح الرأس لو استلزم اختلاط ماء اليمني بما علي الرأس من المسحة الاولي، لاعتبار خلوص البلة في مسح الرجل، فلاحظ.

السابع: لو أغفل لمعة في الغسلة الأولي فانغسلت في الثانية فهل يبطل الوضوء أو لا؟ وجهان، اختار أولهما في القواعد و جامع المقاصد و عن التذكرة و البيان و غيرهما، و كأنه مبني منهم علي اعتبار نية الرفع أو الوجوب، لدعوي عدم تحققها في الثانية. و يظهر الإشكال فيه مما سبق في النية من عدم اعتبارهما، و مما سبق هنا من عدم استحباب الثانية، بل التثنية طرف التخيير في الواجب، بل ذلك هو الظاهر حتي بناء علي استحبابها، فهي أفضل فردي الواجب، لا أن الثانية مستحبة خارجة عن الوضوء. فليس المقصود بها إلا تحقيق الوضوء المشروع بأحد وجهيه المشروعين علي خلاف ما قصد، لأن ما اعتقده ثانية ليس في الواقع إلا متمما للأولي، و مثل هذا الخطأ لا يخل بالامتثال إلا إذا رجع للتقييد، و قد سبق غير مرة أنه يحتاج لعناية يبعد تحققها.

هذا، مضافا إلي قرب رجوع قصدها علي وجهها إلي قصد التدارك بها لو فرض النقص في الأولي، لقرب كون تشريعها لدفع وهم قصور الاولي، كما هو المناسب للتعليل بضعف الناس في رواية داود الرقي، و بالإسباغ في مكاتبة الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين و رواية الفضل بن شاذان المتقدمة.

و لعله لذا مال إلي الصحة في كشف اللثام، و تردد في الذكري و المنتهي و محكي نهاية الاحكام و الإيضاح و الدروس.

ص: 273

و الأحوط استحبابا عدم التثنية في اليسري احتياطا (1) للمسح بها (2)، و كذلك اليمني إذا أراد المسح بها من دون أن يستعملها في غسل اليسري (3)، و كذلك الوجه لأخذ البلل منه عند جفاف بلل اليد.

و يستحب أن يبدأ الرجل بظاهر ذراعيه في الغسلة الاولي و الثانية، و المرأة تبدأ بالباطن فيهما (4).

______________________________

(1) كأنه للخروج عن شبهة الخلاف المتقدم في مشروعية الغسلة الثانية من الصدوق في الفقيه و صاحب الحدائق و غيرهما، إذ مع عدم مشروعيتها لا يجوز المسح بمائها.

(2) بل و باليمني أيضا لو غسلها بها في الثانية.

(3) كما لو غسل اليسري بالارتماس. أما لو غسلها مرة واحدة باليمني، فلا إشكال في المسح باليمني، إذ المعتبر هو المسح ببلتها بعد غسل اليسري بها.

(4) كما قد يستظهر من المقنعة و التهذيب و النهاية و المراسم و الوسيلة و المعتبر و النافع و المنتهي و غيرها، و نسب للأكثر في الروضة و محكي الذكري و لأكثر القدماء في المدارك.

و استدل له: بخبر محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «قال: فرض اللّه علي النساء في الوضوء للصلاة أن يبتدئن بباطن أذرعهن و في الرجل بظاهر الذراع» «1». و نحوه مرسل الصدوق «2»، بل لعله عينه. و في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام الوارد في أحكام النساء: «و تبدأ في الوضوء بباطن الذراع و الرجل بظاهره» «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 40 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 40 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 122 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

ص: 274

______________________________

و لا إشكال في حملها علي الاستحباب، للسيرة القطعية و ظهور مفروغية الأصحاب عنه، بل ادعي عليه الإجماع في الغنية و المعتبر و المنتهي و محكي التذكرة، فلا بد من حمل الفرض في الأول علي مطلق الجعل و التشريع.

لكنها ظاهرة في التفصيل بين الرجل و المرأة في الغسلة الأولي، لصدق البدء بها في الوضوء، دون الثانية، بل هي مسكوت عنها- كما نبه له بعضهم- و لم تتضمن جعل موضوع التفصيل غسلة الوضوء، ليكون مقتضي الإطلاق التفصيل في كلتا الغسلتين.

و من ثمَّ لا يبعد حمل كلام جملة ممن تقدم و غيرهم علي إرادة ذلك، حيث أطلقوا استحباب البدء بالظاهر للرجل و بالباطن للمرأة، و نسب للأكثر في كلام غير واحد، و ادعي عليه الإجماع في المنتهي، و إن فهم منهم الشهيد- فيما حكي عنه- التفصيل في كلتا الغسلتين.

هذا، و في المبسوط خص التفصيل المذكور بالغسلة الاولي مع العكس في الثانية، و وافقه علي ذلك في الغنية و إشارة السبق و الشرائع و القواعد و الإرشاد و اللمعة و محكي السرائر و الإصباح و الكيدري و أكثر كتب العلامة و الدروس و البيان، و في الغنية و عن التذكرة دعوي الإجماع عليه. و قد صرح غير واحد بعدم الوقوف علي مستنده.

قال في الروض: «و جماعة من الأصحاب لم يفرقوا بين الغسلتين، لإطلاق الخبر، غير أن الشيخ في المبسوط ذكر الفرق، و تبعه عليه جماعة. و لم يثبت الوجه فيه».

لكن في الجواهر: «قد يحمل قوله عليه السّلام: «يبدأن» علي إرادة البدأة بالنسبة للغسلتين، فيدل حينئذ علي كون الثانية بعكسها، و إلا لم تكن بدأة».

و هو لا يخلو عن غموض، لوضوح أن صدق البدء بالنسبة إلي الظاهر أو الباطن يقتضي سبقه علي غيره في الغسل، و هو يتحقق بالسبق به في الغسلة الاولي.

ص: 275

______________________________

و مثله ما عن شرح المفاتيح من احتمال أن وجهه حملهم البدء في النص علي البدء في صب الماء، لا في الغسل، لتعذر استيعاب أحد الجانبين بالغسل قبل الآخر، بل لا بد من انغسال شي ء من الآخر معه، و لعدم التصريح بالغسل في النص.

و حينئذ فتعدد الصب لا يكون إلا بالغسلة الثانية.

إذ فيه- مع إمكان تعدد الصب في الغسلة الواحدة، و أن لازمه عدم تحقق موضوع هذه الوظيفة لمن اقتصر علي غسلة واحدة، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك-: أن الوضوء لما كان هو نفس الغسل كان ظاهر البدء فيه- الذي تضمنه النص- هو البدء بالغسل لا بالصب، و المتعذر إنما هو التقديم مع الاستيعاب دقة لا عرفا، و المتعين حمل النص علي الثاني، كما سيأتي.

و أما ما أشير إليه في مصباح الفقيه من احتمال توجيه الحكم المذكور بأن التعاكس بين الغسلتين ادعي في تحقق الإسباغ و في ملاحظة ضعف الناس الذين أشير إليهما في تعليل تشريع الغسلة الثانية، ليتحقق استيلاء الماء بالنحو الكامل علي كل من الظاهر و الباطن بالصب عليه.

ففيه- مع أنه لا يجري مع تعدد الصب في الغسلة الواحدة، كما لا يقتضي تقييد البدء المطلوب في المقام بالتعاكس، كما هو ظاهرهم، بل مطلوبية التعاكس في قباله-: أن تشريع الغسلة الثانية للإسباغ و ضعف الناس لا يقتضي إلا الاهتمام باستيلاء الماء في الجملة، لا مطلوبيته بالوجه الأكمل.

إلا أن يرجع إلي محض الاستحسان و الاعتبار، الذي يبعد اعتمادهم عليه جدا، لكونه مغفولا عنه، كالوجهين المتقدمين، كما يبعد اطلاعهم علي أدلة تعبدية خفيت علي غيرهم، أو وجوه اعتبارية بعد كون أصل الحكم تعبديا.

و من ثمَّ كان الحكم منهم بذلك في غاية الغرابة.

ثمَّ إن ظاهر البدء بظاهر الذراع أو باطنه هو تقديمه بتمامه عرفا علي الآخر و إن لم يستوعبه دقّة، أو استلزم غسل شي ء من الجانب الآخر له تبعا، لتعذر غسل

ص: 276

______________________________

تمام أحد الجانبين دون غسل شي ء من الآخر عادة، كما سبق.

و أما ما في الجواهر من دعوي صدق البدء بأحد الجانبين عرفا بتقديم جزء منه، فهو غير ظاهر، و إنما يتجه لو عبّر بالبدء فيه أو منه.

كما أن موضوع النصوص هو الذراع، و حمله علي تمام اليد بنحو يشمل الكف يحتاج إلي قرينة، و إلحاقه به للتبعية غير ظاهر.

هذا، و أما الخنثي المشكل، فإن كان قسما ثالثا غير الرجل و المرأة خرج عن موضوع الوظيفتين واقعا، و إلا كان مرددا بين الوظيفتين و أمكنه الاحتياط بتكرار صورة الوضوء بالوجهين ناويا الوضوء بما يطابق وظيفته الواقعية منهما.

و أما ما في الجواهر من احتمال تحصيله الوظيفة بالغسلتين مخالفا بينهما بناء علي عدم التعاكس بين الغسلتين واقعا، الذي سبق أنه مقتضي النص.

ففيه: أنه مع نية الوضوء بكلتا الغسلتين لا يحرز مطابقة الوظيفة، و مع نيته بخصوص الغسلة المطابقة لوظيفته، بحيث لا تكون الأخري وضوءا، و إنما جي ء بها لمحض الاحتياط يلزم عدم إحراز كون البلة الباقية بلة وضوء، يجوز المسح بها.

بقي في المقام أمور أخر ذكرها الأصحاب في مستحبات الوضوء، أو تضمنتها النصوص.

منها: كون الوضوء بمدّ، كما صرح به الأصحاب، و نسبه إلي علمائنا في المنتهي، و إلي إجماعهم في الحدائق و محكي التذكرة، و نفي عنه الخلاف في كشف اللثام، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل حكي عليه جماعة الإجماع».

و تقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة أن وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله كان بمدّ و غسله بصاع، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يتوضأ بمدّ و يغتسل بصاع. و المدّ رطل و نصف، و الصاع ستة أرطال» «1» و غيره.

و فعله صلّي اللّه عليه و آله و إن لم يستلزم الاستحباب إلا أن نقل الإمام عليه السّلام بنحو ظاهر في

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 277

______________________________

مداومته صلّي اللّه عليه و آله عليه ظاهر في الحث عليه، و لا سيما مع وقوعه في بعضها جوابا عن السؤال عن الوضوء- كصحيح أبي بصير «1» - و في آخر جوابا عن السؤال عما يجزي في الغسل- كموثق سماعة «2» - لظهورهما في بيان الموظف، لا محض الجائز.

و منه يظهر أنه لا مجال لحملها علي مجرد بيان الرخصة في صرف المد، تنبيها علي أنه لا ينبغي الزيادة عليه تعريضا بالعامة.

نعم، لا مجال لحملها علي الوجوب بعد مفروغية الأصحاب عن عدمه و صراحة جملة من النصوص في إجزاء الماء القليل.

هذا، و المد علي ما صرح به الأصحاب ربع الصاع- كما تضمنه صحيح زرارة المتقدم- و رطل و نصف بالمدني و رطلان و ربع بالعراقي.

و حيث كان الرطل العراقي واحدا و تسعين مثقالا- كما تقدم في تحديد الكر- يكون المدّ مائتين و خمسة مثاقيل إلا ربعا.

و حيث كان المثقال أربعة غرامات و ربع تقريبا- كما تقدم هناك أيضا- يكون المد ثمانمائة و سبعين غراما تقريبا، و هو يزيد عما اشتهر في عصورنا كثيرا.

و من الغريب ما عن المفيد في الأركان من قوله: «من توضأ بثلاث أكف مقدارها مد أسبغ، و من توضأ بكف أجزأه»، لوضوح أن الكف لا يبلغ ثلث المدّ مهما كان كبيرا. فلا بد من حمل نصوص المقام علي ما يزيد علي الثلاث أكف.

و لعل الملحوظ فيه الإتيان بآداب الوضوء المقارنة له بالوجه المتعارف من غسل اليدين مرة أو مرتين و المضمضة بثلاث أكف و الاستنشاق كذلك و تعدد الغرفة لكل عضو إما في غسلة واحدة أو في غسلتين، أو مل ء الكف بالغرفة الواحدة، لتحقيق الإسباغ، فإن ذلك مع ما يقارنه عادة من سقوط شي ء من الماء عند اغترافه أو صبه في الكف يقارب المد.

و لو فرض الاقتصار علي غسل الأعضاء المفروضة لم يبعد عدم استحباب صرف المد لها بتكثير الغرفات، لأن نصوص المد قد تضمنت وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله به، و وضوؤه الغالب وقوعه منه بحيث ينسب إليه كان مشتملا علي المستحبات

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 278

______________________________

المذكورة ظاهرا، فيكون المتيقن من نصوص المد ما يشتمل عليها. فتأمل.

و بالجملة: لا بد من حمل نصوص المدّ علي عدم الاقتصار علي ثلاث أكف، إما لاختصاص استحبابه بصورة الإتيان بآداب الوضوء الخارجة عنه، أو بالالتزام باستحباب تكرار الغرفات لأعضاء الوضوء بالنحو المستوعب للمد إذا اقتصر عليها.

و لا وجه مع ذلك لما عن الشهيد من حمله علي ما يعم ماء الاستنجاء، مع خروجه عنه حقيقة.

و مجرد اشتمال خبر عبد الرحمن بن كثير المتقدم في أدعية الوضوء و صحيح أبي عبيدة المتقدم في أوائل الكلام في تثنية الغسلات علي ذكر الاستنجاء مع أن موضوع كلام الراوي فيهما الوضوء، لا يصلح شاهدا لإرادته من نصوص المقام، و إن استشهد به قدّس سرّه.

و مثله ما في الجواهر من احتمال تأيده بما تضمن المبالغة في قلة ماء الوضوء، و النهي عن السرف فيه «1».

لاندفاعه بأن نصوص المبالغة في قلة الماء ظاهرة في إجزائه «2» لا في الحث عليه، كما هو صريح صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أسبغ الوضوء إن وجدت ماء، و إلا فإنه يكفيك اليسير» «3».

و أما دليل النهي عن السرف، فهو مورود لنصوص المدّ، لأن مقتضاها عدم تحقق السرف به، و إنما يكون السرف بالزيادة عليه من دون أن يكون مطلق الزيادة سرفا علي ما يأتي في مستحبات الغسل.

و منها: إسباغ الوضوء، كما تضمنته النصوص الكثيرة «4»، كصحيح علي بن

______________________________

(1) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 2 و راجع باب: 52 من الأبواب المذكورة.

(3) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(4) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء.

ص: 279

______________________________

جعفر المتضمن لقوله صلّي اللّه عليه و آله: «من أسبغ وضوءه و أحسن صلاته. فقد استكمل حقيقة الإيمان» «1».

و دعوي: أن الإسباغ لغة لما كان هو الإتمام و الاستيفاء كان المراد به في النصوص المتقدمة استيعاب الأعضاء بالوضوء الذي هو الفرض فيه.

مدفوعة: بأن مقتضي صحيح الحلبي المتقدم و ما تضمن تطبيقه علي الغسلة الثانية حمل الإسباغ في نصوصه علي تكثير الماء زائدا علي القدر المجزي، و هو استيفاء له بالوجه الأكمل.

و لا سيما مع ظهور بعض تلك النصوص في كونه كمالا في الوضوء، كقوله صلّي اللّه عليه و آله: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، و أمرنا بإسباغ الوضوء، و أن لا ننزي حمارا علي عتيقة» «2»، فإن اختصاصهم عليهم السّلام بذلك لا يناسب إرادة إتمام الوضوء المفروض جدا.

و منه يظهر أنه لا وجه لإهمال الأصحاب ذكر الإسباغ في مستحبات الوضوء، حيث لم أعثر عاجلا علي من ذكره عدا الشيخ في النهاية مصرحا بأن من توضأ بمدّ فقد أسبغ، كما ذكره في المستند مستدلا عليه بأدلة المد، و قد يومي إليهما في الرياض حيث جعل المستحب هو إسباغ الوضوء بمد.

و كأن إهمال من أهمله مبني علي الاكتفاء عنه بذكر المد، لكنه أعم منه، و أنه يمكن تحصيله بما دونه بالاقتصار علي الوضوء المفروض لكل عضو غرفتان أو غرفة وافية، و هو لا يبلغ المدّ كما سبق.

و منها: السواك، كما في الغنية و إشارة السبق و الوسيلة و القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام و الروضة و الحدائق و عن التذكرة و الذكري، و اقتصر في المراسم علي قوله: «و السواك في وضوء صلاة الليل من وكيد السنن»، و في الحدائق أن الظاهر عدم الخلاف فيه، بل صرح بالإجماع عليه في الغنية و كشف

______________________________

(1) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 280

______________________________

اللثام.

و يقتضيه جملة من النصوص، كصحيح معاوية بن عمار في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «و عليك بالسواك عند كل وضوء» «1» و غيره، و ظاهره- كغيره مما تضمن كونه عند الوضوء- إرادة إيقاعه قبله بعد معلومية عدم إرادة إيقاعه عند الانشغال به.

و أظهر من ذلك ما تضمن الأمر به للوضوء «2»، بل هو صريح الصحيح عن المعلي بن خنيس: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السواك بعد الوضوء. فقال: الاستياك قبل أن يتوضأ. قلت: أ رأيت إن نسي حتي يتوضأ. قال: يستاك ثمَّ يتوضأ ثلاث مرات» «3».

هذا، و لا ريب نصا «4» و فتوي في استحباب السواك مطلقا، و أنه من السنن المؤكدة، فاستحبابه للوضوء إنما هو بمعني تأكد استحبابه حينه، كما يتأكد لبعض الأمور الأخر، و به صرح بعضهم.

و إهمال جملة منهم له في آداب الوضوء في غير محله، بعد ما سبق.

ثمَّ إن في موثق السكوني: «إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: التسوك بالإبهام و المسبحة عند الوضوء سواك» «5».

و في صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «عن الرجل يستاك مرة بيده إذا قام إلي صلاة الليل و هو يقدر علي السواك. قال: إذا خاف الصبح فلا بأس به» «6».

و عن علي بن إبراهيم بإسناده: «أدني السواك أن تدلكه [تدلك. في]

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب السواك حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب السواك حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب السواك.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب السواك حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 9 من أبواب السواك حديث: 1.

ص: 281

______________________________

بإصبعك» «1».

و في خبر سدير عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: شكت الكعبة إلي اللّه عز و جل ما تلقي من أنفاس المشركين فأوحي اللّه إليها: قرّي كعبة، فإني مبدلك بهم قوما يتنظفون بقضبان الشجر، فلما بعث اللّه محمدا صلّي اللّه عليه و آله أوحي إليه مع جبرئيل بالسواك و الخلال» «2».

و عن مكارم الأخلاق: «و كان صلّي اللّه عليه و آله يستاك بالأراك أمره بذلك جبرئيل عليه السّلام» «3».

و عن الرسالة الذهبية للرضا عليه السّلام: «و اعلم يا أمير المؤمنين أن أجود ما استكت به ليف الأراك، فإنه يجلو الأسنان و يطيب النكهة و يشد اللثة، و هو نافع من الحفر إذا كان باعتدال، و الإكثار منه يرق الأسنان و يزعزعها و يضعف أصولها» «4».

و في مرسل القطب الراوندي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنه قال: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة و يطيب الفم، و يذهب بالحفر، و هي سواكي و سواك الأنبياء قبلي» «5».

و مقتضي الجمع بينها أفضلية قضبان الأراك و ليفه و الزيتون، ثمَّ مطلق قضبان الشجر- و لعله المراد بالغصن الأخضر في الروضة- ثمَّ الإصبع.

نعم، ذلك مبني علي التسامح في أدلة السنن، لضعف سند أكثر النصوص المتقدمة، فلاحظ.

و منها: صب الماء علي أعلي كل عضو، كما ذكره في العروة الوثقي، و قد يستدل له بصحيح زرارة الحاكي لوضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله و المتضمن لوضع

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب السواك حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب السواك حديث: 13.

(3) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب السواك حديث: 5.

(4) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب السواك حديث: 6.

(5) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب السواك حديث: 7.

ص: 282

______________________________

الماء علي الجبهة و المرفقين «1»، و الآخر المتضمن لإسداله علي أعلي الوجه «2»، بل بغيرهما من نصوص الوضوءات البيانية الظاهرة في تحقق الغسل بمجرد صب الماء «3» بناء علي وجوب الابتداء بالأعلي.

و يظهر الإشكال فيه مما تقدم غير مرة من أن مجرد صدور شي ء منه صلّي اللّه عليه و آله أو حكايته بالنصوص المذكورة لا يدل علي استحبابه.

و قد تقدم في مسألة وجوب الابتداء بأعلي الوجه توضيحه.

و منها: أن يكون الغسل بصب الماء علي العضو لا برمسه فيه، كما في العروة الوثقي. و لا وجه له إلا نصوص الوضوءات البيانية، التي أشرنا إلي إشكال الاستدلال بها.

نعم، لو تمَّ ما يأتي من استحباب الغسل بمسح العضو يتعين مرجوحية الارتماس.

و منها: إمرار اليد علي العضو المغسول، كما ذكره في المستند و نسبه للمشهور، مستدلا عليه بخبر الرقاشي: «قلت لأبي الحسن موسي عليه السّلام: كيف أتوضأ للصلاة؟ فقال: لا تعمق في الوضوء و لا تلطم وجهك بالماء لطما و لكن اغسله من أعلي وجهك إلي أسفله بالماء مسحا، و كذلك فامسح الماء علي ذراعيك و رأسك و قدميك» «4». لكنه لو تمَّ اقتضي استحباب المسح بالنحو الذي لا يلزم التعميق.

و أما الاستدلال له بالاستظهار و نصوص الوضوءات البيانية، فلا يخلو عن إشكال، لعدم الدليل علي استحباب الاستظهار شرعا في المقام، بل يجب عقلا مع الشك.

و عدم ظهور النصوص المذكورة في الاستحباب، علي ما تقدم، و لا سيما

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 6، 7.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 22.

ص: 283

______________________________

مع ظهور بعضها في عدمه و الاكتفاء بالصب «1»، للاقتصار فيه علي مسح الجانب الذي لا صب عليه.

و منها: فتح العينين عند الوضوء، كما هو ظاهر الصدوق في الفقيه و الهداية و صريحه في المقنع، و حكي عن جماعة، لما أرسله قدّس سرّه في الكتب الثلاثة و أسنده في ثواب الأعمال إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله من طريق ابن عباس من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «افتحوا عيونكم عند الوضوء لعلها لا تري نار جهنم» «2»، و ما عن نوادر الراوندي و دعائم الإسلام و الجعفريات من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «أشربوا أعينكم [عيونكم. خ. ل] الماء لعلها لا تري نارا حامية» «3».

و استظهر في الحدائق- تبعا لما حكاه عن جملة من مشايخه- أن المراد باستحباب ذلك مجرد فتحهما استظهارا لغسل نواحيهما، دون غسلهما، لما فيه من المشقة و المضرة، حتي أنه روي أن ابن عمر كان يفعله فعمي لذلك.

و قريب منه ما حكاه في المستند عن والده، محتجا أيضا بدعوي الشيخ في الخلاف الإجماع علي عدم وجوب الغسل و لا استحبابه.

لكنه مخالف لظاهر الخبرين، خصوصا الثاني، لظهوره في الحث علي إدخال الماء فيهما بنحو يصدق معه الإشراب. و تحقق الضرر بذلك غير معلوم.

و عمي ابن عمر- لو تمَّ- لعله ناش عن تعميقه في ذلك.

و إجماع الخلاف- لو تمَّ- يقتضي عدم استحباب غسل العينين حتي لغسل نواحيهما، فلا يكون شاهدا علي الحمل المذكور.

و مثله ما استقربه و حكي عن بعض مشايخه احتماله من حمله علي التقية بلحاظ نسبته للشافعي لأن رواه الأول من العامة، و الثاني ضعيف السند.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 6، 10.

(2) الوسائل باب: 53 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 45 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 2، 3. و البحار ج: 80 ص: 331 الطبعة الحديثة، و مجلد 18 ص: 80 الطبعة القديمة، كتاب الطهارة باب: 6 من أبواب الوضوء حديث:

9.

ص: 284

______________________________

لاندفاعه بأن ذلك وحده لا يكفي في الحمل علي التقية، بل لا مجال لها في الخبرين بعد كونهما نبويين.

بل يتعين البناء علي الاستحباب بناء علي قاعدة التسامح في أدلة السنن التي جروا عليها في أمثال المقام.

و أما الإجماع المتقدم عن الخلاف، فهو- لو تمَّ سوقه لنفي الاستحباب الذي تعرض له في عنوان المسألة، لا لنفي الوجوب الذي تعرض له في ذيلها- لا يوجب القطع، ليكون مانعا من جريان قاعدة التسامح المذكورة.

و منها: صفق الوجه بالماء، كما يظهر من الصدوق في الفقيه و حكي عن أبيه، لمرسل عبد اللّه بن المغيرة عن الصادق عليه السّلام: «قال: إذا توضأ الرجل فليصفق وجهه بالماء، فإنه إن كان ناعسا فزع و استيقظ، و إن كان البرد فزع فلم يجد البرد» «1».

لكن في موثق السكوني: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضأتم، و لكن شنوا الماء شنا» «2» و تقدم في خبر الرقاشي قول الكاظم عليه السّلام: «لا تعمق في الوضوء و لا تلطم وجهك بالماء لطما، و لكن اغسله من أعلي وجهك إلي أسفله بالماء مسحا» «3».

و قد جمع الشيخ في التهذيب بحمل الأول علي الإباحة و ما بعده علي الندب، و قال في الاستبصار: «فالوجه في الجمع بينهما أنا نحمل أحدهما علي الندب و الاستحباب و الآخر علي الجواز، و الإنسان مخير في العمل بهما».

و هو مخالف لظاهر النصوص المتقدمة لظهورها في الحث لا في محض الجواز و الإباحة.

و احتمل في الحدائق حمل الأول علي الناعس و البردان، و ما بعده علي ما عداهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 22.

ص: 285

______________________________

و يشكل: بظهور الأول في الاستحباب مطلقا، و إن اختصت الفائدة المبينة فيه بالناعس و البردان.

و لعل الأقرب حمل الأول علي البدء بصفق الوجه، و حمل ما بعده علي الاقتصار في غسل الوجه علي ضربه بالماء، فيكون المستحب ضرب الوجه أولا بالماء، ثمَّ تفريقه علي الوجه بالمسح و نحوه، كما لعله المناسب لمقابلته في الثاني بالشن الذي هو الصب المتفرق، و في الثالث بالمسح المستلزم لتفريق الماء علي الوجه.

و لعله إليه يرجع ما حكاه في الحدائق عن بعض الأصحاب من احتمال حمل الصفق في الأول علي كونه فعلا سابقا علي الوضوء لا غسلا وضوئيا، فلاحظ.

و منها: حضور القلب حين الوضوء، كما ذكره في العروة الوثقي. و استدل له بما عن أمير المؤمنين و الحسن و زين العابدين عليهم السّلام من تغير حالهم حينه خوفا منه تعالي. بل هو أوضح من أن يحتاج للاستدلال، لما هو المعلوم من كمال العمل العبادي بحضور القلب و كثرة ثوابه بذلك.

و منها: الاستقبال حين الوضوء، لما روي من قولهم عليهم السّلام: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» «1».

و عدم الجلوس في مظان النجاسة، لما فيه من تجنب احتمالها.

و قد ذكرهما في المستند. لكن قال: «في عدّهما من مستحبات الوضوء بخصوصه- كما فعله بعضهم- نظر».

هذا ما عثرت عليه عاجلا في كلماتهم من مستحبات الوضوء، و ربما فاتنا بعض الأمور الأخر، كما ربما يستفاد استحباب بعض الأمور مما تقدم في أفعال الوضوء و شرائطه، فلاحظ.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 47 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 4، 5، 7، 8. و البحار مجلد: 10 ص 93، و مناقب ابن شهرآشوب ج 3 ص: 180، 289، طبع النجف الأشرف.

ص: 286

و يكره الاستعانة بغيره في المقدمات القريبة (1).

______________________________

(1) كما في العروة الوثقي و ظاهر جامع المقاصد و الجواهر. و اقتصر علي صب الماء في المبسوط و النهاية و المنتهي و كشف اللثام و المستند. و أطلق كراهة الاستعانة في الوسيلة و الشرائع و النافع و المعتبر و القواعد و الإرشاد، بل صرح في الروض و المدارك بعمومها لمثل إحضار الماء و تسخينه، خلافا لما في كشف اللثام و الرياض و المستند و الجواهر من عدم عمومها لذلك، بل نفاهما في المستند عن مثل رفع الثوب عن العضو.

و الدليل علي أصل الحكم في كلماتهم موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن علي عليهم السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: خصلتان لا أحب أن يشاركني فيها أحد: وضوئي، فإنه من صلاتي، و صدقتي، فإنها من يدي إلي يد السائل، فإنها تقع في يد الرحمن» «1».

و خبر شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «كان أمير المؤمنين إذا توضأ لم يدع أحدا يصب عليه الماء، فقيل له: يا أمير المؤمنين لم لا تدعهم يصبون عليك الماء؟ فقال: لا أحب أن أشرك في صلاتي أحدا، و قال اللّه تبارك و تعالي:

فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «2» و خبر الوشاء: «دخلت علي الرضا عليه السّلام و بين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة فدنوت منه لأصب عليه فأبي ذلك فقال: مه يا حسن، فقلت له: لم تنهاني أن أصب علي يديك تكره أن أوجر؟ قال: تؤجر أنت و أوزر أنا! فقلت: و كيف ذلك؟

فقال: أما سمعت اللّه عز و جل يقول فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً و ها أنا ذا أتوضأ للصلاة،

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 287

______________________________

و هي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد» «1».

و مرسل الإرشاد في بيان وعظ الرضا عليه السّلام للمأمون و تخويفه باللّه تعالي و قبوله منه علي مضض و غيظ: «و دخل الرضا عليه السّلام يوما فرآه يتوضأ للصلاة و الغلام يصب علي يده الماء. فقال عليه السّلام: لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحدا، فصرف المأمون الغلام و تولي تمام وضوئه بنفسه، و زاد ذلك في غيظه و وجده» «2».

و يتعين حملها علي الكراهة، لظهور مفروغية الأصحاب عن عدم الحرمة، و لما تقدم في مسألة اعتبار المباشرة.

و ربما ادعي أن ذلك مقتضي الجمع بينها و بين صحيح أبي عبيدة الحذاء:

«وضأت أبا جعفر عليه السّلام يجمع و قد بال، فناولته ماء فاستنجي ثمَّ صببت عليه كفا فغسل به وجهه [و كفا غسل به ذراعه الأيمن] و كفا غسل به ذراعه الأيسر.» «3»

و خبر عبد الرزاق قال: «جعلت جارية لعلي بن الحسين عليهما السّلام تسكب الماء عليه و هو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية علي وجهه فشجه.» «4».

لكن الإنصاف أنهما لا يناسبان شدة الكراهة التي دلت عليها نصوص المقام، بمقتضي تضمنها تطبيق الإشراك في العبادة، و التعبير بالوزر في خبر الوشاء، كما يناسبها نهي الرضا عليه السّلام للمأمون و الإقدام علي إغاظته في مرسل الإرشاد، إذ يبعد مع ذلك جدا خروج الإمامين السجاد و الباقر عليهما السّلام عنها.

و دعوي: صدور ذلك منهما لبيان الجواز.

مدفوعة: ببعد خفاء الحال في ذلك إلي حين صدوره منهما. و بعد التعويل في البيان عليه مع كونه معرضا للخفاء و الضياع.

فلعل الأولي حمل الصحيح علي الوضوء لغير الصلاة، لأنه حاك لقضية

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الإرشاد ص 354 طبع النجف الأشرف سنة 1392 ه و قد ذكره في الوسائل في باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 4. مع تغيير بسيط و لم يذكر الذيل.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(4) مستدرك الوسائل باب: 41 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 3.

ص: 288

______________________________

خارجية لا إطلاق لها، و قصر الحكم بالكراهة علي الوضوء للصلاة، كما هو مورد نصوص المقام المناسب للتعليل الذي تضمنته، لظهورها في تطبيق العبادة علي الصلاة، لا علي الوضوء.

و لعل إطلاق الأصحاب مبني علي غفلتهم عن الخصوصية المذكورة أو التغافل عنها، لتسامحهم في أدلة السنن.

و أما خبر عبد الرزاق، فربما ينزّل علي الضرورة، أو علي إرادة سكب الماء في الإناء مقدمة للوضوء لا الصب علي اليد الذي هو مورد نصوص المقام، و لا سيما مع قرب نقل الراوي الحال من دون مشاهدة، حيث قد يشتبه عليه بعض الخصوصيات فلا يحسن نقلها أو التعبير عنها، لانصراف غرضه لبيان حلم الإمام عليه السّلام و سمو خلقه.

ثمَّ إنه قد استشكل في المدارك في الحكم، لضعف النصوص، فلا تنهض بالخروج عن ظاهر صحيح أبي عبيدة.

و كأنه مبني علي عدم التعويل علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، حيث لا مجال لدعوي انجبار ضعف النصوص بعمل الأصحاب، لقرب جريهم علي قاعدة التسامح، كما أشرنا إليه غير مرة.

و أما موثق السكوني فسيأتي الكلام فيه.

نعم، لا يبعد تعاضد النصوص بعضها ببعض، فتأمل.

هذا، و قد يستفاد عموم الكراهة لمطلق الاستعانة من نصوص المقام، خصوصا موثق السكوني، لأنه و إن لم يتضمن عنوان الاستعانة إلا أنه تضمن عنوان المشاركة، و لا يراد بها المشاركة في نفس الوضوء، بل في مقدماته، و مقتضي إطلاقه مرجوحية المشاركة حتي في المقدمات البعيدة، فلا وجه لقصر الحكم علي الاستعانة في المقدمات القريبة، فضلا عن خصوص الصب، و لا سيما مع ما ورد في سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله من أنه كان يضع طهوره بالليل بيده «1»، و في سيرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 5.

ص: 289

______________________________

السجاد عليه السّلام من أنه كان لا يحب أن يعينه علي طهوره أحد، و كان يستقي الماء لطهوره و يخمره قبل أن ينام «1».

و يشكل: بأن الموثق و إن كان يعم المقدمات البعيدة إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي حمله علي محض قلة الثواب، بلحاظ أن أفضل الأعمال أحمزها، و لكل مقدمة أجرها إذا اتي بها بداعي التوصل لذيها، و لا يظن من أحد إنكار ذلك أو التشكيك فيه.

و إنما الكلام في المرجوحية المساوقة للكراهة الشديدة المناسبة للتنفير، و لا ينهض الموثق بها، بل ينحصر الدليل عليها بخبري شهاب و الوشاء و مرسل الإرشاد، لما سبق، و حيث كانت مختصة بصب الماء لزم الاقتصار عليه.

و دعوي: أن تطبيق الإشراك في العبادة فيها علي الصب قرينة علي أن المراد به ما يعم الاستعانة بمقدمات العبادة، فيدل علي عموم كراهة ذلك.

مدفوعة: بأن التطبيق المذكور لما لم يكن عرفيا بل تعبديا لم ينهض بتفسير الإشراك، بل يتعين الجمود عليه.

بل الالتزام بعموم الكراهة بالنحو المذكور للمقدمات البعيدة جدا في الوضوء فضلا عن غيره من العبادات، بحيث لو دار الأمر بين الاستعانة فيها و الاستعانة بالصب لم يفرق بينهما بعيد جدا لا تناسبه المرتكزات المتشرعية، و سيرة المعصومين عليهم السّلام و مواليهم. فالمتعين الاقتصار علي الصب.

هذا، و الظاهر عدم توقف الكراهة علي طلب الإعانة من المتوضئ. و ما عن بعضهم من توقفها علي ذلك، و أنه به يجمع بين نصوص المقام و صحيح أبي عبيدة، كما تري، لقوة ظهور بعض نصوص المقام في عدم طلب المتوضئ الصب.

و دعوي: عدم صدق الاستعانة بدونه، لأن هيئة الاستفعال تفيد طلب المادة، كما في الاستغفار.

ممنوعة، فإن الهيئة المذكورة قد تصدق من دون طلب، كما في

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 41 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 2.

ص: 290

______________________________

الاستصحاب و الاستخراج، مضافا إلي عدم اشتمال نصوص المقام علي عنوان الاستعانة، و إنما هي مذكورة في كلمات الأصحاب.

ثمَّ إنه بعد أن عمم في الروض الحكم لطلب إحضار الماء و تسخينه قال:

«كل ذلك بعد العزم علي الوضوء، أما لو استعان لا له ثمَّ عرض له إرادة الوضوء لم يكره قطعا».

و لم يتضح الوجه فيما ذكره بعد إطلاق النصوص المتقدمة، حيث يصدق الإشراك حينئذ، فتأمل.

بقي الكلام في بعض الأمور الأخر التي ذكرها الأصحاب (رضي اللّه عنهم) في مكروهات الوضوء.

منها: التمندل، كما في المعتبر و الشرائع و النافع و الإرشاد و القواعد و الروض و عن جمل الشيخ و التذكرة و الدروس و غيرها، بل في الروض و عن الدروس و غيره أنه المشهور.

و استدل عليه بخبر محمد بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من توضأ و تمندل كتبت له حسنة، و من توضأ و لم يتمندل حتي يجف وضوؤه كتب له ثلاثون حسنة» «1».

لكنه لا يدل علي كراهته، بل أفضلية تركه، و لعله لذا عبّر بذلك في المبسوط و النهاية و الخلاف و محكي الذكري، و هو ظاهر الصدوق، حيث اقتصر في الفقيه علي ذكر الحديث، و في المقنع علي التعبير بمضمونه، بل ربما كان هو المراد مما في إشارة السبق و الوسيلة من جعل ترك التمندل من السنن و الآداب.

و أما تنزيل كلام المشهور علي ذلك، فقد يشكل بلحاظ ما في كلام بعضهم من جعل كلام الشيخ خلافا في المسألة.

هذا، و قد ينافي الخبر المذكور موثق إسماعيل بن الفضل: «رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام توضأ للصلاة ثمَّ مسح وجهه بأسفل قميصه، ثمَّ قال: يا إسماعيل افعل

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 291

______________________________

هكذا فإني هكذا أفعل» «1». و صحيح منصور ابن حازم: «رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام و قد توضأ و هو محرم، ثمَّ أخذ منديلا فمسح به وجهه» «2».

و غير واحد من النصوص المتضمنة أنه كان لأمير المؤمنين عليه السّلام خرقة يتمندل بها «3». فإن ذلك لا يناسب أفضلية الترك جدا.

و لا مجال لحمل هذه النصوص علي التقية بعد ما حكاه الشيخ في الخلاف عن أكثر فقهاء العامة من موافقتهم له في الحكم المذكور، و عن مالك و الثوري و ابن عباس من أنه لا بأس به في الغسل دون الوضوء، و عن ابن أبي ليلي و ابن عمر من أنه مكروه في الوضوء و الغسل معا. و حكي عن كتبهم ما يدل علي اختلافهم في ذلك.

و ما في الجواهر من مداومتهم علي التمندل، غير واضح المأخذ، بنحو يصح التعويل عليه في الإعراض عن هذه النصوص الكثيرة.

كما لا مجال لدعوي وهن هذه النصوص بإعراض الأصحاب، لما تكرر منا من عدم صلوح عملهم و إعراضهم للجبر و التوهين في المندوبات و المكروهات غالبا. و ربما نزّلت علي بعض الوجوه التي لا تخلو عن إشكال أيضا.

و من ثمَّ كان التوقف هو الأنسب بالنظر للأدلة. و لعله لذا حكي عن ظاهر المرتضي في شرح الرسالة و الشيخ في أحد قوليه عدم الكراهة. بل قد يكون الأنسب بها رجحان التمندل. فلاحظ.

هذا، و هل يختص الحكم بالمسح بالمنديل- كما هو ظاهر التمندل في كلام جملة من الأصحاب و صريح بعضهم- أو يعم مطلق المسح و لو بمثل الكم- كما هو ظاهر الشرائع- أو يعم مطلق إزالة البلل و لو بتجفيفه بمثل التعرض للنار- كما

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 7، 8، 9.

ص: 292

______________________________

استظهره في الروض- وجوه.

مقتضي الجمود علي النص الأول، و إن كان الظاهر الثالث، لإلغاء خصوصية مورد النص عرفا، لانسباق كون الغرض بقاء بلل الوضوء، كما يشير إليه قوله عليه السّلام:

«و لم يتمندل حتي يجف وضوؤه». و أضعفها الثالث.

و منها: الوضوء في مكان الاستنجاء، كما ذكره في العروة الوثقي. و كأنه لما عن جامع الأخبار: «قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: عشرون خصلة تورث الفقر، أوله القيام من الفراش للبول عريانا. و غسل الأعضاء في موضع الاستنجاء» «1».

لكنه لا يختص بالوضوء، نظير ما تقدم في استحباب تجنب مواضع النجاسة.

و أما دعوي معارضته برواية عبد الرحمن بن كثير الحاكية لوضوء أمير المؤمنين «2» عليه السّلام، و المتقدمة في أدعية الوضوء و صحيح أبي عبيدة الحاكي لوضوء الباقر «3» عليه السّلام، بجمع المتقدم عند الكلام في الاستعانة. فهي ممنوعة، لأنهما إنما تضمنا الوضوء بعد الاستنجاء، لا في موضعه، لإمكان الانتقال عنه قليلا.

و منها: الوضوء في المسجد من حدث البول و الغائط، كما في الحدائق و المستند، و نسب في الأول إلي جملة من الأصحاب.

لكن في النهاية في أحكام المساجد: «و لا يجوز التوضؤ من الغائط و البول في المساجد، و لا بأس بالوضوء فيها من غير ذلك»، و نحوه عن السرائر.

و قد حمل في الحدائق كلام النهاية علي الاستنجاء.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 293

و قد يناسبه عدم تعرضه لذلك في أحكام الوضوء مع ما عن المبسوط من المنع عن الاستنجاء فيها و التصريح بجواز الوضوء، بل إطلاق التوضؤ علي التطهر

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 293

______________________________

من الخبث غير بعيد، و ليس هو كإطلاق الوضوء.

نعم، هو لا يناسب ذيله المتضمن جواز الوضوء بها من غير الغائط، إذ لو أريد به التطهير لكان محرما أيضا، لنجاسة ماء الغسالة، بل هو أولي من ماء الاستنجاء الذي قال بعضهم بطهارته و آخر بعدم تنجيسه.

و كيف كان، فيدل علي الكراهة صحيح رفاعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوضوء في المسجد فكرهه من البول و الغائط» «1» المحمول علي الكراهة، لظهور المفروغية عن ذلك بين الأصحاب و قيام السيرة عليه.

و بذلك يظهر ضعف ما تقدم من النهاية و السرائر لو كان مما نحن فيه.

و أما حمله علي الاستنجاء- كما استقر به في الحدائق- فهو مخالف للظاهر، بل حمل الوضوء فيه علي خصوص الاستنجاء لا يناسب تقييده بالبول و الغائط، لانحصاره بهما مفهوما.

و حمله علي مطلق التطهير لا يناسب تقييد الكراهة بهما، بل يعم غيرهما من النجاسات، لنجاسة ماء الغسالة نظير ما سبق من النهاية.

هذا، و في صحيح بكير عن أحدهما عليهما السّلام: «قال: إذا كان الحدث في المسجد فلا بأس في الوضوء بالمسجد» «2». و في حمله علي غير البول و الغائط، بلحاظ غلبة عدم وقوعهما في المسجد، مع الكراهة فيهما مطلقا، عملا بإطلاق الأول. أو حمله علي العموم و حمل البأس فيه علي الحرمة مع تجريده عن المفهوم. أو إبقائه علي إطلاقه مع ثبوت المفهوم له و حمل البأس فيه علي ما يعم الكرهة، بأن يكون المدار في الكراهة علي وقوع الحدث في غير المسجد، حتي في البول و الغائط، و يكون إطلاق الأول منزلا علي الغالب.

وجوه، أقربها الأول، لقوة ظهور صحيح رفاعة في خصوصية البول و الغائط،

______________________________

(1) الوسائل باب: 57 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 57 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 294

______________________________

المستلزم لضعف الوجه الثالث، و قوة ظهور صحيح بكير في المفهوم، المستلزم لضعف الوجه الثاني.

و ربما يبقي كل منهما علي إطلاقه، و يجمع بينهما بتعدد جهة الكراهة، فيكره الوضوء في المسجد من الغائط و البول مطلقا، و تتأكد الكراهة مع وقوعهما خارج المسجد، كما هو الغالب، و لا يكره الوضوء من غيرهما إلا مع وقوعه خارج المسجد، فلاحظ.

و منها: الوضوء من الإناء المفضض و المذهّب و المنقوش بالصور، و كذا الوضوء فيه، فقد صرح الأصحاب (رضي اللّه عنهم) بكراهة استعمال الإناء المفضض، بل لعله لا خلاف ظاهر فيه، كما صرح بعضهم بإلحاق المذهب به عندهم و إن خلت عنه أكثر الفتاوي، لدعوي إرادتهم له تبعا أو بالأولوية، كما صرح بكراهة الوضوء من الإناء المنقوش بالصور في المستند.

و كيف كان، فيقتضيه موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «عن الطست يكون فيه التماثيل أو الكوز أو التور يكون فيه التماثيل أو فضة، لا يتوضأ منه و لا فيه» «1».

مضافا إلي ما دل علي كراهة استعمال المفضض، بناء علي عمومه لمطلق الاستعمال، علي ما يأتي الكلام فيه في آخر كتاب الطهارة إن شاء اللّه تعالي. و كأن الحكم في المذهّب للإلحاق بالمفضض، لما سبق، فلاحظ.

و منها: نفض المتوضئ يده، كما في المستند، قال: «للنبوي العامي: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم». و كونه عاميا غير ضائر للمسامحة».

و كأن المراد به نفض اليد بعد الوضوء لإزالة الماء عنها، فيساوق ما تقدم في التمندل، بناء علي كون الملحوظ فيه مطلق إزالة البلل.

و منها: الوضوء بالماء المشمس، كما صرح به جماهير الأصحاب، علي ما في مفتاح الكرامة، بنحو يظهر منهم التسالم عليه في الجملة- و إن اختلفوا

______________________________

(1) الوسائل باب: 55 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 295

______________________________

فيه سعة و ضيقا، علي ما يأتي- بل ادعي في الخلاف الإجماع علي ذلك مع القصد إليه.

و يقتضيه خبر إبراهيم بن عبد الحميد، بل موثقه عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال:

دخل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله علي عائشة و قد وضعت قمقمها في الشمس، فقال: يا حميراء ما هذا؟ قالت: أغسل رأسي و جسدي. قال: لا تعودي، فإنه يورث البرص» «1».

و خبر إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

الماء الذي تسخنه الشمس لا تتوضؤوا به و لا تغتسلوا به و لا تعجنوا به، فإنه يورث البرص» «2». و مرسل الفتال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: خمس خصال يورث البرص:

النورة يوم الجمعة و يوم الأربعاء، و التوضي و الاغتسال بالماء الذي تسخنه الشمس» «3».

و هي محمولة علي الكراهة للسيرة القطعية، و ظهور المفروغية بين الأصحاب عن عدم الحرمة التكليفية و لا الوضعية. و لمرسل محمد بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن يتوضأ الإنسان بالماء الذي يوضع بالشمس» «4».

علي أن النهي عن العود في الأول دون استعمال الماء المذكور ظاهر في الكراهة، بل في خفتها و عدم أهميتها بالنحو المقتضي لإراقته.

بل التعليل يناسب الكراهة التي تضعف داعويتها و يحتاج معها لتأكيد الداعي ببيان الضرر الدنيوي.

بل احتمل بعضهم حمل النهي لأجله علي محض الإرشاد، دون الكراهة المولوية. و إن لم يخل عن الإشكال، لسوق النهي مساق الزجر و لو بلحاظ اهتمام

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المضاف حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 40 من أبواب آداب الحمام: حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المضاف: حديث: 3.

ص: 296

______________________________

الشارع الأقدس بتجنب احتمال الضرر المذكور، كما يهتم بسائر الملاكات التي اقتضت جعل الأحكام المولوية.

هذا، و مقتضي إطلاق الأخيرين عدم توقف الكراهة علي قصد التشميس بوضع الماء في الشمس، و لا قصد استعماله بعده.

بل هو المستفاد من الأول بإلغاء خصوصية القصد عرفا. و من ثمَّ صرح بالتعميم من حيثية قصد التشميس في جامع المقاصد و الروض و محكي نهاية الاحكام و البيان و المسالك. و لعله المراد من التعميم من حيثية القصد و عدمه في المبسوط، كما هو مقتضي إطلاق الصدوق في الهداية و العلامة في المنتهي و غيرهما ممن عبر بما أسخنته الشمس، بل بالشمس في كلام جملة منهم، بناء علي توقف صدقه علي القصد.

خلافا لظاهر الخلاف و محكي السرائر و الجامع، حيث قيدوه بما إذا قصد ذلك، و ربما كان هو المتيقن ممن عبر بالتشميس أو بإسخان الماء في الشمس.

و كأنه للجمود علي مورد الحديث الأول، الذي تقدم ضعفه.

كما أن مقتضي إطلاق الأخيرين أيضا عدم الفرق بين وضعه في الإناء و عدمه. و اختصاص الأول بالإناء لا ينافيه، و لا سيما مع قرب إلغاء خصوصيته عرفا. و لعله لذا أطلق في المبسوط و الهداية، بل صرح في محكي المسالك بعدم الفرق.

و منه يظهر ضعف ما يظهر ممن خص الحكم بما كان في الآنية، كما في النهاية و كتب المحقق و العلامة- علي ما حكي عن بعضها- و عن السرائر و البيان و جملة من كتب الفقهاء.

و أضعف منه ما في المنتهي قال: «الظاهر عموم النهي. و يحتمل عدمه و اختصاصه بما يخاف منه المحذور، كالشمس في البلاد الحارة، دون المعتدلة، أو فيما يشبه آنية الحديد و الرصاص، دون الذهب و الفضة، لصفاء جوهرهما»، و نحوه عن نهاية الاحكام.

ص: 297

______________________________

لعدم وضوح اختصاص المحذور بما ذكره، و إن ظهر من جامع المقاصد و الروض التسليم به، لأنهما ذكرا أن المحذور المذكور حكمة لا يلزم اطرادها.

و كذا التقييد بما دون الكر، كما لم يستبعده في محكي مجمع البرهان و استظهره الوحيد في حاشية المدارك قال: «لأن الرواية وردت عن الرسول صلّي اللّه عليه و آله و الماء الكثير في ذلك الزمان كان نادرا».

إذ فيه: أن غلبة الابتلاء بالماء القليل لا تمنع من شمول الإطلاق لغيره.

نعم، عن العلامة أنه لا كراهة في المشمس بالأنهار الكبار و الصغار و المصانع [1] و البرك و الحياض إجماعا.

و هو أعلم بما قال، لعدم تيسر ثبوت الإجماع لنا. و السيرة علي عدم الاجتناب لا تكشف عن عدم الكراهة، لإمكان ابتنائها علي الغفلة عنها أو التسامح فيها، بسبب صعوبة الاجتناب في الجملة.

نعم، النصوص المتقدمة بمقتضي ظاهر بعضها و المتيقن من الآخر إنما تدل علي الكراهة مع تأثير الشمس في الماء حرارة معتدا بها يصدق بها التسخين، لا مجرد انكسار برودة الماء و خفتها، و الظاهر ندرة حصول ذلك في ماء الأنهار و المصانع الكبار، خصوصا في البلاد المعتدلة.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر توقف استناد تسخين الماء للشمس،- الذي تضمنه خبر إسماعيل و مرسل الفتال- علي وضع الماء فيها- كما هو مورد حديث إبراهيم- و لا يكفي مجاورته لها، كما لا يكفي إصابته لمثل الإناء المسخن بها.

______________________________

[1] قال في القاموس: «المصنعة كالحوض يجمع فيها ماء المطر، و تضم نونها كالمصنع. و المصانع الجمع».

ص: 298

______________________________

نعم، يكفي إصابة شعاعها للإناء حين وجود الماء فيه، و لا يعتبر إصابته للماء مباشرة، لصدق تسخينها له بذلك عرفا، بل لعله الفرد الشائع المتيقن من الإطلاق.

الثاني: المصرح به في جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري و غيرها بقاء الكراهة مع ارتفاع السخونة، و استظهره في المنتهي و كشف اللثام.

و لا مجال للاستدلال عليه بالاستصحاب- و إن ذكره غير واحد- بناء علي ما هو التحقيق من عدم جريانه في الأحكام التكليفية غالبا لتعدد الموضوع، و هو فعل المكلف، و إن اتحد متعلقه، و هو الماء في المقام.

كما لا مجال للاستدلال عليه بحديث إبراهيم، لعدم [شمول] الإطلاق له، و المتيقن منه بقاء السخونة التي هي الغرض من وضع الماء في الشمس.

بل ينحصر الدليل عليه بإطلاق خبر إسماعيل و مرسل الفتال، لا لصدق المشتق مع ارتفاع المادة، لمنعه صغري و كبري، بل لصدق هيئة الفعل- التي تضمنها الخبر و المرسل- مع الانصرام.

إلا أن يدعي انصراف الإطلاق لصورة بقاء الحرارة، لأنها الغرض من التسخين، فتأمل.

الثالث: لا ينبغي التأمل في وفاء النصوص المتقدمة بإثبات كراهة جميع أفراد الغسل بالماء المذكور. كما أن مقتضي النهي عن العجن في الثاني عمومها لبقية استعمال الماء المتعلقة بالطعام و الشراب، كطبخ الطعام به و شربه وحده أو ممزوجا بغيره، لإلغاء خصوصيته عرفا. و لعل اقتصار بعضهم علي كراهة الطهارة لاهتمامهم ببيان أحكامها.

نعم، لا مجال لإحراز كراهة غسل الطعام به من دون مزج، فضلا عن غيره مما يتعلق بالبدن كغسل الثياب.

الرابع: أن الكراهة المذكورة لا ترجع إلي نقص في الطهارة، بل هي كراهة تكليفية بلحاظ جهة خارجة عنها، لأن ذلك هو المناسب للتعليل، و لعموم كراهة

ص: 299

______________________________

الاستعمال لمثل الغسل غير الشرعي و العجن مما لا يقصد لأثره، حيث يكشف عن عدم دخل جهة النهي بالأثر المقصود من الماء من الطهارة الحدثية و الخبثية.

و منها: الوضوء بالماء الآجن، كما في الحدائق و غيره. لصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الماء الآجن يتوضأ منه، إلا أن تجد غيره فتنزه منه» «1» بناء علي أن: «فتنزه» فعل أمر- كما لعله مقتضي الأصل- أو مضارع قد حذفت من أوله إحدي التائين مسوق للطلب، لا لمحض الإخبار عن حال المكلف. و الحديث المروي في مجمع البحرين: «نهي عن الوضوء في الماء الآجن».

و منها: الوضوء بالمياه المكروهة الاستعمال غير ما سبق، كماء البئر الملاقية للنجاسة قبل النزح- بناء علي عدم انفعالها و حمل الأمر بالنزح علي كراهة الاستعمال بدونه- و الأسآر المكروهة التي تقدم التعرض لها في آخر مباحث المياه.

و ربما فاتنا التنبيه لبعض الأمور، و نسأله سبحانه العصمة و السداد.

تذنيب:

روي الكليني و الشيخ قدّس سرّهما بسند معتبر عن الصفار أنه كتب إلي أبي محمد عليه السّلام: «هل يجوز أن يغسل الميت و ماؤه الذي يصب عليه يدخل إلي بئر كنيف، أو الرجل يتوضأ وضوء الصلاة ينصب ماء وضوئه في كنيف؟ فوقع عليه السّلام:

يكون ذلك في بلاليع» «2». و هو محمول علي الكراهة، للسيرة القطعية، و ظهور مفروغية الأصحاب عن الجواز بمقتضي عدم اهتمامهم بالتنبيه علي الحكم المذكور. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 56 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 300

______________________________

إلي هنا انتهي الكلام في مباحث الوضوء شرحا لما ذكره سيدنا الجد الفقيد قدّس سرّه في كتابه (منهاج الصالحين).

و كان ذلك في النجف الأشرف بيمن الحرم المشرف علي مشرّفه أفضل الصلاة و السلام.

ليلة الاثنين، التاسع من شهر جمادي الأولي، سنة ألف و ثلاثمائة و ثمان و تسعين لهجرة سيد المرسلين عليه و آله أفضل الصلوات و أزكي التحيات.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

و الحمد للّه علي توفيقه و تسهيله و حسن صنيعه، و نسأله بلطفه و كرمه أن يتم نعمته علينا بالعون علي إتمام ذلك و تيسير النفع به مع قبول العمل و غفران الزلل و العصمة في القول و العمل، إنه ولي التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل، نعم المولي و نعم النصير، و لا حول و لا قوة إلا به عليه توكلت و إليه أنيب.

و انتهي تبييضه بعد تدريسه بقلم مؤلفه الفقير عفي عنه، في النجف الأشرف، صباح الجمعة، الثالث عشر من شهر جمادي الأولي، سنة ألف و ثلاثمائة و ثمان و تسعين للهجرة.

و الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 301

ص: 302

المبحث الرابع في الغسل

اشارة

المبحث الرابع في الغسل (1) و الواجب منه لغيره (2): غسل الجنابة و الحيض و الاستحاضة

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين، و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري و أحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

و تقبل مني و زكّ عملي و اغفر زللي، إنك أنت أرحم الراحمين و ولي المؤمنين، و لا حول و لا قوة إلّا بك، عليك توكلت و إليك أنيب.

(1) و هو- بالضم- لغة، مصدر غسل، أو اسم مصدر منه، أو خصوص غسل تمام الجسد، و اختص في عرف المتشرعة- تبعا للاستعمالات الشرعية- بغسل تمام البدن الذي يشرع للطهارة من الحدث، أو لكمالها.

و الاغتسال عندهم مصدر مأخوذ منه، و إن كان لغة عبارة عن غسل تمام البدن، كما صرح به بعض اللغويين.

(2) من الصلاة و غيرها مما يأتي الكلام فيه في أحكام هذه الأغسال. هذا، و لم يعرف القول منا بوجوب أحد هذه الأغسال لنفسه، و إنما ذكر الشهيد في محكي الذكري وجوب الأغسال لنفسها وجها في المسألة يبتني علي القول بوجوب الوضوء لنفسه، و نسب لبعض العامة القول بذلك، علي ما سبق في

ص: 303

و النفاس و مسّ الأموات (1). و الواجب لنفسه: غسل الأموات (2).

فهنا مقاصد:

______________________________

أول فصل غايات الوضوء، و سبق ما يصلح دليلا لبطلان القول المذكور.

و ربما يأتي عند الكلام في هذه الأغسال ما ينفع في المقام.

(1) يأتي الدليل علي وجوب كل غسل في محله إن شاء اللّه تعالي. كما يأتي في المقصد السابع التعرض لوجه عدم وجوب بعض الأغسال الأخر، كغسل الجمعة و غيره، إن شاء اللّه تعالي.

(2) الظاهر أنّ غسل الأموات إنما يجب بلحاظ ترتب الطهارة الحدثية و الخبثية عليه، فهو واجب لغيره، كالوضوء للكون علي الطهارة، الذي هو مستحب لغيره.

فكأنّ عدّه واجبا نفسيا بلحاظ عدم مقدميته لفعل واجب، بل لمسبب توليدي يترتب قهرا عليه و يكون منشأ لانتزاع عنوان ثانوي له.

و أما مقدميته للصلاة علي الميت التي هي فعل مستقل عنه، فهو لا ينافي كونه واجبا نفسيا، لأن المراد به ما يجب لنفسه و إن كان مقدمة لواجب آخر، في قبال ما يتمحض للوجوب الغيري، لا ما يتمحض للوجوب النفسي، و لذا يعد منه الواجبات المترتبة- كالظهر و العصر- مع كون المتقدم شرطا في صحة المتأخر.

ثمَّ إنّ من المعلوم من النص و الفتوي وجوب الغسل المنذور و إن كان مستحبا بالذات، و من ثمَّ عده في العروة الوثقي.

و كأنّ إهمال سيدنا المصنف قدّس سرّه له لأنه بصدد بيان الأغسال الواجبة و المستحبة بالأصل، و وجوب النذور مستفاد مما يأتي منه قدّس سرّه في كتاب النذر.

ص: 304

المقصد الأول في غسل الجنابة

اشارة

المقصد الأول في غسل الجنابة و فيه فصول:

الفصل الأول في سبب الجنابة
اشارة

الفصل الأول سبب الجنابة (1) أمران.

الأول خروج المني
اشارة

الأول: خروج المني (2)

______________________________

(1) و هي مأخوذة في الأصل من جنب إذ انحي و أبعد، و منه قوله تعالي:

وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنٰامَ «1».

و يراد بها لغة و عرفا و شرعا الحدث الخاص المسبب عما يأتي، لا نفس السبب، و لذا صح الوصف بها، فيقال: فلان جنب، إذا كان محدثا، و لو انصرم السبب.

و من ثمَّ كان الغسل مطلوبا للطهارة من الحدث المذكور، و عد من الطهارات الثلاث.

(2) إجماعا، كما في الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهي و كشف اللثام و عن التذكرة و الذكري، و في الجواهر «بلا خلاف أجده فيه، بل حكي الإجماع عليه

______________________________

(1) سورة إبراهيم: 35.

ص: 305

______________________________

جماعة حكاية تقرب إلي التواتر»، و في بعضها نسبته لإجماع المسلمين.

و تقتضيه النصوص المستفيضة بل المتواترة، كصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: ثلاث يخرجن من الإحليل، و هنّ: المني، و فيه الغسل.» «1»،

و غيره.

فلا ينبغي إطالة الكلام في ذلك، بل المناسب الكلام في أمور.

الأول: أن مقتضي إطلاق معاقد الإجماعات و عموم بعضها- كالنصوص- عدم الفرق بين القليل و الكثير، كما صرح به بعضهم.

و ربما يستفاد من بعض النصوص الاختصاص بالكثير في الجملة، كخبر عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كان علي عليه السّلام لا يري في شي ء الغسل إلا في الماء الأكبر» «2»، و صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عن الرجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا، قال: ليس بشي ء، إلا أن يكون مريضا، فإنه يضعف، فعليه الغسل» «3».

لكن الأول- مع ضعف سنده- لا ظهور له في التقييد، بل ظاهر الوصف فيه الإشارة للمني، في قبال غيره، كالاحتلام و سائر ما يخرج من الإحليل، باعتبار غلبة الكثرة في المني، كما هو مقتضي خبر عنبسة بن مصعب الآخر: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كان علي عليه السّلام لا يري في المذي وضوء و لا غسلا ما أصاب الثوب منه، إلا في الماء الأكبر» «4»، و نحوه ما ورد من الاستشهاد بقول علي عليه السّلام فيمن رأي في المنام شيئا و لم ير بعد الانتباه بللا أو رأي بللا قليلا «5»، و إلا لزم وجوب الغسل من غير المني مع الكثرة.

و أما الثاني، فلو كان المفروض فيه كون البلل القليل منيا لم يكن التعليل في

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 14، و باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الجنابة حديث: 1، 2.

ص: 306

______________________________

ذيله بأنه «يضعف» مناسبا لوجوب الغسل عليه، بل الظاهر وروده- كغيره مما ورد في البلل القليل- في فرض الشك في حال البلل، ليكون التعليل بالضعف مناسبا لإحراز كونه منيا، بلحاظ أن الضعف قد يوجب خروج المني من دون دفق، فيكون قليلا و لا تكون القلة أمارة علي عدم كونه منيا، ليخرج بها عن أمارية الاحتلام.

أما قلة الخارج من غير المريض، فهي أمارة علي عدم كونه منيا، لملازمة المني غالبا للدفق المستلزم للكثرة، كما هو المناسب لما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة، فإنه ربما كان هو الدافق، لكنه يجي ء مجيئا ضعيفا ليست له قوة، لمكان مرضك، ساعة بعد ساعة، قليلا قليلا، فاغتسل منه» «1»، فالصحيح المذكور علي عموم ناقضية المني القليل أدلّ.

علي أنّ الكليني رواه بسند آخر عن معاوية بن عمار بحذف قوله: «قليلا» و قوله: «فإنه يضعف»، فيخرج عن محل الكلام.

هذا، و يدل علي عموم ناقضية المني القليل ما ورد من وجوب الغسل من البلل المشتبه الخارج قبل البول «2»، لغلبة قلته، فلو لم يجب الغسل واقعا من المني القليل لم يجب ظاهرا من البلل المشتبه به.

الثاني: المصرح به في كلام جملة من الأصحاب تحقق الجنابة بخروج المني من دون شهوة، و هو مقتضي إطلاق بعض معاقد الإجماعات المتقدمة، و صريح جملة منها، كإجماع الخلاف و الغنية و المنتهي و كشف اللثام و محكي التذكرة و الذكري.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق جملة من النصوص- ما ورد في البلل المشتبه «3»، لغلبة خروجه من دون شهوة، و ما ورد فيمن يجد بثوبه منيا و لم يكن رأي في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

(3) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

ص: 307

______________________________

منامه أنه احتلم «1».

نعم، قد ينافيه صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يلعب مع المرأة و يقبلها فيخرج منه المني، فما عليه؟ قال: إذا جاء الشهوة و دفع و فتر لخروجه فعليه الغسل، و إن كان إنما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة فلا بأس» «2».

لكن لا مجال للخروج به عما تقدم، و لا سيما مع موافقته للمحكي عن أبي حنيفة و مالك و أحمد.

و قد حمله في التهذيب و الاستبصار علي صورة اشتباه حال الخارج، و عن المنتقي: «إنّ التصريح بكون الخارج منيا بناه السائل علي الظن فجاء الجواب مفصلا للحكم دافعا للوهم». لكنه خلاف ظاهر السؤال جدا.

نعم، يقرب حمله علي اشتباه حال الخارج- مضافا إلي استبعاد جهل مثل علي بن جعفر بحكم المني- روايته في كتاب علي بن جعفر و محكي قرب الإسناد بإبدال «المني» ب «الشي ء»، كما قد يناسبه قوله في الجواب: «و إن كان إنما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة.»، لظهوره في سوق الفترة و الشهوة وصفا للشي ء الناقض لا شرطا في ناقضيته.

هذا، و قد تظافرت النصوص بإناطة جنابة المرأة بخروج مائها عن شهوة «3» و يأتي الكلام فيه في الأمر الخامس إن شاء اللّه تعالي.

الثالث: ذكر في المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم أنّ سبب الجنابة خروج الماء الدافق، و حكي ذلك عن المرتضي و أبي الصلاح و غيرهما. و قد يظهر من ذلك اعتبار الدفق في تحقق الجنابة.

لكن في محكي السرائر أن التقييد في كلماتهم بالدفق مبني علي غلبة اتصافه به.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة.

ص: 308

______________________________

و كأنه راجع إلي حمله علي محض التوصيف للإشارة به للمني، لا لكونه قيدا في ثبوت الحكم له، و هو المناسب لجعلهم الدفق وصفا للماء لا للمني، و لقوله في المبسوط: «إنزال الماء الدافق الذي هو المني»، كما هو المناسب لما تقدم في صحيح زرارة.

نعم، كلام الوسيلة يأبي الحمل علي ذلك. لكنه ظاهر في كون الدفق علامة علي كون الخارج منيا، لا قيدا في ناقضيته.

و كيف كان، فيدل علي عدم اعتبار الدفق- مضافا إلي إطلاق أو عموم معاقد الإجماعات المتقدمة، و إطلاق جملة من النصوص- ما ورد في البلل المشتبه «1»، حيث يغلب خروجه من دون دفق، فتأمل. و ما ورد فيمن يجد بثوبه منيا و لم يكن رأي في منامه أنه احتلم «2»، حيث لا دافع لاحتمال عدم الدفق.

بل لا ينبغي التأمل في عدم اعتبار الدفق في الجملة، بلحاظ ما ورد في المريض، كصحيحي معاوية بن عمار و زرارة المتقدمين و غيرهما.

بل هي ظاهرة في عموم ناقضية المني، و أنّ الدفق من لوازمه الخارجية التي يعرف بها في الصحيح دون المريض، من دون أن يكون قيدا في ناقضيته، فلاحظ.

الرابع: لا ينبغي التأمل في أنّ الناقض هو خروج المني عن الجسد لا تحركه عن محله، كما صرح به جملة من الأصحاب، و هو الظاهر من آخرين ممن ادعي الإجماع و غيرهم.

و يقتضيه- مضافا إلي ظاهر جملة من النصوص المشتملة علي عنوان الخروج و الإنزال و الإمناء و غيرها- ما ورد في البلل المشتبه «3»، لوضوح أنّ ما يخرج بعد الغسل قبل البول هو ما تبقي في المجري، مما تحرك عن محله قبل الغسل، فلو كان النقض بالتحرك عن المحل كان الغسل رافعا له، و لم ينتقض

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة.

(3) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

ص: 309

______________________________

بخروجه خارج الجسد.

الخامس: قال في المدارك: «و لا فرق في وجوب الغسل بالإنزال بين الرجل و المرأة بإجماع علماء الإسلام»، و ذلك هو الظاهر من معقد إجماع المسلمين المدعي في المعتبر و المنتهي، كما أنه مقتضي إطلاق معقد الإجماع في غيرهما.

و تقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح محمد بن إسماعيل: «سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج و تنزل المرأة، هل عليها غسل؟

قال: نعم» «1».

و موثق معاوية بن حكيم: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا أمنت المرأة و الأمة من شهوة، جامعها الرجل أو لم يجامعها في نوم كان ذلك أو في يقظة، فإن عليها الغسل» «2»، و غيرهما.

لكن قال في المقنع: «و إن احتلمت المرأة فأنزلت، فليس عليها غسل، و روي أنّ عليها الغسل إذا أنزلت، فإن لم تنزل فليس عليها شي ء».

و يقتضيه صحيح عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يضع ذكره علي فرج المرأة فيمني، عليها غسل؟ فقال: إن أصابها من الماء شي ء فلتغسله فليس عليها شي ء إلا أن يدخله، قلت: فإن أمنت هي و لم يدخله؟ قال: ليس عليها الغسل» «3».

و صحيحه الآخر: «اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة و لبست ثيابي و تطيبت فمرت بي وصيفة لي ففخذت لها فأمذيت أنا و أمنت هي، فدخلني من ذاك ضيق، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال: ليس عليك وضوء و لا عليها غسل» «4».

و صحيح ابن أذينة: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام المرأة تحتلم في المنام فتهريق

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 18.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 20.

ص: 310

______________________________

الماء الأعظم، قال: ليس عليها غسل» «1».

بل يظهر استنكار ذلك من مرسل نوح بن شعيب عن عبيد بن زرارة، قال:

«قلت له: هل علي المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟ قال: لا، و أيكم يرضي أن يري أو يصبر علي ذلك أن يري ابنته أو أخته أو أمه أو زوجته أو أحدا من قرابته قائمة تغتسل، فيقول: مالك؟ فتقول: احتلمت و ليس لها بعل. ثمَّ قال: لا ليس عليهن ذلك و قد وضع اللّه ذلك عليكم. قال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا و لم يقل ذلك لهن» «2».

بل تظهر المفروغية عن ذلك للسؤال عن علته من صحيح محمد بن مسلم:

«قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كيف جعل علي المرأة إذا رأت في النوم أنّ الرجل يجامعها في فرجها الغسل، و لم يجعل عليها الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت؟

قال: لأنها رأت في منامها أنّ الرجل يجامعها في فرجها فوجب عليها الغسل، و الآخر إنما جامعها دون الفرج فلم يجب عليها الغسل، لأنه لم يدخله، و لو كان أدخله في اليقظة وجب عليها الغسل أمنت أو لم تمن» «3».

نعم، ما تضمنه من وجوب الغسل عليها بالاحتلام إن أريد به صورة الإنزال كان مرجعه التفصيل في تحقق الجنابة منها بالإنزال بين الاحتلام و اليقظة، و هو غريب لم يعرف القول به من أحد.

و إن أريد به صورة عدم الإنزال- كما هو مقتضي الإطلاق المناسب للتعليل- فهو أغرب. و من ثمَّ لم يخل عن الاضطراب، و العمدة ما قبله، فلاحظ.

و أما ما في المنتهي من أن اختلاف صحيحي عمر بن يزيد في المتن كاشف عن عدم الضبط. فهو كما تري! موقوف علي وحدة الأمر المحكي بهما، و متنهما يأبي ذلك جدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 21.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 32.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 19.

ص: 311

______________________________

و مثله ما ذكره الشيخ قدّس سرّه من احتمال التصحيف في بعض هذه النصوص بإبدال المذي بالمني، أو خطأ السائل بتخيل كون الخارج منيا و صدور الجواب علي ما يطابق الواقع دون السؤال، لمخالفة الأول لأصالة عدم الخطأ المعول عليها عند العقلاء، و الثاني لظهور الكلام في مطابقة الجواب للسؤال.

و كذا ما في الوسائل من حملها علي الشك في كون الخارج منيا، أو انتقال المني عن محله إلي الرحم من دون أن يخرج، أو أنها رأت في النوم أنّ المني قد خرج منها، فلما انتبهت لم تر شيئا، أو حمل نفي الغسل فيها علي الإنكار.

فإنّ ذلك كله لا يناسب مفاد النصوص جدا، بل هو خلاف المقطوع به من أكثرها.

و كذا حملها علي صورة الإنزال من دون شهوة، جمعا بينها و بين إطلاق نصوص ثبوت الغسل، بقرينة التقييد بالشهوة، في غير واحد من نصوصه، لإباء غير واحد منها عن الحمل علي ذلك عرفا، بسبب ما فرض فيها مما يسبب إثارة الشهوة غالبا.

بل بناء علي ما يظهر من الأصحاب من ناقضية خروج المني مطلقا، و أنّ الرجوع للشهوة إنما هو عند الشك في حال الخارج، فلا مجال لذلك في صحاح عمر بن يزيد و محمد بن مسلم التي فرض فيها كون الخارج منيا، بل هو الظاهر من صحيح ابن أذينة، لأن الماء الأعظم كناية عن المني ظاهرا.

و بالجملة: الظاهر استحكام التعارض بين الطائفتين بالنظر لأنفسهما. و ربما يجمع بينهما بالنظر لأمر خارج عنهما بأحد وجهين.

الأول: ما قربه في الوسائل و غيره من حمل نصوص نفي الغسل علي التقية، لموافقتها لبعض العامة، لتحقق الخلاف منهم فيها، و إجماع المسلمين المدعي مختص بالرجل. و قرينة التقية فيها التعليل المجازي الذي تضمنه صحيح محمد ابن مسلم، و الاستدلال الظاهري الإقناعي في خبر عبيد بن زرارة.

و فيه: أنّ الأولي بالحمل علي التقية نصوص وجوب الغسل، لموافقتها

ص: 312

______________________________

للمذهب المشهور بين العامة، حيث لم ينقل الخلاف في وجوبه إلا عن النخعي.

و أما التعليل و الاستدلال المذكوران، فهما يبعدان احتمال التقية، في نصوص نفي الغسل، فإنّ الذي يهتم بالإقناع به هو الحكم الواقعي المخالف لهم، حيث يكون خلافهم فيه مثارا للتساؤل عنه و سببا للتشكيك فيه، فيهتم بتعليله و الاستدلال عليه كي يقبله السامع و يحسن الدفاع عنه عند التخاصم، أما الحكم الموافق لهم فلا غرض غالبا في تأكيده بالتعليل و الاستدلال، خصوصا بمثل هذا الوجه العملي الارتكازي، و لا سيما مع ورود بعض نصوص نفي الغسل في وقائع خارجية مورد للابتلاء الفعلي.

الثاني: ما أشير إليه في كلام غير واحد من حمل نصوص نفي الغسل علي عدم وجوب الإعلام به أو حرمته أو كراهته، لئلا يتخذنه علة، كما تضمنه صحيح أديم بن الحر: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تري في منامها ما يري الرجل، عليها غسل؟

قال: نعم، و لا تحدثوهن فيتخذنه علة» «1».

لكنه- مع مخالفته لظاهر النصوص المذكورة جدا- بعيد في نفسه، لبعد تخصيص عموم وجوب الإعلام بالأحكام، و لا سيما في مثل هذا الحكم الذي هو من الأهمية بمكان بسبب شرطية الغسل في الصلاة و غيرها.

و لعل الأقرب من ذلك، جعل ذيل صحيح أديم و نصوص نفي الغسل قرينة علي تنزيل وجوب الغسل الذي تضمنته النصوص الكثيرة علي أنه حكم اقتضائي قد منعت الجهة التي أشير إليها في صحيح أديم و خبر عبيد من فعليته.

لكن الإنصاف أنّ ذلك و إن كان قريبا في نفسه جدا، إلا أنه ليس مقتضي الجمع العرفي بين النصوص، بل هو محض ظن لا يعول عليه في استنباط الحكم الشرعي، كاستبعاد تخصيص عموم وجوب الإعلام بالأحكام في المقام.

فالبناء علي عدم وجوب الإعلام بالحكم المذكور- لو كان ثابتا في نفسه- عملا بصحيح أديم هو الأنسب بالقاعدة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 12.

ص: 313

______________________________

و مجرد عدم تعرض الأصحاب لذلك- كما ادعاه في الجواهر- لا يستلزم الإعراض الموهن للصحيح و المسقط له عن الحجية، لعدم وضوح بنائهم علي التصدي لمثل ذلك في المقام، حيث أهملوا فروع المسألة و تفاصيلها، و لا سيما مع قرب قيام السيرة علي عدم الإعلام بهذا الحكم و تشخيص موضوعه.

نعم، لا ريب في أنّ هذا موهن لنصوص وجوب الغسل و مقرب لحملها علي التقية، الذي عرفت أنها أولي به من نصوص عدم وجوبه، لقرب تذرعهم عليهم السّلام بذلك لإبطال الحكم من دون تصريح بمخالفة العامة فيه.

إلا أنّ ذلك كله فرع حجية نصوص عدم وجوب الغسل، و هو في غاية الإشكال، بلحاظ ظهور إعراض الأصحاب عنها من أهل الحديث و الفتوي قديما و حديثا، حيث لم يعرف القول بمضمونها من غير الصدوق في كلامه المتقدم في المقنع، المشعر بنحو تردد منه فيه، لتعقيبه برواية وجوب الغسل، مع ظهور عدوله عنه في الفقيه، لاقتصاره علي الرواية المتضمنة لوجوب الغسل، كما هو الحال في الكليني أيضا، حيث اقتصر علي نصوص وجوب الغسل، مع ظهور حاله- كحال الصدوق في الفقيه- في الاقتصار علي الأخبار المعتمدة الصالحة لأن يعمل بها، و لم يتعرض لها إلا الشيخ في التهذيب و الاستبصار، حيث ذكرها مؤولا لها دافعا لظاهرها.

و مع ذلك تشكل حجية النصوص المذكورة، و لا سيما مع كون نصوص وجوب الغسل أكثر عددا و أشهر رواية، فإنّ الترجيح بذلك مقدم علي الترجيح بمخالفة العامة.

اللهم إلا أن يقال: المراد بذلك ترجيح المشهور علي الشاذ النادر، لا الترجيح بالأشهرية. و لا مجال لدعوي شذوذ نصوص عدم وجوب الغسل مع تعددها و وقوع أجلّاء الرواة في أسانيدها و تدوين قدماء الأصحاب لها في الكتب المعتمدة.

و أما إعراض الأصحاب عنها في مقام الفتوي، فهو إنما يكون موهنا لها إذا لم

ص: 314

______________________________

تطابق السيرة العملية، و إلا كشفت السيرة عن كون الهجر لشبهة في مقام الاستدلال، مع الغفلة عن السيرة المعينة لصدقها.

و ربما يمكن تحصيل السيرة علي مضمونها من عدم الاهتمام بتحديد مني المرأة و تشخيصه و لا بالفحص عن هذا الحكم بالنحو المناسب لأهميته، كما هو ديدنهم في الحيض و نحوه.

إلا أن يكون منشأ ذلك قلة الابتلاء به بالنحو الذي يترتب عليه العمل- لندرة حصول الإنزال لها من دون جماع- و شدة حياء النساء منه حتي قد يصعب عليهن إبداؤه للأزواج، لمناسبته لشدة الشهوة بالنحو المنافي للتعفف الذي يحاولنه، حيث يبدين أنفسهن مطلوبات غير طالبات.

و لعل ذلك هو المنشأ لتكثر الأسئلة عن ناقضيته في كلتا الطائفتين من النصوص و غيرها، مع عدم السؤال عن ناقضية مني الرجل، لوضوح حاله بسبب كثرة الابتلاء به، و إنما تضمنته تبعا النصوص الواردة لبيان أمور أخر، كعدم ناقضية غيره مما يخرج من الإحليل، و عدم ناقضية الاحتلام أو التفخيذ من دون إنزال.

و قد تحصل مما ذكرنا: أن نصوص عدم وجوب الغسل إن سقطت عن الحجية بالإعراض كان المرجع نصوص وجوبه، و إلا كان العمل عليها و لزم حمل نصوص الوجوب علي التقية.

و الأمر في غاية الإشكال، و اللّه سبحانه و تعالي العالم بحقيقة الحال.

بقي الكلام في تحديد مني المرأة الموجب للغسل، فقد ذكر العلامة في المنتهي أنه رقيق أصفر، في قبال مني الرجل الذي هو غليظ أبيض، و سبقه إليه ابن سعيد في محكي الجامع في كلامه الآتي عند ذكر اشتباه المني.

و كأنهما استندا في ذلك للنصوص الواردة من طرقنا و من طرق العامة، ففي معتبرة أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: إنّ الرجل ربما أشبه أخواله و ربما أشبه أباه و ربما أشبه عمومته. فقال: إنّ نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة، فإن غلبت نطفة الرجل نطفة المرأة أشبه الرجل أباه و عمومته، و إن غلبت نطفة

ص: 315

______________________________

المرأة نطفة الرجل أشبه الرجل أخواله» «1»، و قريب منه خبر ثوبان «2» و ما يأتي من رواية مسلم في صحيحه.

لكن من القريب أن يراد بنطفة المرأة و مائها البويضة التي يتكون منها الولد بعد تلقيحها بمني الرجل، لا مني المرأة الذي هو سبب جنابتها، إذ لا إشكال ظاهرا في عدم توقف تكوّن الولد علي إنزال المرأة.

نعم، لا مجال لذلك فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أم سليم من أنها سألت النبي صلّي اللّه عليه و آله عن احتلام المرأة، فأوجب به الغسل فقالت: «و استحييت من ذلك، قالت: و هل يكون هذا؟ فقال نبي اللّه صلّي اللّه عليه و آله: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إنّ ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه» «3».

إلا أنه ليس حجة، فلا مجال للتعويل عليه، و لا سيما بعد ما عرفت، حيث يكون النص المتضمن لذلك بسببه من المشكل الذي يرد علمه لأهله.

أما نصوص المقام، فهي بين مطلق- كصحيح محمد بن إسماعيل المتقدم- و مقيد بالشهوة- كموثق معاوية بن حكيم المتقدم- و هو الأكثر.

و ظاهر الأصحاب كصريح بعضهم، حمل الثانية علي كون الشهوة علامة علي المني يرجع إليها عند الاشتباه، مع عموم ناقضية المني، عملا بإطلاق الطائفة الأولي.

و لم يتضح الوجه في ذلك مع قوة ظهور النصوص في التقييد للتأكيد عليه في بعضها في الجواب بعد ذكره في السؤال، و ظاهرها بيان موضوع وجوب الغسل الواقعي من دون إشعار فيها بفرض الشك في نوع الخارج.

نعم، لا يبعد أن يكون منشأ التقييد هو ملازمة الشهوة للمني بنحو تكون من خواصه المميزة له، لا توقف ناقضيته عليها مع إمكان انفكاكه عنها، فإنه و إن كان

______________________________

(1) علل الشرائع ج: 1 ص: 94 باب: 85 حديث: 1 طبع النجف الأشرف.

(2) علل الشرائع ج: 1 ص: 96 باب: 85 حديث: 5. طبع النجف الأشرف.

(3) صحيح مسلم ج: 1 ص: 250 حديث: 311 باب: وجوب الغسل علي المرأة بخروج المني منها.

ص: 316

______________________________

خلاف ظاهر مثل موثق معاوية بن حكيم المتقدم، لتضمنه تقييد الإمناء بالشهوة و الأصل في التقييد الاحتراز، إلا أنه المناسب لمفروغية الأصحاب عن عموم ناقضية المني، و قد تدل عليه بعض النصوص.

و كيف كان، فلا أهمية لذلك بعد دوران الناقضية مدار الشهوة وجودا و عدما بمقتضي التقييد في النصوص المذكورة، الذي يلزم تنزيل المطلقات عليه، و لا سيما مع قرب انصرافها لصورة الشهوة، لانصراف الإنزال إليه، و لا سيما مع اشتمالها علي فرض مهيجاتها، كمجامعتها فيما دون الفرج و رؤيتها في الحلم الجماع.

ثمَّ إنّ نزول الماء من المرأة حال الشهوة علي نحوين.

الأول: النزول الهادي بنحو الرشح، و يستمر باستمرار حالة الشهوة عندها.

الثاني: النزول بنحو من الكثرة و الدفع عند بلوغ الشهوة قمتها، نظير إنزال الرجل و يتعقبه الفتور.

و في اتحاد حقيقة الماء النازل في الحالين أو اختلافها، وجهان، ربما نقل عن بعض الأطباء الأول، و لا يهم تحقيق ذلك، و إنما المهم عموم الناقضية للحالين و إن كانا مختلفي الحقيقة، أو اختصاصها بالثاني و إن اتحدت حقيقتهما.

غاية ما يلزم عليه دخل الحالة في صدق عنوان المني، بناء علي انحصار الناقض به و عموم ناقضيته، كما يظهر من الأصحاب المفروغية عنه، و قد يستفاد من النصوص، و ليس ذلك محذورا إذا ساعدت عليه الأدلة.

قد يستدل علي الاختصاص بالثاني بقوله تعالي خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ.

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرٰائِبِ «1» بدعوي: ظهوره في كون ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها دافقا، كماء الرجل.

و فيه: أنّ حمل الترائب علي ترائب المرأة لإرادة مائها، و إن ذكر في مجمع البيان وجها في تفسير الآية الشريفة، بل اقتصر عليه علي بن إبراهيم في تفسيره، و عليه يبتني ما في كشف اللثام من الاستدلال بالآية لاعتبار الدفق عند اشتباه حال ماء

______________________________

(1) سورة الطارق: 7، 8.

ص: 317

______________________________

المرأة، إلا أنّ تركيب الآية لا يناسبه- كما نبّه له سيدي الوالد دامت بركاته- لظهورها بمقتضي لفظة بَيْنَ في إرادة ماء واحد يخرج من بين الصلب و الترائب، لا مائين يخرج أحدهما من الصلب و الآخر من الترائب.

علي أن ذلك إنما يدل علي دفق ماء المرأة الذي يتكون منه الولد، لا الذي هو سبب لجنابتها، نظير ما تقدم عند الكلام في النصوص.

نعم، في خبر الجعفريات عن علي عليه السّلام: «سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يقول:

ثلاثة أشياء: مني و وذي و ودي. إلي أن قال: و أما المني فهو الماء الدافق الذي يكون منه الشهوة ففيه الغسل» «1».

و عنه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يجامع امرأته و أهله مما دون الفرج فيقضي شهوته. قال: عليه الغسل و علي المرأة أن تغسل ذلك الموضع إذا أصابها، فإن أنزلت من الشهوة كما أنزل الرجل فعليها الغسل» «2».

و ظاهر الأول حصر الغسل بالمني، و أنه لا يكون إلا دافقا منه الشهوة، و مقتضي إطلاقه عدم الفرق بين الرجل و المرأة.

و ظاهر الثاني إرادة إنزالها كانزال الرجل الذي يكون به قضاء الشهوة.

لكن سندهما لا يخلو عن إشكال. و من ثمَّ قد يدعي أنّ مقتضي إطلاق ما تضمن وجوب الغسل علي المرأة بإنزالها من شهوة عموم الحكم لكلا الحالين المتقدمين و عدم اختصاصها بالثاني.

اللهم إلا أن يقال: المتيقن من الإطلاقات المذكورة هو الماء النازل في الحال الثاني، لأنه المستند للشهوة، و أما الأول فهو مصاحب لها لا مسبب عنها عرفا.

و لا سيما مع ظهور بعض النصوص في كون الشهوة الموجبة لنزول الماء حالة خاصة تطرأ علي المرأة حال ملاعبتها مع الرجل، ففي صحيح محمد بن الفضيل:

«سألت أبا الحسن عليه السّلام عن المرأة تعانق زوجها من خلفه فتحرك علي ظهره، فتأتيها

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 318

من الموضع المعتاد و غيره (1)،

______________________________

الشهوة فتنزل الماء عليها الغسل، أو لا يجب عليها الغسل؟ قال: إذا جاءتها الشهوة فأنزلت الماء وجب عليها الغسل» «1»، و نحوه صحيحه الآخر «2».

فإنهما ظاهران في أنّ الشهوة الموجبة لنزول الماء حالة طارئة قاهرة غير الشهوة التي لأجلها تتحرك علي ظهر الزوج و التي تسيطر المرأة عليها.

بل لا يبعد كون ذلك هو المنصرف من إطلاق الإنزال في جملة من النصوص، بسبب كون ذلك هو المعهود من إنزال الرجل، كما هو مقتضي التشبيه به في خبر الجعفريات المتقدم، أما الأول فهو بسبب تدريجيته غير ملتفت إليه، بل قد يشتبه برطوبات الفرج الأخري، بل هو حيث كان كثيرا فمن البعيد خفاء حكمه، بنحو يناسب كثرة الأسئلة عنه.

كما أنّ ما يظهر من بعض الأخبار من جهل بعض النساء بتحقق الإنزال من المرأة، و كتمان أخر له و استحيائهن منه، إنما يناسب إرادة الثاني، لا ما يعم الأول الذي هو من التعارف و الكثرة بنحو لا يقبل الكتمان و الجهل من الرجال فضلا عن النساء.

بل عموم حصول الجنابة بالمائين معا مستلزم للحرج الشديد، لكثرة الابتلاء بالماء الأول، و صعوبة التوقي منه، و السيطرة عليه مع تهيؤ المرأة للرجل و تجاوبها معه، بخلاف الثاني الذي يقل حصوله و تسهل السيطرة عليه بالتوقي عما يستتبع الشهوة العارمة، كما في الرجل.

و ذلك كله يشرف بالفقيه علي القطع باختصاص الناقضية بالماء الثاني، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما لعله مقتضي إطلاق غير واحد، بل هو الظاهر من العلامة في المنتهي،

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 13.

ص: 319

______________________________

حيث قال: «لو خرج المني من ثقبة في الإحليل غير المعتاد أو في خصيتيه أو في صلبه، فالأقرب وجوب الغسل، لقوله عليه السّلام: إنما الماء من الماء»، فإن استدلاله بالحديث ظاهر في العموم لغير الفروض المذكورة في كلامه، و هو المحكي عن التذكرة و نهاية الاحكام.

لكن في جامع المقاصد: «أما لو خرج من غير ذلك، فاعتبار الاعتياد حقيق بأن يكون مقطوعا به». و في القواعد: «لو خرج المني من ثقبة في الصلب فالأقرب اعتبار الاعتياد و عدمه». و عن الذكري: «لو خرج المني من ثقبة، اعتبر الاعتياد و الخروج من الصلب فما دونه. و من فوقه وجه، عملا بالعادة»، و نحوه عن البيان.

و ربما قيل بابتناء الكلام هنا علي الكلام في نواقض الوضوء، و عن نهاية الاحكام: «فإن اعتبرنا هناك المعدة، فالأقوي اعتبار الصلب هنا، فقد قيل: إنه يخرج من الصلب».

و عن الإيضاح عدم وجوب الغسل مطلقا، حملا علي الغالب و عملا بالأصل.

هذا، و قد تكرر منا عدم صلوح الغلبة و لا الاعتياد لتقييد المطلقات، فلا بد- في محل الكلام- من النظر في مفاد الأدلة عموما و خصوصا. و قد سبق من المنتهي الاستدلال بقوله عليه السّلام: «إنما الماء من الماء». لكن لم نعثر علي الحديث من طرقنا، و إنما ورد من طرق العامة فيما حكي «1».

نعم، في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها و لا ينزل. فقالت الأنصار: الماء من الماء، و قال المهاجرون: إذا التقي الختانان فقد وجب عليه الغسل.» «2»، فلو كان مراد الأنصار الإشارة لحديث نبوي فالمتيقن وروده لبيان عدم وجوب الغسل بدون الماء و لا إطلاق له في وجوب الغسل به.

______________________________

(1) حكي عن كنز العمال ج: 5 ص: 90 برقم: 1917.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 320

______________________________

و مثله ما ورد في جملة من النصوص من أنّ عليا عليه السّلام كان لا يري الغسل إلا في الماء الأكبر «1» لوروده لبيان عدم النقض بغيره من الاحتلام المجرد عنه أو المذي و نحوه. كما أنّ صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم في أول الفصل و مرسل ابن رباط المتضمنين ناقضية المني حيث وردا في بيان ما يخرج من الإحليل فلا إطلاق لهما يشمل صورة خروجه من غير الإحليل.

نعم، قد يتجه الإطلاق في خبر الجعفريات المتقدم في آخر الكلام في مني المرأة.

لكن لا مجال للتعويل عليه مع ضعف سنده.

فلم يبق في المقام إلا إطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالإنزال، و الظاهر عدم صدقه علي خروج المني من محل تكونه رأسا لثقبة فيه مع الدفق فضلا عن عدمه، بل لا بد من سيره في مجري في الجسد و خروجه مما دونه بنحو الدفع.

نعم، لا يعتبر خروجه من المجري المعتاد، فلو خرج من ثقبة قبله صدق الإنزال مع اعتياد الخروج منه و عدمه و مع انسداد المجري المعتاد و بدونه.

بل لا يبعد عموم الناقضية لما يخرج منه بدون دفق لإلغاء خصوصيته عرفا بالإضافة إليه، و لو بقرينة ما تضمن عدم اعتبار الدفق مع الخروج من المجري الطبيعي.

و أما التعدي لما يخرج من نفس محل تكون المني لثقبة فيه، فهو يحتاج إلي دليل.

هذا كله في الرجل، و أما المرأة فالظاهر إناطة النقض فيها بالشهوة بالنحو المتقدم، حيث يصدق معها الإنزال من دون خصوصية لموضع معين، عملا بإطلاق النصوص المتقدمة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 6، 11، و باب: 9 من الأبواب المذكورة حديث: 1، 2، 3.

ص: 321

و إن كان الأحوط استحبابا عند الخروج من غير المعتاد الجمع بين الطهارتين إذا كان محدثا بالأصغر (1).

مسألة 1 إن عرف المني فلا إشكال

مسألة 1: إن عرف المني فلا إشكال (2)، و إن لم يعرف (3) فلا يبعد أن يكون كل من الشهوة و الدفق و فتور الجسد أمارة عليه (4)،

______________________________

(1) الظاهر أنّ الاحتياط المذكور يضعف جدا إذا كانت الثقبة في الإحليل، لبعد خصوصية الخروج من طرف الذكر عرفا.

(2) هذا في الرجل في محله، لما سبق من عموم ناقضية المني.

و أما في المرأة، فقد سبق أنّ المدار علي الشهوة الخاصة، إما لملازمتها للمني، أو لكونها قيدا في الناقضية به و بغيره.

(3) قد يظهر من كلام غير واحد وجوب الاختبار بالوجه الآتي، و لم يتضح وجهه، بل الظاهر جواز الرجوع قبله لاستصحاب الطهارة، بل لاستصحاب عدم خروج المني، لعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إلا بدليل.

(4) كما عن المسالك.

و في جامع المقاصد و الروض الاكتفاء بأحد هذه الأوصاف و بالرائحة، بل نفي في جامع المقاصد الخلاف في الاكتفاء بالرائحة وحدها.

و في المعتبر و الشرائع و المنتهي و الإرشاد و عن ظاهر التحرير و نهاية الاحكام و غيرها اعتبار اجتماع الأوصاف الثلاثة المذكورة في المتن.

و اكتفي في القواعد بالدفق و الشهوة، و في النافع و الوسائل بالدفق و فتور البدن، و لعله للتلازم بين الشهوة و فتور البدن بنظرهم.

و جعل في النهاية المدار علي الدفق وحده، و ربما ينسب لجميع من جعل سبب الغسل هو الماء الدافق و قد سبق التعرض لبعضهم عند الكلام في ناقضية المني، لكنه لا يناسب ظهور كلام أكثرهم في بيان موضوع الناقضية ثبوتا، لا علامة الناقض عند اشتباهه إثباتا. و قد سبق توجيه كلامهم.

ص: 322

______________________________

و ذكر في الجواهر أنّ التأمل في عبارة السرائر قد يقضي بذهابه إلي عدم اعتبار شي ء من العلامات، و أنّ المدار علي العلم بكونه منيا، و ربما ينسب لجملة من القدماء ممن علق وجوب الغسل علي خروج المني و لم يتعرض لفرض اشتباه الخارج، و إن استظهر في الجواهر عدم الخلاف في الرجوع إليها في الجملة، و في الحدائق الاتفاق علي ذلك.

و كيف كان، فقد وجه في جامع المقاصد الاكتفاء بكل واحدة من الصفات المذكورة في المتن و بالرائحة بتلازم الصفات الأربع إلا لعارض.

فإن أراد تلازمها عند خروج المني، لم ينفع شي ء منها في إحراز كون الخارج منيا عند الشك في حاله.

و إن أراد تلازمها و لزوم المني لها، فإن أراد بالعارض المرض الذي يأتي الكلام في حكمه، كان مرجع كلامه إلي أمارية الصفة الواحدة علي تحقق بقية الصفات في الصحيح و يمتنع فرض انفكاك بعضها فيه.

لكن لم يتضح الوجه في التلازم المدعي، خصوصا لو أريد منه الصحيح العرفي المقابل للمريض العرفي، الذي هو المراد من المريض فيما يأتي، لوضوح أنه لا يراد به مطلق من فيه نقص حقيقة و إن لم يكن مدركا، و إلا لم يكن فرضه عمليا.

و إن أراد بالعارض غير المرض، كان مرجع كلامه إلي أنّ غلبة التلازم بين الصفات موجب للاكتفاء بواحدة منها عند الشك، لاحتمال العارض.

و يشكل بعدم الدليل علي حجية الغلبة بالنحو المذكور بعد فرض تسليمها.

بل يلزم الرجوع للنصوص، و حيث كانت خالية عن ذكر الرائحة فلا وجه لعدها أمارة مستقلة- كما في كلام من سبق- و لا بشرط الانضمام إلي غيرها من الصفات، كما عن التذكرة و الذكري و الدروس، علي ما نبه له في المدارك.

و مثله ما عن ابن سعيد في الجامع، حيث قال: «و علامة مني الرجل بياضه و ثخانته و ريحه ريح الطلع و البيض جافا، و قد يخرج رقيقا أصفر كمني المرأة»، لعدم ورود النصوص بشي ء مما ذكره.

ص: 323

______________________________

إلا أن يكون مراده بيان خواصه الخارجية التي قد يوجب وجودها العلم به، لا أماراته الشرعية عند الاشتباه، كما هو ظاهر القواعد في الرائحة، و قد يحمل عليه كلام بعض من تقدم.

أما النصوص، فهي:

صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يلعب مع المرأة و يقبلها فيخرج منه المني، فما عليه؟ قال: إذا جاءت الشهوة و دفع و فتر لخروجه فعليه الغسل، و إن كانا إنما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة فلا بأس» «1».

و صحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: الرجل يري في المنام و يجد الشهوة فيستيقظ فينظر فلا يجد شيئا ثمَّ يمكث الهون بعد فيخرج، قال: إن كان مريضا فليغتسل و إن لم يكن مريضا فلا شي ء عليه، قلت: فما فرق بينهما؟ قال: لأن الرجل إذا كان صحيحا جاء الماء بدفقة قوية [يدفقه بقوة]، و إن كان مريضا لم يجئ إلا بعد [بضعف]» «2».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة فإنّه ربما كان هو الماء الدافق لكنه يجي ء مجيئا ضعيفا ليست له قوة لمكان مرضك ساعة بعد ساعة قليلا قليلا، فاغتسل منه» «3».

و صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا. قال: ليس بشي ء إلا أن يكون مريضا، فإنّه يضعف فعليه الغسل» «4».

و ما في مرسل ابن رباط: «فأما المني، فهو الذي تسترخي له العظام و يفتر منه الجسد» «5».

و ما في خبر الجعفريات المتقدم: «و أما المني، فهو الماء الدافق الذي يكون

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 17.

ص: 324

______________________________

منه الشهوة» «1».

و ظاهر صحيح ابن جعفر هو أمارية الصفات الثلاث علي المني و لزوم اجتماعها في الحكم به، فالاكتفاء ببعضها محتاج إلي دليل يخرج به عنه.

و قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي طريقية الشهوة وحدها بظهور صحيحي ابن أبي يعفور و زرارة في أنّ الفرق بين الصحيح و المريض ليس هو قصور الشهوة عن الطريقية في الأول دون الثاني، بل أمارية عدم الدفق في الأول علي عدم المني فتعارض أمارية الشهوة فيه، بخلاف الثاني، فلا معارض فيه لأمارية الشهوة، فيدلان علي المفروغية عن عموم أمارية الشهوة.

و يشكل بظهور صحيح زرارة في أنّ وجوب الغسل في المريض ليس لأمارية الشهوة علي المني، بل لمحض احتماله معها من دون أمارة نافية له و لا مثبتة.

و لعل التعبد به بمحض الاحتمال في المريض لأمر يختص به، و هو عدم تيسر حصول الأمارة التامة، بخلاف الصحيح.

و عليه يحمل صحيح ابن أبي يعفور، لأن نسبته إليه نسبة المجمل للمبين، بل صحيح ابن أبي يعفور ظاهر في أنّ البناء في الصحيح علي عدم المني مع عدم الدفق لكون عدم الدفق أمارة علي عدمه، لا لتعارض الأمارتين الموجب لسقوطهما و الرجوع للأصل، فتأمل.

كما أنه قدّس سرّه استدل علي أمارية الفتور وحده بما سبق في مرسل ابن رباط، و علي أمارية الدفق وحده، بما تضمن أنّ المني هو الماء الدافق.

و يشكل الأول بضعف سند المرسل، و الثاني بعدم العثور علي هذا المضمون، و إنما تعرضت الآية الكريمة لتوصيفه بالدافق، و اشتمل صحيح زرارة المتقدم علي الإشارة إليه به بنحو التعريف العهدي، و هما لا يدلان علي انحصار الدفق به، ليكون من خواصه الواقعية الموجبة للعلم به، و لا علي أماريته عليه

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

ص: 325

______________________________

شرعا، ليحرز به ظاهرا.

و أما الاستدلال علي أمارية كل من الشهوة و الفتور بمفهوم الذيل في صحيح علي بن جعفر، فلا مجال له، لعدم سوقه للمفهوم، بل للتصريح بمفهوم الصدر، فلا يصلح لرفع اليد عن ظاهره في لزوم اجتماع الصفات الثلاث.

و أما ما سبق من القواعد من الاكتفاء بالدفق و الشهوة، فيدل عليه خبر الجعفريات، إلا أنّ ضعفه مانع من التعويل عليه.

نعم، ظاهر صحيحي ابن أبي يعفور و معاوية بن عمار المفروغية عن وجوب الغسل مع الدفق في المحتلم، مع أنه قد لا يحرز فتور الجسد، فلا بد أن يكون ذلك للتلازم بين الفتور و اجتماع الدفق و الشهوة، فلا ينافي صحيح ابن جعفر، أو لإلغاء قيدية الفتور في المحتلم، الذي لا يتيسر الاطلاع عليه فيه غالبا، نظير إلغاء قيدية الدفق في المريض، و لا دليل علي إلغاء قيديته في المنتبه الذي يتيسر له غالبا الاطلاع عليه.

و أما الاكتفاء بالدفق و فتور الجسد- كما تقدم من النافع و الوسائل- فلم يتضح وجهه.

ثمَّ إنه ليس المراد بالشهوة الشهوة الاستمرارية المصاحبة للملاعبة و نحوها، بل الشهوة الطارئة المصاحبة لخروج الماء، كما هو ظاهر صحيح علي بن جعفر المتضمن للتقييد بمجيئها مع فرض السائل الملاعبة و التقبيل المصاحبين للشهوة بالمعني الأول، و لقوله في ذيله: «لم يجد له شهوة».

و هو الظاهر من صحيح ابن أبي يعفور الذي فرض فيه وجدان الشهوة في الاحتلام، و من صحيح زرارة الذي فرض فيه أصابه الشهوة، الظاهرة في طروئها، و من خبر الجعفريات الظاهر في سببية خروج المني للشهوة.

هذا، و النصوص السابقة مختصة بما إذا شك في كون الخارج منيا، و تقصر عن إثبات الأمارية فيما إذا شك في أصل خروج المني، فيرجع معه للأصل و إن تحققت الصفات المتقدمة.

ص: 326

و عدمها أمارة علي عدمه (1) في الصحيح، فمع تعارضها يبني علي عدمه (2)، و مع اجتماعها أو حصول واحدة منها مع الشك في ثبوت غيرها يبني علي وجوده (3)،

______________________________

(1) بناء علي ما تقدم من اعتبار اجتماع الصفات في البناء علي المني فبتخلّف إحداها لا يحكم بأن الخارج مني، لعدم تمامية الطريق إليه، فلا يجب الغسل و لو بحكم الأصل.

أما كون تخلف الصفة طريقا علي عدم كون الخارج منيا، فهو الذي يقتضيه في الدفق صحيحا ابن أبي يعفور و زرارة، بل صحيح معاوية بن عمار أيضا، بناء علي ما سبق في توجيهه عند الكلام في عموم ناقضية المني للقليل، و خبر الجعفريات، لظهوره في ملازمة كل من الدفق و الشهوة للمني، و عدم اللازم دليل علي عدم الملزوم.

و بذلك يكون دالا علي أمارية عدم الشهوة أيضا، كما يدل مرسل ابن رباط علي أمارية عدم الفتور، لكن ضعف سند الخبرين مانع من التعويل عليهما.

و أما ما في ذيل صحيح ابن جعفر من الحكم بعدم البأس مع عدم الشهوة و الفتور معا، فهو لا يدل علي أمارية فقدهما معا، لإمكان ابتنائه علي الرجوع للأصل عند فقد أمارة المني.

و قد تحصل أنّ الأمارة علي عدم المني منحصرة بعدم الدفق.

نعم، مقتضي صحيح معاوية بن عمار أنّ قلة البلل أمارة علي عدم الدفق علي ما تقدم توضيحه عند الكلام في عموم ناقضية المني القليل، فلاحظ.

(2) لاستصحاب الطهارة، بل عدم خروج المني.

(3) أما مع اجتماعها، فظاهر.

و أما مع وجود بعضها و الشك في الباقي، فقد وجهه قدّس سرّه بأنه لا اعتبار بالشك في وجود المعارض، كما وجه قدّس سرّه في مباحث الاجتهاد و التقليد عدم الاعتبار بالشك

ص: 327

______________________________

في المعارض بأنه مقتضي إطلاق أدلة حجية الحجة المحرزة، فإنّه و إن خرج عنه صورة وجود المعارض، فيكون التمسك بالإطلاق مع الشك فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إلا أنه لا محذور فيه بعد كون دليل التخصيص لبّيا، و هو حكم العقل بامتناع التعبد بالنقيضين.

و فيه- مضافا إلي ما سبق في المسألة الثامنة من مباحث الاجتهاد و التقليد من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية حتي لو كان المخصص لبيا، و لا سيما إذا كان جليا بنحو يعد من القرائن المحيطة بالكلام المانعة من انعقاد ظهور العام في العموم، كما في المقام-: أن ذلك إنما يتم في الشك المجرد عن الأصل المحرز لوجود المعارض، و إلا فلا ينبغي التأمل في جريان الأصل المذكور- كاستصحاب عدالة الشاهد- و إن لم يكن الأثر المترتب عليه فعلية الحجية في المعارض، بل سقوط حجية المعارض.

فيجري في المقام استصحاب عدم وجود الصفة المشكوكة، الذي هو أمارة علي عدم المني، فيعارض به أمارة وجوده، و هي الصفة المتيقنة.

و منه يظهر أنه لا ينفع الاستدلال علي عدم الاعتناء باحتمال المعارض ببناء العقلاء علي ذلك في العمل بالحجج المتيقنة، الذي هو دليل علي استثناء الشك في المعارض من قاعدة عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، علي ما سبق التعرض له في مباحث الاجتهاد و التقليد، فإنه و إن تمَّ في نفسه لا ينفع في مثل المقام مما يحرز فيه وجود المعارض بالأصل.

اللهم إلا أن يستشكل في جريان استصحاب عدم الصفة بتوقفه علي كون الأمارة هي العدم المحمولي، الذي هو عبارة عن محض عدم وجودها، حيث يمكن استصحابه بلحاظ اليقين به قبل خروج الماء، و لا طريق لاستفادة ذلك من النصوص المتقدمة، فإنها حيث كانت واردة لتشخيص حال الماء فربما يراد بها أنّ الصفات المذكورة لما كانت من خواص المني ففقدها في الماء كاشف عن عدم كونه منيا، فلا بد من إحراز أنّ الماء فاقد للصفة، نظير قوله عليه السّلام في ذيل صحيح علي بن وفي

ص: 328

المريض يرجع إلي الشهوة أو الفتور (1)،

______________________________

جعفر: «و إن كان إنما هو شي ء لم يجد له شهوة و لا فترة» بناء علي أنه من أدلة المقام، و لا مجال لإحراز ذلك بالاستصحاب، لعدم اليقين به حتي بلحاظ حال ما قبل خروج الماء.

هذا، مضافا إلي أن جريان الاستصحاب المذكور مستلزم للغوية إطلاق أمارية الصفة الواحدة علي المني، لعدم ترتب العمل عليها، إلا أن يحرز وجود غيرها الراجع للزوم اجتماع الصفات كلها في الحكم بالمني، و هو لا يناسب الإطلاق المذكور، فيكشف الإطلاق بدلالة الاقتضاء عن إلغاء الشارع استصحاب عدم الصفة المشكوكة، بنحو يرفع لأجله اليد عن أمارية الصفة المتيقنة.

(1) بل أو الدفق أيضا بناء علي ما ذكره من أمارية كل من الصفات الثلاث، لإطلاق أدلتها الشامل للمريض، و نصوص المريض إنما دلت علي عدم توقف الحكم بالمني علي الدفق و عدم أمارية عدمه علي عدمه، لا علي عدم أماريته علي المني، لتنافي الإطلاقات المذكورة.

إلا أن يكون مراده ذلك، فلاحظ.

أما بناء علي ما سبق من اعتبار اجتماع الصفات الثلاث في الصحيح، فلا ينبغي التأمل في عدم لزوم الدفق في المريض، فضلا عن كون عدمه أمارة علي عدم المني، لصراحة صحيحي زرارة و ابن أبي يعفور في ذلك، و ظهور صحيح معاوية بن عمار فيه، بناء علي ما تقدم في توجيهه عند الكلام في عموم ناقضية المني للقليل.

بل الظاهر أنه لا يعتبر فيه الفتور أيضا، أخذا بإطلاق النصوص المذكورة.

و لا يعارضها صحيح ابن جعفر بعد حمله علي الصحيح، كما لا مجال للبناء علي أمارية الفتور وحده لما سبق في الصحيح.

ثمَّ إنّ ظاهر النصوص المتقدمة أنّ الشهوة أمارة المني عند اشتباه الخارج، لا عند الشك في خروج الماء، بل مقتضي الأصل معه الطهارة و إن تحققت الشهوة،

ص: 329

و في النساء يرجع إلي الشهوة (1)، و في الفتور وحده إشكال (2).

______________________________

نظير ما تقدم في الصحيح.

لكن قد يدل علي أمارية الشهوة حينئذ خبر محمد بن مسلم: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: رجل رأي في منامه فوجد اللذة و الشهوة ثمَّ قام فلم ير في ثوبه شيئا. قال:

فقال: إن كان مريضا فعليه الغسل، و إن كان صحيحا فلا شي ء عليه» «1»، بناء علي حمله علي صورة الشك في خروج شي ء، لأن عدم الرؤية لا يستلزم اليقين بالعدم، و لعدم ذهاب أحد من الأصحاب إلي ناقضية الاحتلام من دون إنزال في المريض- كما صرح به في الحدائق و الجواهر- بل هو لا يناسب التعليل المتقدم في صحيح ابن أبي يعفور الظاهر في المفروغية عن اعتبار خروج المني في وجوب الغسل.

إلا أنّ ما ذكر لا يكفي في حمله علي صورة الشك في الخروج مع ظهوره في بيان الحكم الواقعي، و لا سيما مع قرب حصول اليقين بالعدم من الفحص عند القيام من النوم قبل مضي فترة يمكن فيها جفاف الخارج.

علي أنه لم يعرف القول بأمارية الشهوة عند الشك في أصل الخروج لا في الصحيح و لا في المريض.

و ليس حمله علي ذلك بأقرب مما ذكره بعضهم من حمله علي صورة وجود شي ء من البلل القليل علي جسده، و إن كان ذلك بعيدا أيضا.

فالمتعين طرح الخبر، و لا سيما مع ضعف سنده و عدم ظهور عامل به.

(1) تقدم أنّ المدار عليها واقعا.

(2) بل منع، لظهور نصوصها في إناطة وجوب الغسل عليها- واقعا أو ظاهرا- بالإنزال عن شهوة.

و به يخرج عن إطلاق أمارية الفتور لو تمَّ الدليل عليه، فضلا عما إذا لم يتم، لما سبق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 330

______________________________

بقي شي ء: و هو أنه صرح جملة من الأصحاب بعدم وجوب الغسل علي المرأة بخروج مني الرجل منها، و هو المدعي عليه الإجماع في كشف اللثام و عن ظاهر التذكرة.

و يقتضيه صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه أو موثقه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل من الجنابة ثمَّ تري نطفة الرجل بعد ذلك هل عليها غسل؟ فقال: لا» «1»، و غيره مما يأتي.

فما في السرائر من إطلاق وجوب الغسل عليها إن علمت بأن الخارج مني، ضعيف، أو محمول علي العلم بأنه منيها.

هذا، و مقتضي الأصل عدم وجوب الغسل عليها لو احتملت أنّ الخارج منيها، أو مختلط به، كما صرح بالثاني في القواعد و غيره.

لكن عن نهاية الاحكام وجوبه مع الظن بالاختلاط، كما إذا كانت ذات شهوة جومعت جماعا حصلت به شهوتها، لغلبة الظن بالاختلاط. انتهي.

و عن الدروس أنها لو شكت فالأقرب الغسل، و عن البيان أنه حينئذ الأولي، و في جامع المقاصد في حكم الشك: «و قيل: يجب، إذ الأصل في الخارج من المكلف أن يتعلق حكمه به إلي أن يتحقق المسقط له، و لا بأس به، لما فيه من الاحتياط و تحقق البراءة معه».

لكن لا أصل لأصالة تعلق حكم الخارج من الإنسان به.

و الاحتياط- مع أنه إنما يجب بالإضافة إلي ما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، دون ما يحرم بدونها، كالمكث في المسجد- مورد لاستصحاب عدم خروج المني منها.

بل قد يدعي أنّ الأصل في الخارج منها أن يكون مني الرجل، لصحيح سليمان بن خالد أو موثقه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شي ء، قال: يعيد الغسل، قلت: فالمرأة يخرج منها بعد الغسل، قال: لا تعيد

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 331

مسألة 2 من وجد منيا و علم أنه منه بجنابة لم يغتسل منها وجب عليه الغسل

مسألة 2: من وجد علي بدنه أو ثوبه منيا و علم أنه منه بجنابة لم يغتسل منها (1) وجب عليه الغسل،

______________________________

[الغسل. خ] قلت: فما الفرق بينهما؟ قال: لأن ما يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل» «1»، و نحوه صحيح منصور «2».

لكنه لا يخلو عن إشكال، لعدم ظهوره في بيان حكم الشك، بل في بيان واقع الخارج منها، فلا بد أن يراد به الصورة المتعارفة المعهودة التي لا يثأر فيها الشك.

و مما سبق يظهر ضعف ما تقدم عن نهاية الاحكام، لعدم الدليل علي حجية الظن بنحو يخرج به عن الاستصحاب.

و توهم: أنّ وجوب الغسل في مورد كلامه- و هو سبق حصول الشهوة لها- مقتضي إطلاق النصوص المتضمنة إناطة الغسل بالشهوة.

مدفوع: بظهور النصوص المذكورة في إناطة وجوب الغسل عليها واقعا في ظرف الإنزال منها بالشهوة، للتفصيل في النازل منها، لا في إناطة وجوبه ظاهرا بها عند الشك في الإنزال منها للتفصيل في الخارج منها مما يحتمل كونه منها.

(1) أما لو علم أنه منه و احتمل كونه من جنابة اغتسل منها، فقد جزم في الجواهر بعدم وجوب الغسل، لاستصحاب الطهارة.

و ذكر أنه لا يجري فيه ما ذكروه فيمن تيقن بالطهارة و الحدث و شك في المتأخر منهما من وجوب الغسل، لقاعدة الاشتغال بعد تعارض الاستصحابين، أو عدم جريانهما ذاتا، للفرق بينه و بين ما نحن فيه بالعلم هناك بكل من الحدث و الطهارة و الجهل بالسبق و اللحوق، أما هنا فلم يعلم بحدوث جنابة غير الأولي- المتيقنة الارتفاع- فضلا عن التردد بين السبق و اللحوق، فالأصل عدم الجنابة

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 332

______________________________

الجديدة، كما هو الحال في كل ما شك في تعدده و اتحاده.

و قد يستشكل فيه: بأنه لا أثر لإحراز الاتحاد و التعدد في جريان الاستصحاب، بل المعيار فيه علي اليقين و الشك، و هما حاصلان في المقام، لليقين بالجنابة حين خروج المني و الشك في ارتفاعها.

و من هنا ذكر سيدنا المصنف و شيخنا الأستاذ قدّس سرّهما أن المقام من موارد تعاقب الحالتين المتضادتين مع الجهل بالمتأخر منهما.

نعم، حيث لم يعلم بتكرر سبب الجنابة، بل احتمل كونه عين السبب الأول الذي وقع الغسل منه كان منشأ الشك في التقدم و التأخر الجهل بتأريخ الجنابة المعلومة حين خروج المني مع العلم بتأريخ الغسل، فجريان الاستصحاب فيه مبني علي جريان استصحاب مجهول التاريخ من الحالتين المتعاقبتين و معارضته لاستصحاب معلوم التاريخ منهما، كما ربما ينسب للمشهور، و حيث كان التحقيق عدم جريانه فلا معارض لاستصحاب الطهارة في المقام، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه أيضا.

لكنه مندفع بأنّ للفرق المذكور أثرا في جريان الاستصحاب، إذ مع إحراز تعدد الفرد لا يحتمل انطباق الفرد المتيقن المشكوك الانتقاض علي الفرد المعلوم الانتقاض، غاية الأمر أنه يحتمل انتقاضه بانتقاضه، لاحتمال تأخر الرافع عنهما و رفعه لهما معا، فيستصحب، و يبتني علي الكلام في تعاقب الحالتين.

أما مع عدم إحراز التعدد، فيحتمل انطباق المتيقن المشكوك الانتقاض علي المتيقن المعلوم الانتقاض و الذي يستحيل التعبد ببقائه، و حيث كان مقتضي الاستصحاب التعبد بالمستصحب مطلقا و علي كل حال، فلو جري في الفرد المذكور كان مقتضاه التعبد ببقائه و إن انطبق علي المتيقن الارتفاع، الذي يمتنع التعبد ببقائه، فيمتنع جريان الاستصحاب، علي ما ذكرناه في غير مورد من نظائره، منها الشبهة العبائية.

و دعوي: جريان نظير ذلك في القسم الثاني من استصحاب الكلي، لتردد

ص: 333

______________________________

المستصحب بين مقطوع البقاء و مقطوع العدم و الارتفاع.

مدفوعة: بالفرق بينهما، بأنّ التردد هناك بلحاظ الخصوصيتين الخارجتين عن موضوع الأثر، أما بلحاظ الفرد بما هو فرد للكلي الذي هو موضوع الأثر فهو مشكوك البقاء لا غير، و ليس القطع ببقائه أو ارتفاعه إلا تقديريا معلقا علي اتحاده مع إحدي الخصوصيتين الخارجتين عن موضوع الأثر.

أما هنا، فالتردد بلحاظ واقع المستصحب بما هو فرد من موضوع الأثر، لوضوح أنّ الجنابة حين خروج المني الخاص التي يراد استصحابها ليست هي الجنابة المقيدة بخروجه، علي نحو يكون عنوانا تقييديا مأخوذا في المستصحب، لعدم دخله في موضوع الأثر، بل الأثر قائم بالجنابة من حيث هي، و ليس كونها حين خروج المني إلا حاكيا محضا عن واقع الجنابة الذي يحتمل اتحاده مع الجنابة التي يقطع بارتفاعها بالاغتسال منها.

فلا مجال لاستصحاب الفرد المذكور علي ما هو عليه من إجمال و ترديد، بل ليس في المقام إلا فرد متيقن علم بارتفاعه، و آخر مشكوك الحدوث مقتضي الاستصحاب عدمه، كما ذكره في الجواهر.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من جريان الاستصحاب المذكور و معارضته لاستصحاب الطهارة بعد الغسل المتيقن، و أنه من استصحاب الكلي، لاستصحاب كلي الجنابة حين خروج المني المردد بين معلوم الارتفاع و مشكوك الحدوث، و ذكر أنه من صغريات القسم الرابع الذي جعله لاستصحاب الكلي.

وجه الإشكال: ما أشرنا إليه من عدم كون حين خروج المني عنوانا تقييديا للمستصحب، لعدم دخله في ترتب الأثر، بل ليس هو إلا حاكيا محضا عن واقع الجنابة الخاص، فهو من استصحاب الفرد المردد بالنحو المتقدم لكلي الجنابة ذات الآثار المعهودة، و ليس من استصحاب الكلي المقيد، فضلا عن أن يكون من القسم المذكور، الذي لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، بل يوكل لمحله.

ص: 334

و يعيد كل صلاة لا يحتمل سبقها علي الجنابة المذكورة، دون ما يحتمل سبقها عليها (1)،

______________________________

كيف و لو بني علي جريان الاستصحاب في مثل ذلك انتقض بجميع موارد الشك في تجدد العارض بعد العلم بارتفاعه، لإمكان الاستصحاب بفرض عنوان صالح للانطباق علي الوجود المتيقن المنتقض و الوجود المتجدد المحتمل، و لا أقل من عنوان آخر وجود يعلمه اللّه تعالي، فيعارض استصحابه باستصحاب نقيضه أو ضده المتيقن عند ارتفاع الوجود السابق، و هو راجع لسد باب الاستصحاب.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في جريان استصحاب الطهارة في المقام و عدم معارضته باستصحاب الجنابة.

نعم، قد يستشكل فيه بأنه و إن أحرز معه عدم الجنابة إلا أنه لو طرأ سبب الحدث الأصغر لا يحرز ارتفاع كلي الحدث بالوضوء، بل مقتضي استصحاب الكلي المذكور ترتب أثره و إن لم يترتب أثر خصوص الجنابة.

و قد تعرضنا في الأصول لاندفاع ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، لاختلاف وجوه الدفع باختلاف المباني في اجتماع الحدث الأصغر مع الأكبر.

مضافا إلي ما يظهر من حديث أبي بصير الآتي من ظهور المفروغية عن عدم الحاجة للغسل مع الشك في الجنابة حتي بلحاظ كلي الحدث، و الاجتزاء مع طروء سبب الأصغر بالوضوء، بل هو المتيقن بلحاظ فتاوي الأصحاب و سيرة المتشرعة، فلاحظ.

(1) كما هو المصرح به في المعتبر و المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و الروض و عن التذكرة و الدروس و البيان و غيرها.

و هو ظاهر فيما يجري استصحاب عدم خروج المني حينه، و هو ما علم بتأريخه مع الجهل بتأريخ خروج المني، و أما في غيره فلقاعدة الفراغ.

لكن قال في المبسوط: «فينبغي أن نقول: يجب أن يقضي كل صلاة صلاها

ص: 335

و إن علم تأريخ الجنابة و جهل تأريخ الصلاة (1)، و إن كانت الإعادة لها أحوط استحبابا (2).

______________________________

عند آخر غسل اغتسل.»، و علل بالاحتياط: و هو كما تري! إذ لا مجال لوجوبه بعد ما سبق.

علي أنه لا وجه لتخصيصه بما يقع بعد الغسل، بل يجري فيما يقع قبله إذا احتمل حصول الجنابة المتيقنة قبل ذلك، كما لا يتجه فيما يقع بعد الغسل السابق قبل طروء الجنابة المتيقنة.

إلا أن ينزل كلامه علي غير ذلك، كما هو غير بعيد.

(1) لأنه و إن لم يجر حينئذ استصحاب عدم خروج المني إلي حين الصلاة، بناء علي ما هو الظاهر من أنه مع العلم بتأريخ أحد الحادثين لا يجري استصحاب عدمه إلي حين وجود الآخر- كما لا يجري مع الجهل بالتأريخين معا- إلا أنه لا يجري استصحاب عدم الصلاة إلي حين خروج المني، لعدم إحرازه بطلانها، لتوقف بطلانها علي وقوعه بعده، و لا يحرزه الاستصحاب المذكور إلا بناء علي الأصل المثبت.

بل لو فرض جريانه في نفسه كانت قاعدة الفراغ مقدمة عليه، كما أنها واردة علي قاعدة الاشتغال بالصلاة عند الشك في شرطها.

(2) لم يتضح الوجه في تخصيص هذه الصورة بالاحتياط المذكور، إذ لا مميز لها عن صورة الجهل بالتأريخين معا بعد عدم جريان الاستصحاب المحرز للصحة.

نعم، تمتاز عنهما بجريان الاستصحاب المذكور صورة العلم بتأريخ الصلاة و الجهل بتأريخ الجنابة.

إلا أنّ قاعدة الاشتغال كما تكون مورودة للاستصحاب المذكور، كذلك هي مورودة لقاعدة الفراغ الجارية في الصورتين المذكورتين، و من ثمَّ لا يبعد أن يكون

ص: 336

و إن لم يعلم أنه منه لم يجب عليه شي ء (1).

______________________________

مراده تعميم الاحتياط لجميع الصور، كما ألزم به الشيخ فيما تقدم، فلاحظ.

(1) كما في المدارك و ظاهر كشف اللثام و عن الذخيرة و شرح الدروس و الوافي و غيرها، عملا بالاستصحاب.

و قد صرح جماعة من الأصحاب بوجوب الغسل إذا كان الثوب مختصا به، بل عن التذكرة الإجماع عليه.

و استدل عليه بموثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينام و لم ير في منامه أنه احتلم فوجد في ثوبه و علي فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال: نعم» «1».

و موثقة الآخر عنه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يري في ثوبه المني بعد ما يصبح و لم يكن رأي في منامه أنه قد احتلم قال: فليغتسل و ليغسل ثوبه و يعيد صلاته» «2».

و أما ما في حديث أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيب بثوبه منيا و لم يعلم أنه احتلم. قال: ليغسل ما وجد بثوبه و ليتوضأ» «3»، فقد حمله الشيخ علي الثوب المشترك.

و يشكل بأنّ الموثق الأول كالصريح في صورة العلم بكون المني منه، كما هو مقتضي فرض رؤية الماء علي فخذه، بل هو الذي يشعر به في الثاني فرض رؤية المني بعد ما يصبح، حيث يشعر بفرض خروج المني ليلا، المستلزم للعلم بكونه منه، و إلا فلا خصوصية لوقت الرؤية مع الشك في كون المني منه. و لا أقل من كون ذلك مقتضي ظهور الخبرين سؤالا و جوابا في إرادة الحكم الواقعي، فيكون منشأ السؤال ما أشير إليه في الموثقين من احتمال اعتبار الاحتلام في ناقضية المني و لو لتخيل اعتبار الشهوة حين خروجه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 337

______________________________

و أما حديث أبي بصير، فلا إشعار فيه بإرادة الثوب المشترك، بل ظاهر الإضافة الاختصاص.

و لعل الأقرب حمله علي صورة الشك في خروج المني منه بالنحو الموجب لفعلية الجنابة، كما هو مقتضي فرض نفي العلم بالاحتلام فيه، لا نفي الاحتلام واقعا، كما تضمنه الموثقان، فيكون عاضدا لمقتضي القاعدة التي يتعين العمل بها، لعدم المخرج عنها.

و لعل ذلك هو مراد غير واحد من الأصحاب ممن خص وجوب الغسل باختصاص الثوب، فإنّ التفصيل بينهما و إن كان موهما لإرادتهم فيهما معا الحكم الظاهري عند الشك في خروج المني منه الذي هو المراد مع اشتراك الثوب.

بل هو الذي يشعر به اهتمام بعضهم بتحقيق معيار الاشتراك، و كلامهم في اعتبار كون رؤية المني عقيب الانتباه بلا فصل، و غير ذلك مما لا ينبغي إطالة الكلام فيه لو كان المدار علي العلم، لأن التحويل عليه أيسر.

بل هو الظاهر من جامع المقاصد و الروض، و كالصريح مما عن الموجز الحاوي، و ما في الرياض من خروج الحكم عن عموم عدم نقض اليقين بالشك، و ما عن نهاية الاحكام من توجيهه بالعمل بالظاهر.

إلا أنّ ظاهر بعضهم أنّ تخصيص الحكم بصورة اختصاص الثوب لاختصاص العلم بكون المني منه بها، كما يناسبه ظهور كلامهم في العلم بجنابة أحد الشريكين في فرض الاشتراك المناسب لفرض العلم بجنابة صاحب الثوب في فرض الاختصاص، و هو مقتضي تعليله في المبسوط بتحقق خروجه منه و في المعتبر و المنتهي و محكي التذكرة و التحرير بأنه منه، و أنه لا يحتمل خروجه من غيره، بل هو صريح ما عن المرتضي و ابن إدريس من اعتبار عدم احتمال كون المني من غير صاحب الثوب و أن المدار علي العلم.

فلا بد أن يكون تحريرهم للمسألة لدفع توهم اعتبار الاحتلام في ناقضية المني- كما يظهر من التذكرة- أو اعتبار العلم بخروجه حين خروجه- كما يظهر من

ص: 338

مسألة 3 إذا دار أمر الجنابة بين شخصين لم يجب الغسل علي أحدهما

مسألة 3: إذا دار أمر الجنابة بين شخصين يعلم كل منهما أنها من أحدهما لم يجب الغسل علي أحدهما (1)،

______________________________

المنتهي- أو لمتابعة النصوص أو لغير ذلك.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب، حيث ذكروا ذلك في واجدي المني في الثوب المشترك، المفروض عندهم العلم بجنابة أحدهما، بل في مفتاح الكرامة أنه قطع به كل من تعرض له، و ادعي في المدارك و الحدائق الاتفاق عليه، و في الجواهر: «لم أعثر فيه علي خلاف بين أصحابنا، بل لعله إجماعي، كما عساه يظهر من المنقول في السرائر من خلاف المرتضي و به صرح بعض متأخري المتأخرين، كصاحب المدارك و غيره».

و يقتضيه الاستصحاب الجاري في حق كل منهما، بناء علي ما هو الظاهر من عدم مانعية العلم الإجمالي من عموم أدلة الأصول لأطرافه ذاتا، و إنما يمنع من جريانها إذا كان منجزا، لامتناع الترخيص في المعصية المعلومة أو المحتملة، أما مع عدم منجزيته فلا يمنع من فعلية جريان الأصل.

بل الظاهر أنّ من يقول بمانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل ذاتا إنما يقول بمانعيته من جريان كلا الأصلين في حق شخص واحد، لا من جريان كل من الأصلين في حق شخص، كما في المقام، لفرض عدم ابتلاء أحدهما بتكليف الآخر، ليرجع للأصل الجاري في حقه.

هذا، و لا فرق في عملهما بين مخالفتهما احتمال الجنابة دفعة و تدريجا، حيث لا تحصل المخالفة من كل منهما في الصورتين إلا من دون منجز مانع من جريان الأصل، خلافا لما عن الصيمري في شرح الالتباس، فمنع من دخولهما المسجد أو قراءتهما العزائم دفعة، و أنكر ذلك في جامع المقاصد حتي نسبه إلي بعض القاصرين.

هذا، و لا ينبغي التأمل في حسن الاحتياط بالغسل، و لعله إليه يرجع الحكم

ص: 339

لا من حيث تكليف نفسه (1)، و لا من حيث تكليف غيره (2)

______________________________

باستحباب الغسل في المبسوط و المعتبر و المنتهي و جامع المقاصد و الروض و جملة غيرها، بل عن شرح الدروس نسبته للأصحاب، و إن كان ظاهر بعضهم الاستحباب شرعا، للاحتياط لكنه غير ظاهر.

و العمدة حسن الاحتياط عقلا مع ما هو التحقيق من إمكانه في العبادات.

نعم، لا بد من ضم الوضوء إليه مع الحدث الأصغر، و كأن إهمالهم له لوضوح توقف الاحتياط عليه.

و ينوي بالغسل الاحتياط، لا الوجوب، خلافا لجامع المقاصد و الروض من أنهما ينويان به الوجوب، كما في كل احتياط، إذ لا معني لنيته مع عدم الجزم به، إلا أن يراد نيته رجاء، أو وصفا لتعيين نوع المأتي به، لا غاية له.

ثمَّ إنّ في جامع المقاصد: «و لو علم المجنب منهما بعد ذلك فالوجه وجوب الإعادة»، و كأنه للاقتصار في ترك الجزم بالنية علي حال التعذر.

لكن تنظر فيه في الروض و استظهر في المدارك الإجزاء.

و لا ينبغي التأمل فيه، إذ انكشاف بطلان الغسل من حين وقوعه لا يناسب مشروعية الاحتياط، و بطلانه بانكشاف الحال- مع غرابته- مدفوع بالاستصحاب.

(1) فلا يحتاج للغسل في بنائه علي صحة صلاته الواجبة عليه و جواز المكث له في المسجد و غيرهما.

(2) فيبني ولي الميت علي صحة الصلاة التي تبرع بها الشخص المذكور عن الميت، كما يبني المقتدي به أو من يقتدي هو به علي صحة الجماعة، بنحو تترتب آثارها من سقوط القراءة، و العفو عن الزيادة العمدية للمتابعة، و إلغاء حكم الشك من الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر، و غير ذلك مما يتعلق بالغير من أحكام جنابة الشخص المذكور.

ص: 340

إذا لم يعلم بالفساد، أما لو علم به (1) و لو إجمالا (2) لزمه الاحتياط، فلا يجوز الائتمام لغيرهما بأحدهما (3) إن كان كل منهما موردا للابتلاء (4)، فضلا عن الائتمام بكليهما (5)،

______________________________

(1) أو بتكليف فعلي في حق أحدهما أو في حق ثالث، كما لو علم أحدهما بحرمة المكث عليه في المسجد أو حرمة تمكينه لصاحبه من ذلك أو التسبيب لوقوعه منه، بناء علي حرمة تمكين الجنب من ذلك أو التسبيب لوقوعه منه و إن كان معذورا، أو علم شخص ثالث بحرمة تمكين أحد الشخصين من ذلك أو التسبيب لوقوعه من أحدهما.

و كذا لو علم بأحد الأمرين من الفساد و التكليف الفعلي.

(2) بناء علي ما هو المشهور من منجزية العلم الإجمالي.

(3) بناء علي مانعية جنابة الشخص الواقعية من الائتمام به و إن لم تكن منجزة عليه، علي ما يأتي الكلام فيه في حكم ائتمام أحدهما بالآخر، حيث يقتضي العلم الإجمالي تنجز الاحتمال في جميع الأطراف بنحو يمنع من المخالفة الاحتمالية.

(4) بأن كان واجدا لشرائط الائتمام الأخري بنظر الشخص المذكور، و كان قادرا علي الائتمام به شرعا و تكوينا في بعض الصلوات المكلف بها فعلا أو التي يعلم بتجدد التكليف بها، و لم تكن هناك صوارف نفسية أو خارجية عن الائتمام به، بنحو يكون المنع منه منشأ للمسؤولية بنظر العقلاء لاستتباعه نحوا من الحرج و الضيق، علي ما حقق في محله من موانع منجزية العلم الإجمالي.

و ربما يخص عدم الابتلاء بالأخير، إلا أنّ المتعين التعميم لما قبله، إما لدخوله فيه موضوعا، أو لمشاركته معه حكما.

(5) للزوم المخالفة القطعية الإجمالية، التي لا إشكال في منع العلم الإجمالي منها.

ص: 341

أو ائتمام أحدهما بالآخر (1)،

______________________________

و ما في الجواهر من عدم ظهور الخلاف في جواز الائتمام بكل واحد منهما بفرضين، لم يتضح بنحو معتد به في الخروج عن القواعد المقررة للعلم الإجمالي.

نعم، هو متجه مع عدم الابتلاء بأحدهما عند الابتلاء بالآخر.

(1) كما في المعتبر و جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام و عن الإيضاح و البيان و حاشية الشرائع و المسالك و غيرها.

للعلم تفصيلا ببطلان الائتمام، إما لبطلان صلاة الإمام أو المأموم بعد تردد الجنابة بينهما، فلا يجوز ترتيب آثار الائتمام من المأموم بالاكتفاء بقراءة الإمام و الزيادة للمتابعة و غيرهما، و لا من الإمام بالرجوع للمأموم في الشك، و لا من ثالث بالاتصال بالإمام من طريق المأموم المذكور.

لكن في القواعد: «و لكل منهما الائتمام بالآخر علي إشكال»، و عن الذكري التردد فيه، و ظاهر المنتهي الميل للجواز، و استظهره في المدارك و الرياض، و هو المحكي عن التذكرة و التحرير و نهاية الاحكام و الذخيرة و شرح الدروس، و إليه جنح في الحدائق في صدر كلامه و إن رجع عنه أخيرا إلي المنع أو التوقف.

و استدل عليه في كلماتهم.

تارة: بسقوط أحكام هذه الجنابة بنظر الشارع، و لذا يجوز لكل منهما في نفسه ترتيب أحكام الطاهر، من دخول المساجد و قراءة العزائم و غيرهما.

و أخري: بصحة صلاة كل منهما شرعا، فتصح جماعتهما، لتحقق شرطها.

و ثالثة: بأنّ التكاليف منوطة بالظاهر لا بالواقع، و كل منهما طاهر ظاهرا.

و رابعة: بالمنع من حصول الحدث إلا مع تحقق الحدث من شخص بعينه.

و خامسة: بأنّ صلاة الإمام صحيحة قطعا حتي لو بطل الائتمام، و المأموم قد ائتم في صلاة يعلم صحتها فصح ائتمامه.

و هذه الوجوه- كما تري- مبنية علي اختلاط الحكم الواقعي بالظاهري، و إلا

ص: 342

______________________________

فلا ينبغي التأمل في عموم سببية خروج المني للجنابة، و عموم مانعية الجنابة من الصلاة، و عموم شرطية صحة كل من صلاة الإمام و المأموم في صحة الائتمام، لعموم أدلة الأحكام المذكورة، و لذا لو تعين بعد ذلك من خرج منه المني فلا يظن من أحد التوقف في انكشاف جنابته من أول الأمر و بطلان صلاته و جماعته.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 343

غاية الأمر أنّ الجهل عذر مسوغ للرجوع للأصول الظاهرية المحرزة لصحة العمل، و لا مجال لها مع العلم بالبطلان إجمالا، فضلا عن العلم به تفصيلا- كما هو محل الكلام- و لذا لا إشكال ظاهرا في عدم جواز ائتمام المكلف بمن يعلم هو بخروج المني منه و إن كان الإمام متعبدا ظاهرا بصحة عمل نفسه.

و ما في الرياض من عدم العبرة بالواقع و إن علم به إجمالا، و لذا تصح صلاتهما و تسقط أحكام الجنابة عنهما قطعا و وفاقا.

خلط بين العلم الإجمالي المنجز الذي يبتني عليه الكلام و غيره الذي هو مورد القطع و الوفاق المشار إليهما في كلامه.

علي أنه لو تمَّ لا مجال فيما إذا لزم منه العلم التفصيلي بالبطلان، كما في المقام، بل هو نظير ما لو علم زيد إجمالا بنجاسة مائه أو ثوب جاره ثمَّ لاقي الثوب الماء.

و أما ما تضمن عدم وجوب الإعادة علي المأمومين بانكشاف بطلان صلاة الإمام لعدم الطهارة، أو الكفر، أو عدم الاستقبال، أو عدم النية «1»، فهو لا يدل علي صحة الجماعة واقعا مع الجهل بالحال، لإمكان الاجتزاء بالصلاة الناقصة مع العذر، كما في موارد حديث: «لا تعاد.».

و لذا كان مورد بعضها صورة علم الإمام بالفساد، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك في المقام و غيره.

فلا مخرج عما عرفت من القاعدة.

ثمَّ إنّ ذلك يجري في غير الائتمام مما يبتني فيه الصحة من أحدهما علي الصحة من الآخر، كصلاة الجمعة التي يعتبر فيها عدد معين، كما ذكره في جامع

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 36، 37، 38، 39 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 343

كما لا يجوز لغيرهما استنابة أحدهما في صلاة أو غيرها مما يعتبر فيه الطهارة (1).

______________________________

المقاصد و محكي الإيضاح.

(1) كأنه للعلم الإجمالي المانع من الاجتزاء بفعل كل منهما.

و ربما يكون هو المراد مما في الجواهر من عدم جواز استئجارهما للعلم بفساد صلاة أحدهما.

لكن فعل كل منهما لما لم يكن اختياريا للمستنيب فلا يكون موردا لابتلائه الفعلي قبل تحققه، بل يتوقف الابتلاء به علي تحققه، حيث يكون أثر صحته براءة ذمة المنوب عنه و ليس الابتلاء به قبله إلا تعليقيا غير كاف في منجزية العلم الإجمالي، فإذا استأجر أحدهما بعينه و ملك العمل في ذمته لقدرته عليه و لو بتجديد الغسل، كان له البناء علي صحة عمله بعد وقوعه عملا باستصحاب طهارته، لعدم الابتلاء بعمل الآخر.

و لا مجال لقياس ذلك بالائتمام بأحدهما، لأن الصلاة مع الائتمام فرد من الصلاة التي يقع بها امتثال الأمر الفعليّ بالصلاة، فهو مورد للابتلاء بمجرد التكليف بالصلاة إذا كان مقدورا للمكلف.

أما الاستئجار في المقام، فهو نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة بعض ما في السوق أو غصبيته، حيث يجوز الشراء من شخص بعينه و يبني علي صحة الشراء و طهارة المشتري، لعدم الابتلاء قبل الشراء بشي ء مما في السوق و عدم الابتلاء بعده إلا بما اشتراه.

نعم، لو أتي الآخر بما يتوقف علي الطهارة بنحو النيابة أيضا بإجارة أو تبرع صار فعل كل منهما موردا للابتلاء الموجب لمنجزية العلم الإجمالي ببطلان أحدهما، نظير ما لو اشتري من جملة أشخاص يعلم بغصبية ما أخذه من بعضهم أو بنجاسته. و لعله إليه يرجع ما سبق من الجواهر.

ص: 344

مسألة 4 البلل المشكوك الخارج قبل الاستبراء منه بالبول بحكم المني ظاهرا

مسألة 4: البلل المشكوك الخارج بعد خروج المني و قبل الاستبراء منه بالبول بحكم المني ظاهرا (1).

الثاني الجماع
اشارة

الثاني: الجماع، و لو لم ينزل (2)،

______________________________

بقي في المقام أمر، و هو أنه لو كان أحد الشخصين خارجا عن الابتلاء فرتب أثر الطهارة في العمل المتعلق بالثاني ثمَّ ابتلي بالأول.

فإن كان مرجع اعتبار الطهارة في العمل الواقع إلي بطلانه واقعا بحيث يجب تداركه بعد ظهور الحال، وجب تداركه بمجرد الابتلاء بالأول، كما هو الحال في الاستنابة، فلو استناب أحدهما لعدم الابتلاء بالآخر و بعد إتيانه بالعمل ابتلي بالآخر بائتمام أو عمل نيابي، وجب تدارك العمل الأول، للعلم الإجمالي ببطلانه أو بحرمة الائتمام بالآخر أو بطلان العمل النيابي الواقع منه آخرا، فيجب الاحتياط بإعادة العمل الأول و ترك الائتمام بالآخر أو إعادة العمل الواقع منه أيضا.

و إن كان مرجعه إلي عدم جواز الإقدام عليه إلا أنه لا يجب تداركه لو وقع إما لعدم قابليته للتدارك أو لصحته لو وقع بدون الطهارة عن عذر، لم يجب تداركه، كما لا يمتنع العمل المتعلق بالآخر، لعدم الأثر للعلم الإجمالي بعد عدم منجزيته بالإضافة لما وقع، لعدم وجوب تداركه علي كل حال، كما لو سبق الائتمام، بناء علي عدم وجوب الإعادة علي المأمومين مع ظهور بطلان صلاة الإمام.

(1) الأنسب إيكال الكلام في ذلك للمسألة الثامنة و العشرين، لأنها أوسع بيانا و أكثر فروعا.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب المتسالم عليه بينهم، و في الجواهر:

«بلا إشكال و لا خلاف فيه. بل عليه الإجماع محصلا و منقولا نقلا مستفيضا كاد يكون متواترا، بل هو كذلك.».

و تقتضيه النصوص المستفيضة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام:

ص: 345

و يتحقق بدخول الحشفة في القبل (1)،

______________________________

«سألته متي يجب الغسل علي الرجل و المرأة؟ فقال: إذا أدخله فقد وجب الغسل و المهر و الرجم» «1».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها و لا ينزل؟ فقالت الأنصار:

الماء من الماء، و قال المهاجرون: إذا التقي الختانان فقد وجب عليه الغسل، فقال عمر لعلي عليه السّلام: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال علي عليه السّلام: أ توجبون عليه الحد و الرجم و لا توجبون عليه صاعا من الماء؟! إذا التقي الختانان فقد وجب عليه الغسل. فقال عمر:

القول ما قال المهاجرون و دعوا ما قالت الأنصار» «2».

و أما ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام من حصر سبب الغسل بالماء الأكبر «3»، فلا بد من حمله علي الحصر الإضافي بلحاظ إنزال غير المني، أو الاحتلام من غير إنزال، كما يناسبه مورد نصوصه.

(1) لأن بعض النصوص و إن تضمن الإدخال أو الإيلاج الظاهرين بدوا في إدخال تمام الذكر و إيلاجه، إلا أنه لا بد من الخروج عنه بما تضمن الاكتفاء بالتقاء الختانين، بحمله علي إرادة تحاذيهما لبيان مقدار ما يعتبر إدخاله، لا علي تلاصقهما، للفاصل بين موضع ختان المرأة و موضع الإدخال منها، كما ذكره غير واحد من الفقهاء و اللغويين، منهم الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، بل في مفتاح الكرامة أنه ذكره جماهير الأصحاب.

و لا مجال لجعل التقاء الختانين بمعني تلاصقهما سببا آخر غير الإدخال، لظهور كلتا الطائفتين في تحديد السبب الواحد الذي ينحصر به الغسل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الجنابة و باب: 7 منها حديث: 6، 11.

ص: 346

______________________________

و لصحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع: «سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل يجامع المرأة قريبا من الفرج متي يجب الغسل؟ فقال: إذا التقي الختانان فقد وجب الغسل، قلت: التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال: نعم» «1».

و علي هذا، يمكن توجيه خبر محمد بن عذافر: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام متي يجب علي الرجل و المرأة الغسل؟ فقال: يجب عليهما الغسل حين يدخله، و إذا التقي الختانان فيغسلان فرجيهما» «2»، بناء علي ما هو الظاهر من كون الذيل جملة مستأنفة لبيان حكم التقاء الختانين في مقابل حكم الإدخال، فيدل علي انفكاك أحدهما عن الآخر و عدم وجوب الغسل بالتقاء الختانين بالمعني الحقيقي- كما ذكرنا- و ليس معطوفا عطفا تفسيريا، لعدم مناسبته لتركيب الكلام و بعد الاهتمام ببيان غسل الفرج بعد ذكر وجوب الغسل.

و لا مجال لجعل القرينة عليه ذكر الفاء في قوله: «فيغسلان» بدعوي عدم كون المورد من موارد دخولها علي جزاء الشرط، إذ لا محل للفاء حتي علي تقدير العطف.

نعم، قد ينافي ما ذكرنا صحيح علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يصيب الجارية البكر لا يفضي إليها و لا ينزل عليها أ عليها غسل؟ و إن كانت ليست ببكر ثمَّ أصابها و لم يفض إليها أ عليها غسل؟ قال: إذا وقع الختان علي الختان فقد وجب الغسل، البكر و غير البكر» «3».

و صحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيب المرأة فلا ينزل، أ عليه غسل؟ قال: كان علي عليه السّلام يقول: إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل. قال:

و كان علي عليه السّلام يقول: كيف لا يوجب الغسل، و الحد يجب فيه؟! و قال: يجب عليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 347

أو الدبر (1)،

______________________________

المهر و الغسل» «1».

فإنّ التعبير بوقوع الختان علي الختان في الأول و مسه له في الثاني لا يناسب إرادة المحاذاة جدا، و لا سيما مع فرض عدم الإفضاء في الأول، حيث يبعد الاتكال في بيان الحكم المسؤول عنه علي المفهوم دون المنطوق.

لكن حمل الثاني علي إرادة المس الحقيقي دون الإدخال، لا يناسب ما تضمنه السؤال فيه من فرض إصابة الرجل المرأة الظاهرة في الإدخال، الذي لا إشكال في وجوب الغسل به، فلو لم يحمل الجواب عليه لزم عدم بيان الحكم المسؤول عنه.

علي أنه لا مجال للتعويل علي الصحيحين مع مفروغية الأصحاب عن انحصار السبب بالإدخال، كما هو ظاهر نصوصه، بل هو كالصريح من صحيح عمر ابن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يضع ذكره علي فرج المرأة فيمني، عليها غسل؟ فقال: إذا أصابها من الماء شي ء فلتغسله و ليس عليها شي ء إلا أن يدخله» «2»، لوضوح أنّ وضع الذكر علي الفرج كثيرا ما يستتبع التقاء الختانين.

فلا بد من طرح الصحيحين أو حملهما علي ما يناسب ذلك، و لو كان بعيدا بلحاظ قلة الفاصل بين الختانين حين الإدخال، فلاحظ.

(1) أما في المرأة، فهو المنسوب للمشهور في كشف اللثام و الحدائق و المفاتيح، و للمعظم في المدارك، بل عن المرتضي أنه قال: «لا أعلم خلافا بين المسلمين في أن الوطء في الموضع المكروه من ذكر أو أنثي يجري مجري الوطء في القبل مع الإيقاب و غيبوبة الحشفة في وجوب الغسل علي الفاعل و المفعول به و إن لم يكن أنزل، و لا وجدت من [في خ ل] الكتب المصنفة لأصحابنا الإمامية إلا ذلك، و لا سمعت من [ممن خ ل] عاصرني منهم من شيوخهم نحوا من ستين سنة

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 348

______________________________

يفتي إلا بذلك، فهذه مسألة إجماع من الكل، و لو شئت أن أقول: إنه معلوم بالضرورة من دين الرسول صلّي اللّه عليه و آله أنه لا خلاف بين الفرجين في هذا الحكم، و إنّ داود و إن خالف في أن الإيلاج في القبل إذا لم يكن معه إنزال لا يوجب الغسل، فإنه لا يفرق بين الفرجين، كما لا تفرق باقي الأمة بينهما في وجوب الغسل بالإيلاج في كل واحد منهما»، و عن السرائر نسبته لإجماع المسلمين.

لكن ظاهر الكليني، و الشيخ في طهارة التهذيب عدم وجوب الغسل، لاقتصارهما في الباب المناسب علي ذكر مرفوع البرقي الآتي الصريح في عدمه، كما أنه الظاهر من النهاية أيضا، حيث اقتصر علي التقاء الختانين، و كذا المراسم، حيث قيد به، بل هو صريح الاستبصار، و عن المرتضي أنه قال بعد الكلام السابق: «و اتصل لي في هذه الأزمان عن بعض الشيعة الإمامية أن الوطء في الدبر لا يوجب الغسل، تعويلا علي أن الأصل عدم الوجوب، أو علي خبر يذكر أنه في منتخبات سعد أو غيرها.».

و ربما نسب الخلاف لغيرهم ممن اقتصر علي ذكر الجماع في الفرج- كالمفيد في المقنعة- أو علي الرواية المتضمنة عدم وجوب الغسل بالجماع فيما دونه- كالصدوق في الفقيه- بناء علي اختصاص الفرج بالقبل.

لكنه لا يخلو عن إشكال.

نعم، ظاهر طهارة المبسوط و الخلاف التردد تبعا لاختلاف الرواية، و هو الظاهر من المدارك و الحدائق و المفاتيح و محكي كشف الرموز.

إلا أنّ المحكي عن الشيخ في صوم التهذيب و صوم المبسوط و نكاحه [1]

______________________________

[1] كلامه في صوم التهذيب شاهد بصدق النسبة، لأنه صرح بعدم التعويل علي الخبر النافي للغسل، و أما كلامه في صوم المبسوط و نكاحه فظاهر في التردد، لأنه و إن حكم بعموم أحكام الجماع للوطء من جميع الجهات حتي الوطء في الدبر، إلا أنه عقبه بأنه روي عدم وجوب الغسل و لا الإفطار بالوطء فيه، بنحو يظهر منه استثناؤه من عموم الحكم للتردد، و لا سيما مع ما ذكره في كتاب الصوم من أنّ الأول أحوط، حيث يظهر منه أنّ مرجع الجزم بالعموم للاحتياط لا لعدم التعويل علي الخبر النافي، و أما الحائريات فلم يتيسر لي العثور عليها.

ص: 349

______________________________

و الحائريات وجوب الغسل.

و من ذلك يظهر أنه لا مجال لدعوي الإجماع، فضلا عن الاستدلال به.

فلا بد من النظر في الأدلة اللفظية التي استدل أو يستدل عليها به، و هي أمور.

الأول: قوله تعالي أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ «1»، حيث خرج منه الملامسة في غير الفرجين بالإجماع و النصوص و تبقي الملامسة في الدبر داخلة في إطلاقه.

بل هو مقتضي تفسيرها في بعض النصوص «2» بالوقاع و الجماع، و في صحيح أبي مريم أو موثقه «3» بالمواقعة في الفرج، بناء علي عموم الفرج للدبر، كما صرح به بعض اللغويين، بل عن المرتضي عدم الخلاف فيه بين أهل اللغة و الشرع.

لكن الآية الشريفة ليست واردة لبيان سببية الملامسة للجنابة، ليكون لها إطلاق في ذلك، بل لبيان بدلية التيمم عن الغسل عند فقد الماء في ظرف الحاجة إليه بسبب الملامسة، للمفروغية عن سببيتها للجنابة، من دون أن يكون لها إطلاق في ذلك.

علي أنّ الملامسة ليست من المطلق الذي ثبت تقييده، ليقتصر في التقييد علي المتيقن، و إلا لزم تخصيص الأكثر، بل إلغاء موضوعيتها مطلقا، لأن السبب هو الجماع لا الملامسة المقارنة له، بل هي كناية عن الجماع في الجملة، فإجماله موجب لإجمالها و لزوم الاقتصار فيها علي المتيقن منه، و هو الجماع في القبل.

و لا مجال للاعتماد في العموم للدبر علي نصوص تفسيرها بالجماع، حتي بناء علي ما لعله الظاهر من عمومه للوطء في الدبر، لضعف أكثرها و ليس فيها ما هو معتبر السند إلا صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه عز و جل:

______________________________

(1) سورة المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 11، 12، 13، 14 و باب: 67 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 350

______________________________

أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فقال: هو الجماع، و لكن اللّه ستير يحب الستر فلم يسم كما تسمون» «1»، و لا يبعد أن يجري فيه ما يأتي.

و لا علي حديث أبي مريم المفسر لها بالمواقعة في الفرج، لعدم وروده لتفسيرها به ابتداء، بل للردع عن حمل العامة للملامسة علي المعني الحقيقي، و بيان الكناية بها عن الجماع من دون اهتمام بتحديده ليؤخذ بإطلاقه و يحمل علي الجنس دون العهد للفرد الشائع.

علي أنه لم يتضح عموم الفرج للدبر، فإنّ اللغويين و إن ذكروا أنه العورة التي هي شاملة له، إلا أنه ذكر في لسان العرب أنه أيضا شوار الرجل و المرأة، و ردد في شوار الرجل بين خصوص قبله و ما يعمه و الدبر.

علي أنه لا مجال للتعويل علي اللغويين في خصوصيات المعاني، و لا سيما في مثل هذا المعني مما كان كنائيا لا حقيقيا، و لا سيما و قد اشتهر إطلاقه علي خصوص القبل عرفا، حتي قال في محكي المصباح: «و الفرج من الإنسان القبل و الدبر، و أكثر استعماله في العرف في القبل»، بل نسبه في مجمع البحرين للعرب، حيث قال: «و الفرج من الإنسان- كفلس- قبله و دبره، لأن كل واحد منهما منفرج، و كذا استعمله العرب في القبل.».

و عليه جري استعماله في مرسل علي بن إبراهيم: «قال الصادق عليه السّلام في قوله تعالي فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰي شِئْتُمْ أي: متي شئتم في الفرج، و الدليل علي قوله في الفرج قوله تعالي نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، فالحرث: الزرع، في الفرج: في موضع الولد» «2».

و خبر الحسين بن علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن إتيان الرجل المرأة من خلفها، فقال: أحلتها آية من كتاب اللّه، قول لوط:

______________________________

(1) الوسائل باب: 67 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 72 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 6.

ص: 351

______________________________

هٰؤُلٰاءِ بَنٰاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ و قد علم أنهم لا يريدون الفرج» «1».

و ما تضمن الأمر بالاحتياط في الفرج، لأن منه الولد «2»، كما قد يستفاد من معتبرة يونس الواردة في تغسيل الميت، حيث كرر فيها ذكر الفرج مطلقا غير مقيد، ثمَّ قال عليه السّلام في كيفية وضع القطن: «فضعه علي فرجه قبل و دبر [قبلا و دبرا]» «3»، لإشعارها باحتياج التعميم للقرينة.

بل لعل بعض ما مضي يراد منه خصوص قبل المرأة، كما لعله المراد مما تضمن النهي عن ركوب الفروج السروج، معللا بأنه يهيجهن «4».

و هو الظاهر مما تضمن كراهة النظر لباطن فرج المرأة «5»، لوضوح أنّ ما يمكن النظر لباطنه هو القبل، بل لعله المراد مما تضمن كراهة النظر له حين الجماع «6»، فتأمل.

و بالجملة: بالنظر في مجموع الاستعمالات يتضح استعمال الفرج.

تارة: في مطلق العورة.

و أخري: في خصوص القبل.

و ثالثة: في قبل المرأة.

و لعل الأخيرين أشهر من الأول.

و لا طريق مع ذلك للبناء علي عمومه في مثل هذا الحديث للدبر، و لا سيما مع مناسبة مورده للاختصاص بالقبل، لأنه المعهود في الجماع المناسب للذة و طلب الولد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 73 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 3.

(2) راجع الوسائل باب: 157 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(4) راجع الوسائل باب: 93 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(5) الوسائل باب: 60 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 60 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 4.

ص: 352

______________________________

و مثله كثير من الإطلاقات، كإطلاق الأمر بغسل الفرج في غسل الجنابة «1» و تغسيل الميت «2»، و إطلاق النهي عن النظر لفرج المرأة «3»، و نحوها.

بل ربما كان في بعضها خصوصيات معينة لإرادة القبل منه، فتؤيد ما ذكرنا.

و من ذلك يظهر أنه لا مجال لما في الجواهر من الاستدلال بإطلاق ما دل علي وجوب الغسل بالإدخال و الإيلاج و غيبوبة الحشفة في الفرج.

علي أنّ المضمون المذكور لم يرد فيما بأيدينا من النصوص، عدا ما في خبر دعائم الإسلام: «و قالوا عليهم السّلام: إن التقاء الختانين هو أن تغيب الحشفة في الفرج، فإذا كان ذلك وجب الغسل، كان به إنزال أو لم يكن» «4».

لكنه حيث ورد لتحديد المراد بالتقاء الختانين، فهو ظاهر في خصوص القبل محافظة علي المناسبة بين المفسّر و المفسّر، لوضوح أنّ ختان المرأة فيه، و محاذاة ختان الرجل له لا تكون إلا بغيبوبة الحشفة فيه.

و بذلك يتضح أنه لا مجال لما في كشف اللثام من الاستدلال بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالتقاء الختانين، بناء علي أنّ المراد تحاذيهما.

علي أنّ تحاذيهما ليس بنفسه سببا للغسل، لعدم الإشكال في عدم سببيته مع عدم الجماع، بل هو وارد لتحديد مقدار الإدخال المعتبر في السبب- كما تقدم- فلا ينهض بإثبات عموم السبب.

الثاني: إطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالإدخال و الإيلاج و غيبوبة الحشفة «5».

و يشكل، بأنّ حذف متعلق الإدخال و الإيلاج و الغيبوبة لا يوجب إطلاقها، لوضوح عدم إرادة تحققها و لو في الفم أو بين الفخذين أو الثديين، بل الإشارة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 59 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(4) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(5) تراجع الإطلاقات المذكورة في باب: 6 من أبواب الجنابة من الوسائل.

ص: 353

______________________________

لمتعلق معهود، و المتيقن منه القبل.

و لا سيما مع ورود غيبوبة الحشفة، تفسيرا لالتقاء الختانين المختص بالوطء في القبل، و ورود بعض نصوص الإدخال في فرض وضع الذكر علي الفرج الذي تقدم أنّ المتيقن منه القبل، و غيرهما مما قد يمنع من الإطلاق.

الثالث: إطلاق التعليل المستفاد من صحيحي زرارة و الحلبي المتقدمين و غيرهما، الراجع إلي ملازمة وجوب الغسل لوجوب الحد و الرجم، بناء علي ما هو المفروغ عنه بينهم ظاهرا من وجوب الحدّ بالوطء في الدبر.

و قد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن وروده مورد الاحتجاج و الإلزام و إن كان يدل علي تسليم الخصم للملازمة بين الوجوبين ثبوتا أو إثباتا لاتحاد لسان دليليهما، إلا أنه لا إطلاق له يشمل المقام و نحوه مما هو خارج عن مورده، و لا سيما بملاحظة عدم إمكان الالتزام بالملازمة بين الوجوبين في كثير من الموارد.

و فيه: أنه لو سلم ظهوره في الملازمة بملاك اتحاد لسان دليلي الوجوبين، فبعد فرض عدم اختصاص وجوب الحد بالوطء في القبل و عمومه للوطء في الدبر المستلزم لشمول دليل الحد لمطلق الجماع، لوضوح أنهما حد واحد لا حدان، فلا بد من شمول دليل الجنابة أيضا لمطلق الجماع، الذي كما يتحقق من غير إنزال يتحقق بالوطء في الدبر، و لا يهم اختصاص مورده بالوطء في القبل بقرينة ذكر التقاء الختانين فيه.

نعم، يقصر التعليل عن إثبات الملازمة في مورد الحد الثابت بدليل آخر غير دليل وجوبه في الوطء في القبل، كحد اللواط، فضلا عن مثل حد القذف، كما أشار إليه في الجواهر.

فالعمدة في الإشكال، أنه لا مجال لاحتمال ابتناء الملازمة المسلمة عند الخصم علي اتحاد لسان الدليلين بعد دعوي الأنصار أنّ الماء من الماء و أنّ التقاء الختانين بنفسه لا يوجب الغسل خلافا للمهاجرين مع أنه هو الموجب للحد و الرجم بلا إشكال، فلا بد من ابتناء الملازمة علي الأولوية أو نحوها، و حيث لا

ص: 354

______________________________

إشكال في انفكاك الحد و الرجم عن الغسل في كثير من الموارد، فلا مجال للبناء علي عموم التعليل، بل يكون مجملا يقتصر فيه علي مورده، و هو الوطء في القبل، لما سبق.

الرابع: ما رواه ابن أبي عمير، عن حفص بن سوقة، عمن أخبره قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يأتي أهله من خلفها، قال: هو أحد المأتيين فيه الغسل» «1».

و يشكل بضعف السند، و عدم وضوح انجباره بعمل المشهور و إن وافقته فتواهم، لاحتمال اعتمادهم علي العمومات لا عليه، و لا سيما مع عدم ثبوت الشهرة قبل عصر الشيخ.

كما لا يلحقه حكم مراسيل ابن أبي عمير من الحجية، لعدم إرساله منه، بل من حفص.

و من هنا يصعب إقامة الدليل علي سببية الوطء في الدبر لوجوب الغسل.

نعم، قد يدعي تعاضد ما سبق في إثباته، و عمدتها صحيح الحلبي المتقدم المتضمن لتفسير الملامسة بالجماع، لعدم وضوح ما سبق من المناقشة فيه، و التعليل بوجوب الحد و الرجم الذي يصعب عدم تعميمه للوطء في الدبر، و المرسل الذي يحتمل انجباره بعملهم.

و لا سيما مع تأيد ذلك بفتوي المشهور، و ببناء الأصحاب علي مشاركة الوطء في الدبر للوطء في القبل في وجوب الحد و الرجم، و ترتب أحكام الدخول من ثبوت تمام المهر، و تحقق التحريم بالإضافة لبنت الموطوءة، و التحليل بعد الطلاق الثالث و غيرها، فإن ذلك بمجموعه قد يكشف عن عموم الحاكم.

و لذا فالظاهر أنه لو لا النصوص النافية له صريحا لم يقع الإشكال في المسألة من أحد، فتأمل.

هذا، و قد استدل علي عدم وجوب الغسل بالوطء في الدبر.

تارة: بما تضمن عدم وجوب الغسل بإصابة المرأة فيما دون الفرج، كصحيح

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 355

______________________________

الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيب المرأة فيما دون الفرج، أ عليها غسل إن هو أنزل و لم تنزل هي؟ قال: ليس عليها غسل، و إن لم ينزل هو فليس عليه غسل» «1».

و صحيح محمد بن مسلم الوارد في مجامعة المرأة دون الفرج «2»، المتقدم في جنابة المرأة بالإنزال، و غيرهما.

و أخري: بالنصوص النافية له صريحا، كمرفوع البرقي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: إذا أتي الرجل المرأة في دبرها فلم ينزلا فلا غسل عليهما، و إن أنزل فعليه الغسل و لا غسل عليها» «3».

و مرفوع بعض الكوفيين عنه عليه السّلام: «في الرجل يأتي المرأة في دبرها و هي صائمة، قال: لا ينقض صومها و ليس عليه غسل» «4».

و مثله مرسل علي بن الحكم عنه عليه السّلام.

لكن الأول مبني علي اختصاص الفرج بالقبل، و هو غير ظاهر بنحو معتد به، و مجرد انصرافه إليه أو كونه المتيقن منه لا يكفي في الاستدلال ما لم يبلغ مرتبة الظهور في الاختصاص.

علي أنّ ما دون الفرج ظاهر في التفخيذ و نحوه و منصرف عن الوطء في الدبر، لأنه أمر يسأل عنه بعنوانه الخاص، لما له من الخصوصية الارتكازية عن سائر ما هو دون الفرج.

و منه يظهر أنه لا مجال لجعل ذكر الإصابة و الجماع في الصحيحين قرينة علي إرادة خصوصه، لأنهما لا يصدقان إلا فيه و في القبل، فإنّ ما ذكرنا ملزم بحملهما علي مثل التفخيذ مما لا يستلزم الإدخال، كما أشير إليه في صحيح محمد بن مسلم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 19.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب الجنابة حديث: 3 و به الحق مرسل علي بن الحكم.

ص: 356

______________________________

و أما الثاني، فهو موقوف علي حجية النصوص المذكورة- و إن ضعفت سندا- بتعاضدها و انجبارها بعمل من عرفت، و هو لا يخلو من إشكال.

فلعل الأولي الاستدلال له بصحيح ابن بزيع المتقدم المسؤول فيه عما يوجب الغسل بعد فرض المواقعة قريبا من الفرج فيه. و فيه: «فقال: إذا التقي الختانان فقد وجب الغسل، قلت: التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال: نعم» «1»، فإنه حيث لم يفرض فيه حصول سبب خاص للجنابة فظاهر السؤال فيه السؤال عن جميع أسبابها، فيكون ظاهر الجواب انحصار السبب بالتقاء الختانين، الذي هو مختص بالوطء في القبل.

و قريب منه في ذلك صحيح علي بن يقطين المتقدم «2»، المتضمن اعتبار وقوع الختان علي الختان، بناء علي حمله علي التحاذي بينهما، لما سبق، حيث يقاربه في لسان السؤال، بخلاف صحيح زرارة المتضمن سؤال عمر من الصحابة، لأنه حيث كان المفروض فيه المخالطة من دون إنزال فإناطة الغسل بالتقاء الختانين في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام لا ظهور له في المفهوم المستلزم للحصر، لسوقه لبيان عدم اعتبار الإنزال مع المخالطة، و لعل التعبير فيه بالتقاء الختانين موجب لانصراف المخالطة المفروضة فيه للوطء في القبل.

و مثله في ذلك صحيح الحلبي المتقدم «3»، المتضمن اعتبار مس الختان الختان- بناء علي حمله علي محاذاته له- لتشابه لساني السؤال فيهما.

فالعمدة ما عرفت من صحيح ابن بزيع و صحيح ابن يقطين، و بهما يخرج عما سبق في تقريب استفادة وجوب الغسل من مجموع الأدلة و القرائن، لأنه بالإضافة إليهما كالعام بالإضافة إلي الخاص، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

بقي في المقام أمران.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 357

______________________________

الأول: أنّ صريح كلام المرتضي المتقدم و محكي السرائر وجوب الغسل علي كل من الفاعل و المفعول به، و هو ظاهر كل من قال بوجوب الغسل به، و إن ظهر من المنتهي و محكي الوافي نوع تردد في وجوبه علي المرأة، بل قد يظهر من المفاتيح الميل لعدمه، لكنه في غير محله، إذ لو كان دليله إطلاقات الجماع و الإدخال و نحوهما فهي تقتضي وجوب الغسل عليهما معا.

و كذا مرسل حفص المتقدم، لإطلاق وجوب الغسل فيه من دون تقييد بأحدهما، بل تفريعه علي كونه أحد المأتيين ظاهر في العموم لهما، كما في المأتي الآخر، لظهوره في كون وجوب الغسل به من صغريات وجوبه بإتيان المرأة و مجامعتها المعلوم اشتراكهما فيه.

و ما في الحدائق بعد التنبيه لذلك من عدم خلوه عن شوب الإشكال، في غير محله.

الثاني: ظاهر الأصحاب، بل صريح بعضهم- كالسيد المرتضي في كلامه المتقدم و المتن- أنّ المقدار المعتبر من الدخول في الوطء في الدبر هو المعتبر في الوطء في القبل، و هو غيبوبة الحشفة.

و قد يستدل له بإطلاق التحديد به في صحيح ابن بزيع، لكنه حيث كان واردا لبيان المراد بالتقاء الختانين، فهو مختص بالوطء في القبل.

نعم، لو حمل التحديد بالتقاء الختانين علي تحديد الدخول المعتبر في مطلق الجماع و الإدخال إنما عبر به بلحاظ غلبة الوطء في القبل المستلزم له، اتجه التمسك بالإطلاق، لكنه مبني علي تكلف لا مجال له في فهم النصوص.

فلا بد من توجيهه بمحض الإلحاق بالوطء في القبل، لتنقيح المناط، أو لفهم عدم الخصوصية للقبل بعد اشتراكهما في الدخول تحت سبب واحد عرفا، و هو الجماع و الإتيان و نحوهما مما أشير إليه في أدلة وجوب الغسل، بدعوي: ظهورها في التعميم من طرف محل الفعل مع المحافظة علي تمام ما يعتبر في الفعل. و إن لم يخل عن الإشكال، و لا سيما مع أنّ مقتضي إطلاق النص- بل الفتوي، كما في كشف

ص: 358

______________________________

اللثام- تحقق اللواط الذي هو موضوع الحد بمجرد الإيقاب، فإنّ التفريق بينه و بين وطء المرأة في الدبر في ثبوت الحد حد الزنا باعتبار غيبوبة الحشفة في الثاني دونه بعيد، كالتفريق في وطء المرأة في الدبر بين وجوب الحد و وجوب الغسل، باعتبار غيبوبتها في الثاني دون الأول.

و أما اعتبار غيبوبة الحشفة مطلقا حتي في حد اللواط- كما في القواعد- لما دل علي التحديد به في الوطء في قبل المرأة بالإضافة لوجوب الغسل و الحد معا، فهو في غاية الإشكال، مع ما عرفت من إطلاق النص و الفتوي بالإيقاب.

نعم، قد يقال: لا إطلاق في المقام يقتضي الاكتفاء بإدخال بعض الحشفة، لأن الإدخال و الإيلاج- مع ورودهما في الوطء في القبل، كما سبق- ظاهران بدوا في إدخال تمام الذكر، و معلومية عدم اعتبار ذلك يقتضي الاكتفاء بإدخال البعض في الجملة بمقدار يصدق معه إتيان المرأة و مجامعتها و نحو ذلك، مما لا يعلم صدقه بدخول بعض الحشفة، و المتيقن منه- و لو بضميمة نصوص التقاء الختانين و نحوها- هو دخول تمام الحشفة، حيث لا قائل باعتبار ما زاد علي ذلك ظاهرا، و مقتضي الأصل عدم تحقق الجنابة بما دونه، فتأمل.

هذا كله في الوطء في دبر المرأة، و أما الوطء في دبر الغلام، فقد سبق في كلام المرتضي التصريح بعموم السببية له، و هو المنسوب للمشهور في كشف اللثام، و للأكثر في الحدائق، بل عن السرائر دعوي إجماع المسلمين عليه.

و أشار في المعتبر و الشرائع إلي استدلال المرتضي بالإجماع المركب، لأن كل من قال بوجوب الغسل بوطء المرأة دبرا قال به في الغلام.

و كلام المرتضي المتقدم ظاهر في دعوي الإجماع المركب من المسلمين في مطلق الوطء في الدبر، الراجع للملازمة بينه و بين الوطء في القبل، لذهاب بعض العامة لعدم سببية الوطء في القبل من غير الإنزال.

نعم، قد يظهر من العلامة في المختلف دعوي الإجماع المركب، الراجع للملازمة بين المرأة و الغلام، لأنه ذكر أنّ الخلاف فيه كالخلاف فيها، و هو صريح الذكري.

ص: 359

______________________________

لكن لا مجال له مع تصريح المحقق في المعتبر بالعدم و تردده في الشرائع و النافع.

كما لا مجال لدعوي الإجماع البسيط قبله بعد ما سبق في دبر المرأة من الخلاف و التردد من غير واحد، لظهور كلام بعضهم في العموم للغلام و صراحة آخر فيه، بل هو الظاهر من الكل، إذ من البعيد ممن قال بعدم الوجوب أو تردد فيه هناك القول بالوجوب هنا، عدا ما يأتي من الحدائق.

و كيف كان، فقد يستدل عليه- مضافا إلي ما سبق في الوجه الثاني و الثالث لو تمّا في المرأة- بصحيح أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من جامع غلاما جاء يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا و غضب اللّه عليه و لعنه و أعدّ له جهنم و ساءت مصيرا.» «1».

بدعوي: أنّ حمله علي التغليظ في حكم الجنابة أقرب من حمله علي إرادة سنخ آخر منها غير محل الكلام لا يرتفع بالماء.

و من ثمَّ قوي في الحدائق وجوب الغسل هنا مع تردده في المرأة، و إن كان هو غير خال من الغرابة.

لكن الاستدلال بالوجه الثاني هنا أضعف منه هناك، لاختصاص نصوص الإدخال و الإيلاج و غيبوبة الحشفة بالمرأة.

و كذا الوجه الثالث، لمباينة حد اللواط لحد الوطء في دبر المرأة دليلا، و ليس هو كحد الوطء في دبرها، المشترك مع حد الوطء في قبلها في دليل حرمة الزنا، و ذلك دخيل في صحة الاستدلال، كما سبق.

و أما الصحيح، فيشكل الاستدلال به بلحاظ أنه و إن كان ظاهرا في مسانخة الجنابة الحاصلة منه للجنابة- التي هي محل الكلام- إلا أنّ شدتها بنحو لا ينقّي منها ماء الدنيا مانع من وجوب الغسل لها، لعدم الأثر له.

و وجوبه تعبدا و إن لم يرفعها أو لتخفيفها، يحتاج إلي دليل لا ينهض به الصحيح.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب النكاح المحرم حديث: 1.

ص: 360

بل مقدارها من مقطوعها (1)، بل الأحوط وجوبا الاكتفاء بمجرد الإدخال منه.

______________________________

و حمل الحكم فيه بعدم ارتفاعها علي محض الادعاء للتنفير ليس بأولي من حمل الحكم بثبوتها عليه.

اللهم إلا أن يكون وجه الاستدلال ظهوره في المفروغية عن استعمال الماء في الدنيا، من دون أن يرد للردع عن ذلك، بل الحكم بعدم النقاء به للتنفير عن الجماع المذكور.

فلعل الأولي الإشكال فيه بأنه حيث لم يكن واردا لبيان سببية الوطء للجنابة و الغسل، بل للتغليظ فيها مع المفروغية عن ثبوتها بنحو يتبعه الغسل، فلا إطلاق له يشمل الإدخال من دون إنزال، الذي لا يبعد كونه فردا نادرا غير ملتفت إليه.

نعم، لو ثبت ذلك في المرأة كان إلحاق الغلام بها قريبا جدا، لإلغاء خصوصيتها عرفا و إن اختصت الأدلة بها.

و من هنا لم يبعد التعميم في وجوب الغسل للمفعول به لو قيل به في الفاعل، و إلا فصحيح الحضرمي لا ينهض بذلك حتي لو تمَّ الاستدلال به في الفاعل.

كما أنه بناء علي الاستدلال بالصحيح المذكور يشكل اعتبار دخول تمام الحشفة، لقرب العموم فيه لذلك، و لو بملاحظة وروده للتنفير عن الإيقاب الذي هو موضوع الحد بمقتضي إطلاق نصوصه، علي ما سبق.

و أما بناء علي الاستدلال بالوجوه الأخر الراجعة للإلحاق بالمرأة، فالإلحاق بها في اعتبار غيبوبة الحشفة و إن كان هو الأنسب بذلك، إلا أنه قد يبعد بلحاظ استبعاد التفكيك بين موضوع الغسل و موضوع الحد، فلاحظ.

(1) كما في المنتهي و القواعد و التحرير و الدروس و الروض و عن نهاية

ص: 361

______________________________

الاحكام و البيان، و جعله أقوي الاحتمالين في محكي التذكرة، و الأحوط في جامع المقاصد و الحدائق، و نسبه في المدارك للأصحاب، و في الحدائق لتصريحهم مستظهرا عدم الخلاف فيه، و في مفتاح الكرامة أنه المعروف من مذهب الأصحاب، و في الجواهر: «صرح به غير واحد من الأصحاب، بل نسبه بعضهم إليهم مشعرا بدعوي الإجماع، بل في شرح الدروس: الظاهر الاتفاق عليه، كما قد يظهر من آخر نفي الخلاف فيه».

لكن لم يتضح ذلك بعد عدم ظهور تحرير المسألة قبل العلامة، و عدم ظهور القول بذلك إلا منه و من الشهيدين و بعض المتأخرين عنهم.

فما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ العمدة كون الحكم المذكور مظنة الإجماع، ممنوع صغري، كما هو ممنوع كبري.

و قد يستدل له.

تارة: بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالإدخال و الإيلاج، بحمله علي إدخال البعض مع القطع بعدم وجوبه بإدخال ما دون مقدار الحشفة، كما هو مقتضي جعل القول المذكور أحوط في جامع المقاصد و الحدائق.

و أخري: بما دل علي اعتبار التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة بحمله علي التقدير بها، و أنّ ما يعتبر دخوله من كل شخص هو مقدار حشفته.

و يندفع الأول، بأنّ الإطلاق ظاهر بدوا في إدخال الجميع، و القطع بعدم إرادته للزوم التخصيص في الفرد الغالب لا يقتضي الاكتفاء بالبعض مطلقا، بل قد يكون المراد به بيان اعتبار الإدخال في الجملة في مقابل عدمه، من دون نظر لبيان مقدار ما يدخل، بل هو موكول لأدلة التحديد الأخري، أو يكون المراد به الإشارة للإدخال المعهود بإدخال الحشفة.

و لو سلم، فلا وجه للقطع بعدم وجوبه بإدخال ما دون مقدار الحشفة.

و يشكل الثاني، بأنّ الحمل علي التقدير بالنحو المذكور مخالف للظاهر، بل

ص: 362

______________________________

هو لا يناسب ما عن التذكرة [1] و الموجز من الاكتفاء بغيبوبة الحشفة المقطوع بعضها، و ما في الروض و عن الذكري من الاكتفاء به إذا لم يذهب المعظم، حيث يلزمهم علي ذلك اعتبار إتمام المقدار من غيرها.

و هو لا ينافي ما هو المعروف من وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة في الدبر مع عدم التقاء الختانين، لأنّ التنازل عن خصوصية التقاء الختانين لا يستلزم التنازل عن خصوصية غيبوبة الحشفة التي كان مقتضي الجمع بين النصوص الكناية به عنها.

غايته قصور إطلاق دليلها عن شمول الوطء في الدبر، فيحتاج الإلحاق للدليل من الإجماع أو غيره مما سبق الكلام فيه، و أين هذا من حمل التحديد بهما علي بيان المقدار، بحيث يكون دليلا في مقطوع الحشفة؟! و مما سبق يظهر ضعف ما في كشف اللثام، و مال إليه في المدارك من الاكتفاء بدخول ما دون ذلك.

لابتنائه. أولا: علي حمل إطلاق الإدخال علي إدخال البعض.

و ثانيا: علي الاقتصار في التقييد بغيبوبة الحشفة علي واجدها.

و قد سبق منع الأول.

و أما الثاني، فقد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه خلاف إطلاق التقييد.

و هو لا يخلو عن إشكال بناء علي ما هو المشهور المختار له من وجوب الغسل بالوطء في الدبر، لاختصاص دليل اعتبار غيبوبة الحشفة بغيبوبتها في القبل- كما سبق- و التقييد به لا يلائم ذلك، بل لا بد من تنزيله علي بيان مجرد الاكتفاء بدخولها و عدم الاجتزاء، بدخول طرفها من دون أن يدخل آخرها.

و كما لا يمنع من وجوب الغسل بدخولها في غير القبل لا يمنع من وجوبه بدخول غيرها فيه أو في غيره عند عدم وجود شي ء منها.

نعم، بناء علي ما سبق منا من الاستدلال بالتقييد المذكور لعدم وجوب الغسل بالوطء في الدبر، يتجه الاستدلال بإطلاق التقييد في المقام.

______________________________

[1] حكاه عنها في كشف اللثام، و في مفتاح الكرامة: «لم أجده فيها».

ص: 363

______________________________

و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال علي القول المذكور بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالجماع مطلقا أو في الفرج، حيث يلزم الخروج عن ذلك بدليل التقييد المذكور.

علي أن وجود الإطلاق المذكور لا يخلو عن إشكال، فراجع ما تقدم في الوطء في الدبر.

كما ظهر مما سبق أيضا ضعف القول بوجوب الغسل بدخول تمام الذكر- كما جعله في محكي التذكرة أضعف الاحتمالين- إذ لا دليل عليه إلا إطلاق نصوص الإدخال و الإيلاج، و لو بلحاظ أن المتيقن منها إدخال الجميع، مع الاقتصار في اعتبار غيبوبة الحشفة علي واجدها، و قد سبق أنّ حمل الإطلاق علي دخول الجميع مستلزم للتخصيص في الفرد الأغلب، و أنّ حمل التقييد علي خصوص واجد الحشفة مخالف لإطلاق دليله.

مع أنه قد يتأمل في صدق إدخال تمام الذكر بدخول الذكر المقطوع بعضه.

فالإنصاف أنه يصعب إقامة الدليل علي وجوب الغسل في محل الكلام، و احتمال عدم وجوبه مطلقا هو الأنسب بإطلاق دليل التقييد بدخول الحشفة، و إن كان ظاهر محكي التذكرة أنه أضعف الاحتمالات.

و لا أقل من كونه مقتضي الأصل، حيث يتضح مما سبق عدم المخرج عنه من إجماع أو غيره، و لا سيما مع ما قد تشعر به بعض النصوص الواردة في دية قطع الذكر «1»، لظهورها في أنّ المدار في دية قطعه علي قطع الحشفة فما دون، لإشعار ذلك بأن المعيار في قيامه بوظيفته علي وجودها، فتأمل.

بقي في المقام أمران.

الأول: سبق عن التذكرة و الموجز الاكتفاء فيمن قطعت حشفته بإدخال الباقي منها، و من الروض و محكي الذكري تقييده بما إذا لم يذهب المعظم، و قيده في جامع المقاصد بما إذا كان الباقي بمقدار يتحقق معه إدخال

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب ديات الأعضاء.

ص: 364

______________________________

شي ء عرفا.

و لعلهما راجعان لشي ء واحد، و أنّ المعيار علي صدق الإدخال- كما يظهر من كشف اللثام- بل الظاهر رجوع الإطلاق إليه، لأن المفروض فيه تحقق إدخال الباقي.

و اعتبر في الجواهر إدخال ما يتم به مقدار الحشفة، إلا أن يكون الذاهب شيئا لا يعتد به، و هو المناسب لما سبق من غير واحد من حمل دليل اعتبار غيبوبة الحشفة علي بيان المقدار المعتبر إدخاله من الذكر.

لكن سبق ضعفه.

و أما الأول، فهو يبتني علي التمسك بإطلاق ما تضمن اعتبار التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة.

إلا أنه بعد تفسير التقاء الختانين في صحيح ابن بزيع بغيبوبة الحشفة يكون المعيار عليها، و في صدقها بغيبوبة البعض إشكال، لتوقفه علي حمل الحشفة علي الموجود منها، أو حمل غيبوبتها علي الكناية عن دخول آخرها المحقق لتحاذي الختانين، و كلاهما مشكل.

الثاني: تعرض الأصحاب لحكم إدخال الذكر ملفوفا بخرقة، و نحوه ما تداول في عصورنا من إلباسه المطاط المانع من وصول المني للرحم، و ما لو جعل الحاجب في موضع الإدخال من من المرأة.

و قد استقرب في المنتهي و جامع المقاصد وجوب الغسل بإدخاله، و هو المحكي عن التذكرة و الإيضاح و الذكري و البيان و الدروس و الذخيرة و شرح المفاتيح، بل عن الأخير نسبته للفقهاء.

و تنظر فيه في القواعد.

و عن نهاية الاحكام: «لو لفّ علي ذكره خرقة و أولج احتمل حصول الجنابة، لحصول التحاذي، و عدمه، لأن استكمال اللذة إنما يحصل مع ارتفاع الحجاب، و اعتبار الخرقة إن [فإن ظ] كانت لينة لا تمنع وصول بلل الفرج إلي الذكر و حصول الحرارة من أحدهما إلي الآخر حصلت الجنابة، و إلا فلا».

ص: 365

مسألة 5 إذا تحقق الجماع تحققت الجنابة للفاعل و المفعول به

مسألة 5: إذا تحقق الجماع تحققت الجنابة للفاعل و المفعول به (1)،

______________________________

و لا يخفي ضعف ما أشار إليه في وجه المنع، إذ ليس المدار في الجنابة علي اللذة، و لا علي وصول البلل و الحرارة، ليخرج بها عن الإطلاق الصادق بالتحاذي، كما أشار إليه.

إلا أن يريد الإشارة إلي وجه انصراف إطلاق الإدخال و الإيلاج و التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة عن محل الكلام، للتنبيه علي خروجه عن الفرد المألوف.

لكن الانصراف بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق.

و مثله ما أشار إليه في كشف اللثام من قصور الإطلاق، بناء علي أن المراد من التقاء الختانين التقاؤهما حقيقة، مع حمل ختان المرأة علي موضع دخول الذكر منها، لضعف المبني المذكور، لعدم المناسبة المصححة لاستعماله في ذلك.

مضافا إلي أنه بعد تفسير التقاء الختانين بغيبوبة الحشفة يكون المدار عليها، و لا إشكال في صدقها.

و من هنا يتعين الرجوع للإطلاق.

نعم، نبه سيدنا المصنف قدّس سرّه علي التفصيل بين ما إذا كان الحاجب تابعا عرفا لأحد العضوين بحيث يصدق إدخال الذكر المحجوب، أو الإدخال في الفرج المحجوب، فتحصل الجنابة، و ما إذا كان مستقلا بحيث يصدق إدخاله حال كون الذكر فيه أو الإدخال فيه حال كونه في الفرج، فلا تحصل الجنابة، لانصراف الإطلاق عنه.

و ما ذكره لا يخلو عن قرب، فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) بلا إشكال، و لا خلاف فيه في الجملة، بل عليه الإجماع محصلا و منقولا نقلا مستفيضا كاد يكون متواترا، كما في الجواهر و يقتضيه النصوص المتضمن بعضها وجوب الغسل علي الرجل، و بعضها وجوبه علي المرأة، و بعضها وجوبه من

ص: 366

غير فرق بين الصغير و الكبير (1)،

______________________________

عليهما، و قد تقدم بعضها.

(1) ففي المعتبر أنه أشبه، و في المنتهي أنه أقوي، بل نفي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الخلاف فيه، و إن نقل عن محكي التذكرة و التحرير و الذكري و الذخيرة التوقف فيه.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بإطلاق أدلة سببية الجماع للجنابة مما تقدم و غيره، و لا ينافي ذلك التعبير فيها بوجوب الغسل، الذي لا يثبت في حق الصبي و نحوه ممن رفع عنه القلم، إذ لا يراد به الوجوب الفعلي، بل الكناية عن الجنابة التي هي الموضوع له و إن لم يكن فعليا إلا مع اجتماع شرائط التكليف، و لذا لا ينبغي التأمل في إفادة الإطلاق المذكور تحقق الجنابة للعاجز عن الغسل و نحوه ممن لا يكلف به فعلا.

كما لا مجال لدعوي حكومة حديث الرفع علي الإطلاق المذكور، لاختصاصه برفع المؤاخذة المناسب لارتفاع الإلزام في الأحكام التكليفية، و ارتفاع الأحكام الوضعية المبتنية علي المؤاخذة و المحاسبة للشخص علي فعله، كنفوذ العقود و نحوها، و الحدود، و الكفارة لو فرض ابتناؤها علي انشغال الذمة، لا علي محض التكليف بالدفع، دون مثل الجنابة من الأحكام الوضعية و المسببات المحضة غير المبتنية علي المحاسبة و المؤاخذة.

نعم، قد يستشكل في ثبوت الإطلاق المذكور، لأن ما تضمن وجوب الغسل بالجماع غير تام سندا أو غير ظاهر في الإطلاق، علي ما تقدم في مسألة الوطء في الدبر.

و غير ذلك مما تضمن وجوبه بالإدخال و الإيلاج و التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة بالإضافة للفاعل مختص بالرجل، و بالإضافة للمفعول به إما مختص بالمرأة،

ص: 367

______________________________

أو منصرف إليها، كصحيح زرارة الوارد في مخالطة الرجل أهله «1»، و صحيح الحلبي الوارد في الجارية البكر و غير البكر «2».

لوضوح أنّ الأهل و إن كان كناية عن الزوجة إلا أن المتيقن منه عشيرة الرجل التي يسكن إليها، و لا سيما مع فرض المخالطة فيها التي لا تجوز بالصغيرة.

كما أنّ الجارية و إن أطلقت علي الأمة عرفا، و نص عليه في مجمع البحرين فتشمل الصغيرة، إلا أنّ فيه أيضا: «و الجارية من النساء من لم تبلغ الحلم»، و في لسان العرب و القاموس: أنها الفتية من النساء، و هما مختصان بالكبيرة، لاختصاص النساء بذلك، و لا سيما مع وروده في فرض خارج لا يؤلف فيه الاستمتاع بالصغيرة.

و من هنا كان البناء علي العموم موقوفا علي إلغاء خصوصية مورد النصوص عرفا، كما هو غير بعيد، و يناسبه إهمال الأصحاب التنبيه علي التقييد بالكبيرين، حيث يظهر من ذلك المفروغية عن العموم لاحتياج التقييد للتنبيه.

و كأن التوقف فيه ممن تقدم لرفع القلم عن الصغير- كما يناسبه توقفهم في المجنون أيضا- أو لعدم تحقق اللذة له، الذي سبق من بعضهم نظيره فيما إذا لفّ الذكر بخرقة، أو لنحو ذلك من الشبه التي قد يتخيل منعها من عموم الحكم، فمع بطلانها لا ينبغي التوقف في العموم.

نعم، في صحيح أبي عبيدة الحذاء: «سئل أبو جعفر عليه السّلام عن خصي تزوج امرأة و هي تعلم أنه خصي، قال: جائز، قيل له: إنه مكث معها ما شاء اللّه ثمَّ طلقها، هل عليها عدة؟ قال: نعم، أ ليس قد لذّ منها و لذّت منه؟ قيل له: فهل كان عليها فيما يكون منها و منه [كان منه و منها] غسل؟ قال: إن كان إذا كان ذلك منه أمنت فإن عليها غسلا. قيل:

فله أن يرجع بشي ء من الصداق إذا طلقها؟ قال: لا» «3».

و لا يخفي تمامية إطلاق أدلة سببية الجماع للجنابة في مورده، فهو مقيد

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب العيوب و التدليس من كتاب النكاح حديث: 4.

ص: 368

______________________________

للإطلاق المذكور لو كان حجة في نفسه، و إنما الإشكال في حجيته بعد إهمال الأصحاب له و عدم تعرضهم لمضمونه، مع بعد غفلتهم عنه بعد رواية الكليني و الصدوق له بسندهما عن ابن محبوب.

بل لم يعقبه في الحكم المذكور حتي المجلسي في تحف العقول و الكاشاني في الوافي، و إنما عقباه في بعض الأحكام الأخر، حيث يظهر من ذلك التسالم علي إهماله في هذا الحكم.

و لا يكشف إثبات الكليني و الصدوق له في كتابيهما عن عملهما به في الحكم المذكور، لأنّ ظاهرهما و إن كان هو الفتوي بمضمون النصوص المودعة فيهما، إلا أنّ ذلك يختص بالباب المناسب، و حيث قد أهملاه في أبواب الجنابة، و إنما ذكره الكليني في باب عدّة المرأة من الخصي، و الصدوق في باب ما أحل اللّه عزّ و جلّ من النكاح و ما حرم منه، فظاهرهما عدم العمل به في هذا الحكم.

و لعله ناشئ من عدم ظهور خصوصية للخصي مع فرض الإيلاج في عدم وجوب الغسل إلا عدم الإنزال منه، الذي ادعت الأنصار عدم وجوبه معه، و تضمن غير واحد من النصوص الردع عنه و الإنكار له، بنحو يصعب الخروج عن عمومه، لقوته و لو بسبب التعليل بوجوب الحد و الرجم، فهو أشبه بالشاذ النادر و المشكل الذي يردّ لهم عليهم السّلام و يتعذر العمل به، فتأمل جيدا.

ثمَّ إنه صرح في المعتبر بأنّ مقتضي جنابة الصغير منعه مما يحرم علي الجنب كدخول المساجد و مس الكتاب و صلاة التطوع إلا بالغسل.

لكن لا دليل علي وجوب منعه من دخول المساجد و مس الكتاب بعد عدم حرمتهما عليه، إذ ليس التكليف بحرمة الدخول و المس من الجنب كفائيا ليرجع إلي تكليف كل أحد بمنعه، بل هو عيني، فلا يجب المنع منه علي غير الجنب إلا من باب النهي عن المنكر، الموقوف علي فعلية التكليف في حق المباشر و تنجزه.

و قد سبق في الفرع الثامن من الفروع التي ألحقناها بالمسألة التاسعة

ص: 369

و العاقل و المجنون (1)، و القاصد و غيره (2)، بل الظاهر ثبوت الجنابة للحي إذا كان أحدهما ميتا (3)،

______________________________

و التسعين المتعلقة بمس المحدث للكتاب، و يأتي في المسألة الثالثة عشرة ما ينفع في المقام.

نعم، لا تصح منه الصلاة، لإطلاق دليل شرطية الطهارة فيها.

و أما تأثير الغسل في رفع ذلك، فهو موقوف علي شرعية الغسل له- كما هو الظاهر- أما لو كان تمرينيا- كما في جامع المقاصد- فلا مجال له.

و أشكل منه ما ذكره من وجوب إعادته عليه بعد البلوغ، إذ مع بطلانه لا يترتب الأثر عليه، و مع صحته لا وجه لإعادته.

(1) كما هو ظاهر إطلاق الأصحاب، و نفي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الخلاف فيه.

و يقتضيه إطلاق النصوص، بناء علي ما سبق في تقريب شموله لغير المكلف، كما سبق قرب كون منشأ التوقف فيه عن التذكرة و التحرير و الذكري و الدروس و الذخيرة احتمال مانعية رفع القلم من شمول الإطلاق، و قد سبق ضعفه.

(2) الكلام فيه كما في سابقة، و انصراف الإطلاق للقاصد بدوي لا يعتد به.

مع أنه مختص بما تضمن التعبير بالإدخال و الإيلاج، دون ما تضمن التعبير بالتقاء الختانين و غيبوبة الحشفة و نحوهما.

(3) فقد استظهر في الخلاف وجوب الغسل علي الرجل بوطء الميتة، و جعله الأصح في جامع المقاصد، و به صرح في المبسوط و الوسيلة و الشرائع و المنتهي و المختلف و الدروس و الروض و الروضة، و هو ظاهر المعتبر و كشف اللثام و المحكي عن السرائر و الجامع و الذكري و الدروس، و ظاهر كشف اللثام أنه المشهور، بل نفي الخلاف فيه شيخنا الأعظم و ادعي الإجماع عليه في الرياض، بل ربما استظهر دعوي الإجماع من الاقتصار في نسبة الخلاف علي أبي حنيفة في

ص: 370

______________________________

الخلاف و المنتهي و محكي التذكرة، حتي ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنّ العمدة فيه الإجماع المنقول المؤيد بإرسال الحكم في لسان جماعة إرسال المسلمات.

لكن في بلوغ ذلك حد الإجماع الصالح للاستدلال إشكال، بل منع.

فإنّ الإجماع إنما يكشف عن الحكم الشرعي إذا كان مبنيا علي وضوح مورده في العصور المتقدمة المقاربة لعصور الأئمة عليهم السّلام، و هو لا يناسب إهمال الحكم في مثل المقنعة و النهاية و المراسم و الغنية و غيرها، بل لا يناسب عدم دعوي الإجماع في الخلاف، مع كثرة دعواه فيه في المسائل، و انما استظهره- كما في المبسوط- من بعض الإطلاقات بعد الاعتراف بعدم النص فيه.

و نسبته فيه لظاهر المذهب لا يرجع إلي نسبته للأصحاب، بل استظهاره من الأدلة التي ينبغي التعويل عليها بنظره.

و عليه جري الحال في أكثر الكتب التي تيسر العثور عليها، فلم يرسل الحكم فيها إرسال المسلمات، بل تشبثوا له بوجوه من الاستدلال محتاجة إلي نحو من الكلفة و التأمل، من دون أن يشيروا للإجماع كدليل أو مؤيد للمسألة.

حيث يظهر من مجموع ذلك عدم معروفية تحرير المسألة و لا التنبيه إليها قبل الشيخ قدّس سرّه إلا من العامة، و أنّ الشيخ و من تبعه جروا فيها علي التثبت ببعض الأدلة النظرية من دون وضوح و لا إجماع.

و من هنا قد يظهر من العلامة في القواعد التردد فيه، حيث قال: «و غيبوبة الحشفة في فرج آدمي، قبل أو دبر، ذكر أو أنثي، حي أو ميت، أنزل معه أو لا، فاعلا أو مفعولا علي رأي»، كما تنظّر فيه في الحدائق و ناقش فيه في محكي شرح الدروس.

إذا عرفت هذا، فقد استدل لتحقق الجنابة بوطء الميتة.

تارة: بما ورد عنهم عليهم السّلام من أنّ حرمة الميت كحرمة الحي «1»، كما في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 51 من أبواب الدفن، و باب: 19 من أبواب حد السرقة، و باب: 2 من أبواب نكاح البهائم و وطء الأموات و الاستمناء من كتاب الحدود و التعزيرات، و باب: 25 من أبواب دية الأعضاء.

ص: 371

______________________________

المبسوط و الخلاف.

و أخري: باستصحاب الحكم الثابت حال الحياة.

و يندفع الأول، بأنّ ثبوت الجنابة بوطء المرأة الحية مبني علي محض تسبيبه لذلك، من دون أن يبتني علي احترامها ليكون مشمولا للحديث، لوضوح اختصاصه بالأحكام الثابتة من جهة الاحترام، و لذا طبق علي وجوب تعطيل البئر التي يسقط فيها المسلم فيموت و جعلها قبرا له، و ثبوت الحد علي النباش السارق للأكفان، و الدية بقطع عضو من الميت.

و أما ما في حديث الجواد عليه السّلام من قوله: «سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: يقطع يمينه للنبش، و يضرب حدّ الزنا، فإنّ حرمة الميتة كحرمة الحية» «1»، و في خبر عبد اللّه الجعفي عن الباقر عليه السّلام في ذلك أيضا: «أنّ حرمة الميت كحرمة الحي، تقطع يده لنبشه و سلبه الثياب، و يقام عليه الحد في الزنا.» «2»، من تطبيق العموم علي حد الزنا الذي لا يتضح كونه من أحكام الاحترام.

فهو لا يخلو عن إشكال، و لا مجال للتعدي منه إلي غيره من الاحكام غير المبنية علي الاحترام.

و لا مجال لكشفه عن كون المراد بالعموم محض تنزيل الميت منزلة الحي في الاحكام من دون خصوصية للأحكام المبنية علي الاحترام، بحمل الحرمة علي مجرد الموضوعية للحكم، دون الاحترام.

إذ هو لا يناسب ما في خبر العلاء بن سيابة من تطبيقه علي وجوب تعطيل البئر و جعلها قبرا إذا مات فيها مسلم «3»، لوضوح عدم كون الإقبار من أحكام الحي، ليصح إطلاق التنزيل بلحاظه، بل هو من شؤون الاحترام الثابت للحي، فتأمل جيدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب حد السرقة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب حد السرقة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 51 من أبواب الدفن حديث: 1.

ص: 372

______________________________

و أما الثاني، فهو يبتني علي حجية الاستصحاب التعليقي، التي هي خلاف التحقيق، علي ما أوضحناه في الأصول.

فالعمدة في المقام إطلاق أدلة سببية الجماع للجنابة، لصدق الإدخال و الإيلاج و التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة و غيرها، كما ذكره في الخلاف و المعتبر و المنتهي و غيرها.

فإنّ الإطلاقات و إن كانت تنصرف عرفا عن حال الموت، كما لو قيل: رأيت رجلا أو امرأة أو ضربتهما أو قطعت يدهما لو ألبستهما ثوبا أو غير ذلك، إلا أنه يمنع منه في إطلاقات الأدلة الشرعية ملاحظة عموم غير واحد من الأحكام المتعلقة بالجسد لحال الموت، كحرمة النظر و الأحكام المبنية علي الاحترام و نحوهما، و لا سيما حدّ الزنا الذي هو من أحكام الوطء، فإنّه مقرب جدا لعموم سائر أحكام الوطء و منها الجنابة لحال الموت، لا من باب قياسه عليه، بل من باب كشفه عن إطلاق دليله، خلافا لمقتضي الانصراف العرفي.

خصوصا مع ما تضمنته النصوص من التلازم بين الحدّ و الغسل، فإنّ عدم البناء علي التعدي عن موردها لا يمنع من إلغاء خصوصية موردها و استفادة عمومها لحال الموت من ثبوت الحدّ فيه، بحيث يكون مانعا من الانصراف عنه.

و كأنّ هذا هو الوجه في فهم الأصحاب من الأدلة العموم، بل هو الظاهر من غيرهم ممن وافقهم، بل حتي من خالفهم- و هو أبو حنيفة- إذ المحكي عنه في وجه عدم وجوب الغسل ليس هو دعوي قصور أدلته، بل وجود المخرج عنه، ككونه وطءا غير مقصود.

و لعل التأمل في مجموع ذلك كاف في ثبوت الحكم، و لا سيما مع تأيده- كما في الجواهر- بما ورد فيمن نبش امرأة ميتة و استخرجها و أخذ أكفانها و فجر بها من أنه نودي: «يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين يوم يقفني و إياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتي و نزعتني من حفرتي و سلبتني أكفاني و تركتني أقوم جنبة إلي

ص: 373

______________________________

حسابي فويل لشبابك من النار» «1»، فإنّ جنابتها كاشفة عن سببية وطئها للجنابة كوطء الحية، فيوجب جنابة الرجل أيضا.

ثمَّ إن مقتضي الاستدلال المذكور جنابة الميتة الموطوءة أيضا- كما هو مقتضي إطلاق الدروس و احتمله في الجواهر- لأن الوطء سبب لجنابة الفاعل و المفعول به معا.

و أما دعوي: أنه موقوف علي قابلية الميت للاتصاف بالجنابة، و هي غير محرزة، فلا ينفع معها تمامية السبب.

فهي مدفوعة بأنّ إلغاء خصوصية الحياة في أدلة السبب يقتضي إلغاءها في الموضوع القابل للجنابة، لوحدة الدليل في المقامين، و لا سيما مع تأيده بالخبر السابق.

مضافا إلي ما سبق في أوائل المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء عند الكلام في تداخل الأغسال من تقريب قابلية الميت للاتصاف بالجنابة و ارتفاعها بالتغسيل. و عليه يجب ترتيب أحكام الجنب عليها، فلا يجوز إدخالها المسجد، بناء علي حرمة إدخال الجنب له.

نعم، لا دليل علي وجوب تغسيل الميت من الجنابة لو حصلت بعد التغسيل- كما صرح به في المنتهي و جامع المقاصد و غيرهما- و كذا لو كان ممن لا يغسل بعد الموت، كالشهيد و المقتول بحد أو قصاص، لاختصاص الأدلة بغسل الميت.

و ما دل علي أنّ الميت الجنب يجزيه غسل واحد للجنابة و لغسل الميت، معللا بقوله عليه السّلام: «لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «2»، إنما يدل علي شرعية غسل الجنابة له، و هي أعم من الوجوب، و التعبير بالحرمة لا يقتضي تحريم الإبقاء، بل لعله كناية عن تحقق الموضوع.

______________________________

(1) أمالي الصدوق مجلس: 11 ص: 39 طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 374

بل هو الأحوط وجوبا في وطء البهيمة (1).

______________________________

اللهم إلا أن يستفاد من النصوص الظاهرة في أنّ غسل الميت لأجل رفع حدث الموت، كي يلقي ربه و هو طاهر، بل ظاهر جملة منها أنه مسانخ لحدث الجنابة أو من أفراده «1».

و لازم ذلك تقديم غسل الجنابة علي الصلاة عليه، كما يقدم عليها غسل الميت.

لكنه- لو تمَّ- لا يجري في الشهيد، حيث يظهر من نصوصه الاهتمام بعدم تغيير حاله بالتغسيل، بل قد يستظهر ذلك في المقتول بحد أو قصاص، و الأمر محتاج للتأمل.

هذا، و المفروض في كلام الأكثر وطء الميتة دون عكسه، و هو استدخال ذكر الميت في الحي، و إنما نبه له في جامع المقاصد و الروضة و بعض متأخري المتأخرين، فذكروا أنه بحكم الأول.

و هو مقتضي الوجه المتقدم المذكور في كلام الأكثر، و من ثمَّ لا يبعد استفادته منهم تبعا.

(1) فقد ذهب إلي عدم وجوب الغسل به في طهارة المبسوط و الخلاف و الشرائع و القواعد، و استحسنه في المعتبر، و قوّاه في المنتهي و كشف اللثام، و هو المحكي عن كشف الرموز و المهذب، كما هو الظاهر من كل من قيد الفرج بالآدمي، كما في الوسيلة و الإرشاد و محكي السرائر و الموجز و الجامع، و كذا من أناط الحكم بالتقاء الختانين، كما في النهاية و المراسم و إشارة السبق و غيرها، بل هو الظاهر من كل من لم ينبه إليه.

و لعله لذا استظهر في الحدائق أنه المشهور، و نسبه في المدارك و محكي شرح المفاتيح للأكثر.

لكن في الذكري و عن التذكرة و البيان التردد فيه، بل ظاهر صوم المبسوط

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 375

______________________________

إيجاب الغسل، حيث جعله مفسدا للصوم [1]، و عليه جري في الروضة و ظاهر الروض و محكي المختلف و المسالك و غيرها.

بل قد يظهر من المرتضي الإجماع عليه، إذ المحكي عنه أنه قال في تعقيب كلامه المتقدم في الوطء في الدبر: «و أما الأخبار المتضمنة لإيجابه عند التقاء الختانين فليست مانعة من إيجابه في موضع آخر لا التقاء فيه لختانين. علي أنهم يوجبون الغسل بالإيلاج في فرج البهيمة و في قبل المرأة و إن لم يكن هناك ختان، فقد عملوا بخلاف ظاهر الخبر.».

و قد يستدل له- مضافا إلي ذلك- بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالجماع، أو الجماع في الفرج. و بعموم التعليل بوجوب الحد.

و بالخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما أوجب الحد أوجب الغسل» «2»، إما لعمومه الشامل للمقام، حيث يلزم الاقتصار في تخصيصه علي المتيقن، كالقذف، أو لحمله علي خصوص الوطء، فلا تخصيص فيه، كما قيل.

لكن لا مجال لدعوي الإجماع، و لا سيما بعد ما عرفت من شهرة الخلاف.

و إطلاق وجوب الغسل بالجماع- مع أنه لا يبعد انصرافه أو قصوره عن وطء البهيمة- غير ثابت، علي ما تقدم عند الكلام في الوطء في الدبر.

كما سبق هناك الإشكال في الاستدلال بعموم التعليل.

و مثله الخبر، لعدم ثبوته من طرقنا، و إنما روي مرسلا في بعض كتب الفقهاء و في كتب العامة، و لعله راجع إلي نقل مفاد التعليل.

علي أنّ حمله علي العموم متعذر عرفا بعد كثرة تخصيصه، و حمله علي خصوص الوطء ليس بأولي من حمله علي خصوص التقاء الختانين، لبيان عدم اعتبار الإنزال، كما تضمنه ما اشتمل علي التعليل.

مضافا إلي توقف الاستدلال به و بالتعليل علي ثبوت الحد في وطء البهيمة،

______________________________

[1] إنما لم نجزم بنسبته إليه لأنه صرح في الخلاف بوجوب القضاء به دون الغسل و الكفارة، فراجع المسألة الثانية و الأربعين من كتاب الصوم. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) كنز العمال ج: 5 ص: 132 رقم الحديث: 2714.

ص: 376

مسألة 6 إذا خرج المني بصورة الدم وجب الغسل

مسألة 6: إذا خرج المني بصورة الدم وجب الغسل (1)، بعد العلم بكونه منيا (2).

______________________________

كما تضمنته بعض النصوص، و هو لا يخلو عن إشكال بلحاظ ما في بعضها من أنّ الثابت فيها التعزير دون الحد «1». و تمام الكلام في محله.

هذا، و المتيقن من كلام أكثر الأصحاب ما إذا كانت البهيمة موطوءة، أما لو كانت واطئة فظاهر الروضة و محكي الذكري مساواتها للموطوءة في تحقق الجنابة، و استقرب في الجواهر العدم مع تردده في الأول.

و هو في محله لو كان الدليل في الأول الإجماع، لعدم وضوح شموله للثاني.

و كذا لو كان دليله عموم التعليل و إطلاق الخبر، لعدم الدليل علي ثبوت الحد بالثاني بعد اختصاص نصوصه بالأول.

و أما لو كان الدليل هو عموم سببية الجماع للجنابة، فالظاهر عدم الفرق بين المقامين في صدقه و عدم صدقه.

(1) كما استقربه في المدارك و محكي الذكري، لإطلاق ما دل علي سببية خروج المني للجنابة.

و استشكل في ذلك في جامع المقاصد، و احتمل العدم في النهاية، لأن المني دم في الأصل فلما لم يستحل ألحق بالدماء، و هو في محله في فرض كلامه من عدم استحالة الخارج، بحيث لا يصدق عليه المني، و مجرد مشابهته للمني في كيفية الخروج من مقارنته للدفق و نحوه لا يكفي في جريان حكمه فيه.

و مفروض الكلام ما لو كان الخارج منيا، كما يظهر من المدارك، و إن كان غير معلوم الحصول.

(2) أما لو شك، فمقتضي ما سبق في المسألة الأولي الرجوع للصفات

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب نكاح البهائم و وطء الأموات و الاستمناء من كتاب الحدود و التعزيرات.

ص: 377

مسألة 7 إذا تحرك المني و لم يخرج إلي الخارج لا يجب الغسل

مسألة 7: إذا تحرك المني عن محله بالاحتلام و لم يخرج إلي الخارج لا يجب الغسل (1).

مسألة 8 يجوز للشخص إجناب نفسه

مسألة 8: يجوز للشخص إجناب نفسه (2)

______________________________

لتمييز حاله.

إلا أن يدعي انصراف أدلتها إلي صورة مشابهة الخارج للمني عرفا، بحيث يشتبه به، و لذا أطلق عليه المني في صحيح علي بن جعفر «1» الذي هو عمدة أدلة الاعتبار بالصفات، و لا يشمل ما لو كان بصورة الدم و جهلت حقيقته، فتأمل.

هذا، إذا كان الشك بنحو الشبهة الموضوعية كما لو كان محل تكون المني أو مخرجه موؤفا بجرح أو نحوه فخرج السائل بصورة الدم و تردد بين كونه دما و كونه منيا مختلطا به.

و الظاهر أنه خارج عن محل كلامهم، إنما الكلام فيما إذا خرج السائل من محل تكون المني علي نحو خروجه قبل أن يستكمل صفاته، كما ينقل عن بعض من يكثر منه المواقعة.

و الظاهر عدم صدق المني عليه، بل هو عرفا دم بعد لم يستحل- كما سبق من النهاية- فلا يجري عليه حكم المني.

و لو فرض الشك فيه، فهو راجع إلي إجمال مفهوم المني، فيلزم الاقتصار فيه علي المتيقن و الرجوع في غيره لاستصحاب الطهارة.

و أما الصفات، فمنصرف دليلها الشبهة الموضوعية، دون الحكمية المفهومية، فلاحظ.

(1) تقدم الكلام فيه في الأمر الرابع من الأمور التي ذكرناها في أول الكلام في سببية خروج المني للجنابة.

(2) الظاهر اختصاصه بالجماع، دون غيره حتي لو كان مباحا ذاتا،

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 378

و لو لم يقدر علي الغسل (1)

______________________________

كالاحتلام لو كان مقدورا، لاختصاص الأدلة الآتية بالجماع.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ احتمال الفرق بين الجماع و غيره موهون جدا غير ظاهر مع قرب خصوصية الجماع لاستحبابه في نفسه، المناسب لاهتمام الشارع به و عدم تعجيزه عنه لأجل الطهارة المائية.

نعم، لو لزم الضرر أو الحرج من ترك الإجناب اتجه جوازه.

(1) إجماعا، كما في المعتبر.

لصحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يكون معه أهله في سفر لا يجد الماء، يأتي أهله؟ قال: ما أحب أن يفعل إلا أن يخاف علي نفسه، قلت:

فيطلب بذلك اللذة أو يكون شبقا إلي النساء، فقال: إن الشبق يخاف علي نفسه، قال:

قلت: طلب بذلك اللذة. قال: هو حلال.» «1».

و رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن أبي ذر رضي اللّه عنه: «أنه أتي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه هلكت، جامعت علي غير ماء، قال: فأمر النبي صلّي اللّه عليه و آله بمحمل فاستترت به و بماء فاغتسلت أنا و هي، ثمَّ قال: يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين» «2».

لظهور قوله صلّي اللّه عليه و آله: «يكفيك.» في الردع عن اعتقاد الهلكة بالجماع من غير ماء، فيكشف عن جوازه و إن فاتت بسببه الطهارة المائية.

من دون فرق بين أن يكون اعتقاد الهلكة بسبب تفويت الطهارة المائية، و أن يكون لتخيل تفويت الصلاة للغفلة عن تشريع التيمم، إذ لا يحسن الردع عن تخيل الهلكة في الثاني مع لزوم الهلكة في الأول من دون تنبيه عليها.

و بذلك يخرج عن مقتضي القاعدة من وجوب حفظ القدرة علي الواجب الاختياري، و منه الصلاة بطهارة مائية، لأن تشريع البدل الاضطراري لا ينافي عموم

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 12.

ص: 379

______________________________

موضوع الواجب الاختياري لحال الاضطرار و سعة ملاكه، كما هو مقتضي إطلاق دليله، فيقبح تفويته عقلا بالتعجيز، كالواجب الذي ليس له بدل اضطراري، و لا يكون العجز المستند للاختيار عذرا عنه، و إن كان مسقطا لفعليته، و موضوعا لتشريع البدل الاضطراري المفروض عدم وفائه بتمام ملاكه.

و بالجملة: الجمع بين إطلاق دليلي التكليفين الاختياري و الاضطراري ليس بتقييد الأول بالثاني، بنحو يقصر عن مورده موضوعا و ملاكا، كي لا يقبح التعجيز عنه المحقق لموضوع الاضطراري، بل بحمل الثاني علي كونه الميسور في ظرف تعذر الأول، مع تمامية ملاك الأول تبعا لإطلاق دليله، كالتكليف الذي لا بد له، فيقبح التعجيز عنه، و إن كان سببا لتشريع البدل الاضطراري.

و عليه يبتني ما يأتي من عدم جواز نقض الوضوء، و تحريم إراقة مائه و ماء الغسل و غير ذلك مما يذكر في محله.

و لا فرق في قبح التعجيز بين دخول الوقت و عدمه، لوجوب المحافظة علي غرض المولي و قبح تفويته مطلقا مع العلم بتحقق موضوعه في وقته.

و عليه يبتني وجوب تحصيل المقدمات المفوتة و تنجز العلم الإجمالي في التدريجيات و نحو ذلك.

أما لو دل الدليل علي جواز التعجيز مطلقا أو من بعض الجهات- كما في المقام- كشف عن كون التعجيز رافعا لملاك الإلزام، و كان مقيدا لإطلاق دليله، و إن أمكن معه بقاء المشروعية من دون إلزام، فيكون التعجيز مرجوحا غير محرم.

و قد سبق في المسألة الواحدة و الأربعين في أحكام الجبائر ما له نفع في المقام، فراجع.

هذا، و ينسب لظاهر الإسكافي التحريم، و استدل له بما تضمن وجوب الغسل علي من أجنب متعمدا و إن كان مضرا به «1». و كأنه بلحاظ كشفه عن اهتمام الشارع بالطهارة المائية بنحو لا يرضي بتفويتها عند عدم الماء.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب التيمم.

ص: 380

و كان بعد دخول الوقت (1).

______________________________

لكنه لو تمَّ في نفسه لا ينهض بمعارضة ما سبق مع كونه أصح سندا و أوضح دلالة.

(1) كأنه لإطلاق معقد الإجماع و الخبرين السابقين.

و ظاهر جامع المقاصد أنه يحرم بعد الوقت، لأنه بعد أن تعرض لعدم وجوب القضاء علي من صلي بتيمم حتي لو تعمد الجنابة قال: «و يجب أن يستثني منه ما إذا تعمد الجنابة بعد دخول الوقت و هو غير طامع في الماء للغسل، فإنّه بمنزلة من أراق الماء في الوقت، و قد سبق في كلام المصنف قدّس سرّه وجوب الإعادة عليه»، بضميمة ما سبق منه من تحريم الإراقة في الوقت.

و فصّل في المنتهي بين ما إذا كان علي طهارة، أو كان محدثا بالأصغر و كان معه ما يكفي للوضوء فقط، و ما إذا كان محدثا بالأصغر و ليس معه ماء أصلا، فيحرم الجماع بعد الوقت في الأول، لتفويت الواجب، دون الثاني، لتعذر الطهارة المائية عليه، و كما يجتزأ بالترابية من الحدث الأصغر يجتزأ بها من الحدث الأكبر، و هو الذي احتمله في محكي نهاية الاحكام.

لكن سبق أنه لا يفرق في وجوب المحافظة علي الواجب الاختياري بين دخول الوقت و عدمه، كما أنّ أهمية الطهارة الكبري من الصغري- و لو لاشتمال الحدث الأكبر علي الأصغر- بمقتضي المرتكزات المتشرعية تقتضي لزوم حفظ الأولي عند الدوران بينها و بين الثانية.

هذا، مع قطع النظر عن النص، أما معه فاللازم البناء علي الجواز مطلقا.

و دعوي: اختصاص صحيح إسحاق بصورة عدم الماء، و لا تشمل صورة وجود الماء الكافي للوضوء وحده.

مدفوعة- مضافا إلي عدم الاستفصال فيه عما إذا كان علي وضوء قبل الجماع- بأن الظاهر من عدم الماء هو الماء الذي يقتضيه الجماع و هو الكافي للغسل،

ص: 381

______________________________

لا مطلقا و لو لزم صرفه للشرب أو التطهير من الخبث أو كان نجسا أو قليلا يكفي للوضوء أو لا.

نعم، قد يقال: ظاهر صحيح إسحاق أنّ جواز الجماع ليس لعدم اقتضاء ملاك الطهارة المائية للحفظ، بل لصلوح مقتضي الجماع- و هو الشبق و طلب اللذة- لمزاحمته، بنحو يرفع فعلية الإلزام به تخفيفا و منّة، فلا يجري مع إمكان الجمع بينهما عرفا، كما هو الحال في الوقت أو قريبا منه، حيث لا يكون تأخير الجماع عن الصلاة غالبا منافيا عرفا لداعيه، و هو الشبق و طلب اللذة، إلا أن يتعذر إيقاع الصلاة في أول الوقت، أو يكون الشبق شديدا بحيث يكون التأخير بقدر الصلاة منافيا لمقتضاه و مزاحما له عرفا، فيتجه جواز الجماع عملا بإطلاق الصحيح، و هو فرض نادر.

و أما خبر السكوني، فلا إطلاق له، لوروده في قضية خارجية، بل من البعيد جدا من أبي ذر رضي اللّه عنه تقديم الجماع علي الصلاة في الوقت أو قريبا منه.

و أما الاستدلال بقوله صلّي اللّه عليه و آله فيه: «يكفيك الصعيد.» بدعوي: أنّ المورد لا يخصص الوارد.

فيدفعه أنه بعد ارتكاز كون التراب بدلا اضطراريا، و عدم جواز تفويت الطهارة المائية بإراقة الماء و نحوها، فلا بد من حمله علي الكفاية في ظرف الحاجة المزاحمة للطهارة المائية لوجود المقتضي للجماع، لدفع توهم عدم صلوح مقتضية لمزاحمتها، كما هو مقتضي قوله: «هلكت.» و لا إطلاق له يشمل صورة عدم المزاحمة لسهولة تأخيره عن الصلاة لحضور وقتها أو قربه.

و أما الإجماع، فلا مجال لإثبات عموم الجواز به بعد خلاف من عرفت، و عدم تحرير المسألة في كلمات أكثر الأصحاب، و إنما قد تستفاد منهم تبعا، مما ذكروه في مسألة وجوب الإعادة علي المتيمم مع تعمد الجنابة.

فالاقتصار في الخروج عن مقتضي القاعدة الذي عرفته علي المتيقن هو المتعين، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 382

نعم، إذا لم يتمكن من التيمم لا يجوز ذلك (1).

و أما في الوضوء، فلا يجوز لمن كان متوضئا و لم يتمكن من الوضوء لو أحدث أن يبطل وضوءه (2) إذا كان بعد دخول الوقت (3).

مسألة 9 إذا شك في أنه هل حصل الدخول أم لا لا يجب عليه الغسل

مسألة 9: إذا شك في أنه هل حصل الدخول أم لا، لا يجب عليه الغسل (4). و كذا لا يجب لو شك في أنّ المدخول فيه فرج أو دبر أو غيرهما (5).

______________________________

(1) لا قبل الوقت و لا بعده، عملا بالقاعدة المانعة من التعجيز عن الواجب، بعد قصور الأدلة المتقدمة عنه.

لظهور قوله في صحيح إسحاق: «لا يجد الماء» في الإشارة لموضوع التيمم، و هو مورد خبر السكوني لذلك أيضا. مضافا إلي قوله صلّي اللّه عليه و آله: «يكفيك الصعيد»، و كذا الحال في الإجماع المدعي.

نعم، لو لزم الحرج كان مقتضي قاعدة نفيه الجواز. فتأمل.

(2) عملا بالقاعدة المتقدمة مع عدم المخرج عنها، إلا أن يلزم الحرج أو الضرر.

(3) بل قبله، لما عرفت من القاعدة.

و يأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الواحدة و الأربعين من مبحث التيمم، كما يأتي هناك الكلام في إراقة ماء الوضوء و الغسل إن شاء اللّه تعالي.

(4) لاستصحاب الطهارة من الحدث الأكبر، بل لاستصحاب عدم الدخول الحاكم عليه.

(5) لما سبق، و لا مجال لاستصحاب عدم كون المدخول فيه فرجا أو دبرا من باب استصحاب العدم الأزلي، لاختصاص استصحاب العدم الأزلي بلواحق الوجود، دون الأمور و اللوازم التابعة لماهية الموضوع، التي لا يمكن نفيها عنه حتي

ص: 383

مسألة 10 الوطء في دبر الخنثي موجب للجنابة دون قبلها

مسألة 10: الوطء في دبر الخنثي موجب للجنابة (1)، دون قبلها (2)، إلا مع الإنزال فيجب عليه الغسل دونها، إلا أن تنزل هي أيضا (3).

______________________________

بلحاظ ما قبل وجوده.

(1) بناء علي عموم سببية الوطء في الدبر للجنابة، للقطع حينئذ بتحقق السبب، سواء كانت رجلا أم امرأة.

أما بناء علي عدم سببيته مطلقا فلا جنابة قطعا.

كما أنه بناء علي اختصاصه بدبر المرأة أو الغلام، فيكون نظير ما لو أولج في قبلها.

(2) كما صرح به جماعة، لاحتمال كونها رجلا، فيكون المدخول فيه ثقبا لا فرجا، و استصحاب عدم الإيلاج في فرج المرأة محكم في حق الفاعل، كاستصحاب الطهارة من الحدث الأكبر في حق المفعول به.

و عن التذكرة احتمال تحقق الجنابة، أخذا بإطلاق سببية التقاء الختانين.

و يشكل بأن ورود نصوصه في الرجل و المرأة موجب لانصرافها لختانيهما، دون ما يشبههما، بل لعلّه لا يسمي ختانا، لأن الختان هو موضع القطع من ذكر الرجل و فرج المرأة لا مما يشبههما، فلاحظ.

(3) فيجب عليها الغسل بالإنزال.

هذا، إذا لم يكن إنزالها من الفرج علامة علي كونها امرأة مع القول بعموم سببية الإنزال للإنزال من غير الذكر في الرجل و الفرج في المرأة، إذ لو كان إنزالها من الفرج علامة علي كونها امرأة كان الإيلاج فيه سببا للجنابة بلا حاجة للإنزال، و لو اختصت سببية الإنزال بإنزال الرجل من الذكر و المرأة من الفرج لم يكن إنزالها من الفرج سببا لجنابتها ظاهرا، لاحتمال عدم كونه فرج امرأة.

نعم، لو أنزلت من الفرجين معا أو من الذكر حكم بجنابتها، للعلم إجمالا

ص: 384

و لو أدخلت الخنثي في الرجل أو الأنثي مع عدم الإنزال، لا يجب الغسل علي الواطئ و لا علي الموطوء (1). و إذا أدخل الرجل بالخنثي و تلك الخنثي بالأنثي وجب الغسل علي الخنثي (2) دون الرجل و الأنثي (3).

______________________________

بسببية أحد الإنزالين في الأول، و بسببية الإنزال أو الإيلاج في الثاني.

(1) لنظير ما تقدم فيما لو أولج الرجل فيها.

(2) للعلم بجنابتها، إما لأنها فاعل أو مفعول به.

(3) لعدم إحراز سبب الجنابة في حق كل منهما.

نعم، يعلم إجمالا بجنابة أحدهما، فيلحقه ما تقدم في المسألة الثالثة.

هذا كله، بناء علي عدم خروج الخنثي عن أحد القسمين، و إلا اختلف الحال في المقام بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

تنبيه:

من الظاهر أنه في موارد الاحتياط بالغسل لا مجال للاكتفاء به عن الوضوء، لعدم إحراز مشروعيته للجنابة كي يجزئ عنه، فلا بد من ضم الوضوء إليه مع الحدث الأصغر برجاء المشروعية، بل يمكن الجزم بها مرددا بين الوضوء الرافع و التجديدي، بناء علي ما سبق في فصل غايات الوضوء من مشروعية الوضوء التجديدي مع غسل الجنابة.

و قد ذكر في العروة الوثقي أنّ الأولي أن يفصل بين الوضوء و الغسل بالحدث الأصغر، لعدم جواز الوضوء مع غسل الجنابة المفروض احتماله في الغسل المذكور.

لكن لو جي ء بالوضوء احتياطا برجاء المشروعية، فعلي تقدير كون الغسل

ص: 385

______________________________

مشروعا لتحقق الجنابة لا يكون الوضوء حقيقيا، بل صوريا، فلا يضر جمعه مع الغسل، كما لو اغتسل للجنابة، ثمَّ احتمل صدور الحدث الأصغر منه فتوضأ احتياطا.

و جعل مجرد المشابهة منشأ للأولوية غير ظاهر.

بل الأولي الإتيان بالوضوء مع الجزم بالمشروعية مرددا بين الرافع و التجديدي، كما ذكرنا.

ص: 386

الفصل الثاني فيما يتوقف صحته أو جوازه علي غسل الجنابة
اشارة

الفصل الثاني فيما يتوقف صحته أو جوازه علي غسل الجنابة و هو أمور.

الأول الصلاة

الأول: الصلاة (1) مطلقا، عدا صلاة الجنائز (2)،

______________________________

(1) بلا ريب، بل هو بديهي، كما في مفتاح الكرامة.

و يقتضيه الكتاب المجيد، و السنة المستفيضة المتضمنة شرطية الصلاة بالطهارة «1»، و وجوب إعادتها مع عدمها «2»، و عدم الغسل «3» و تبين نقصه «4»، و وجوب التيمم لها بدلا عنه «5»، و غير ذلك.

بل هو مقتضي ما دل علي اعتبار الوضوء في الصلاة، إما للأولوية، أو لما تقدم من ناقضية الجنابة للوضوء.

(2) إما لأن إطلاق الصلاة عليها مجازي- كما صرح به بعضهم- أو للأدلة الخاصة المخرجة عن عموم اعتبار الطهارة في الصلاة التي يأتي التعرض إليها في محلها إن شاء اللّه تعالي.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب الوضوء و باب: 14 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء.

(3) راجع الوسائل باب: 10، 29 من أبواب الجنابة، و باب: 1 من أبواب قضاء الصلوات.

(4) راجع الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة.

(5) راجع الوسائل باب: 14، 16، 19، 21، 24، 25 و غيرها من أبواب التيمم.

ص: 387

و كذا أجزاؤها المنسية (1)، بل سجود السهو علي الأحوط وجوبا (2).

الثاني الطواف

الثاني: الطواف الواجب (3)

______________________________

(1) يظهر الوجه فيه مما تقدم في غايات الوضوء.

(2) يظهر الكلام فيه مما تقدم في غايات الوضوء.

(3) بالإجماع، كما في المفاتيح و عن نهاية الاحكام و الذخيرة و محكي الدلائل، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه»، و هو مقتضي إطلاق معقد الإجماع في الخلاف و الغنية و المنتهي.

و يقتضيه- مضافا إلي ما دل علي اشتراط الوضوء فيه، بضميمة ما سبق من الأولوية، و أنّ الجنابة من نواقضه- صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل طاف بالبيت و هو جنب، فذكر و هو في الطواف. قال: يقطع الطواف و لا يعتد بشي ء مما طاف. و سألته عن رجل طاف ثمَّ ذكر أنه علي غير وضوء، قال: يقطع طوافه و لا يعتد به» «1».

هذا، و التقييد بالواجب هو المصرح به في النهاية و المبسوط و التهذيب، و هو مقتضي إطلاق ما في الشرائع و المنتهي و القواعد من عدم اعتبار الطهارة في المندوب، و صريح جملة من الأصحاب في مقام الاستدلال.

لكن لا يخفي أن إطلاق صحيح ابن جعفر يعم المندوب.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من ظهوره في الواجب بقرينة ذيله، غير ظاهر، لقرب كون كل من الصدر و الذيل كلاما مستقلا، بل لعله الظاهر من تكرار قوله:

«و سألته»، كما ذكرناه في نظائره.

علي أن تقييد حكم الذيل بالواجب ليس مستفادا من نفس الكلام، ليصلح للقرينية علي الصدر، بل من دليل منفصل، و تقييد أحد الحكمين في الكلام الواحد لا يقتضي تقييد الآخر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 4.

ص: 388

______________________________

و أما ما دل علي صحة الطواف المندوب علي غير وضوء، فهو لا يقتضي صحته مع الجنابة، ليخرج عن مقتضي الإطلاق المذكور، و إن كان ظاهر غير واحد جريهما علي نهج واحد، منهم الشيخ في التهذيب، حيث استدلوا بالنصوص المذكورة علي صحة طواف النافلة من الجنب و نحوه ممن هو محدث بالأكبر، و كأنه لفهم عدم الخصوصية منها، للمفروغية عن عدم الفرق بين مراتب الطهارة. و هو لا يخلو عن إشكال، فلاحظ.

هذا، و لا يخفي أنّ الأثر إنما يظهر في الجاهل و الناسي، كما ذكره غير واحد، حيث يصح منه الطواف المستحب بناء علي عدم اشتراطه بالغسل، فتشرع له صلاته بعد الغسل.

أما العامد، فحيث يحرم منه الكون في المسجد الحرام مطلقا، يتعذر عليه الطواف المستحب أيضا، لامتناع التقرب منه به مع ذلك.

و دعوي: أنّ الطواف إن كان متحدا مع الكون في المسجد كان تحريم الكون في المسجد علي الجنب مستلزما لخروج طوافه عن عموم استحباب الطواف، فلا يصح حتي مع الجهل و الغفلة عن الجنابة، لحرمة الكون في المسجد واقعا، و إن كان مباينا للكون المذكور ملزوما له- كما هو الظاهر- فتحريمه لا يمنع من التقرب بالطواف حتي مع العمد.

مدفوعة بأنّ الشروع في الطواف لما كان مبنيا علي قصد إكماله بالاستمرار في الكون المحرم، كان مبنيا علي التجرؤ بقصد الكون المذكور، فيمتنع التقرب به لمبعدية التجرؤ، نظير ما سبق منا في الوضوء من الإناء المغصوب تدريجا في المسألة الستين من مباحث الوضوء.

نعم، لو التفت الجاهل أو الناسي في أواخر الطواف، بحيث لا ينافي إكماله فورية الخروج أمكن إكماله، بناء علي عدم اعتبار الغسل في الطواف المستحب.

ص: 389

بالإحرام مطلقا (1)، كما تقدم في الوضوء.

الثالث الصوم

الثالث: الصوم، بمعني: أنه لو تعمد البقاء علي الجنابة حتي طلع الفجر بطل صومه. و كذا صوم ناسي الغسل علي تفصيل يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي (2).

الرابع مس كتابة القرآن

الرابع: مس كتابة القرآن الشريف (3)،

______________________________

(1) يعني: ما يكون جزءا من حج أو عمرة، بلحاظ وجوب إكمالهما بالشروع فيهما بالإحرام و إن كانا مستحبين بالأصل، فيكون الإحرام سببا لوجوب الطواف المذكور.

و قد سبق في غايات الوضوء أنّ ذلك هو المراد من الواجب في مقابل الطواف المبتدأ، الذي هو مستحب في الأصل و إن وجب بنذر أو إجارة أو نحوهما.

و قد سبق الكلام في استحباب الوضوء له، و هو جار في الغسل، فراجع.

(2) كما يأتي بعونه تعالي الكلام في دليله.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 390

(3) إجماعا، كما في الخلاف و الغنية و الروض، و ظاهر مجمع البيان، بل التبيان، و عن الموجز، بل في المعتبر و المنتهي أنّ عليه إجماع علماء الإسلام، و عن التذكرة أنّ عليه إجماعهم إلا داود.

خلافا لما عن ابن الجنيد من الحكم بالكراهة، و حكاه في المدارك و الرياض عن المبسوط، و عن المقداد نسبته للقاضي. لكن الموجود في المبسوط عده في المحرمات، و في الجواهر: أنّ المنقول من عبارة القاضي في المهذب صريح في الحرمة. إلا أن يكون في غيره، و لم ينقل عنه أحد غير المقداد ذلك. انتهي. و عن الذكري احتمال إرادة ابن الجنيد من الكراهة الحرمة، لكثرة ذلك منه.

و مما سبق في فصل غايات الوضوء يظهر انحصار الدليل عليه بموثق

ص: 390

______________________________

أبي بصير أو صحيحه، المتضمن النهي عن مس الكتاب علي غير وضوء «1»، بضميمة ما أشرنا إليه قريبا من أولوية الغسل من الوضوء، و ناقضية الجنابة للوضوء.

مع اعتضاده بخبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال:

المصحف لا تمسّه علي غير طهر و لا جنبا، و لا تمس خطه، و لا تعلقه، إنّ اللّه تعالي يقول لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «2»، علي كلام تقدم هناك.

و بحديث محمد بن مسلم: «قال أبو جعفر عليه السّلام: الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب و يقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة.» «3».

و بالنبوي المروي مرسلا في المعتبر و المنتهي: «لا يمس القرآن إلا طاهر» «4».

و الرضوي: «و لا تمس القرآن إذا كنت جنبا أو علي غير وضوء، و مس الأوراق» «5».

و لا يهم مع ذلك عدم نهوض الآية بالاستدلال علي ما تقدم هناك.

و منه يظهر ضعف ما في المدارك من أنّ المتجه القول بالكراهة، لأن الأخبار المستدل بها لا تخلو عن ضعف في السند أو الدلالة، و الآية محتملة لمعان، إلا أنّ المنع أحوط و أنسب بالتعظيم. انتهي.

هذا، و قد تقدم في غايات الوضوء الكلام في فروع المس بما يغني عن الكلام فيها هنا.

نعم، سبق هناك نقل الإجماع من المعتبر و المنتهي علي جواز مس غير المتوضئ ما عدا الخط من المصحف، و الاستدلال عليه.

أما هنا، فقد حكي في المنتهي عن المرتضي تحريم مس المصحف للجنب، مستدلا عليه بخبر إبراهيم بن عبد الحميد المتقدم، و هو الظاهر من الصدوق في المقنع، حيث قال: «و لا يجوز لك أن تمس المصحف و أنت جنب،

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(4) المعتبر ص: 49، و المنتهي ج: 1 ص: 87.

(5) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 1.

ص: 391

و مس اسم اللّه تعالي (1)،

______________________________

و لا بأس أن يقلب لك الورق غيرك و تنظر فيه و تقرأ».

و فيه: أنّ الخبر- مع ضعف سنده- محمول علي الكراهة كما تقدم هناك، و التفكيك في ذلك بين الجنب و من هو علي غير وضوء لا يناسب السياق.

و أما حديث محمد بن مسلم المتقدم، فلو تمَّ سنده غير صريح في حرمة مس ما عدا الكتابة، لوضوح عدم وجوب الفتح من وراء الثوب ذاتا، بل لتجنب المس المحرم و كما يمكن أن يكون الفرض منه تجنب مس تمام المصحف يمكن أن يكون الغرض منه تجنب خصوص مس الكتابة للتعرض لها بدونه.

مع أنّ كثرة الابتلاء بذلك تمنع من خفاء الحرمة عادة علي الأصحاب، حتي أهملوا التنبيه عليها، بل صرح بعضهم بالكراهة بنحو يظهر منه المفروغية عنه، فلاحظ.

(1) كما في المقنعة و التهذيب و المبسوط و النهاية و الغنية و المراسم و الوسيلة و إشارة السبق و الشرائع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و التحرير و اللمعتين و الروض، و عن السرائر و المهذب و الإصباح و الجامع و أحكام الراوندي و التذكرة و الدروس و البيان و غيرها، بل في الحدائق و عن نهاية الاحكام نفي الخلاف فيه، و في المنتهي- بعد الاعتراف بضعف الرواية- أنّ عمل الأصحاب يعضدها، بل في الغنية الإجماع عليه.

لكن في المدارك و عن الأردبيلي و الكفاية التوقف في دليله، بل قد يظهر من المعتبر، لأنه و إن حكم بالحرمة في صدر كلامه و استدل عليه بالموثق الآتي، إلا أنه قال: «الرواية ضعيفة السند، لكن مضمونها مطابق لما يجب من تعظيم اللّه سبحانه، و روي البزنطي.» ثمَّ ذكر حديثي محمد بن مسلم و أبي الربيع الظاهرين في الجواز.

بل أنكره في المستند، و هو الظاهر من النافع، حيث اقتصر علي تحريم مس القرآن، و مثله الصدوق في الفقيه و الهداية و المقنع، و قريب منه الكليني، حيث

ص: 392

______________________________

اقتصر في أحكام الجنب علي الخبر المتضمن تحريم مس الكتاب، بل في مفتاح الكرامة أنه لم ينقل القول بالتحريم عمن تقدم علي الشيخين، و في كشف اللثام أنّ ظاهر من تقدم عليهما عدمه.

و كيف كان، فقد استدل له بموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يمس الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّه تعالي، و لا يستنجي و عليه خاتم و فيه اسم اللّه، و لا يجامع و هو عليه، و لا يدخل في المخرج و هو عليه» «1».

لكن لما كان واردا في الدراهم و الدنانير، فمن القريب جدا حمله علي الكراهة- كما هو المناسب لسياقه- جمعا بينه و بين صحيح إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السّلام: «سألته عن الجنب و الطامث يمسان أيديهما [بأيديهما يب، صا] الدراهم البيض؟ قال: لا بأس» «2».

و ما في المعتبر قال: و في جامع البزنطي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض و هو جنب؟ فقال: و اللّه إني لأوتي بالدرهم فآخذه و إني لجنب» و ما سمعت أحدا يكره من ذلك [شيئا إلا. ظ] أنّ عبد اللّه بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا يقول: جعلوا سورة من القرآن في الدرهم فيعطي الزانية و في الخمر و يوضع علي لحم الخنزير، و في كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن أبي الربيع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الجنب يمس الدراهم و فيها اسم اللّه و اسم رسوله، فقال: لا بأس، ربما فعلت ذلك» «3».

و حملها علي ما إذا خلت الدراهم عما يحرم مسه علي الجنب- مع امتناعه في الأخيرين- بعيد جدا، لأن ذلك هو المنشأ للسؤال، و لاشتمال جميع الدراهم الإسلامية الرائجة في عصر صدور النصوص المذكورة علي شي ء من القرآن و أسمائه تعالي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) المعتبر ص: 50 راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث: 3، 4.

ص: 393

______________________________

و مثله حملها علي مس ما عدا الكتابة، علي ما تقدم في غايات الوضوء في الفرع الثاني من فروع المس التي استدركناها.

كما تقدم هناك دفع الإشكال في النصوص المذكورة بإعراض الأصحاب عنها.

بل تقدم اعتضادها بسيرة المتشرعة لاشتمال جميع الدراهم و الدنانير في أكثر عصور الأئمة عليهم السّلام علي شي ء من القرآن و علي اسم اللّه تعالي و اسم النبي صلّي اللّه عليه و آله فلو كان البناء علي الاجتناب للزم الهرج و المرج و ناسب كثرة الأسئلة عن ذلك و عن فروعه.

و لذا استقربنا استثناءها من عموم حرمة مس الكتاب و أسمائه تعالي لو تمَّ، كما حكي عن كشف الالتباس و الموجز، و يظهر من الروض الميل إليه.

ثمَّ إنه سبق في غايات الوضوء أنه لا مجال لاستفادة حرمة مس أسمائه تعالي مما تضمن حرمة مس الكتاب بالأولوية، لاحتمال خصوصية القرآن في التعظيم الخاص، كما اختص بكراهة قراءة الجنب و الحائض له في الجملة، بل حرمة قراءتهما للعزائم منه، مع أنّ ذكره تعالي حسن علي كل حال. كما سبق هناك بعض وجوه الاستدلال و دفعها، و لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، فراجع.

و أما الاستدلال له بمطابقته لما يجب من تعظيم اللّه سبحانه- كما سبق من المعتبر- فيندفع: بعدم الدليل علي وجوب التعظيم لو تمَّ منافاة المس له في المقام، بل غاية الأمر رجحانه، و إنما الثابت بالمرتكزات حرمة التوهين، و هو غير لازم من مس الجنب عرفا.

لكن دافع عن ذلك في الجواهر.

تارة: بأنّ العرف و إن لم يدركوا بأنفسهم التوهين بالجنابة، إلا أنهم يحكمون به بمؤانسة الشرع، بلحاظ منع الجنب من دخول المساجد و مس القرآن و نحوهما.

و أخري: بدعوي أنه يمكن استفادة وجوب التعظيم من قوله تعالي:

ص: 394

علي ما تقدم في الوضوء (1).

______________________________

وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ «1» غاية الأمر عدم وجوب زيادة التعظيم للأصل و السيرة و عدم تناهي أفراده.

و يندفع الأول، بأنّ العرف بعد عدم إدراكه التوهين بالجنابة لا معني لحكمه به بمؤانسة الشرع، إلا أن يرجع إلي فهمه من سليقة الشارع ملازمته له بنظره الشريف، و لا مجال لاستفادته من الأحكام المذكورة، لإمكان ابتنائها علي وجوب مراتب خاصة من التعظيم في مواردها لا دليل علي وجوبها في المقام.

و لذا أمكن التفكيك بين اللبث في المساجد و الاجتياز بها من دون أن يدرك العرف فرقا بينهما في التوهين.

كما يندفع الثاني- مضافا إلي عدم وضوح منافاة مس الجنب لأدني مراتب التعظيم- بعدم خلو الشعائر في الآية عن الإجمال، و قرب كون المراد من التعظيم فيها التعظيم النفسي المستلزم المحافظة عليها و القيام بمقتضاها، لا التعظيم الخارجي، و عدم ملازمة كون الشي ء من تقوي القلوب لوجوبه، لأن المستحب من شؤون التقوي أيضا، و لذا لو كانت الآية فيما نحن فيه كانت دالة علي الحث علي أعلي مراتب التعظيم مع اعترافه بعدم وجوبه.

بل لا يظن من أحد دعوي عموم وجوب أدني مراتب التعظيم لكل ما ينتسب له تعالي، فلا يصلح ما ذكره للاستدلال. و اللّه سبحانه و تعالي العالم بحقيقة الحال.

(1) فقد سبق منه أن ترك مس الاسم الشريف مقتضي الاحتياط الوجوبي، و تقدم منا هنا و هناك ما يضعف معه الاحتياط، كما سبق كثير من الفروع المتعلقة بالمقام، التي يغني الرجوع لما سبق عن النظر فيها هنا.

و الذي ينبغي التعرض له في المقام أمران:

______________________________

(1) سورة الحج: 32.

ص: 395

______________________________

الأول: أنّ المذكور في المتن حرمة مس الاسم الشريف، و به صرح في المقنعة و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و المراسم و المعتبر و المنتهي و اللمعة و جامع المقاصد و كشف اللثام و محكي السرائر و التذكرة و التحرير و غيرها.

لكن في المبسوط و النهاية حرمة مس ما عليه الاسم الشريف، و به عبر في الشرائع و القواعد و الإرشاد و محكي نهاية الاحكام و الدروس و البيان و غيرها، بل نسبه في كشف اللثام للأكثر، و هو الموافق للسان الموثق.

إلا أنه استظهر غير واحد أنه راجع للأول و لو لحمل ما عليه الاسم علي خصوص موضعه و ظرفه- كما احتمله في كشف اللثام- دون تمام الجسم الذي كتب عليه و إن كان أوسع منه.

و ما ذكروه قريب، بلحاظ المناسبات الارتكازية الموجبة لانصراف كلماتهم لذلك، خصوصا مع تصريحهم بجواز مس أوراق القرآن مع عدم خلوها عن اسمه تعالي غالبا.

كما أنّ ذلك هو المنصرف من الموثق أيضا، بلحاظ المناسبات الارتكازية المذكورة، خصوصا مع كون مورده الدرهم و الدينار اللذين يستلزم مسّهما غالبا مس ما عليهما من الكتابة لصغرهما، و إلا فمن البعيد جدا حرمة مس اللوح العظيم الذي عليه الاسم الشريف، بل لا ينبغي التأمل في جوازه، كما صرح به بعضهم.

نعم، لا مجال للاستدلال عليه بما تضمن جواز مس أوراق المصحف، لا بالإطلاق، لورود المهم من دليله اللفظي فيمن هو علي غير وضوء، و المنصرف منه غير الجنب، و لا بالأولوية- كما قد يظهر من جامع المقاصد- لعدم ثبوتها.

و غاية ما يدل عليه الرضوي المتقدم الذي لا يصلح للاستدلال.

الثاني: ألحق الشيخ في المبسوط و محكي الجمل و المصباح و مختصره باسمه تعالي أسماء الأنبياء و الأئمة صلوات اللّه عليهم، و وافقه علي ذلك في الغنية و الوسيلة و الإرشاد و التبصرة و اللمعتين و جامع المقاصد، و ربما يقتضيه إطلاق الأسماء الشريفة في إشارة السبق، و هو المحكي عن السرائر و المهذب و الإصباح

ص: 396

______________________________

و الجامع و أحكام الراوندي و الذكري، بل سائر كتب الشهيدين و المحقق الثاني، بل حكاه في كشف اللثام عن المقنع، و في المعتبر و المنتهي و غيرهما عن المفيد، لكن لم أجده في المقنع و المقنعة، و في الروضة أنه المشهور، و نسبه إلي الأصحاب في محكي الجعفرية، و إلي أكثرهم تارة و إلي كبرائهم أخري في جامع المقاصد، بل ادعي في الغنية الإجماع عليه.

و به استدل في الجواهر، كما استدل غير واحد بمناسبته للتعظيم.

لكن لا مجال لدعوي الإجماع، فضلا عن الاستدلال به، مع ظهور الخلاف ممن يأتي.

و مناسبته للتعظيم لا تنهض بإثبات التحريم، كما سبق نظيره.

و من ثمَّ لم يحكم به في المعتبر و المنتهي و التحرير، و هو ظاهر كشف اللثام و غير واحد ممن لم يتعرض له في أحكام الجنب و اقتصر علي مس الكتاب- كمن سبق- أو علي إضافة اسم اللّه تعالي إليه، كما في المقنعة و النهاية و المراسم و الشرائع، و قد يظهر من الروض التوقف في دليله.

بل في صلوح التعظيم لإثبات الكراهة إشكال، و إن رجحه في المعتبر و المنتهي و التحرير و ظاهر كشف اللثام.

هذا، و في مفتاح الكرامة: «و كذا اسم الزهراء عليها الصلاة و السلام، لأنها كالأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و قد صرح بذلك بعض الأصحاب كصاحب الروض».

و ما ذكره هو المناسب للاستدلال بالتعظيم، لكن لم أجده في الروض.

ثمَّ إنه قيد الحكم في الروضة بما إذا قصد بالاسم أحدهم عليهم السّلام.

و في الجواهر: أنه الأولي، فلا يجري بالنسبة لأسماء الناس و إن قصد بها التشرف.

مع احتمال التعميم- كما يقتضيه إطلاق الباقين- و جعله كاسم اللّه. انتهي.

لكن التعميم بعيد جدا.

و الظاهر قصور إطلاقهم عنه، لظهور الإضافة في الاختصاص، و لا مصحح له

ص: 397

الخامس اللبث في المساجد

الخامس: اللبث في المساجد، بل مطلق الدخول فيها (1)،

______________________________

مع الاشتراك إلا بالقصد. و كذا الحال في اسم اللّه.

و أما لفظ الجلالة، فلا اشتراك فيه، لعدم بناء أحد علي التسمية به، بل لا يبعد بناؤهم علي حرمته.

نعم، قد يجري ذلك في الأسماء المضافة له، كعبد اللّه، علي ما سبق الكلام في غايات الوضوء، و لو تمَّ قد يتجه البناء عليه فيما يضاف لأسمائهم عليهم السّلام.

(1) اختلفت عباراتهم في بيان موضوع الحكم، حيث عبر عنه.

تارة: بالإتيان، كما في المقنع.

و اخري: بالقرب، كما في المقنعة.

و ثالثة: باللبث، كما في الخلاف و التحرير و اللمعة و مبحث أحكام الجنب من المنتهي و الإرشاد و المسالك، و عن نهاية الاحكام و الألفية و الكفاية و غيرها.

و رابعة: بالاستيطان، كما في التذكرة و المختلف و عن المهذب البارع و المقتصر و شرح الموجز.

و خامسة: بالجلوس، كما في مبحث أحكام الجنب من الشرائع و القواعد، و عن السرائر.

و سادسة: بالدخول، كما في الفقيه و الهداية و المبسوط و النهاية و الغنية و الوسيلة و إشارة السبق و النافع و المعتبر و مبحث ما يجب له الغسل من الشرائع و القواعد و الإرشاد و المنتهي و المسالك و عن غيرها.

و الظاهر رجوع الكل لأمر واحد، كما يناسبه عدم تنبيه كثير منهم علي الفرق بين العناوين المذكورة، و ظهور حال من نبه له في المفروغية عن الاتفاق في الفتوي و أنّ القصور في التعبير لا غير، و اختلاف التعبير من الشخص الواحد، و في الكتاب الواحد، و استدلالهم بما لا يتضمن عبارة الفتوي، و غير ذلك مما يظهر بسبر كلماتهم، و ملاحظة المناسبات الارتكازية الصالحة للقرينية عليها.

ص: 398

______________________________

كما أن المحرم عندهم هو مطلق الكون- عدا ما استثني- بالمعني الاسم المصدري و إن لم يصدق معه شي ء من العناوين المذكورة [1]، كما لو أوقف المكان الذي يمشي فيه الجنب مسجدا، فيجب عليه المبادرة بالخروج منه، كما يجب لو لم يكن الدخول محرما لاضطرار أو إجبار أو إكراه، كما أنه لو كان محرما كان عدم المبادرة بالخروج موجبا لزيادة الإثم.

و هو الظاهر من جامع المقاصد، حيث عبر باللبث ثمَّ ألحق به التردد و قال:

«لأن الجواز مقصور علي الاجتياز» و نحوه ما في المسالك و عن المقتصر لابن فهد، و هو المناسب لما يظهر منهم من احتياج المستثنيات للدليل.

و كيف كان، فأصل الحكم هو المعروف بين الأصحاب، و قد تكرر نقل الشهرة عليه في كلماتهم، بل في الخلاف و الغنية و مبحث ما يجب له الغسل من الروض دعوي الإجماع عليه، لكن في مبحث أحكام الجنب منه نقل الخلاف عن سلّار، كما نقله عنه غير واحد، و هو المطابق لما في المراسم من عدّه من التروك المندوبة، و في المنتهي و عن كشف الرموز أنه لا يعرف الخلاف عن غيره، بل استظهر في الحدائق انحصار الخلاف به.

و يشهد للمشهور قوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ. وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا. «2»، فإنّ صدره و إن كان ظاهرا في إرادة القرب من نفس الصلاة و إخلال الكسر بها بالنحو الموجب لعدم تمييز ما يقال فيها، إلا أنّ الاستثناء في ذيله يناسب إرادة مكانها، و هو المسجد.

و من ثمَّ، لا يبعد التفكيك فيها بين السكر و الجنابة بجعل الأول مانعا من الصلاة وضعا، و الثاني من الكون في المسجد تكليفا، نظير الاستخدام.

______________________________

[1] لا يبعد مطابقة الكون في المسجد بالمعني الاسم المصدري للّبث لغة، إلا أنّ ظهور كلمات بعضهم في مباينة الاجتياز له و عدم كونه من أفراده موجب لظهور إرادتهم منه الاستقرار، كما هو الظاهر مما يأتي من جامع المقاصد. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) سورة النساء: 43.

ص: 399

______________________________

أو يحملان معا علي المانعية من الصلاة وضعا، و يحمل الاستثناء علي التوسع بتقدير مستثني منه مناسب له، فكأنه قيل: لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ- وَ لٰا جُنُباً، بل لا تقربوا مكانها جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ، نظير الاستثناء المنقطع.

و لعل الثاني أقرب للمرتكزات الاستعمالية، و الأول أقرب بالنظر للنصوص الواردة في تفسير الآية المتضمن بعضها النهي عن السكر في الصلاة، و بعضها النهي عن دخول المسجد للجنب إلا اجتيازا.

فمن الأولي، صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: و لا تقم إلي الصلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّها من خلال النفاق، فإنّ اللّه سبحانه نهي المؤمنين أن يقوموا إلي الصلاة و هم سكاري، يعني: سكر النوم.» «1».

و صحيح زيد الشحام أو موثقه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قول اللّه عز و جل لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ، قال: سكر النوم» «2» و غيرهما «3».

و من الثانية، صحيح زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلنا له: الحائض و الجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال: الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، إنّ اللّه تبارك و تعالي يقول وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا. «4».

و نحوه مراسيل القمي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام «5»، و العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «6» و الطبرسي في مجمع البيان عنه عليه السّلام «7».

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 3.

(3) تفسير العياشي في تفسير الآية ج: 1 ص: 242.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(5) تفسير علي بن إبراهيم القمي ج: 1 ص: 139 طبع النجف الأشرف، و أشار إليه في الوسائل في ذيل صحيح زرارة و محمد بن مسلم.

(6) تفسير العياشي في تفسير الآية ج: 1 ص: 243.

(7) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 20.

ص: 400

______________________________

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في الاستدلال بالآية في المقام و لو بضميمة تفسيرها في النصوص المذكورة.

مضافا للنصوص الكثيرة الواردة في المقام الناهية عن الجلوس في المساجد و القعود فيها و إتيانها، و قد عقد لها في الوسائل الباب الخامس عشر من أبواب الجنابة.

و منه يظهر ضعف ما تقدم من المراسم من جعله من التروك المندوبة، فإنّه خروج عن ظاهر ما تقدم، و لا سيما مع استثناء الاجتياز فيها، فإنّه مكروه، لما تضمن النهي عن اتخاذ المساجد طرقا «1».

و لا ينافيه التعبير عنه بالكراهة و لا سياقه في جملة من المكروهات في غير واحد من النصوص «2»، بل في الآية، بناء علي تفسير السكر بما يعم النعاس، كما هو ظاهر صحيح زرارة السابق، لعدم صلوح ذلك للخروج عن ظاهر ما تقدم بعد مألوفية حمل الكراهة علي ما يعم الحرمة، و التفكيك بين فقرات الكلام الواحد في الحرمة و الكراهة.

و ربما يحمل الإتيان في النصوص المذكورة علي الاجتياز، فلاحظ.

و أشكل من ذلك الاستدلال له بما في حديث محمد بن القاسم: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال: يتوضأ و لا بأس أن ينام في المسجد و يمر فيه» «3».

لأن التنبيه فيه بعد الحكم بجواز النوم علي جواز المرور المستثني في الآية و النصوص من عموم الحرمة، ظاهر في حرمة ما عداهما علي الجنب، لظهوره في المفروغية عن منافاة الجنابة للكون في المسجد، و أنّ الغرض بيان المستثنيات منه، فلا يصلح شاهدا لما في المراسم، بل هو علي خلافه أدل.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 67 من أبواب أحكام المساجد.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 7، 8، 9، 15، 16.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 18.

ص: 401

______________________________

و يأتي الكلام فيه عند الكلام في المستثنيات إن شاء اللّه تعالي.

علي أن كثرة الابتلاء بالحكم مانع عادة من خفائه علي الأصحاب من القدماء و المتأخرين الذين يظهر منهم التسالم علي الحرمة.

هذا، و نصوص المقام قد تضمنت النهي عن الجلوس و القعود، كما تضمنت جواز المشي و المرور و الاجتياز.

ففي معتبرة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: للجنب أن يمشي في المساجد كلها و لا يجلس فيها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله» «1».

و في صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال:

لا و لكن يمر فيها كلها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله» «2».

و نحوه صحيح محمد بن حمران عنه عليه السّلام «3»، و غيره مما تضمن النهي عن الجلوس و تحليل المرور.

و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام أنه قال في الحائض و الجنب:

«و يدخلان المسجد مجتازين و لا يقعدان فيه، و لا يقربان المسجدين الحرمين» «4».

و الظاهر أنّ المراد بالاجتياز هو اجتياز نفس المسجد باختراقه و جعله طريقا، لأن ذلك هو المنصرف منه، دون الاجتياز فيه بالمرور من مكان منه إلي مكان آخر منه، فهو إشارة لعبور السبيل الذي تضمنته الآية الشريفة، و التي استدل بها عليه في صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم، كما أنّ ذلك هو ظاهر المرور في النصوص أيضا، لانصرافه منه، و ظهور كون المراد منها الإشارة للاجتياز و عبور السبيل الذي تضمنته الآية و بقية النصوص.

و حينئذ فالنصوص لما تضمنت النهي عن الجلوس و القعود و تحليل

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 17.

ص: 402

______________________________

الاجتياز و المرور، فالظاهر عدم خصوصية الجلوس و القعود في الحرمة، و عمومها لكل ما لا يكون مرورا و اجتيازا، لأنه المناسب للتعظيم الذي هو منشأ التحريم ارتكازا، في مقابل الاجتياز الذي تخفّ فيه جهة المنافاة للتعظيم من حيثية الجنابة، لابتناء الكون في المسجد معه علي نحو من العرضية غير المخلة به، فإلغاء خصوصية الجلوس و القعود في التحريم أقرب ارتكازا من إلغاء خصوصية الاجتياز في التحليل.

و لا سيما بملاحظة صحيحي جميل و محمد بن حمران المتقدمين، فإنّ استدراك المرور فيهما بعد النهي عن الجلوس ظاهر في اختصاص التحليل به، لأنه إنما يحسن مع عموم المستدرك منه، المبتني علي إلغاء خصوصية الجلوس في التحريم، نظير الاستثناء المنقطع.

هذا، مضافا إلي صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم المتضمن النهي عن دخول المسجد إلا اجتيازا، و الاستدلال بالآية الناهية عن قربه إلا بنحو العبور، لقوة ظهور الاستثناء في عموم الحرمة لكل ما لا يكون عبورا و لا اجتيازا.

و منه يظهر لزوم رفع اليد عن إطلاق جواز المشي في معتبرة جميل المتقدمة، تقييدا له بما سبق، أو جعل ما سبق قرينة علي الكناية بالمشي عن الاجتياز، فإنّه أهون من رفع اليد عن ظهور ما سبق في انحصار الجواز بالاجتياز.

و يأتي في فروع مسألة وجوب التيمم علي المحتلم في أحد المسجدين ما له نفع في المقام.

ثمَّ إنّ المناسبات الارتكازية تقضي بحمل القرب و الدخول المنهي عنهما في الآية و النصوص علي القرب و الدخول بالمعني الاسم المصدري، لا بالمعني المصدري، لأنه المنافي للتعظيم، و المناسب لاستثناء الاجتياز، لأنه من أفراده، و لو أريد منهما المعني المصدري لكان مرجع استثنائه إلي استثناء حال الأول إليه أو قصده، و كلاهما خلاف الظاهر.

كما أنه مقتضي الجمع بين النهي عنهما و النهي عن الجلوس في المسجد،

ص: 403

و إن كان لوضع شي ء فيها (1).

نعم، يجوز الدخول لأخذ شي ء منها (2)،

______________________________

لوضوح أنّ الجلوس من القرب و الدخول بالمعني الاسم المصدري، و هو أولي من حملهما علي المعني المصدري و الالتزام بكون الجلوس محرما آخر مترتبا عليهما، أو بكون مرجع حرمته إلي حرمة مقدمته و هو الدخول و القرب بالمعني المصدري.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل، بعد النظر في مجموع أدلة المسألة، فيما ذكرنا من عموم موضوع التحريم لمطلق الكون في المسجد من دون خصوصية للعناوين المذكورة في بعض النصوص و كلمات الأصحاب، و لذلك سبق حمل كلماتهم عليه.

(1) فقد صرح الأصحاب بتحريم وضع شي ء في المسجد علي الجنب، و ادعيت الشهرة عليه من غير واحد، بل في الغنية و عن ظاهر كشف الرموز الإجماع عليه، و عن التنقيح أنه لا يعرف الخلاف فيه من غير سلار، بل نفاه عن غيره صريحا في المنتهي و المدارك و الحدائق، مشيرين بذلك إلي ما في المراسم من جعله من التروك المندوبة.

فإن كان محل كلامهم الدخول في المسجد لوضع شي ء فيه من دون اجتياز كان مما نحن فيه، و إن كان محل كلامهم وضع الشي ء و لو بدون الدخول كان تحريم الدخول للوضع مستفادا من عدم استثنائهم له من عموم حرمة الدخول.

و منه يظهر الوجه في الحكم المذكور، لأن ذلك جار في النصوص الناهية عن وضع شي ء في المسجد، التي يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالي، فيستفاد التحريم منها، أو من عموم حرمة الدخول، الذي سبق الدليل عليه.

(2) صرح جملة من الأصحاب بجواز أخذ الشي ء من المسجد للجنب، و في الجواهر: «بلا خلاف أعرفه فيه»، بل ادعي في الرياض و المستند الإجماع عليه، و هو غير بعيد بعد شيوع الفتوي منهم بحرمة وضع شي ء في المسجد، مع اتحاد دليلهما،

ص: 404

______________________________

و لعل عدم ذكر جماعة له- كما يأتي- لأنهم بصدد بيان ما يحرم علي الجنب، دون ما يحل له.

و كيف كان، فظاهر المعتبر جواز الأخذ من المسجد و إن استلزم المكث، كما هو مقتضي استثنائه له مع الاجتياز من تحريم الدخول، و مثله المهذب، لأن عبارته- كما قيل- كالصريحة في استثناء المسجدين الشريفين من جواز الأخذ، مع وضوح انحصار دليل استثنائهما بما دل علي حرمة قربهما، بل يظهر ذلك من المنتهي أيضا، لمقابلته له بتحريم الوضع، و ظاهره إرادة الوضع المستلزم للبث، لاستدلاله عليه بعموم الآية، كما يظهر من كل من يظهر منه أنّ تحريم الوضع بلحاظ استلزامه اللبث، علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي، و كذا من الصدوق في الفقيه و المقنع و الهداية، لتعليله الفرق بين الأخذ من المسجد و الوضع فيه بما تضمنه النص الآتي الظاهر في ذلك.

بل حيث كان مستند الحكم هو النص المذكور و غيره فقد يستظهر ذلك ممن أطلق جواز الأخذ، كما في النهاية و التذكرة و التحرير و الدروس و الذكري.

و لعله لذا ذكر في الجواهر أنّ ظاهر النص و الفتوي جواز الأخذ و إن استلزم اللبث.

لكن في الحدائق أنّ ظاهرهما جواز الأخذ بنفسه لا بنحو يجوز لأجله اللبث، و كأنه للجمود علي عنوان الأخذ فيهما، إلا أنه يجب الخروج عنه بما تقدم.

نعم، عدم جواز اللبث للأخذ هو الظاهر من كل من أطلق حرمة اللبث في المسجد و لم يتعرض لجواز الأخذ منه، سواء لم يتعرض لحرمة الوضع أيضا- كما في المقنعة و الخلاف- أم تعرض لها فقط- كما في المبسوط و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و الشرائع و النافع و المختلف و القواعد و الإرشاد و اللمعة و جامع المقاصد و المسالك و الروض و غيرها- إذ لو كان جواز الأخذ عندهم يشمل ما لو استلزم اللبث لاحتاج للاستثناء من عموم حرمة اللبث.

بل قد يظهر ذلك أيضا ممن تعرض لجواز الأخذ و حرمة الوضع معا، لكن بنحو يظهر منه كون الوضع محرما مستقلا في مقابل اللبث- كما في الروضة

ص: 405

______________________________

و المستند- فإنّ مقتضي المقابلة بينهما كون الأخذ مباحا في نفسه أيضا لا بلحاظ مقارنته للبث.

و من ثمَّ كان عدم جواز اللبث للأخذ ظاهر أكثر ما اطلعنا عليه من كلماتهم، و إن كان التأمل فيها قد يشهد باضطراب بعضها و عدم توجه أصحابها لهذه الجهة، كي يوضحوا نظرهم فيها.

أما الدليل علي الحكم، فهو صحيح عبد اللّه بن سنان: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب و الحائض، يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال: نعم و لكن لا يضعان في المسجد شيئا» «1».

و ما في ذيل صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم المتضمن للاستدلال بالآية من قوله عليه السّلام: «و يأخذان من المسجد و لا يضعان فيه شيئا. قال زرارة: قلت له:

فما بالهما يأخذان منه و لا يضعان فيه؟ قال: لأنهما لا يقدران علي أخذ ما فيه إلا منه، و يقدران علي وضع ما بيدهما في غيره» «2».

و مقتضي الجمود عليها و إن كان هو جواز الأخذ في مقابل الوضع مع قطع النظر عن اللبث، إلا أنّ المنصرف في السؤال في الصحيح الأول هو السؤال بلحاظ استلزام الأخذ الدخول في المسجد المعلوم حرمته ذاتا، فيكون منشؤه احتمال كون الحاجة للأخذ نوعا مسوغة له، كما هو المناسب للاستدراك بالنهي عن الوضع فيه، لدفع توهم مشاركته له في الحلية بسبب مشاركته له في الحاجة النوعية، و إلا فلا منشأ ارتكازي لاحتمال حرمة الأخذ من المسجد علي الجنب، لتكون منشأ للسؤال، و لو فرض له منشأ تعبدي، لتوهم ورود النهي عنه شرعا اختص به و لا يجري في الوضع، ليحتاج للاستدراك بالمنع عنه، فتأمل.

كما أنّ ذلك هو المناسب لسوقه في الصحيح الثاني بعد بيان حرمة الدخول، و لتعليله فيه الفرق بين الأخذ و الوضع، الراجع لوجود العذر المسوغ للأخذ دون

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 406

______________________________

الوضع، إذ هو إنما يحسن مع المفروغية عن وجود المقتضي للمنع فيهما معا، و لا منشأ له ارتكازي إلا حرمة الدخول غير الاجتيازي الذي تضمنه صدره.

مضافا إلي أنّ حمل إطلاق الجواز علي خصوص الأخذ غير المستلزم للبث بعيد جدا، لانحصاره بما لا يستلزم الكون في المسجد أصلا، لكون المأخوذ في باب المسجد مثلا، و ما يكون حال الاجتياز، و الأول نادر جدا، و الثاني محتاج لعناية مغفول عنها، لابتناء الاجتياز بطبعه علي قصد الاستطراق و إغفال غيره.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الصحيحين في جواز اللبث المستلزم للأخذ و لو تبعا.

نعم، في مرسل علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام أنه قال بعد تحريم الدخول للمسجد علي الجنب و الحائض إلا مجتازين و الاستدلال عليه بالآية:

«و يضعان فيه الشي ء و لا يأخذان منه، قلت: فما بالهما يضعان فيه و لا يأخذان منه؟

فقال: لأنهما يقدران علي وضع الشي ء فيه من غير دخول، و لا يقدران علي أخذ ما فيه حتي يدخلا» «1».

و ظاهره حرمة الأخذ المستلزم للدخول.

لكن لا مجال للتعويل عليه بعد ضعفه، و ظهور إهمال الأصحاب له، لعدم إشارتهم لمضمونه، بل مبناهم في التفصيل علي خلافه، و مع مخالفته للصحيحين في كيفية التفصيل، بل لا يبعد كونه تصحيفا لصحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم، فلاحظه.

هذا و مقتضي إطلاق الصحيحين جواز الدخول للأخذ المكث و الاستقرار، لثقل الشي ء المأخوذ أو نحوه.

نعم، لو لزم المكث المعتد به في مقدمات الأخذ من دون أن يقتضيه الأخذ نفسه، كفتح الصندوق و الاستقاء من بئر المسجد و نحوهما أشكل جوازه، لخروجه عن المتيقن من الصحيحين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 3. تفسير علي بن إبراهيم القمي ج: 1 ص: 139.

ص: 407

و الاجتياز فيها (1)

______________________________

ثمَّ إنّ مقتضي إطلاق النص و الفتوي عدم الفرق فيما يأخذه الجنب من المسجد بين كونه مالا له و غيره.

لكن اقتصر في التحرير علي أخذ ماله.

و لعله لدعوي ظهور المتاع في صحيح عبد اللّه بن سنان في ذلك.

أو للبناء علي كون الحكم المذكور مستثني من حرمة الدخول بملاك الحاجة، كما يناسبه التعليل في صحيح زرارة و محمد بن مسلم، و الإنسان إنما يحتاج لأخذ ماله لحفظه.

و يندفع الأول- مضافا إلي عدم انحصار الدليل بالصحيح المذكور- بعدم اختصاص المتاع بالمملوك، بل هو مطلق ما ينتفع به، فحمله علي المملوك موقوف علي جعل اللام بدلا عن الإضافة، نظير: زيد حسن الوجه، لا للجنس، و هو خلاف الأصل.

كما يندفع الثاني بأنّ الحاجة لا تختص بالمملوك، و لا سيما مع ظهور التعليل في الحكمة، المناسب لإرادة الحاجة النوعية.

نعم، قد يدعي انصراف الصحيحين إلي ما إذا تعلق الغرض بالأخذ فاحتيج للدخول مقدمة له، دون ما إذا تعلق الغرض بالدخول و قصد الأخذ لتسويغه، فليس الأخذ رافعا لحرمة الدخول، بل حرمة الدخول لا تمنع من الأخذ و ترتفع لأجله، فتأمل.

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم- كما في الجواهر- بل هو داخل في معقد إجماع الخلاف و الغنية، فإنهم بين من صرح بحرمة المكث في المساجد و الاجتياز بالمسجدين، و من صرح بحرمة الدخول أو القرب من المساجد مع استثناء الاجتياز.

نعم، أطلق في المقنع النهي عن إتيان الجنب للمسجد، كما أطلق غير واحد في بيان وجوب الغسل وجوبه لدخول المساجد.

ص: 408

بالدخول من باب و الخروج من آخر (1)،

______________________________

لكن لا يبعد انصراف كلام المقنع لصورة المكث، لأنه لم يذكر ذلك في أحكام الجنب، بل في باب دخول المسجد، و الظاهر منه إرادة الدخول المستحب ذي الآداب الخاصة.

كما أنّ الظاهر أنّ إطلاقهم في باب ما يجب له الغسل للإشارة إلي موضوع الوجوب في الجملة مع إيكال التفصيل إلي محله.

و كيف كان، فيقتضيه الاستثناء في الآية الشريفة و في بعض النصوص و التصريح بجواز المرور و الاجتياز و المشي في كثير منها «1»، و قد تقدم بعضها.

و لا بد معه من تقييد إطلاق كراهة إتيان المساجد جنبا في غير واحد من النصوص «2» بذلك لو حملت الكراهة فيها علي الحرمة، أما لو حملت علي ما يعم الكراهة المصطلحة- كما يناسبه سياقها في عداد المكروهات- فلا تنافي ذلك.

و أما صحيح أبي حمزة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم و لا يمر في المسجد إلا متيمما، و لا بأس أن يمر في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد» «3».

فلا مجال لحمل المسجد في قوله: «و لا يمر في المسجد» علي الجنس، لعدم مناسبته لذيله و لبقية النصوص، بل يحمل علي العهد للمسجد الذي نام فيه من المسجدين الشريفين.

(1) حيث تقدم رجوع العناوين المذكورة في النصوص من المشي و المرور و الاجتياز إلي عبور السبيل الذي تضمنته الآية الشريفة، فالظاهر توقفه مع تعدد

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 7، 9، 15، 16.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 409

______________________________

الباب علي اختلاف طريقي البابين، لعدم صدق السبيل و الطريق مع شروع البابين في طريق واحد يطرق من دون دخول للمسجد، كما اعترف به قدّس سرّه في مستمكه.

و الظاهر أنه لا بد فيه من عدم التردد في جوانب المسجد بالنحو الذي لا يقتضيه العبور، بل يقتصر علي ما يقتضيه عرفا، و إن لم يجب التدقيق في تقصير المسافة.

و الظاهر أن ذكر الباب لمحض المثال، إذ لا إشكال في صدق العبور مع انكشاف المسجد و عدم تسويره.

بل الظاهر صدقه مع وحدة الباب لو امتنع الاستطراق من دون دخول فيها لقطع الطريق بتراب و نحوه، بحيث انحرف الطريق و مرّ في المسجد.

و بالجملة: المدار علي صدق الاستطراق و عبور السبيل، و إن كان تحديده قد يخفي للغفلة عن بعض الخصوصيات المعتبرة فيه.

هذا، و في الفقيه- بعد أن ذكر أن الجنب و الحائض لا يدخلان المسجد إلا مجتازين- قال: «و لا بأس بأن يختضب الجنب. و ينام في المسجد و يمر فيه، و يجنب أول الليل و ينام.»، و قريب منه في المقنع، و ظاهره استثناء النوم في المسجد كالمرور.

و كأن الوجه فيه حديث محمد بن القاسم «1» المتقدم في الاستدلال لسلار، حيث حكم بكراهة اللبث في المسجد للجنب، فقد سبق ظهوره في استثناء النوم كالمرور.

و لعل عدم ذكر الصدوق للوضوء مع ذكره في الحديث، لحمله علي الاستحباب، و لو بقرينة ذكر المرور الذي لا يعتبر فيه الوضوء قطعا.

لكن لما كان الترخيص في النوم مستلزما لتأثير الداعي له، فهو يدل علي جواز المكث السابق علي النوم لمريده، لتوقفه عليه عادة، بل يدل علي جواز اللاحق له في الجملة، لعدم تعارف المبادرة بالخروج بمجرد الانتباه فلو وجبت لاحتاجت للتنبيه،

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 18.

ص: 410

إلا في المسجدين الشريفين: المسجد الحرام، و مسجد النبي صلّي اللّه عليه و آله (1).

______________________________

بل يلزم عدم الإثم في الدخول لإرادة النوم، و إن لم يتيسر له بعد ذلك لأرق و نحوه.

و تخصيص دليل المنع عن المكث في المسجد في جميع ذلك بالحديث المذكور صعب جدا، و لعله لذا أهمله الأصحاب، بنحو يظهر منهم الإعراض عنه بالنحو المسقط له عن الحجية، قال في المعتبر: «لكن الرواية متروكة بين الأصحاب، لأنها منافية لظاهر التنزيل».

و ربما حمل علي النوم حال عدم الجنابة الذي يحتمل عروضها فيه بالاحتلام، و يراد بالمرور المرور بعد الاحتلام، لكنه بعيد.

و لعل الأقرب حمله علي السؤال عما ينبغي للجنب إذا أراد النوم في المسجد، بعد المفروغية عن جوازه له، لضرورة و نحوها، لا عن حكم النوم.

و أما حمله علي التقية، لموافقته لما عن أحمد و إسحاق من أن الجنب إذا توضأ جاز له أن يقيم في المسجد كيف شاء، كما ذكره غير واحد.

فيشكل: بما أشرنا إليه عند الاستدلال به لسلار، من ظهوره في استثناء النوم و المرور من عموم الحرمة، فهو علي خلافهما أدل. فلاحظ.

(1) فلا يجوز الاجتياز فيهما علي المعروف من مذهب الأصحاب المصرح به في كلام كثير منهم، بل في المعتبر و الغنية و المدارك و عن التذكرة الإجماع عليه.

و تقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة لاختصاص المسجدين الشريفين بالنهي عن المرور و الاجتياز و المشي.

و بها يخرج عن عموم الآية و صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتضمنين استثناء العبور و الاجتياز من عموم الحرمة.

لكن أطلق في المراسم كراهة دخول المسجد إلا اجتيازا، كما أطلق في الفقيه و الهداية و المقنعة و الخلاف حرمة ذلك إلا اجتيازا من دون استثناء للمسجدين، بل هو الظاهر من التهذيب لإقراره إطلاق استثناء الاجتياز في المقنعة و استدلاله له.

ص: 411

______________________________

و هو المحكي عن الصدوق الأول و الشيخ في الجمل و الاقتصاد و المصباح و مختصره، و الكيدري، بل هو مقتضي إطلاق معقد إجماع الخلاف.

و في كشف اللثام أنّ ظاهر عبارة المبسوط الكراهة، و ذلك لأنه بعد أن ذكر المحرمات علي الجنب، و منها دخول المساجد إلا عابر سبيل، قال: «و المكروهات:

الأكل و الشرب إلا بعد المضمضة و الاستنشاق، و النوم إلا بعد الوضوء، و الخضاب.

و المسجد الحرام و مسجد النبي صلّي اللّه عليه و آله لا يدخلهما علي حال، و إن كان في واحد منهما فأصابه احتلام خرج منهما بعد أن يتيمم من موضعه. و يكره من مس المصحف غير الكتابة.».

و من هنا نسب القول بالحرمة في كشف اللثام للمعظم، و لم يدّع الإجماع عليها.

نعم، في الجواهر احتمل كون الإجماعات المنقولة علي الحرمة ممن تقدم قرينة علي عدم الخلاف ممن سبق و عدم إرادتهم الإطلاق.

و ما في المبسوط قد يظهر منه الحرمة، بلحاظ تخصيصه بالنهي و عدم عطفه علي المكروهات.

و لا يخلو ما ذكره عن إشكال، إذ لا طريق لمعرفة آرائهم إلا ظهور كلامهم، الذي منه الإطلاق في مقام البيان.

و لعل دعوي الإجماع ممن عرفت مبنية علي تخيل عملهم بظاهر النصوص التي هي المستند لهم فيما صرحوا به من تحريم المكث في المساجد.

و لا سيما مع مطابقته لارتكاز أهمية المسجدين الشريفين، مع الغفلة عن احتمال حملهم تخصيص المسجدين في النصوص علي الكراهة تحكيما لإطلاق الآية الشريفة، و لو لاستبعاد حملها علي غير المسجدين الشريفين، مع كون مسجد النبي صلّي اللّه عليه و آله هو الفرد الظاهر الذي يكثر الابتلاء به في وقت نزولها.

كما أنّ حمل كلام المبسوط علي التحريم يشكل، بلحاظ منافاته للسياق.

نعم، كلامه في النهاية ظاهر في الحرمة جدا، لذكره نظير عبارة المبسوط

ص: 412

______________________________

مستثني من عموم جواز الاجتياز، و هو المناسب لما في الفقيه و الهداية من الأمر للمحتلم فيهما بالتيمم للخروج.

و كيف كان، فلا مجال للخروج عن ظاهر النصوص بعد عدم ظهور الإعراض الموهن لها، لعمل الشيخ بها- و لو في بعض كتبه- و متابعة من تأخر عنه له، و إمكان تحكيمها علي الآية، إما لكشفها عن نسخ إطلاقها في المسجدين، أو عن احتفافها بقرائن حالية أو مقالية تقضي باستثنائهما، و لو كانت هي ظهور اهتمامه صلّي اللّه عليه و آله بمسجده و نهيه عن إتيان الجنب له، حتي أخرج منه أصحابه و أقر فيه أهل بيته الطاهرين عليهم السّلام.

ففي صحيح أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ اللّه أوحي إلي نبيه أن طهر مسجدك، و أخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل، و مر بسدّ الأبواب من كان له في مسجدك باب، إلا باب علي عليه السّلام و مسكن فاطمة عليها السّلام و لا يمرن فيه جنب» «1»، فلاحظ.

و أما الدخول لأخذ شي ء من المسجدين، فمن قال بعدم جوازه في سائر المساجد، و أنّ الجائز هو الأخذ بنفسه فعدم جوازه عنده فيهما أولي، كما أنه الظاهر ممن عبر بعدم الدخول فيهما علي حال، كما في النهاية و المبسوط- بناء علي حمله فيه علي الحرمة- و الغنية و محكي السرائر و الموجز لابن فهد، بل في الجواهر أنّ عبارة ابن البراج في المهذب كالصريحة في عدم جواز الدخول للأخذ.

و أما من يظهر منه جوازه في سائر المساجد ممن سبق، فهم بين من يظهر منه مشاركته للاجتياز في استثناء المسجدين منه، كالمحقق في المعتبر بل هو كالصريح منه- و من يظهر منه مشاركته له في عدم استثنائهما كالصدوق، و من يتدافع الإطلاقان في كلامه، كالعلامة في المنتهي، حيث أطلق عدم جواز الدخول للمسجدين، و أطلق جواز الأخذ من المساجد.

لكن في الجواهر أنّ استثناءهم المسجدين من جواز الاجتياز الذي لا إشكال

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 413

و يجوز وضع شي ء فيها في حال الاجتياز (1)،

______________________________

في حليته يفيد استثناءهما من جواز الدخول للأخذ بالأولوية.

و كيف كان، فمقتضي إطلاق جواز الأخذ و إن كان هو جوازه فيهما، إلا أنه معارض بإطلاق ما تضمن النهي عن قرب المسجدين الشريفين، كصحيح محمد ابن مسلم المتقدم، و غيره مما تضمن النهي عن المرور فيهما و المشي و غير ذلك من العناوين، لقوة ظهورها بمجموعها في خصوصيتهما بتحريم مطلق الكون فيهما حال الجنابة لا خصوص عبور السبيل، فيكون مقدما علي إطلاق جواز الأخذ، كما يناسبه ما تضمن وجوب التيمم للخروج منهما علي من احتلم فيهما، مع وضوح عدم كونه عابر سبيل، و أنّ اضطراره للمرور أولي بتجويزه حال الجنابة من الأخذ الذي يظهر من صحيح زرارة و محمد بن مسلم كون جوازه بملاك الحاجة النوعية.

و لو فرض تكافؤ الإطلاقين كان الترجيح للثاني، لموافقته لعموم الكتاب المجيد، القاضي بعدم جواز قرب المسجد لغير عابر السبيل، فلاحظ.

(1) فإنه و إن تقدم دعوي الاتفاق ممن عدا سلار علي حرمة وضع شي ء في المسجد، إلا أنّ ظاهر غير واحد كون حرمته بلحاظ حرمة الدخول المقارن له، كما أنّ جواز الأخذ بلحاظ جواز الدخول المقارن له، علي ما سبق التعرض له عند الكلام في جواز الأخذ، فلا يحرم بنفسه إذا لم يستلزم الدخول المحرم، كما هو صريح ابن فهد، حيث قال في محكي المقتصر: «المراد بالوضع المستلزم للدخول و اللبث، لأن الرخصة في الاجتياز خاصة»، كما أنه الظاهر ممن اقتصر في بيان ما يجب له الغسل علي دخول المساجد.

لكن سبق أنّ ظاهر جماعة جواز الأخذ و حرمة الوضع في نفسهما مع قطع النظر عن الدخول، و مقتضاه حرمة الوضع و إن لم يستلزم اللبث، كما هو المصرح به في جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و المستند و غيرها.

و قد سبق أنه مقتضي الجمود علي عبارة الصحيحين، و أنّ التأمل فيهما قاض

ص: 414

و من خارجها (1).

و الأحوط وجوبا إلحاق المشاهد المشرفة بالمساجد في الأحكام المذكورة (2).

______________________________

بخلافه، و إرادة جواز الدخول للأخذ دون الوضع، فلا يدلان علي حرمة الوضع بنفسه حال الاجتياز أو حال الدخول لأخذ شي ء أو من الخارج، بل مرسل علي بن إبراهيم المتقدم صريح فيه في الجملة، و إن سبق عدم صلوحه للاستدلال.

و منه يظهر اندفاع ما أورده في الروض من أنّ لازمه عدم الفائدة لذكر الوضع، إذ يكفي في الفائدة له بيان عدم الاستثناء من عموم الحرمة لأجله كالأخذ.

و أشكل من ذلك ما في العروة الوثقي من التفكيك بين الأخذ و الوضع، حيث حكم بجواز الدخول للأخذ، و بعدم جواز الوضع مطلقا و لو حال الاجتياز، و لا مجال له مع المقابلة بينهما في دليل واحد.

اللهم إلا أن يكون موضوع التحليل و التحريم بنظره هو الأخذ و الوضع بنفسيهما مع استفادة تحليل الدخول للأخذ من دليل حليته تبعا، لتعذر حمله عرفا علي الأخذ غير المستلزم للدخول و المكث، كما سبق، فراجع.

(1) الكلام فيه هو الكلام في سابقة، إلا أنه في المستند مع تصريحه بحرمة الوضع و لو من غير دخول قال: «و أما الطرح فيه من الخارج فلا بأس به، لعدم ثبوت صدق الوضع عليه، و لو صدق فالشهرة الجابرة فيه غير معلومة»، و هو كما تري، لتدافع كلامه، و لصدق الوضع، و عدم الحاجة للانجبار بالشهرة مع صحة السند و عدم الإعراض الموهن.

(2) كما مال إليه في الحدائق، و قواه في الجواهر، و حكي عن جملة من المتأخرين، منهم الشهيدان، بل عن الذكري أنه حكاه عن المفيد في الغرية و ابن الجنيد، و استحسنه.

لكن لم يشر في الذكري لذلك في أحكام الجنب عند التعرض لحرمة المكث

ص: 415

______________________________

في المسجد، و إنما قال في فروع حكم الحائض و النفساء: «الثاني: يكره الاجتياز في المساجد للجنب و الحائض مع أمن التلويث، للتعظيم. و كذلك السلس و المبطون و المجروح و الصبي المنجس و الدابة التي لا تؤكل. و لو علم التلويث حرم الجميع.

و ألحق المفيد في الغرية المشاهد المشرفة بالمساجد، و هو حسن، لتحقق معني المسجدية فيها و زيادة» «1».

و ظاهره استحسان إلحاق المشاهد بالمساجد في كراهة الاجتياز، و حرمة التلويث بالنجاسة، لأهليتها للتعظيم مثلها، و نقل ذلك عن المفيد، لا مشاركتها لها في جميع أحكامها. و أما الشهيد الثاني فلم أعثر علي تعرضه لذلك في الروض و الروضة و المسالك.

و كيف كان، فقد استدل أو يستدل عليه بمناسبته للتعظيم، و بفحوي ثبوته في المسجد، لثبوت معناه فيها و زيادة، و بالنصوص المتضمنة إنكار الدخول حال الجنابة عليهم عليهم السّلام و أنّ بيوت الأنبياء و أولادهم لا يدخلها جنب، بضميمة أنّ حرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون، و التعبير عن مشاهدهم بأنها بيوتهم في بعض الزيارات:

ففي خبر أبي بصير: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا أريد أن يعطيني من دلالة الإمامة مثل ما أعطاني أبو جعفر عليه السّلام فلما دخلت و كنت جنبا فقال: يا أبا محمد ما كان ذلك [لك. ظ] فيما كنت فيه شغل، تدخل علي و أنت جنب! فقلت: ما عملته إلا عمدا. قال: أو لم تؤمن؟ قلت: بلي و لكن ليطمئن قلبي. و قال: يا أبا محمد قم فاغتسل فقمت و اغتسلت. و قلت إنه إمام» «2».

و في خبره الآخر: «دخلت المدينة و كانت معي جويرية لي فأصبت منها، ثمَّ خرجت إلي الحمام، فلقيت أصحابنا الشيعة و هم متوجهون إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام فخفت أن يسبقوني و يفوتني الدخول إليه، فمشيت معهم حتي دخلت

______________________________

(1) الذكري ص: 34.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 416

______________________________

الدار، فلما مثلت بين يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام نظر إلي ثمَّ قال: يا أبا بصير أ ما علمت أنّ بيوت الأنبياء و أولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب؟.» «1».

و نحوهما غيرهما، و في بعضها: أنه قال: «أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضبك، استغفر اللّه و لا أعود» «2».

لكن مما تقدم في مس الجنب اسم اللّه تعالي يظهر وهن الاستدلال بمناسبة التعظيم، كوهن الاستدلال عليه بالآية الشريفة.

و تحقق معني المسجدية غير ظاهر، إلا أن يرجع إلي أهلية التعظيم الذي ذكرنا عدم كونه مناطا للحكم في أمثال المقام.

و ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من استفادته مما في بعض الأخبار- و هو مرسل ابن أبي عمير- من أنّ سبب صيرورة بعض البقاع مسجدا أنه قد أصابها شي ء من دم نبي أو وصي نبي، فأحب اللّه أن يعبد في تلك البقعة «3».

كما تري! لرجوع ذلك إلي بيان السبب التكويني للمسجدية لا إلي ملاك تشريع أحكامها، و لذا يجوز للجنب المكث في الأرض التي يعلم بأنها ستوقف مسجدا، كما لا تترتب بقية أحكام المسجد علي المشاهد.

و أما النصوص المذكورة، فهي ببيان الآداب أنسب، و إلا فمن البعيد خفاء هذا الحكم الذي هو مورد الابتلاء في تلك العصور أو تسامح مثل أبي بصير المرادي فيه، و هو من أصحاب الباقر فيفعله مع الصادق عليه السّلام مع ما هو عليه من جلالة الشأن و العلم بالحلال و الحرام.

و دعوي: إقدامه عليه للامتحان شكا في إمامته عليه السّلام، مدفوعة بظهور بعضها في عدم كون الغرض الامتحان، بل الإسراع بالتشرف بخدمة الإمام عليه السّلام، و ظهور ما ورد للامتحان في عدم شكه بإمامته عليه السّلام و إنما طلبه ليطمئن قلبه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 21 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1.

ص: 417

______________________________

علي أنه يقصر عن إفادة الحرمة، لورود كلام الإمام عليه السّلام مورد المعجز بالإشارة للحكم المفروغ عنه، لا لبيان الحرمة.

بل ظهور النصوص بمجموعها في تكرر ذلك من أبي بصير لا يناسب الحرمة جدا.

و ليس غضب الإمام عليه السّلام الذي تضمنه بعضها قرينة علي الحرمة، لإمكان غضبه عليه السّلام من مخالفة الأدب معه في المورد المناسب له، و استغفار أبي بصير لعله بلحاظ إغضاب الإمام عليه السّلام أو لمخالفة الأولي.

و ذلك هو المناسب لما يكاد يقطع به من عدم تجنب أولاد الأئمة عليهم السّلام و نسائهم و خدمهم و جواريهم، و نحوهم ممن تكثر مخالطته لهم عن الدخول عليهم حال الجنابة، لما في ذلك من الحرج النوعي و الضيق بنحو لو كان التحريم معه ثابتا لبان و لم يخف علي إنسان، و لو كانوا خارجين تخصيصا لاحتيج لبيان مقدار الخارج و كثر السؤال عنه.

فإنّ هذا يناسب كون الحكم أدبيا يختلف باختلاف الناس و باختلاف الطوارئ و الدواعي المزاحمة له، و لذا أقدم أبو بصير علي مخالفته لأجل تحصيل المعجز تارة، و لئلا يفوته التشرف بخدمة الإمام عليه السّلام أخري.

علي أنّ تنزيل دخول مشاهدهم عليهم السّلام منزلة الدخول في بيوتهم بمجرد أنّ حرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء أو لإطلاق البيوت في بعض الزيارات علي مشاهدهم.

لا يخلو عن إشكال، بل منع، لأن بيت بدن الإمام عليه السّلام هو لحده و قبره، لا المشهد المبني فوقه، كيف و لا إشكال ظاهرا في عدم ترتب بعض أحكام بيوتهم عليها، كوجوب الاستئذان.

مضافا إلي أنه يكفي في وهن الاستدلال بهذه النصوص ضعفها سندا، مع عدم انجبارها بعمل الأصحاب، بل ظهور الإعراض الموهن لها- لو كانت حجة في نفسها- من الأصحاب طبقة بعد طبقة، لعدم ذكرهم هذا الحكم في كتبهم المعروفة

ص: 418

______________________________

المعدة للفتوي، مع كثرة الابتلاء به و شدة الحاجة لبيانه، بل ظاهر من حكي عنه من المتأخرين عدم التعويل عليها، لعدم مطابقتهم لمفادها، كما سيأتي.

بل ذلك وحده كاف في الوثوق بعدم ثبوته و رفع اليد عن النصوص لو كانت ناهضة به في نفسها، و لا سيما بملاحظة حال قبورهم عليهم السّلام في العصور السابقة من الانكشاف و عدم التشييد و التمييز عن غيرها في مثل البقيع، حيث يغفل عن تمييزها في الحكم المذكور، بل يحتاج إلي عناية في مقام العمل، فلو كان البناء عليها لكانت موردا للسؤال و لم تخف علي أحد، فضلا عن أعاظم الأصحاب (رضوان اللّه عنهم).

بقي في المقام أمران.

الأول: أنّ المتيقن من موضوع الحكم هو البيوت المشتملة علي القبور، و هي الروضات المطهرة، دون الأروقة المتصلة بها- كما صرح به بعضهم- لأن ذلك هو المتيقن من وجوه الاستدلال السابقة.

نعم، المناسبة للتعظيم لا تختص بها، لما هو الظاهر من أنّ تجنب الأروقة أنسب بالتعظيم، و أنسب منه تجنب الصحون الشريفة، إلا أنه لا إشكال في عدم وجوب أعلي مراتب التعظيم، كما سبق من بعض من استدل به علي حرمة مس الاسم الشريف.

الثاني: أنّ مقتضي النصوص المتقدمة- التي هي عمدة أدلة المقام- حرمة مطلق الدخول للمشاهد المشرفة، و إن كان بنحو الاجتياز، بمنزلة المسجدين الشريفين، كما اعترف به في الحدائق، و هو خلاف ظاهرهم، و لذا كان ظاهرهم عدم الاعتماد عليها في الحكم المذكور، و لو لحملها علي الحكم الأدبي الذي يمكن البناء عليه حتي في المساجد، كما هو المطابق لما تقدم عن المفيد.

و إلحاقها بسائر المساجد في استثناء الاجتياز أو الدخول لأخذ شي ء منها موقوف علي كون دليل الحكم تنزيلها منزلتها أو فحوي أدلتها، و لا مجال له، كما سبق.

ص: 419

السادس قراءة آية السجدة
اشارة

السادس: قراءة آية السجدة من سور العزائم (1)،

______________________________

(1) الظاهر عدم الإشكال في حرمة قراءة العزائم في الجملة، و قد ادعي الإجماع عليها في الغنية و المعتبر و المنتهي و الروض و محكي الذكري و السرائر و شرح الموجز و أحكام الراوندي و غيرها، و في التذكرة أنّ عليه إجماع أهل البيت عليهم السّلام.

و يقتضيه صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام- في حديث-: «قلت له: الحائض و الجنب، هل يقرءان من القرآن شيئا؟ قال: نعم ما شاءا إلا السجدة، و يذكران اللّه علي كل حال» «1».

و حديث محمد بن مسلم- الذي لا يبعد صحته-: «قال أبو جعفر عليه السّلام: الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب و يقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة» «2».

و في المعتبر: «يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا ما شاءا من القرآن إلا سور العزائم الأربع. روي ذلك البزنطي في جامعه عن المثني عن الحسن الصيقل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام» «3».

و في الرضوي: «و لا بأس بذكر اللّه و أنت جنب، إلا العزائم التي تسجد فيها، و هي: الم تنزيل، و حم السجدة، و النجم، و سورة اقرأ باسم ربك» «4».

و دعوي: عدم صراحة الأولين في التحريم، لإمكان كون الاستثناء فيهما من الاستحباب لا من الجواز، كما في المستند.

مدفوعة بكفاية ظهورهما في ذلك، لظهور المستثني منه في أصل الجواز

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الجنابة حديث: 11. و المعتبر ص: 49.

(4) مستدرك الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

ص: 420

______________________________

لبيان عدم مانعية الجنابة و الحيض من قراءة القرآن، لا في خصوص الاستحباب.

و الكلام إنما هو في أنّ موضوع التحريم تمام السورة بنحو الانحلال، فيحرم قراءة بعضها و إن لم يكن آية السجدة، أو بنحو المجموع، فلا يحرم قراءة بعضها و إن كان آية السجدة، أو خصوص آية السجدة، وجوه:

صرح بالأول في الشرائع و القواعد و الإرشاد و المنتهي و التذكرة و الدروس و الروض و الروضة و غيرها.

و هو الظاهر ممن صرح بحرمة قراءة سور العزائم، كما في المقنعة و النهاية و الخلاف و المراسم و المعتبر و غيرها، لقضاء المناسبة الارتكازية بكون حرمة قراءة السورة بنحو الانحلال، لابتنائها علي نحو من الاحترام الذي لا دخل لإتمامها به ارتكازا، و لا سيما مع استثناء بعضهم ذلك من جواز قراءة القرآن التي يراد بها ما يعم قراءة بعضه.

بل ذلك هو الظاهر ممن صرح بحرمة قراءة العزائم أو عزائم السجود، كما في الفقيه و المقنع و الهداية و الانتصار و المبسوط و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و النافع و اللمعة و غيرها، لظهور العزائم في تمام السور لا خصوص آية السجدة منها، كما يظهر من جملة من النصوص «1»، و من كثير من عباراتهم، بل صريح بعضها، و إن كان ظاهر بعض النصوص «2» إرادة نفس آية السجدة.

و من هنا قد تستفاد دعوي الإجماع عليه ممن تقدم منه نقل الإجماع في المقام، لأن معقده في كلماتهم العزائم و سورها.

و لعله لذا ادعي في الروض و محكي الذكري و ظاهر شرح الدروس الإجماع علي حرمة قراءة البعض، و في المدارك- بعد أن استشكل في دلالة النصوص علي تحريم قراءة ما عدا آية السجدة- قال: «إلا أنّ الأصحاب قاطعون بتحريم السور كلها، و نقلوا عليه الإجماع، و لعله الحجة، و علي هذا فيحرم قراءة أجزائها المختصة بها

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 42، 44، 45 من أبواب قراءة القرآن من كتاب الصلاة.

(2) راجع الوسائل باب: 42، 43 من أبواب قراءة القرآن، من كتاب الصلاة.

ص: 421

______________________________

مطلقا و المشتركة بينها و بين غيرها مع النية».

لكن قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «نعم، ظاهر ما عن الفقيه و الهداية و الغنية و الانتصار: - إلا العزائم التي يسجد فيها، و هي: سجدة لقمان و حم السجدة و النجم و سورة اقرأ. انتهي- إرادة السجدة لا غير»، و قريب مما حكاه عن هؤلاء ما في المقنع و محكي الجامع.

و يشكل بأنّ ظاهرهم إرادة السورة من السجدة، لوضوح عدم اشتمال سورة لقمان علي آية السجدة [1]، فلا بد أن تكون إضافة السجدة إليها للمجاورة، الكاشف عن إرادة السورة منها، و لذا عبر بذلك من تصدي لبيان سور العزائم، كما في النهاية و الخلاف و المراسم و التذكرة و الروض و المدارك، بل عن المقنعة: «و هي: سورة سجدة لقمان، و حم السجدة.».

فلا ينبغي التأمل في ظهور كلامهم في إرادة السورة و تأييد الإجماع المدعي به، و يأتي تمام الكلام في ذلك عند الاستدلال بالإجماع.

و أما الوجه الثاني، فلم أعثر علي مصرح به، بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «لا أظن أحدا التزم به».

نعم، قال في الجواهر: «لو لا الإجماع المتقدم علي حرمة البعض لأمكن تخصيص التحريم بقراءة السورة خاصة لا البعض، لكون السورة اسما للمجموع، و بقراءة البعض لا يتحقق الصدق، و لا سيما إذا كان المقصود من أول الأمر البعض».

بل جزم في المستند باختصاص النصوص بتمام السورة، و عدم حرمة قراءة بعضها، إلا آية السجدة لدعوي الإجماع علي حرمتها.

و أما الوجه الثالث، فهو المحكي عن بعض المتأخرين، و احتمله في كشف اللثام، بل احتمل غير واحد إرادته من جملة ممن عبر بالعزائم أو عزائم السجود، و لم يصرح بسورها، لكن سبق ظهوره في إرادة السور- كما هو صريح بعضهم- و لذا عبر

______________________________

[1] و أما ما في المطبوع من المنتهي و نسخة من الخلاف من قوله: «و هي سورة لقمان.»، فلا ينبغي التأمل في أنّه تصحيف و أنّ الصحيح: (سجدة لقمان).

ص: 422

______________________________

بذلك من صرح بالتعميم لبعض السورة، و من فسر العزائم بالسور الأربع.

و أما النصوص المتقدمة، فظاهر حديثي زرارة و محمد بن مسلم اختصاص التحريم بآية السجدة، لظهور السجدة في ذلك، كما يظهر بملاحظة نصوص قراءة العزيمة في الصلاة «1» و نصوص وجوب سجود العزيمة «2»، حيث تضمن كثير منها التعبير بالسجدة عن آية السجود، و لم يتضمن شي ء منها التعبير بها عن تمام السورة، عدا ما قد يظهر من قوله عليه السّلام في خبر علي بن جعفر: «و لا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة» «3».

بل هو الظاهر منها في نفسه، لظهور كون السجدة اسما للآية من باب تسمية السبب باسم المسبب.

و ليست باقية علي معناها الأصلي مع تقدير مضاف، ليتردد المقدر بين السورة و الآية، و لعل الأول أولي، لاشتهار التعبير عن السور بنحو ذلك من الألفاظ المشهورة، كالبقرة و آل عمران و الأنعام و الرحمن، و لموافقته لفهم الأصحاب و إجماعاتهم، كما في الجواهر.

علي أنه لو كان مبنيا علي التقدير، فالظاهر أنّ المقدر هو الآية- كما في النصوص الكثيرة المشار إليها- لأنه المناسب للسببية المذكورة، و لا سيما مع مناسبة السببية المذكورة ارتكازا للحكم، لأن اهتمام الشارع بتجنب السجود المفروض حال الجنابة بتجنب سببه مناسب للارتكاز.

أما خصوصية سور العزائم من بين سور القرآن- مع قطع النظر عن ذلك- فهي مبنية علي تعبد محض، فلا ينصرف المقدر إليها من دون قرينة.

و اشتهار التعبير عن السور بالألفاظ المشهورة لا يبتني علي تقدير مضاف، بل علي تسميتها بها، و لذا تكون إضافتها للسورة بيانية، و لم يعرف تسمية سور

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 37، 38، 39، 40 من أبواب القراءة في الصلاة.

(2) راجع الوسائل باب: 42، 43، 46، 49 من أبواب قراءة القرآن.

(3) الوسائل باب: 40 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 4.

ص: 423

______________________________

العزائم بالسجدة.

و أما تتميم ذلك بفهم الأصحاب و إجماعاتهم، فهو لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح اتصال إجماعهم بعهد صدور الحديثين، بل يقرب جري من لم يتصد من القدماء لتحرير الفتاوي إلا بطريق إثبات النصوص علي مقتضي الظهور الذي ذكرناه.

و لا سيما مع ما في المقنعة من تعليل الحكم بقوله: «لأن في هذه السور سجودا واجبا، و لا يجوز السجود إلا لطاهر من النجاسات بلا خلاف»، و تبعه علي ذلك في التهذيب، و احتمله في الانتصار، لظهور ذلك منهم في أنّ تحريم قراءة سور العزائم ليس أصليا بل عرضيا بلحاظ اشتمالها علي آية السجود، و أنّ المحرم الحقيقي هو الآية المذكورة الملزمة به.

و لازمه كون موضوع كلامهم قراءة سور العزائم بنحو المجموع، و به يخرج عما سبق من القرينة الارتكازية القاضية بحملها علي الانحلال، إذ لا أقل من التوقف لأجل ذلك عن استفادته من إطلاق كلامهم.

بل قد يتوقف لأجله عن استفادته من غيرهم ممن لم يصرح به، و لا سيما مع ظهور دليلهم في خصوص آية السجدة، حيث قد يكون ذلك قرينة علي إرادتهم قراءة سورة العزيمة بمجموعها، و يكون تحريمها عرضيا بلحاظ اشتمالها علي الآية المذكورة، و لا أقل من كشف ذلك عن نحو من الاضطراب في كلمات الأصحاب بالنحو المانع عن صلوحها لتفسير الحديثين و حملها علي السورة التي هي خلاف المتيقن، بل خلاف الظاهر الذي ذكرناه، المقتضي لجواز قراءة ما عدا آية السجدة من العزائم.

و من ذلك يظهر أنه لا مجال للاستدلال علي حرمة قراءة جميع السور بالإجماع، كما سبق من المدارك الميل إليه، و من الجواهر الجزم به في دفع احتمال اختصاص التحريم بقراءة تمام السورة.

و أما خبر الحسن الصيقل الذي ذكره في المعتبر، فلا مجال للخروج به عن ظاهر الحديثين.

ص: 424

______________________________

أولا: لضعف سنده، لأنه و إن أمكنت استفادة توثيق المثني من رواية البزنطي عنه، لما قيل من أنه لا يروي إلا عن ثقة، المحمول علي كونه ثقة حين تحمّل الرواية عنه- كما سبق عند الكلام في تحديد الكر بالوزن- الموجب للبناء علي وثاقته ما لم يثبت جرحه و خروجه عن الوثاقة بعد تلبسه بها، إلا أنه لا مجال لاستفادة توثيق الحسن الصيقل من ذلك، لعدم رواية البزنطي عنه، و عموم الكلام المتقدم لكل من وقع في طريق روايته لا يخلو عن إشكال، فتأمل.

و دعوي: انجباره بعمل المشهور.

ممنوعة، لعدم وضوح فتوي من سبق المحقق بمضمونه، لأنه أول من صرح بحرمة قراءة أبعاض السور، و أطلق من قبله حرمة قراءة السور، و ربما يحمل إطلاقهم علي حرمة قراءة المجموع بلحاظ اشتمالها علي الآية، كما سبق.

و لو سلم فتواهم بمضمونه، فلم يتضح اعتمادهم عليه، لاقتصار الأكثر علي الحديثين السابقين، و لم يشر إليه إلا المحقق و بعض المتأخرين عنه مع ذكرهم للحديثين أيضا، و ذلك لا يصلح للجبر.

و أظهر منه في ذلك الرضوي، لعدم ثبوت كونه رواية عن الإمام عليه السّلام.

و ثانيا: لأنه لا يظهر من كلام المحقق قدّس سرّه أنّ ما ذكره أولا عين ألفاظ الرواية، بل فتوي منه بمضمونها، لأنه بصدد تحرير الفتاوي و استقصاء الأقوال، و أشار بقوله:

(روي ذلك.) إلي ما يدل عليها بنظره من دون ذكر لفظ الرواية، كما وقع منه نظيره في بعض الموارد الأخر، و من الممكن تضمّن الرواية استثناء السجدة لا غير، نظير ما ذكره بعد ذلك بقوله: «فأما تحريم العزائم فمستنده ما نقل عن أهل البيت عليهم السّلام و قبله الأصحاب، من ذلك: ما رواه محمد بن مسلم.»، و ذكر حديث محمد بن مسلم المتقدم.

و ثالثا: لأن مقتضي الجمع بينه و بين الحديثين السابقين حمله علي قراءة تمام العزيمة بنحو المجموع، و يكون تحريمها بلحاظ اشتمالها علي آية السجدة، إذ لا

ص: 425

______________________________

يبعد كونه أولي من حمل السجدة فيهما علي تمام السورة.

و لا أقل من التوقف و الرجوع للأصل المقتضي لجواز قراءة ما عدا آية السجدة من العزائم، فلاحظ.

و بما ذكرنا يظهر الإشكال فيما سبق من الجواهر، من أنه لو لا الإجماع لكان المتعين الاقتصار علي تمام العزيمة دون أبعاضها.

إذ لو تمَّ الإجماع المدعي، فالنصوص إن حملت علي تمام السورة فهي ظاهرة في الانحلال المقتضي لحرمة قراءة أبعاضها، بالقرينة المتقدمة في كلام الأصحاب، إذ لا مخرج عنها إلا ما يقتضي حملها علي خصوص آية السجدة، و أنّ تحريم تمام السورة عرضي بلحاظ اشتمالها عليها.

و أشكل منه ما تقدم من المستند، لعدم الكاشف عن الإجماع علي حرمة قراءة آية السجدة وحدها إلا ظهور كلماتهم- لو فرض بلوغها حدّ الإجماع- في أنّ تحريم قراءة سورة العزيمة بنحو الانحلال، المستلزم لحرمة قراءة البعض و لو لم يكن آية السجدة، فلو لم يتم كان مرجع الإجماع إلي تحريم قراءة آية السجدة في ضمن قراءة المجموع، لا مطلقا.

ثمَّ إنّه لو اختص التحريم بآية السجدة، فهل يحرم قراءة بعضها، أو يختص التحريم بقراءتها بتمامها؟ وجهان، يبتني الأول منهما علي أنّ منشأ التحريم احترام الآية، و الثاني علي أنّ منشأه تجنب السجود الواجب حال الجنابة، بناء علي ما لعله الظاهر من اختصاص وجوب السجود بقراءة تمام الآية.

و لعل التعبير عن الآية بالسجدة مشعر بالثاني.

و لا ينافيه عدم اعتبار الطهارة في سجود التلاوة، و لا عدم حرمة استماع السجدة الموجب للسجود علي الجنب، لإمكان خصوصية القراءة بنظر الشارع في التحريم من الجهة المذكورة.

و لا أقل من الشك، الموجب للرجوع للبراءة من حرمة قراءة البعض.

ص: 426

و هي الم السجدة، و حم السجدة، و النجم، و العلق (1). و الأحوط وجوبا إلحاق تمام السورة بها حتي بعض البسملة (2).

مسألة 11 لا فرق في حرمة دخول الجنب في المساجد

مسألة 11: لا فرق في حرمة دخول الجنب في المساجد بين المعمور منها و الخراب، و إن لم يصل فيه أحد و لم تبق آثار المسجديّة (3)،

______________________________

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه، و النصوص به متظافرة.

و تمام الكلام فيه في ذيل مبحث السجود من كتاب الصلاة إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما صرح به غير واحد، و في الروض: «و كذا يحرم عليه قراءة أبعاضها حتي البسملة إذا قصدها منها، بل لفظة (بسم)، و هو إجماع».

نعم، سبق الإشكال في الإجماع.

(3) كل ذلك لإطلاق نصوص المقام، بناء علي ما هو الظاهر من عدم خروجها بذلك عن المسجدية، كما نفي عنه الخلاف في الجواهر، بل ادعي الضرورة عليه، و ظاهر المدارك عدم الريب فيه.

لأن الظاهر عدم تقوم المسجدية بالانتفاع، لتبطل بتعذره بسبب الخراب و ارتفاع الآثار، بل هي متقومة بالعنوان الخاص غير الزائل بذلك، كما قد يدل عليه ما ورد في مسجد الكوفة، الظاهر قيام عمارته الإسلامية في موضع ليس فيه آثار المسجدية مع ظهور النصوص في سبق مسجديته و بقائها «1».

و لا أقل من كونه مقتضي الاستصحاب، كما أشار إليه في الخلاف في ردّ ما حكاه عن محمد بن الحسن من عوده بخرابه و خراب القرية أو المحلة إلي ملك الواقف، قياسا علي الكفن حيث يعود إلي ملك الوارث إذا ذهب السيل بالميت أو أكله السبع.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 44 من أحكام المساجد في كتاب الصلاة.

ص: 427

و كذلك المساجد في الأراضي المفتوحة عنوة إذا ذهبت آثار المسجدية بالمرة (1).

______________________________

(1) المعروف من مذهب الأصحاب المدعي عليه إجماعهم، أنّ الأرض المفتوحة عنوة ملك للمسلمين تبقي عينها لهم و يصرف نماؤها في مصالحهم، علي ما يذكر في محله.

و من هنا صرح غير واحد بعدم جواز بيعها و هبتها و وقفها و غير ذلك مما يتوقف علي الملك، و إنما تضمنت بعض النصوص «1» جواز بيع حق الاختصاص أو الآثار التي أقيمت فيها، علي ما فصّل في محله.

و لازم ذلك عدم صحة جعلها مسجدا، كما صرح به في المبسوط و عن غيره.

لكن في كتاب الجهاد من المسالك: «أما لو فعل ذلك بها تبعا لآثار المتصرف من بناء و غرس و زرع، فجائز علي الأقوي، فإذا باعها بائع مع شي ء من هذه الآثار دخلت في البيع علي سبيل التبع، و كذا الوقف و غيره، و يستمر كذلك ما دام شي ء من الآثار باقيا، فإذا ذهبت أجمع انقطع المشتري و الموقوف عليه و غيرهما عنها. هكذا ذكره جمع من المتأخرين و عليه العمل».

و رتب علي ذلك في كتاب الوقف خروج المسجد في الأرض المفتوحة عنوة عن المسجدية بزوال آثاره.

و لا يخفي أنّ ما ذكره- مع توقفه علي سلطنة صاحب الأثر علي إقامته في الأرض المذكور و لو بإذن الولي بنحو يكون باقيا علي ملكه مستحقا لإبقائه و الانتفاع به و بالأرض تبعا له- إنما يتم في البيع و الهبة و غير المسجدية من جهات الوقف مما يقبل التعلق بالأثر دون الأرض، و لا مجال له في مثل المسجدية مما يقوم بالأرض و لا يكون في غيرها إلا تبعا لها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 71 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.

ص: 428

______________________________

و دعوي: أنّ المبيع و الموقوف و نحوهما هو الأرض تبعا للأثر المملوك، و بزوال الأثر تخرج الأرض نفسها عن الملكية و الوقفية و نحوهما، لا أنّ موضوع البيع و الوقف و نحوهما هو الأثر وحده و التصرف في الأرض تبعا له قياما بمقتضي الحق فيه، كي لا تكون موضوعا للمسجدية.

مدفوعة بأنّ فرض ملكية الأرض للمسلمين مانع من فرض وقوع التصرفات المذكورة عليها، لأنها مشروطة بملك المتصرف.

إلا أن يبني علي ملكية المتصرف لها تبعا للآثار.

و هو- مع منافاته لما تضمن أنها ملك للمسلمين و لا تباع بنفسها، بل يباع الحق فيها- يستلزم نفوذ التصرفات المذكورة و بقاءها حتي بعد ارتفاع الآثار، و لو للاستصحاب، لأن إناطة بقاء الملكية بالآثار- لو تمت- لا يستلزم إناطة بقاء ما يترتب عليها من التصرفات.

و منافاة ذلك لحق المسلمين- لو تمَّ- يقتضي بطلان التصرفات المذكورة رأسا، لا ارتفاعها بعد نفوذها تبعا لارتفاع الآثار، نظير بيع العين المشتراة بخيار الشرط، بناء علي أنّ مرجع اشتراط الخيار إلي اشتراط كون العين بنحو يمكن استرجاعها بنفسها عند الفسخ، حيث يكون منافيا للشرط فيبطل رأسا، لا حين فسخ صاحب الخيار.

نعم، لو فرض قابلية بعض التصرفات للتوقيت- نظير النكاح المنقطع- و قصد عند إيقاعها تبعيتها للآثار و توقيتها بها، اتجه ارتفاعها بارتفاع الآثار.

لكن التصرفات المذكورة غير قابلة لذلك، و لا سيما المسجدية التي صرحوا بأنها مبنية علي التأبيد، و أنها فكّ ملك و لا ترتفع بزوال الآثار و تعذر الانتفاع.

و كأنّ منشأ البناء منهم علي ذلك، ما أشار إليه في كتاب الوقف من الجواهر من السيرة القطعية، بل المعلوم من الشرع من جريان أحكام المساجد علي مساجد العراق و نحوه من البلاد المفتوحة عنوة.

لكنه ذكر في كتاب الجهاد أنّ العمل المستمر علي الوقف- مساجد و مدارس

ص: 429

______________________________

و نحوهما- محمول علي الأرض التي لا يعلم حالها بيد من يجري عليها حكم الأملاك، و له وجوه من الصحة يحمل عليها حتي في المعلوم كونها معمورة حال الفتح، إذ يمكن كونها من الخمس و قد باعها الإمام عليه السّلام و غير ذلك.

و هو كما تري، لأن إمكان كونها من الخمس المبيع عقلي، لا احتمالي ليصح بلحاظه إجراء أصالة الصحة، لما هو المعلوم من قصور يد الأئمة عليهم السّلام في أغلب الأوقات و عدم تصدّيهم لإعمال سلطنتهم.

علي أنه موقوف علي تعلق الخمس بالأرض المفتوحة عنوة، و هو لا يخلو عن إشكال أو منع، علي ما يذكر في محله.

فالأولي ابتناء ذلك علي صحة وقف الأرض المفتوحة عنوة مسجدا أو غيرها، بل تملكها بالشراء أو الإقطاع من قبل الولي أو بإذنه، و أنّ للولي السلطنة علي ذلك بمقتضي ولايته علي المسلمين، لاختصاص ما تضمن المنع علي منع من تكون الأرض بيده من الأفراد، لعدم ولايته عليها، و إنما له حق الاختصاص فيها و أولوية التصرف لا غير، مع البناء علي نفوذ تصرف سلاطين الجور، كما ينفذ تصرفهم في الخراج، لما هو المعلوم من تصدّيهم لذلك بالإقطاع و إحداث المساجد و غيرها، و قيام السيرة علي ترتيب الأثر علي تصرفهم من غير نكير.

فإنّ كشف السيرة المذكورة عن نفوذ تصرفهم أولي من كشفها عن تبعية المسجدية و نحوها للآثار، لما هو المعلوم من أنّ مبني جعل المسجد و نحوه فيها علي التأبيد و الدوام كجعله في غيرها.

و لعله إلي هذا يرجع ما في الجواهر من دعوي السيرة القطعية علي اتخاذ المساجد في الأراضي الخراجية من غير مدخلية للآثار في ذلك، لاقتضاء المسجدية الدوام و التأبيد.

بل القيام بما ينافي المسجدية من التصرفات في الأرض المذكورة بعد خراب المسجد و ذهاب آثاره من المستنكرات المتشرعية التي لا يقدم عليها إلا المتسامحون و إن كثروا، كما هو الحال في المساجد الواقعة في غير الأرض

ص: 430

مسألة 12 ما يشك في كونه جزءا من المسجد لا تجري عليه أحكام المسجدية

مسألة 12: ما يشك في كونه جزءا من المسجد- من صحنه و حجراته و منارته و حيطانه و نحو ذلك- لا تجري عليه أحكام المسجدية (1).

مسألة 13 لا يجوز أن يستأجر الجنب لكنس المسجد في حال الجنابة

مسألة 13: لا يجوز أن يستأجر الجنب لكنس المسجد (2) في حال الجنابة (3)،

______________________________

المفتوحة عنوة مما يكون ملكا طلقا للواقف حين الوقف.

و علي هذا، لو شك في حال بعض المساجد و أنها أقيمت في أرض مملوكة أو مفتوحة عنوة بإذن الولي الحق أو السلطان الجائر أو بدون إذن، تعيّن البناء علي الصحة، لأن يد المتصرف في الأرض بجعلها مسجدا تكون حجة علي ملكيته لها لو شك فيها، و علي نفوذ تصرفه فيها لو علم بعدم ملكيته لها.

(1) لاستصحاب عدم مسجديته.

نعم، لو كان هناك أمارة علي جزئيته من المسجد عمل عليها، كما صرح به قدّس سرّه في مستمسكه.

و الظاهر أنّ من الأمارات قول صاحب اليد ممن يتولي أمر المسجد و يدير شؤونه، بل لا يبعد ذلك في مثل كتابة اسم المسجد علي سور المسجد إذا كان مستندا لصاحب اليد، لا مثل كتابة عابر السبيل، لظهور الكتابة المذكورة في كون تمام ما أحاط به السور مسجدا.

(2) يعني: تكليفا، لما فيه من الحث علي الحرام و الترغيب فيه، الذي هو محرم بفحوي ما تضمن وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

نعم، هو مختص بما إذا كان الأجير عالما بالجنابة، و إلا فلا دليل علي حرمة التشجيع علي الحرام الواقعي غير المنجز في حق الفاعل.

إلا أن نقول بحرمة إدخال الجنب للمسجد و وجوب منعه، فيكفي في تنجز الحرمة علم المستأجر بجنابة الأجير.

(3) بأن يكون الحال المذكور قيدا في العمل المستأجر عليه بعنوانه، أو

ص: 431

______________________________

بعنوان آخر، كما لو قيده بزمان خاص، و كان الأجير عاجزا عن الغسل حينئذ، لا ظرفا للإجارة مع إطلاق العمل، و إلا لم يكن محرما و تصح الإجارة و يجب علي الأجير الغسل للوفاء بها، كما لو حدثت الجنابة بعد الإجارة قبل العمل.

و الظاهر جواز كون الوفاء بالإجارة داعيا، و كفايته في التقرب المعتبر في الغسل، نظير ما سبق في المسألة السابعة و التسعين من مبحث الوضوء من جواز جعل المس غاية للوضوء.

و لو جاء بالعمل المستأجر عليه- و هو الكنس- حال الجنابة نسيانا أو جهلا أو عصيانا لم يبعد استحقاقه الأجرة المسماة، لصحة الإجارة، و انطباق المستأجر عليه علي المأتي به.

و دعوي: أنّ بطلان الإجارة علي الكنس حال الجنابة مانع من إطلاق متعلق الإجارة، بل لا بد من تقييده لبّا بما يقع حال الطهارة، فلا ينطبق علي المأتي به، ليستحق اجرة المثل، فضلا عن المسمي.

ممنوعة، إذ لا موجب لبطلان الإجارة علي المطلق، بعد عدم حرمته في نفسه، و إمكان الأمر به و تمليكه للقدرة عليه بالقدرة علي بعض أفراده و هو الكنس حال الطهارة، فلا يشمله ما يأتي في وجه بطلان الإجارة مع التقييد، و لا يعتبر في صحة الإجارة علي المطلق، القدرة علي تمام أفراده.

و أما ما في العروة الوثقي من عدم استحقاق الأجرة مع العصيان، لحرمة العمل فلا اجرة له.

فهو كما تري، لأن نفس الكنس ليس محرما، بل المحرم هو المكث الموقوف عليه، كما اعترف به قدّس سرّه بعد ذلك.

علي أنّ ذلك لو تمَّ يجري مع الجهل و النسيان، لأنهما لا يرفعان الحرمة واقعا، و قد اعترف قدّس سرّه بعدم استحقاق الأجرة علي العمل المحرم- كالمكث في المقام- حتي مع الجهل و النسيان، و إن لم يبعد استحقاق اجرة المثل مع عدم تنجز الحرمة، لبطلان الإجارة و قصور دليل عدم استحقاق الأجرة علي الحرام من الإجماع و نحوه عن ذلك، و تمام الكلام في محله.

ص: 432

بل الإجارة فاسدة (1)،

______________________________

(1) بلا إشكال ظاهر.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «إذ الكنس و إن كان في نفسه مباحا إلا أنّ تحريم كون الجنب في المسجد يوجب سلب القدرة عليه شرعا، و لا بدّ في صحة الإجارة من القدرة علي العمل المستأجر عليه عقلا و شرعا، من دون فرق بين كون انتفاء القدرة الشرعية ناشئا من تحريم نفس العمل المستأجر عليه، و بين كونه ناشئا من تحريم مقدّمته أو لازمه أو ملازمه. و العمدة في هذا التعميم هو الإجماع، كما يظهر من كلماتهم في كتاب الإجارة».

لكن الاعتماد في تعميم القدرة للقدرة الشرعية بأقسامها علي الإجماع راجع إلي الاعتماد علي الإجماع علي بطلان الإجارة مع حرمة العمل المستأجر عليه أو حرمة مقدمته أو لازمه أو ملازمه، و إلا فاعتبار القدرة لم يؤخذ من أدلة لفظية قابلة للعموم و الخصوص، ليمكن شرح الإجماع لها و كشفه عن عمومها، كما يمكن كشفه عن خصوصها، لاطلاع المجمعين علي قرائن تقتضي العموم أو الخصوص قد خفيت علينا.

و بعبارة أخري: دليل اعتبار القدرة لمّا لم يكن لفظيا، فهو إن عمّ القدرة الشرعية بأقسامها كان اللازم الاستدلال به، و إن قصر عنها لم يصلح الإجماع لتعميمه، بل يكون دليلا في مقابله علي اعتبار القدرة الشرعية في مقابل القدرة العقلية.

و كيف كان، فقد يستدل عليه- مضافا إلي الإجماع المشار إليه المعتضد بالمرتكزات المتشرعية القطعية- تارة: بما تضمن حرمة أكل المال بالباطل، لأن من أظهر أفراده عرفا المعاملة بالوجه المقتضي لتحصيل الأمور المستنكرة التي لا ينبغي حصولها، فاقتضاء المعاملة تحصيل الحرام و الوقوع فيه موجب لصدقه عليها.

ص: 433

______________________________

و أخري: بما تضمّن بطلان الشرط المحلل للحرام و المحرم للحلال، لما هو الظاهر من أنّ الشرط يصدق علي الالتزام المبني علي التزام آخر، فيشمل العقود المبنية علي الالتزام من كل من المتعاقدين مبنيا علي التزام الآخر.

كما لا فرق في التحليل للحرام بين تحليله بالمباشرة- كما لو كان العمل المستأجر عليه محرما بنفسه- و تحليله بالتبع- كما لو كان الحرام مقدمة للعمل المستأجر عليه أو لازمه أو ملازمه- و لذا لا إشكال ظاهرا في بطلان اشتراط ذلك في ضمن عقد آخر، كما لو استأجره علي خياطة ثوبه بشرط أن يكنس المسجد حال الجنابة.

و مما ذكرنا، ظهر أنّ بطلان الإجارة في المقام و نحوه لارتفاع موضوع نفوذ الإجارة بسبب الحرمة، فهي واردة عليه، و ليست مزاحمة لنفوذها، و لا لوجوب تسليم العمل المستأجر عليه، ليبتني بطلان الإجارة علي أهمية الحرمة المفروضة.

و لذا كان مبناهم علي مانعية الحرمة مطلقا من دون نظر لأهميتها.

مع أنّ نفوذ الإجارة الراجع لملكية العمل علي الأجير حكم وضعي لا يقع طرفا للمزاحمة مع التكليف، لعدم السنخية بينهما.

و عدم وجوب تسليم العمل المستأجر عليه للمزاحمة لا يستلزم بطلان الإجارة، بل يمكن معه صحتها بلحاظ بقية آثارها، كصلوح العمل لو أتي به جهلا أو نسيانا أو عصيانا لأن يكون وفاء بها، بحيث يستحق به الأجرة المسماة و وجوب ضمانه علي الأجير لو لم يأت به و نحوهما.

نعم، قد تتجه المزاحمة فيما لو كان المستأجر عليه مطلق الكنس من دون تقييد بحال الجنابة لا بعنوانه و لا بعنوان آخر، و كان المكلف قادرا علي الإتيان به حال الطهارة فلم يبادر إليها حتي تجدد له العجز عنها بحيث لا يستطيع الكنس إلا جنبا إما بتفريط منه أو بدونه، فإنّ الإجارة حيث وقعت صحيحة و ملك المستأجر العمل علي الأجير لم يبعد وقوع التزاحم بين حرمة المكث في المسجد و وجوب تسليم العمل المستأجر عليه و يكون المعيار علي الأهمية، من دون أن تبطل الإجارة

ص: 434

و لا يستحق الأجرة المسماة (1)، و إن كان يستحق أجرة المثل (2)،

______________________________

لارتفاع موضوع صحتها بسبب الحرمة، فتأمل.

(1) كما هو مقتضي بطلان موجب استحقاقها، و هو الإجارة.

(2) أما أصل استحقاق الأجرة، فهو من صغريات قاعدة: ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، المشهورة بين الأصحاب، خصوصا المتأخرين منهم، و إن وقع الكلام في دليلها.

و لا يبعد كون دليلها في المقام و نحوه مما يتعلق بالأعمال، المرتكزات العرفية علي احترام عمل الغير و ضمانه بالاستيفاء، إذا لم يبتن علي المجانية، كما هو المفروض في المقام، لصدور العمل بطلب من المستأجر مبنيا علي الضمان منه و من الأجير، و بطلان الإجارة لا ينافي ذلك.

و أما ما يظهر من العروة الوثقي من عدم استحقاق الأجرة مع العلم بالجنابة، فكأنه لدعوي: أنّ حرمة العمل مانعة من استحقاق الأجرة عليه، نظير ما تقدم منه فيما لو استؤجر علي الكنس المطلق فأوقعه حال الجنابة عامدا. و قد سبق ضعفه.

و مثله ما عن بعض من أنّ علم العامل ببطلان العقد مانع من ضمان عمله، لإقدامه علي هدر حرمته و إيقاعه مجانا.

لاندفاعه بأنّ العلم بعدم استحقاق الأجرة المسماة شرعا أو عرفا لا يقتضي الإقدام علي المجانية، بل هو مقدم علي الوفاء بالعقد و علي الاستحقاق بمقتضاه و لو تشريعا، و ذلك كاف في الضمان له.

نعم، لو أعرض عن العقد بسبب العلم ببطلانه و لم يأت بالعمل مبنيا عليه، اتجه عدم استحقاقه أجرة عليه. و لعله خارج عن مفروض كلامهم، فلاحظ.

و أما تعيين أجرة المثل، فلأنها الأصل في الضمان بعد فرض بطلان الضمان بالمسمي، تبعا لبطلان الإجارة، و لذا كان هو ظاهر إطلاق من عبر بالضمان.

لكن لا يبعد الاقتصار علي أقل الأمرين من المثل و المسمي:

ص: 435

هذا، إذا علم الأجير بجنايته، أمّا إذا جهل بها فيشكل حرمة استئجاره (1)،

______________________________

أما مع زيادة المسمي، فلأنه لا موجب لاستحقاقه إلا العقد المفروض بطلانه، فيرجع لمقتضي الأصل المذكور في الضمان.

و أما مع زيادة المثل، فلأن الإقدام بمقتضي العقد الباطل علي الضمان بما دونه و هو المسمي، موجب لهدر حرمته بالإضافة إلي الزائد عليه، كما تهدر حرمته رأسا بالإقدام علي مجانيته، فلا يبني العرف علي ضمان الزائد، و لا أقل من عدم وضوح بنائهم عليه، ليخرج به عن مقتضي الأصل الأولي من عدم الضمان.

و تمام الكلام في محله من مباحث المكاسب.

(1) بل تقدم في أول المسألة عدم حرمته تكليفا. و أما عدم حرمته وضعا الراجع لصحة الإجارة فقد أصر عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه.

بدعوي: أن المدار في بطلان الإجارة هو تنجز حرمة العمل علي الأجير حتي يخرج عن قدرته و ملكه تشريعا، و مع عدم تنجز الحرمة عليه و بقاء العمل تحت قدرته لا مانع من صحة إجارته.

و هو مبني علي أن منشأ بطلان الإجارة مع تنجز الحرمة للعلم بالجنابة هو عدم قدرة الأجير علي العمل و لا ملكيته له.

و هو في حيز المنع، لأن تحريم العمل لا يوجب سلب القدرة عليه، كما أن عمل الإنسان غير مملوك له لا قبل الإجارة و لا بعدها.

و إرادة الحجر الشرعي من سلب القدرة و الملكية راجع للاستدلال علي الدعوي بها، فيكون عمومها لحال عدم التنجز و قصورها عنه مساوقا لعموم الدعوي و قصورها.

فالعمدة في وجه الاستدلال ما سبق من حرمة أكل المال بالباطل، و عدم نفوذ الشرط المحلل للحرام. و لو شك في صدق الأول مع الجهل فلا إشكال

ص: 436

و إن كان الأظهر ذلك، و كذلك الصبي و المجنون الجنب (1)،

______________________________

في صدق الثاني.

مع أن نفوذ الإجارة إن اقتضي وجوب تسليم العمل علي الأجير واقعا، كان رافعا لحرمة دخول الجنب للمسجد واقعا، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك، بل هو خلاف إطلاق دليل التحريم.

و تحكيم عموم نفوذ العقود و وجوب القيام بمقتضاها عليه موقوف علي أقوائيته منه، و هو مستلزم لتقدمه عليه حتي مع العلم بالحال.

و إن لم يقتض وجوب تسليمه فلا طريق لإثباته، لانحصار الدليل عليه بعموم وجوب الوفاء بالعقود الظاهر في وجوب ترتيب آثارها المستلزم عرفا لنفوذها فمع فرض عدم وجوب تسليم العمل المستأجر عليه و لا ترتيب أثر الإجارة لا طريق لإثبات نفوذها.

و من هنا كان الظاهر بطلان الإجارة في المقام، فلا يجوز للمستأجر إجبار الأجير علي العمل.

كما لا يضمنه لو أوقعه بالمسمي، بل بالمثل أو بأقل القيمتين.

لكن هذا موقوف علي ما إذا لم يستلزم الجهل إطلاق متعلق الإجارة، كما لو استأجره علي الكنس في زمن يعجز عن الغسل فيه، اما لو كان الزمن يسع الغسل ثمَّ الكنس فإطلاق متعلق الإجارة ممكن في نفسه، بل هو الظاهر من الإطلاق.

و مجرد وقوع الكنس حال الجنابة بسبب الجهل لا يوجب التقييد بها، فتصح الإجارة و يستحق بالعمل الأجرة المسماة و إن جاء بالكنس حال الجنابة، نظير ما سبق منا في أول المسألة.

بل الظاهر جواز الإجبار علي الكنس و إن استلزم الوقوع في الحرام لفرض استحقاق الكنس و لا دليل علي عدم جواز الإجبار مع عدم تنجز الحرمة في حق الفاعل. فلاحظ.

(1) بناء علي وجوب إخراجهما من المسجد، حيث يكون دخولهما محرما

ص: 437

بل الأظهر وجوب إخراجهم من المسجد (1).

______________________________

علي المستأجر، فضلا عن وليهما، فيكون الاستئجار علي العمل المستلزم له- في فرض عجزهما عن الغسل- محرما تكليفا و باطلا، كاستئجار المكلف الجنب لذلك.

أما بناء علي عدم وجوب إخراجهما، فلا وجه لحرمة استئجارهما بعد فرض عدم الحرمة عليهما بمقتضي رفع القلم.

و ما عن الأردبيلي من وجوب إجراء أحكام المكلفين علي الصبي و المجنون غير ظاهر.

و منه يظهر أنه لا مجال لتخيل التحريم بملاك التسبيب للحرام، فإنّه- مضافا إلي عدم تمامية كبري حرمة التسبيب له- لا حرمة في حق المباشر في المقام.

(1) يعني: الجاهل بالجنابة و الصبي و المجنون.

و قد سبق من المعتبر عند الكلام في جنابة الصغير وجوب منعه مما يحرم علي الجنب، كدخول المساجد.

و هو متجه، بناء علي أنّ تحريم دخول الجنب للمسجد كفائي، راجع إلي تكليف الكل بعدم تحقق ذلك من كل أحد، بحيث يعصي الكل بتمكين الجنب من الدخول كما يعصي هو.

و لا طريق لإثبات ذلك، لظهور الآية في توجيه الخطاب للمكلفين بعدم قربهم المساجد حال جنابتهم، لا بعدم قرب غيرهم ممن يكون جنبا.

و كذا معتبرة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: للجنب أن يمشي في المساجد كلها و لا يجلس فيها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله» «1»، فإنّ ظاهرا المقابلة فيه بين المشي و الجلوس حرمة الثاني علي الجنب نفسه، كما كان الأول محللا له.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 438

مسألة 14 إذا علم إجمالا جنابة أحد الشخصين لا يجوز استئجارهما

مسألة 14: إذا علم إجمالا جنابة أحد الشخصين و كان الجنب منهما عالما بجنابته لا يجوز استئجارهما (1)،

______________________________

و كذا قوله صلّي اللّه عليه و آله في حديث الريان: «ألا إنّ هذا المسجد لا يحل لجنب» «1».

و في حديث عبد اللّه بن محمد: «لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد» «2».

و باقي النصوص و إن تضمّن النهي عن دخول الجنب للمسجد من دون توجيه الخطاب به لأحد، إلا أنّ المنصرف منها تحريمه علي الجنب نفسه، لا علي غيره- كما اعترف به سيدنا المصنف قدّس سرّه- لاحتياج تكليف الإنسان بفعل غيره إلي عناية يبعد حمل عليها، و لا سيما بملاحظة الاستشهاد في بعضها بالآية الشريفة.

بل ارتكازيات المتشرعة قاضية بعدم منع من لم يتنجز عليه التحريم من المكلفين لاجتهاد أو تقليد، كالجنب المعتقد بالطهارة و الشاك المستصحب لها و المغتسل غسلا ناقصا أو باطلا معتقدا بتماميته و الجاهل بمسجدية الأرض، و كذا من سقط في حقه التحريم لحرج أو ضرورة، و لو برفع منشأ حرجه أو ضرورته، بل من البعيد بناء الفقهاء علي منع هؤلاء كلهم.

و ما ذلك إلا لارتكاز كون التحريم انحلاليا عينيا في حق كل جنب بالإضافة لدخوله، فلا يجب عليه منع غيره من أفراد الجنب إلا من باب النهي عن المنكر المشروط بفعلية التكليف و تنجزه في حق الغير، و لا مجال له في مثل المقام مما يتنجز فيه التكليف أو لا يكون فعليا في حقه.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 439

و قد تقدم التعرض لذلك عند الكلام في جنابة الصغير، كما تقدم نظيره في الفرع الثامن من فروع مس المحدث للكتاب في ذيل المسألة التاسعة و التسعين من مسائل الوضوء.

(1) أما تكليفا، فللعلم الإجمالي بحرمة استئجار أحدهما، لما فيه من الحث

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 12.

ص: 439

______________________________

علي الحرام المنجز.

نعم، لا مجال له مع جهل الأجير بالجنابة، لما سبق من عدم الدليل علي حرمة الحث علي الحرام غير المنجز.

و أما وضعا، فللعلم ببطلان إحدي الإجارتين المانع من ترتيب الأثر عليهما.

لكن ذلك لا يختص بصورة علم الأجير بالجنابة، لما سبق منه و منا من بطلان الإجارة مع الجهل بحرمة مقدمة العمل المستأجر عليه، فضلا عن حرمة نفس العمل المستأجر عليه.

ثمَّ إنّ أثر العلم الإجمالي المذكور عدم جواز إجبار كل منهما علي العمل لو امتنعا، بل و كذا لو امتنع أحدهما لما يأتي في استئجار أحدهما.

و أما بالإضافة إلي استحقاق الأجرة، فلا أثر له، لأن لكل منهما المطالبة بالأجرة تمسكا باستصحاب الطهارة في حقه، لعدم الأثر لجنابة الآخر في حقه، و لا مجال لامتناع المستأجر بسبب علمه بعدم استحقاق أحدهما، لأن علم أحد المتخاصمين ليس حجة له في مقام التخاصم، بل مقتضي علمه إجمالا باستحقاق أحدهما وجوب إرضائهما معا.

بل لو فرض علم الحاكم أيضا بجنابة أحد الأجيرين لم يمنعه من الحكم علي طبق الأصل الجاري في حق كل منهما، لعدم ابتلائه بالطرف الآخر الذي لا خصومة له.

بل لو تخاصما معا مع المستأجر لم يمنع أيضا، نظير حكمه علي من أقر بعين لشخص ثمَّ أقر بها لآخر، بلزوم دفعها للأول و ضمانها للثاني، مع العلم بكذب أحد الإقرارين.

غاية الأمر، أنه يحرم علي العالم منهما في نفسه أخذ الأجرة، لا المسمي و لا المثل، لأنه لا أجرة للعمل المحرم إجماعا، لأنها أكل للمال بالباطل.

نعم، لا يبعد استحقاق أجرة المثل أو أقل الأمرين منها و من المسمي- علي ما سبق الكلام فيه- مع عدم تنجز الحرمة علي العامل، لخروجه عن المتيقن من دليل

ص: 440

و لا استئجار أحدهما (1) لقراءة العزائم أو دخول المساجد أو نحو ذلك مما يحرم علي الجنب.

مسألة 15 مع الشك في الجنابة لا يحرم شي ء من المحرمات المذكورة

مسألة 15: مع الشك في الجنابة لا يحرم شي ء من المحرمات المذكورة (2)، إلا إذا كانت حالته السابقة هي الجنابة.

______________________________

المنع، بل يناسبه ما تضمن أنه لا مهر لبغي مع ثبوت المهر بوطء الشبهة، فلاحظ.

(1) لمنجزية العلم الإجمالي لأحد أطرافه مع الابتلاء بتمامها، و بتحقق الجنابة يعلم بحرمة استئجاره تكليفا، لأنها تشجيع علي المحرم المنجز.

و أما وضعا، فليس أثر بطلان الإجارة- كما سبق- إلا حرمة إجبار الأجير علي العمل، و هي منجزة قبل الإجارة بتنجز احتمال حرمة التشجيع، لأنه مرتبة عالية منه.

و من هنا يتضح الفرق بين الإجارة علي الأمور المذكورة و الإجارة للصلاة عن ميت، التي سبق في المسألة الثالثة عدم تنجزها بالإضافة إلي أحدهما.

نعم، مع جهل الجنب بالجنابة حيث لا يحرم تشجيعه و حثه علي العمل، فعدم جواز الإجبار لا يكون موردا للابتلاء إلا بعد الإجارة، فيشكل تنجزه، لعدم الابتلاء بالطرف الآخر، لفرض عدم استئجاره، نظير ما تقدم في المسألة المذكورة.

(2) أما مع العلم بأنّ الحالة السابقة هي الطهارة، فلاستصحابها المحرز لعدم عدم ترتب أحكام الجنابة.

و أما مع الجهل بالحالة السابقة، فلأصالة البراءة من تحريم الأمور المذكورة.

نعم، لا مجال لذلك فيما تكون الطهارة شرطا فيه، كالصلاة و الطواف، لأصالة الاشتغال بالمأمور به مع الشك في تحقق شرطه.

أما الصوم، فحيث كان المانع منه تعمد البقاء علي الجنابة، فهو لا يتحقق مع الشك بالنحو المذكور، كما أنه لو انكشف بعد ذلك مقارنته للجنابة لم يجب قضاؤه، لأن مورد النص نسيان الغسل، و لا يشمل تعمد تركه لعدم تنجز احتمال الجنابة.

بقي في المقام فروع أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه ينبغي التعرض لها، كما

ص: 441

______________________________

جرينا عليه في كثير من المباحث المتقدمة.

الأول: صرح في الفقيه و الهداية و النهاية و الغنية و المعتبر و النافع و مبحث الغسل من المنتهي و محكي التحرير بوجوب التيمم علي من احتلم في أحد المسجدين الشريفين، و أنه لا يمر فيهما إلا متيمما، و هو المحكي عن السرائر و الجامع و غيرهما، و هو المتيقن من إطلاق من يأتي.

و لذا نسب للمشهور في كلام غير واحد، بل في الغنية و المعتبر و المنتهي دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه صحيح أبي حمزة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم و لا يمر في المسجد إلا متيمما، و لا بأس أن يمر في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد» «1»، و نحوه مرفوعة الآتي.

و منه يظهر ضعف ما في الوسيلة من عدّه مستحبا، و قد عدّ الخلاف في المفاتيح شاذا و إن كان قد يستفاد من المبسوط، بناء علي ذهابه لكراهة المرور في المسجدين للجنب، و قد تقدم كلامه في تلك المسألة، فراجع.

هذا، و مقتضي الجمود علي عبارة من عرفت، اختصاص الحكم بالاحتلام دون غيره من أفراد الجنابة الاضطرارية، فضلا عن الاختيارية.

لكن عن القاضي الإطلاق في الجنابة الاضطرارية.

و قد يستفاد التعميم لها و للاختيارية من الاستدلال عليه في المعتبر و المنتهي بأنه مقتضي حرمة المرور في المسجدين للجنب، بضميمة ما تضمن وجوب التيمم عند تعذر الغسل، بل هو مقتضي إطلاق وجوب التيمم للخروج من المسجدين إذا أجنب فيهما في المنتهي و محكي التحرير- في بيان ما يجب له التيمم- و الشرائع و التذكرة و القواعد- في أحكام غسل الجنابة- و عن غيرها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 442

______________________________

بل مقتضي الاستدلال المذكور وجوبه لمن دخلهما جنبا عصيانا أو جهلا، كما هو مقتضي إطلاق وجوبه لخروج الجنب من المسجدين في الشرائع و القواعد و التذكرة و الإرشاد و الدروس- في بيان ما يجب له التيمم- و عن غيرها، و به صرح في الروض و كشف اللثام.

و كيف كان، فيستدل للتعميم.

تارة: بإطلاق أدلة بدلية التيمم عن الغسل، مثل ما تضمن أنه أحد الطهورين، و يكفيك عشر سنين و نحوهما، لظهورها في مشروعيته في كل مورد يحتاج فيه للطهارة، و منه المقام، بلحاظ حرمة الكون في المسجدين حال الجنابة.

نعم، يختص ذلك بما إذا لم يستلزم التيمم زيادة في المكث و لو قليلا، و إلا كان تحريم الزيادة المذكورة مزاحما لتحريم المرور حال الجنابة، فيتوقف وجوب التيمم علي إحراز أهمية الثاني، فتأمل.

و أخري: بالصحيح المتقدم بإلغاء خصوصية مورده عرفا، لقضاء ارتكازيات المتشرعة بعدم كون وجوب التيمم تعبدا محضا، بل لتجنب الكون في المسجدين حال الجنابة، بلحاظ بدلية التيمم عن الغسل، فهو جار علي مقتضي العمومات السابقة و كاشف عن أهمية حرمة الكون حال الجنابة من المكث الذي يقتضيه التيمم.

و لذا صرحوا بوجوب اختيار أقرب الطرق، بل لا إشكال ظاهرا في وجوب المبادرة للتيمم و للخروج بعده، مع أنّ الصحيح لم يتضمن إلا وجوب كون المرور حال التيمم.

و كأنّ هذا هو مراد من عبّر بعدم تعقل الفرق بين مورد الصحيح و غيره من الموارد المذكورة، و إلا فالفرق ممكن عقلا.

و منه يظهر ضعف ما في جامع المقاصد من أنه رجوع إلي ظن لا يفيده النص، و ما في المدارك من أنّ النص إنما يكون حجة في غير مورده في مفهوم الموافقة و منصوص العلة، و ما عداهما داخل في القياس الممنوع عنه.

ص: 443

______________________________

فإنّ إلغاء خصوصية مورد النص عرفا بملاحظة المناسبات الارتكازية راجع إلي استفادة العموم من ظهور النص الحاصل من القرائن المحيطة بالكلام، و هو حجة، و ليس من القياس في شي ء.

ثمَّ إنه قد ناقش في الجواهر في إلغاء خصوصية المورد و استفادة جريه علي القاعدة بلحاظ بعض الفروع الآتية التي يظهر من الكلام فيها حال ما ذكره.

هذا، و قد يستدل للتعميم لغير الاحتلام من أفراد الجنابة في المسجد بالصحيح المتقدم، بناء علي ما عن المعتبر من روايته هكذا: «فاحتلم أو أصابته جنابة».

لكن الموجود في المطبوع منه: «فاحتلم و أصابته جنابة»، و ظاهره كون العطف تفسيريا لبيان كون المراد بالاحتلام هو المصاحب للجنابة، لا من عطف العام علي الخاص.

و لا أقل من الإجمال الملزم بالاقتصار علي المتيقن، كما هو اللازم بلحاظ اختلاف رواية الحديث أيضا.

كما قد يستدل للتعميم لجميع أفراد الجنب حتي من كانت جنابته خارج المسجد، باحتمال رجوع الضمير في قوله عليه السّلام: «و لا يمر في المسجد إلا متيمما» للجنب، المستفاد من قوله عليه السّلام: «فأصابته جنابة»، لا للمحتلم.

لكن الاحتمال المذكور مخالف للظاهر.

و مثله ما في كشف اللثام من دعوي أولوية الموارد المذكورة في وجوب التيمم من الاحتلام الذي هو مورد النص، لعدم وضوح وجه الأولوية مع عدم التعمد، و أما مع التعمد فهو إنما يقتضي العقاب، و ليس وجوب التيمم من سنخه، بل هو تكليف محض، لا يتضح وجه أولويته.

فالعمدة ما سبق.

و يلحق بالكلام في ذلك الكلام في أمور.

أولها: مقتضي ما ذكرناه في توجيه النص، الاكتفاء بالتيمم الاضطراري بالغبار

ص: 444

______________________________

و نحوه و عدم جواز انتظار الأرض إذا استلزم زيادة معتدا بها في المكث، لأن تحريم البقاء في المسجد حال الجنابة موجب لصدق الاضطرار للتيمم المذكور، فيشرع و يجب بمقتضي دليل بدليته، كما يشرع أصل التيمم بمقتضي دليل بدليته عن الغسل.

ثانيها: المنساق من الصحيح إيقاع التيمم لأجل المرور في المسجد، لا إيقاعه لغاية أخري مشروطة بالطهارة، لابتناء ذلك علي عناية تفتقر للتنبيه، بل هو لا يشرع لها، لعدم صدق الاضطرار بالإضافة إليها في فرض التمكن من الغسل خارج المسجد.

و ذلك هو المناسب لما تقدم منا في المسألة السابعة و التسعين من مباحث الوضوء من جواز جعل المس غاية للوضوء و إن كان مبيحا له لا شرطا فيه، فيصلح للاستدلال عليه.

ثالثها: إنما يجب الخروج علي الجنب بعد التيمم إذا كان قادرا علي الغسل خارج المسجد، أما إذا تعذر عليه فيجوز له المكث فيه، بناء علي ما هو الظاهر من استباحة دخول المساجد بالتيمم، لإطلاق أدلة بدليته، علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي، و به صرح في الروض و المدارك و غيرهما.

و ليس في الصحيح ما ينافي ذلك، لوروده لبيان اعتبار التيمم في الخروج، لا لبيان وجوب الخروج.

بل لو نهض إطلاقه ببيان الخروج، كان محكوما لأدلة بدلية التيمم و طهوريته في فرض مصادفته العجز المطلق عن الماء حتي خارج المسجد.

لكن في جامع المقاصد: «و الظاهر أنّ هذا التيمم لا يبيح و إن صادف فقد الماء، و إلا لم يجب الخروج عقيبه بلا فصل متحريا أقرب الطرق، و التالي باطل. فعلي هذا لا ينوي فيه البدلية».

و هو- كما تري- مخالف للمنساق من النص.

و إنما يجب الخروج عقيبه بغير فصل لأن بدليته اضطرارية، و لا اضطرار لإيقاع المكث الزائد به، لإمكان إيقاعه عن غسل، فمع فرض تعذر الغسل حتي

ص: 445

______________________________

خارج المسجد لا موجب للخروج، لتحقق الاضطرار بالإضافة أيضا.

و منه يظهر جواز إيقاع سائر الغايات الموقوفة علي الطهارة به لو صادف عدم الماء، فلاحظ.

رابعها: تقدم من جامع المقاصد وجوب اختيار أقرب الطرق، و سبقه إليه في التذكرة و الدروس، و ظاهر الروض المفروغية عنه، و قد أشرنا إلي وجهه.

إلا أنّ الظاهر عدم وجوب المداقّة في ذلك و لا الإسراع في المشي بالوجه الخارج عن المتعارف، لظهور عدم التنبيه عليه في الصحيح في عدم وجوبه.

خامسها: الظاهر عدم وجوب التيمم إذا كان زمانه مساويا لزمان الخروج أو أقصر منه، كما عن الأردبيلي في شرح المفاتيح، بل لا يجوز إذا استلزم زيادة في المكث، لعموم حرمة الكون في المسجدين حال الجنابة.

خلافا لما عن الذكري و قربه في محكي الدلائل من وجوب التيمم لعموم النص.

لكنه منصرف عن ذلك بناء علي ما سبق من ظهوره في الجري علي مقتضي العمومات.

و دعوي: ظهوره في خصوصية المرور في الحرمة حال الجنابة و العفو عن المكث للتيمم.

مدفوعة بأنّ المنساق من ذكر المرور دفع توهم جوازه في المسجدين من غير تيمم كما جاز في غيرهما، لا أهميته من المكث، فالمحرم في المسجدين مطلق الكون في المسجدين حال الجنابة، و إنما عفي عن المكث لأجل التيمم لقلة زمانه غالبا.

و ما في كشف اللثام من التسليم بذلك في غير الاحتلام و وجوب التيمم مع الاحتلام اقتصارا علي مورد النص و الإجماع، مبني علي الرجوع في غير الاحتلام للعمومات، و الجمود فيه علي النص بعد حمله علي محض التعبد الملزم بالتمسك بإطلاقه.

ص: 446

______________________________

و قد سبق المنع من ذلك، و تنزيل النص علي العمومات.

كما أنّ الإجماع لم يثبت بعد قرب انصراف كلمات كثير عنه، كما انصرف عنه إطلاق النص.

سادسها: إذا كان زمان الغسل مساويا لزمان التيمم أو أقصر منه وجب الغسل بمقتضي ما سبق من تنزيل الصحيح علي القاعدة، لأن بدلية التيمم اضطرارية، فلا يشرع مع القدرة علي الغسل، كما صرح بذلك في التذكرة و الدروس و الروض و المسالك و محكي الذكري و غيرها.

بل لعل عدم تعرض جملة من الأصحاب بذلك للغفلة عنه لندرة إمكان الغسل في الزمان المذكور من دون تلويث بالنجاسة، خصوصا في مورد النص، و هو الاحتلام الذي اقتصر عليه جماعة منهم، و لا سيما من استدل بالعمومات، كالمعتبر و المنتهي و محكي نهاية الاحكام.

و كأنه لذلك نزّل في مفتاح الكرامة كلام من أطلق وجوب التيمم علي غير الصورة المذكورة.

و ما في كلام بعضهم- كالدروس و الروض- من عدّ الخروج من المسجدين من الغايات التي يختص بها التيمم عن الغسل، لا ينافي ذلك، لأن الغسل الذي ذكرناه ليس للخروج، بل لمطلق الكون في المسجدين الشريفين الذي صرحوا بوجوب الغسل له، و لذا صرح به من حكم بوجوب الغسل في الفرض.

و منه يظهر أنّ عدم تنبيه جماعة لوجوب الغسل في الفرض لا يدل علي فهمهم التعبد من النص و الخروج به عن القاعدة.

كما ظهر ضعف ما في جامع المقاصد و المدارك و محكي الدلائل من وجوب التيمم حينئذ، عملا بإطلاق النص.

فإنّه يبتني علي الجمود علي عبارة النص، و قد سبق ضعفه، و تنزيله علي العمومات.

و ما في المدارك من عدم الوقوف علي دليل يقتضي اعتبار عدم الماء في

ص: 447

______________________________

جواز التيمم لغير الصلاة، غريب، فإنّ وضوح ذلك يغني عن الاستدلال له، و لذا لا ريب في عدم جواز التيمم لدخول المساجد أو قراءة العزائم أو نحوها مع التمكن من الماء، فتأمل.

و ما في الجواهر من أنّ اشتراط فقدان الماء في التيمم صار من قبيل الأصول و القواعد التي يكفي في الخروج عنها رائحة الدليل، كما تري لا يرجع إلي محصل.

و أما دعوي: أنّ مقتضي العمومات وجوب الغسل مع القدرة عليه و إن زاد زمانه علي زمان التيمم، و لا قائل بذلك، كما لا يمكن تنزيل الصحيح عليه، لندرة تعذر الغسل في المسجد و إن طال زمانه كثيرا، فيكشف عن عدم جريان الصحيح علي العمومات، و لزوم تحكيمه عليها.

فهي مدفوعة، بأنّ المانع من التيمم ليس هو مطلق القدرة علي الغسل، بل لا بد معها من عدم لزوم محذور منه، كالكون المحرم في المسجد، و هو لا يلزم مع قصر زمان الغسل أو مساواته لزمان التيمم، للاضطرار للكون بالمقدار المذكور حال الجنابة الرافع لحرمته.

و منه يظهر أنه لا حاجة لما في الروض من التسمك في المنع عن الغسل مع طول زمانه بالإجماع المشار إليه.

علي أنّ الجمود علي الصحيح لا يقتضي المنع عن الغسل، لظهوره في أنّ الأمر بالتيمم ليس نفسيا، بل لأجل المرور، و من الظاهر أنّ المراد به المرور حال الجنابة لا بعد ارتفاعها، و لذا لو اغتسل غفلة صح غسله و لم يجب التيمم، فلا ينافي جواز رفع الجنابة بالغسل، بل وجوبه بمقتضي العمومات المتقدمة، لأن التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه.

هذا كله في مورد الصحيح و هو المحتلم.

و أما غيره، فالأمر فيه أظهر، لعدم المخرج عن العمومات القاضية بوجوب الغسل.

و من ثمَّ جزم في الجواهر بوجوب الغسل فيه لو أبي عنه في المحتلم، جمودا

ص: 448

______________________________

علي الصحيح.

سابعها: ألحق في المنتهي و الدروس و محكي التحرير و الذكري و البيان و الألفية و غيرها الحائض بالجنب.

قال في مفتاح الكرامة: «و خلا عن ذلك كلام القدماء، إلا أبا علي، فإنّه ألزم الجنب و الحائض التيمم إذا اضطرا إلي الدخول، نقله عنه في الذكري».

و قد يستدل علي الإلحاق.

تارة: بمرفوع محمد بن يحيي عن أبي حمزة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد [أو مسجد] [1] الحرام أو مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله فاحتلم فأصابته جنابة، فليتيمم و لا يمرّ في المسجد إلا متيمما حتي يخرج منه ثمَّ يغتسل، و كذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك. و لا بأس أن يمرّا في سائر المساجد و لا يجلسان فيها» «2».

و اخري: بما في المنتهي، قال: «و لأن الاجتياز فيهما حرام إلا مع الطهارة، و هي متعذرة، و التيمم يقوم مقامها في جواز الصلاة، فكان قائما مقامها في قطع المسجد، و إن لم يكن التيمم هاهنا طهارة».

و يشكل الأول: بضعف السند. و ما في الجواهر من قوة الظن باتحاد سنده مع الصحيح السابق، و لا سيما مع روايته في الكافي الذي هو أضبط كتب الأخبار.

كما تري! إذ لا منشأ لتخيل الاتحاد إلا رواية محمد بن يحيي له مرفوعا إلي أبي حمزة و روايته للصحيح مسندا إليه، و هو قد يوجب الظن باتحاد الخبرين لا باتحاد السندين، فمع الاختلاف في المتن لا مجال للتعويل علي المرفوع.

و روايته في الكافي لا يكفي في الوثوق المعتبر في الحجية.

و عمل العلامة و بعض من تأخر عنه لا يكفي في الانجبار، كقوله في المنتهي:

إنّ الرواية مناسبة للمذهب، فإنّ مناسبتها للمذهب إن كانت بمعني الإجماع علي

______________________________

[1] هذه الزيادة موجودة في الطبعة الحديثة من الوسائل، و هي غير موجودة في الكافي.

______________________________

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 449

______________________________

مضمونها- كما قد يظهر من بعضهم- فلا مجال له بعد ما سبق من خلوّ كلام القدماء عنه، و إن كانت بمعني الموافقة لأصول المذهب و قواعده- كما هو الظاهر- كانت اجتهادا منه لا يكفي في الحجية. و لذا استشكل هو قدّس سرّه في التذكرة.

و يندفع الثاني، بما أشار إليه في المعتبر و غيره من أنّ التيمم إنما يقوم مقام الغسل عند تعذره مع قابلية المكلف للطهارة و تكليفه بها، كما في الجنب، دون الحائض المستمرة الحدث، و لذا لا تشرع منها بقية الغايات بالتيمم.

و وجوب تخفيفها للحدث بالغسل أو التيمم و إن أمكن- كما في المسلوس و المبطون و المستحاضة- و قد يناسبه استحباب الوضوء لها في بعض الموارد، إلا أنه محتاج إلي دليل، و لا تكفي فيه العمومات.

نعم، لو كان الخبر السابق حجة، صلح دليلا علي ذلك، و أمكن بلحاظه تنزيله علي القواعد من وجوب الغسل ذاتا و بدلية التيمم عنه اضطرارا، خلافا لما في الجواهر من منافاة اشتمال الخبر علي إلحاق الحائض للبدلية و كشفه عن أنّ وجوب التيمم تعبد محض لا ينزل علي القواعد.

لكن ضعف الخبر مانع من الخروج به عن الوجه الذي ذكرناه.

و منه يظهر ضعف ما عن الذكري من الإشكال في الوجه المذكور بأنه اجتهاد في مقابل النص، إذ لا بأس بالاجتهاد المبتني علي القواعد و الأصول العامة في قبال النص الضعيف.

نعم، ينهض الخبر بإثبات الاستحباب بناء علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، و لعله لذا لم يمنع عنه في المعتبر.

لكنه مختص بما إذا لم يستلزم مكثا زائدا علي ما يقتضيه المرور اللازم.

و أما إلحاق النفساء، فهو المحكي عن المحقق الثاني، و هو يبتني علي إلحاقها بالحائض في الاحكام- كما قيل، بل قيل: إنّها حائض في المعني- بعد المفروغية عن إلحاق الحائض بالجنب.

هذا كله في المرور قبل النقاء، أما بعده قبل الغسل، فهي بحكم غير المحتلم

ص: 450

______________________________

من أفراد الجنب- كما في حاشية المدارك و محكي الذكري- و قد سبق أنه يجب عليه التيمم.

ثامنها: قال المحقق الثاني في محكي شرح الألفية: «إنما خص الحكم بالمسجدين، لأن الاجتياز في غيرهما غير مشروط بالطهارة، فيبادر إلي الخروج»، و وافقه علي الحكم في المدارك و غيرها.

و قد يشكل ما ذكره من الوجه بأنّ الاجتياز إنما يكون بالعبور من جهة لأخري في طريق يمر بالمسجد، و لا يصدق علي العبور من وسط المسجد إلي خارجه، كما لا يصدق علي العبور من خارجه إلي وسطه. و لذا كان الظاهر تحقق العصيان بالدخول إلي آخر المسجد ثمَّ الرجوع و الخروج من باب واحد في تمام زمن الكون في المسجد، كما لو جلس في المدة المذكورة في بابه، لا في خصوص زمن الدخول مع إباحة الخروج، لأنه اجتياز.

و لازم ذلك أن تكون حلية الخروج للمحتلم في سائر المساجد للاضطرار لا لخروجه عن موضوع الحرمة، و هو يقتضي مشروعية التيمم له بمقتضي العمومات بالتقريب المتقدم في المسجدين الشريفين.

فالعمدة في الحكم، ظهور الصحيح في تخصيص وجوب التيمم للخروج بالمسجدين الشريفين، حيث يكون هو المخرج عن العمومات المقتضية لمشروعية التيمم، و ليس عدم وجوبه، لاحتياج العبادة عن التوقيف مع قصور الصحيح عن إثباته، كما في المدارك.

كما أنّ ظاهر الصحيح أنّ عدم وجوب التيمم للمحتلم ليس تخصيصا للعمومات المذكورة، بل تخصصا، لقصورها عن المرور المذكور، لأن ظاهر المقابلة فيه بين المرور و الجلوس في بقية المساجد بضميمة ما تضمن اختصاص الحل بالاجتياز و عبور السبيل كون الخروج من المسجد كالعبور به من جهة لأخري، و أنّ المراد من الاجتياز و عبور السبيل المأخوذين عنوانا لموضوع الحل ما يعمهما، و إن كان هو خلاف ظاهرهما بدوا.

ص: 451

______________________________

لكن المتيقن من ذلك ما إذا كانت الجنابة في المسجد، حيث لا يكون المكلف موضوعا للخطاب بعدم القرب إلا حينئذ، فهو في خروجه يشبه عابر السبيل في عدم كون قربه للمسجد إلا مارا به في طريق الخروج منه، من دون أن يكون منظورا بنفسه، دون غيره من أفراد الخروج، بل تحرم بمقتضي العمومات، كما سبق.

و لذا ليس لمن دخل مجتازا من جهة لأخري العدول عن ذلك و الخروج من نفس الجهة التي دخل منها.

و لازم ما ذكرنا جواز إجناب المكلف نفسه في المسجد إذا لم يستلزم المكث بعد الجنابة، كما يكون له ذلك حال الاجتياز الحقيقي به بالدخول من جهة و الخروج من أخري.

كما أنّ لازم الاختصاص المذكور، الاقتصار في عدم وجوب التيمم علي الجنابة الاختيارية أو الاضطرارية في المسجد، دون الجنابة خارجه إذا صادف دخول الجنب للمسجد عصيانا أو نسيانا و أراد الخروج منه، فإنّه حيث لا يكون خروجه اجتيازا و لا داخلا في مفاد الصحيح كان مقتضي عموم حرمة الكون في المسجد للجنب مشروعية التيمم له في فرض تعذر الغسل، نظير ما سبق في المسجدين الشريفين.

نعم، يلزم الاقتصار علي ما إذا لم يستلزم التيمم مكثا زائدا في المسجد، فإنّ مشروعية التيمم موقوفة علي أهمية الطهارة حين الخروج من حرمة المكث الزائد، و لا طريق لإحراز الأهمية المذكورة، و مجرد ثبوتها في المسجدين بالصحيح المتقدم لا يقتضي ثبوتها في غيرهما.

لكن الإنصاف أنّ وجوب التيمم للخروج علي من دخل جنبا عمدا أو معذورا لا يناسب سيرة المتشرعة، بل لا يناسب إهمال الأصحاب التنبيه عليه مع كثرة الابتلاء به بنحو يبعد جدا خفاء الحكم فيه، فلا بد من البناء علي عدم وجوبه، و لو تخفيفا من الشارع الأقدس، أو لعدم أهمية الحرمة بالنحو المقتضي لتشريع التيمم،

ص: 452

______________________________

و إن كان الخروج محرما ذاتا كالدخول، فلا يجوز العدول عن الاجتياز في الأثناء، كما ذكرنا، فتأمل جيدا.

ثمَّ إنّ مقتضي العمومات وجوب التيمم للمكث في سائر المساجد لو اضطر إليه. و يؤيده الصحيح الوارد في المسجدين، لأن المكث في سائر المساجد كالعبور في المسجدين في الحرمة.

هذا، و عن الذكري استحباب التيمم للمحتلم في بقية المساجد، للقرب من الطهارة، و استضعفه في المدارك و محكي الدلائل.

و هو مناسب لما تقدم منه في حكم المشاهد المشرفة من كراهة الاجتياز في المسجد للجنب، لأن مقتضي الكراهة المذكورة استحباب الطهارة الترابية عند الاضطرار للمرور و تعذر الغسل.

لكن في مفتاح الكرامة: «و قطع الأستاذ بالعدم، لأن قطع المساجد الباقية غير محظور، فكيف يباح الحرام- أعني اللبث- لإصابة المندوب. قال: نعم، لو اتفق له ماشيا كان احتمالا»، و هو متين جدا، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

تاسعها: قال في مفتاح الكرامة: «و احتمل في النهاية اشتراط تراب غير المسجد لو وجده، و لعل ذلك لما في بدن المجنب من الخبث، فلا يمس تراب المسجد، أو لأنه يعلق منه بعض الشي ء فيلزم إخراجه منه، فتأمل».

و لعله أشار بالأمر بالتأمل إلي اندفاع الأول إن كان في مواضع التيمم برطوبة مسرية نجس تراب المسجد فلا يصح التيمم به و لو مع الانحصار، كما يكون تحريم تنجيس المسجد مزاحما لوجوب التيمم مع الانحصار، فلا يجب التيمم، لعدم إحراز أهميته، و إلا فلا منشأ لاحتمال مانعيته.

و الثاني بأنّ العالق من الغبار الذي لا أهمية له تقتضي تحريم إخراجه، بل هو كالعالق بالخف و البدن و الثوب عند وضعها علي أرض المسجد.

علي أنه يكفي في جوازه الصحيح، لأن حمله علي التيمم من غير المسجد حمل له علي الفرد النادر، كما أنه لا يناسب التفصيل بين الانحصار و عدمه، للغفلة

ص: 453

______________________________

عنه جدا.

عاشرها: قال في مفتاح الكرامة أيضا: «و في حاشية علي الدروس: أنه يستوي تمام الجنب و أبعاضه و سطح المسجد و أرضه، و في الأول تأمل».

و كأنه لقصور العناوين التي تضمنتها النصوص من الدخول و الجلوس و المشي و المرور عن بعض البدن.

لكن يكفي فيه النهي عن القرب في الآية و صحيح محمد بن مسلم «1»، لظهوره- بعد تعذر حمله علي المعني الحقيقي- في النهي عن أدني ملابسة و لزوم كمال المباينة، بنحو لا يناسب جواز كون بعض بدن الجنب في المسجد.

و منه يظهر عموم المنع في بقية المساجد.

الثاني- من الفروع التي أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه-: المتيقن من موضوع أحكام المسجدين الشريفين ما كان منهما أصليا دون الزيادات الحادثة فيهما.

نعم، قد يستفاد من نصوص أحكامهما إلحاق الزيادات الموجودة في عصر صدورها لو لم تكن متميزة عن الموضع الأصلي منهما، لأن عدم التنبيه علي استثنائها مع غفلة العامة عنه موجب لظهورها فيما يعمها.

و لا مجال لاستفادة العموم للزيادات الحادثة بعد ذلك، لأن عنوان المسجدين في نصوص أحكامهما ليس من سنخ الكلي غير المحدود الأفراد ليمكن صدقه في زمان علي ما لم يصدق عليه في عصر صدورها، بل هو جزئي محدد الأجزاء لا ينطبق علي ما لم ينطبق عليه حين صدورها.

نعم، لو كان دليل إلحاق الزيادات مستقلا أمكن حمله علي القضية الحقيقية بنحو يشمل كل زيادة تعرض.

كما أنه لو فرض القطع بعدم الفرق بين الزيادات، تعين بضميمة ما ذكرنا العموم لجميعها، لكن لا طريق له، خصوصا مع تميز الزيادة خارجا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 17.

ص: 454

______________________________

الثالث: لو انحصر الماء الذي يغتسل به من الجنابة في المسجد، فإن لم يستلزم استعماله الدخول المحرم علي الجنب- كما لو أمكن أخذه بالاجتياز، أو بدونه بناء علي جواز الدخول في المسجد للأخذ- فلا إشكال، حيث يجب أخذه بلا تيمم.

و إن استلزم الدخول المحرم- كما لو كان في المسجدين الشريفين أو في غيرهما و توقف علي المكث الزائد علي ما يقتضيه الأخذ، كالاستقاء من بئر المسجد، حيث سبق تحريمه، أو انحصر مكان الغسل بالمسجد- جاز الدخول بالتيمم- كما استظهره في الفرض الأخير في الجواهر- بل وجب، جمعا بين وجوب الغسل و حرمة الدخول حال الجنابة، و بدلية التيمم عن الغسل.

و مثله ما لو انحصر مكان الغسل بالمسجد مع أخذ الماء من خارجه.

و قد أشار في الجواهر و غيره للإشكال في ذلك، بأنّه يلزم من صحة التيمم عدمها، لأن صحته توجب جواز الدخول للمسجد و القدرة علي الغسل، و مع القدرة عليه يبطل التيمم، فيحرم الدخول للمسجد و يتعذر الغسل، فيلغو تشريع التيمم في هذا الحال، لعدم الأثر، بل تشريع التيمم في هذا الحال و لو لم يوجد بعد و لم يصح يستلزم عدم تشريعه، لأن تشريعه، بنفسه موجب للقدرة علي الغسل الرافع لمشروعيته.

و لعل هذا هو مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه من قوله: «و ما يلزم من وجوده عدمه محال».

و إلا فلا محالية في كون وجود الأمر الاعتباري في المرتبة السابقة علة لارتفاعه في المرتبة اللاحقة، إذ اقتضي ذلك دليل جعله و اعتباره، كما قد يكون حدوث الأمر التكويني في الزمان السابق علة لارتفاعه في الزمان اللاحق، بأن يكون علة لما يمنع من استمراره. و نظيره ما تضمن أنّ من ملك أباه عتق عليه، و إن فارق ما نحن فيه يترتب الأثر علي جعل الملكية في المرتبة السابقة، و هو العتق، فلا يلغو جعلها، بخلاف صحة التيمم و مشروعيته في المقام.

ص: 455

______________________________

و كيف كان، فقد ذكر غير واحد اندفاع الإشكال المذكور بأنه يكفي في صحة التيمم لغاية عدم الوجدان بالنسبة إليها، و إن تحقق الوجدان بالنسبة لغيرها، فالدخول في المسجد الخاص حيث يتعذر إيقاعه عن غسل شرع التيمم له، و لا يبطل تيممه لعدم القدرة به علي الغسل للدخول المذكور، أما بقية الغايات فحيث يمكن الغسل لها و لو بعد الدخول للمسجد بالتيمم فلا يجوز إيقاعه بالتيمم المذكور، و لا بالتيمم له.

فالمقام نظير تيمم المحتلم للخروج من المسجدين مع وجدان الماء خارجهما، حيث لا يشرع به غير الخروج من الغايات، و كالتيمم للصلاة التي ضاق وقتها، الذي لا يشرع به غيرها.

و لازم ذلك تشريع التيمم من أول الأمر للدخول المذكور دون غيره من الغايات، و بقاؤه علي ذلك من دون أن يبطل.

و مثله الإشكال بأنّ وجوب التيمم لما كان في طول وجوب الغسل فلا مجال له في المقام، لعدم وجوب الغسل للدخول للمسجد، لارتفاع موضوع وجوب الدخول بالغسل قبله، لأن الدخول إنما يجب لتحصيل الغسل، فمع تحقق الغسل قبله يرتفع وجوبه.

لاندفاعه بأنّ وجوب التيمم في المقام ليس غيريا و لا شرعيا، لعدم توقف الدخول و لا الغسل علي التيمم، بل عقلي بملاك وجوب إطاعة تكليفي المولي من تحصيل الغسل و اجتناب الدخول حال الجنابة، نظير تيمم المحتلم للخروج من المسجدين، الذي هو واجب عقلا، فرارا من الوقوع في المرور المحرم من دون أن يكون واجبا غيريا.

و ليس المجعول الشرعي في المقام إلا ارتفاع حرمة الدخول للمسجد علي الجنب بالتيمم، و التيمم في ذلك في طول الغسل، و قد سبق في المسألة السابعة و التسعين من أحكام الوضوء أنّ اللزوم العقلي بالملاك المذكور كاف في التقرب المعتبر في الطهارة، كما سبق في التنبيه الثاني من

ص: 456

______________________________

الفرع الأول ما يصلح شاهدا له في المقام.

نعم، لا بد من البناء علي جواز الدخول للمسجد بالتيمم، و علي كونه من الغايات التي يجوز إيقاع التيمم لأجلها- كما هو الظاهر- أما بناء علي عدم تسويغ التيمم الدخول للمسجد- كما عن الفخر- فيكون الغسل متعذرا شرعا، فيجب التيمم لجميع ما يعتبر فيه الطهارة من الصلاة و غيرها.

و كذا الحال بناء علي تسويغ التيمم له، إلا أنه لا يجوز إيقاع التيمم لأجله، بل يسوغ بعد التيمم المأتي به لغاية أخري مشروطة بالطهارة، كما عن بعض الأعاظم قدّس سرّه، حيث لا بد من إيقاع التيمم للغايات الأخر لتعذر الغسل لها، لعدم المسوغ للدخول للمسجد.

لكن قد يشكل ذلك بأنّ تعذر الغسل للغايات المذكورة و إن اقتضي مشروعية التيمم لها إلا أنه بعد إيقاع التيمم لها حيث يجوز له الدخول للمسجد و استعمال مائه يكون قادرا علي إيقاع تلك الغايات بالغسل، فيجب الغسل لها، و لا يشرع إيقاعها بالتيمم، و إنما يبقي التيمم مسوغا للدخول للمسجد، لعدم القدرة علي الغسل له.

و قد أجيب عنه.

تارة: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في المسألة الخامسة و الثلاثين من فصل مسوغات التيمم، و أشار إليه شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من لزوم الخلف، لفرض قصد الغايات المذكورة بالتيمم، فكيف يكون مانعا من إيقاعها به و موجبا لوجوب الغسل لها؟! و أخري: بما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من لزوم كون التيمم الناشئ من تعذر الغسل رافعا لتعذره، فيرجع إلي كون المعلول رافعا لعلته.

و لعله لذا قال بعض الأعاظم قدّس سرّه في حاشيته علي المقام من العروة الوثقي:

«الأظهر كونه من فاقد الماء، و لا يباح له الاغتسال في المسجد، و لا الدخول فيه لأخذ الماء، و لا يستباح بهذا التيمم شي ء من ذلك»، و تابعه علي ذلك شيخنا الأستاذ بناء

ص: 457

______________________________

علي عدم جواز التيمم للدخول للمسجد.

أما سيدنا المصنف قدّس سرّه، فقد ذكر أنّ البناء علي ذلك يقتضي جواز الدخول للمسجد و عدم وجوب الغسل.

و كأنّ الفرق بينهما للفرق في وجه المنع، فإن كان هو الوجه الأول- أعني لزوم الخلف- كان اللازم الاقتصار علي عدم بطلان التيمم للغايات المأتي بها لأجلها و عدم وجوب الغسل لها، مع جواز الدخول للمسجد، أخذا بما دل علي جوازه للمتيمم، و إن كان هو امتناع رفع المعلول لعلته، فحيث كانت علة التيمم هي تعذر الغسل المسبب عن حرمة الدخول للمسجد استحال رفعه للحرمة المذكورة.

هذا، و حيث كان الالتزام بعدم وجوب الغسل مع جواز الدخول، أو مع حرمته، مخالفا للعمومات المقتضية لوجوب الغسل علي القادر عليه، و لجواز دخول المسجد بالتيمم المأتي به لغاية أخري، لزم الاقتصار فيهما علي مورد المحذور المانع من العمل بالعمومات.

فيقتصر في عدم وجوب الغسل- علي تقدير جواز الدخول- علي خصوص الغاية التي تيمم لها، فلو تيمم لصلاة الظهر أوقعها به، دون صلاة العصر، فضلا عن الطواف و قراءة العزائم، بل يجب الغسل لها بعد فرض التمكن منه بسبب التيمم المذكور، و ليس له التيمم لكلتا الصلاتين، لاختصاص المحذور في الغسل بالأولي منهما، بعد فرض عدم المحذور من وجوب الغسل للثانية بسبب التيمم للأولي، و فرض القدرة عليه به.

كما أنه يقتصر في حرمة الدخول علي خصوص المسجد الذي يقدر علي الغسل بالدخول فيه، دون غيره، و لو كان أهم منه كالمسجدين الشريفين.

بل يقتصر فيه علي خصوص ما إذا كان الدخول فيه مستلزما للقدرة علي الغسل، فلو ذهب الماء منه أو امتنع الأخذ منه جاز الدخول و لو عاد حرم، و هكذا.

بل يقتصر في حرمة الدخول علي خصوص الغاية التي أوقع التيمم لها، كصلاة الظهر في الفرض، لأن المصحح للتيمم لها هو تعذر الغسل لها، لا تعذره

ص: 458

______________________________

لغيرها، فلا مانع من رفعه تعذر الغسل لغيرها، فيجوز الدخول للمسجد، بل يجب لأجل الغسل لبقية الغايات، لكن بعد الإتيان بالغاية التي أوقع التيمم لها، كي لا يرفع تعذر الغسل لها.

و من الظاهر أنّ التفصيل بأحد النحوين المذكورين- لو فرض التزامهم به- بعيد في نفسه جدا، كبعد أصل المطلب و عدم مناسبته للأذواق المتشرعية، بنحو يطمأن بخلل في مبني الحكم، و هو عدم جواز الدخول للمسجد بالتيمم له، بل بالتيمم لغاية أخري، و أنه يجوز التيمم لدخول المسجد- كما سبق منا- أو لا يجوز الدخول له بالتيمم مطلقا- كما عن الفخر- أو بخلل في الوجهين العقليين المذكورين المستلزمين لأحد التفصيلين، بنحو يصعب الخروج بهما عن مقتضي العمومات.

و كيف كان، فقد يدفع الأول بأنّ الخلف إنما يلزم في الأمور التكوينية، أو الشرعية الاعتبارية إذا لم يتبدل الموضوع، أما مع تبدله فلا خلف، و لا محذور، فلا مانع في المقام من حكم الشارع أولا بوجوب التيمم دون الغسل لمثل الصلاة، لتحقق موضوعه، و هو تعذر الغسل لها، ثمَّ بعد وقوعه يتبدل الحكم إلي وجوب الغسل لها و عدم الاجتزاء بالتيمم، لارتفاع موضوعه للقدرة علي الغسل بسبب التيمم.

غايته أنّ تشريع التيمم و القدرة عليه تكوينا قبل الإتيان به لا تقتضي القدرة علي الغسل بالنحو الرافع لمشروعيته قبل الإتيان به، لئلا يلزم من تشريعه عدمه فيلغو تشريعه، بل لا بد في ارتفاع مشروعيته من فعلية القدرة علي الغسل التابعة للإتيان بالتيمم، فيلزم عدم جواز إيقاع الصلاة به بعد وقوعه، و إن ساغ به دخول المسجد و ارتفع به تعذر الغسل للصلاة، ليكون ذلك رافعا للغوية تشريعه.

و دعوي: أنه مع العلم بارتفاع مشروعية الصلاة بالتيمم بعد وقوعه لا مجال لقصدها منه غاية له.

مدفوعة: بأنّ قصدها غاية إنما هو للتقرب بها، بلحاظ أنّ قصد الغاية من ذي الغاية موجبا لكونه شروعا في امتثال أمرها، لدعوة الأمر بها إليه في طول دعوته إليها،

ص: 459

______________________________

و هو حاصل في المقام، لأن التيمم شروع في امتثال الأمر الفعلي بالصلاة مثلا، لدعوة الأمر بها إليه قبل الإتيان به.

و العلم بانقلاب الحال لتبدل الموضوع بعد ذلك، لا ينافي التقرب المتفرع علي الداعوية، و ليس هو كالعلم بعد ترتب ذي المقدمة علي بعض أفراد المقدمة في عدم إمكان التقرب بها بقصده منها في سائر الموارد، لعدم داعوية الأمر بالشي ء إلي المقدمة غير الموصلة من أول الأمر.

بل هو نظير العلم بنسخ التقييد بعد الإتيان بالمقدمة، كما لو علم بأنّ تحمله الزحمة في الوضوء موجب لنسخ الشارع وجوب الطهارة للصلاة و تقييدها بها، حيث يكون الأمر بالصلاة قبل النسخ داعيا للوضوء و إن علم بعدم شرطيته فيها حين الإتيان بها، فتأمل.

و أما الثاني، فيندفع بأنّ استحالة رفع الشي ء لعلته إنما هي بلحاظ افتقاره إليها، و هو في كل آن إنما يفتقر إلي وجود علته في ذلك الآن، لا فيما بعده بل هو ليس علة في الحقيقة، فلا مانع من رفعه لها في الآن اللاحق، فإن كانت علة له بحدوثها و بقائها ارتفع بتبعها، و إن كانت علة بحدوثها، و كان بقاؤه لاستعداد ذاته أو لعلة أخري باقية معه لم يرتفع.

و في المقام، حيث كانت صحة التيمم الواقع مسببة عن مشروعيته المسببة عن حرمة الدخول للمسجد و تعذر الغسل للصلاة قبل التيمم، فلا مانع من رفع التيمم بعد وقوعه للحرمة و التعذر المذكورين، بنحو يستلزم وجوب الغسل للصلاة و بطلان التيمم لها في الرتبة اللاحقة لحدوثه مع بقائه صحيحا بالإضافة لدخول المسجد، لبقاء تعذر الغسل بالإضافة إليه.

نعم، لو كان بطلان التيمم بالإضافة للصلاة بسبب رفعه لتعذر الغسل لها مستلزما لبطلانه بالإضافة لدخول المسجد أيضا حتي مع بقاء تعذر الغسل بالإضافة إليه، اتجه امتناع رفعه لحرمة دخول المسجد و تعذر الغسل للصلاة، لاستلزامه لغوية تشريع التيمم من أول الأمر، لعدم الأثر له.

ص: 460

______________________________

لكن الوجه المتقدم لا يفي بذلك و لا يشير إليه، كما لا مجال لتحقيقه، لبطلان ما يبتني عليه، و هو عدم جواز التيمم بداعي دخول المسجد، كما سبق.

و لا بد من التأمل فيما ذكرناه جيدا، فإنّ المسألة من المشكلات، و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق. و هو حسبنا و نعم الوكيل.

بقي في المقام أمران.

الأول: ظهر مما سبق أنه لا مجال للإشكال في وجوب الغسل للصلاة في الفرض بناء علي جواز التيمم لدخول المساجد، للقدرة معه علي الصلاة بالغسل، فلا يشرع لها التيمم من أول الأمر، و إنما يشرع لدخول المسجد لتعذر الغسل له.

و هو ظاهر، بناء علي ما سبق منا من جواز التيمم لرفع حرمة ما يحرم علي المحدث لو تحقق الداعي له، كقراءة العزائم و مس الكتاب، علي ما تقدم نظيره في المسألة السابعة و التسعين من مباحث الوضوء.

و أما بناء علي ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من منع ذلك و أنه لا بد في التقرب بالطهارة من قصد أمر شرعي بها و لو كان مقدميا بلحاظ شرطيتها لواجب أو مستحب، فقد حاول قدّس سرّه توجيه وجوب الغسل للصلاة.

تارة: باستحباب التيمم لدخول المسجد علي طهارة.

و أخري: باستحبابه للكون علي طهارة مطلقا و لو في غير المسجد، فيجب اختيار أحدهما لتحصيل الغسل للصلاة المقدور بسبب القدرة عليهما.

لكن من الظاهر أنّ كليهما محتاج إلي عناية في حق كثير من الناس، إذ لا بد في مقربية الأمر من صلوحه للداعوية الاستقلالية، و هو لا يتسني في حقهم، لعدم اهتمامهم بالأمرين المذكورين، و لا يدعوهم إلا ما يهمهم من وجوب الصلاة و حرمة الدخول للمسجد.

و لا مجال للاكتفاء بقصد أحدهما لأجل توقف الغسل للصلاة مع تجنب الحرمة عليه من باب داعي الداعي، لأن الداعي الحقيقي في الباب المذكور هو الداعي الأخير لا الداعي الطولي المباشر، فمع فرض عدم صلوح داعي الداعي

ص: 461

______________________________

للمقربية المعتبرة لا تصح العبادة بذلك.

فلا بد من البناء علي تكليفهم بحمل أنفسهم علي الاهتمام بأحد الأمرين المذكورين بالوعظ و الترغيب و الترهيب حتي يستقل بالداعوية، فإن تيسر لهم ذلك، و إلا تعذر منهم الغسل للصلاة، فيشرع لهم التيمم لها، كما لو لم يستحب التيمم بأحد الوجهين المذكورين.

علي أنه قد يشكل الاعتماد علي الأمر الثاني، و هو الأمر بالكون علي الطهارة، لوضوح أنه كما يقدر علي الغسل للصلاة بالتيمم للكون علي الطهارة يقدر علي الغسل للكون علي الطهارة بالتيمم للصلاة، لما سبق منا من أنه بناء علي تمامية المحذورين المتقدمين إنما يمتنع بطلان التيمم بالإضافة إلي الغاية التي أتي به لأجلها دون غيرها من الغايات، بل يتعين الغسل لها، و لذا حكم قدّس سرّه بوجوب الغسل للصلاة لو تيمم للكون علي الطهارة، فحلّ له دخول المسجد.

و حينئذ كما يكون الأمر بالصلاة عن غسل داعيا للتيمم للكون علي الطهارة، يكون الأمر بالكون علي الطهارة عن غسل داعيا للتيمم للصلاة، فيتعين التخيير.

و دعوي: أنّ أهمية أمر الصلاة لكونه وجوبيا تقتضي ترجيحه عند التزاحم.

مدفوعة: بأنّ المقام ليس من صغريات التزاحم، و لذا يجوز عنده قدّس سرّه ترك الغسل للصلاة مع القدرة عليه لو شرع له التيمم لها، حيث يجوز له حينئذ دخول المسجد و يقدر به علي الغسل، بل هو من صغريات التوارد، حيث يكون امتثال كل من الأمرين رافعا للتكليف بالآخر، و لا ترجيح فيه بالأهمية.

و هذا بخلاف الأمر بدخول المسجد عن طهارة، لوضوح تعذر الغسل له علي كل حال، فالأمر به لا يدعو للتيمم للصلاة، بل الأمر بالصلاة يدعو للتيمم له لا غير، فيجب.

و دعوي: أنّ الكون علي الطهارة مطلقا و لو في غير المسجد مستحب في كل آن و زمان، و حيث يتعذر الغسل له في الأزمنة الأولي- كالدخول للمسجد- كان الأمر به فيها داعيا للتيمم لا غير، فلا يدعو للتيمم للصلاة.

ص: 462

______________________________

مدفوعة: بأنّ التعذر الذي يشرع به التيمم في مثل الكون علي الطهارة من الغايات غير المؤقتة هو التعذر في أمد معتد به، بحيث يصدق به عرفا عدم وجدان الماء، لا التعذر في الزمن القليل، كما في الفرض.

و قد اعترف قدّس سرّه بذلك في الجملة في المسألة الواحدة و الثلاثين من فصل مسوغات التيمم من مستمسكه.

و لذا لا إشكال ظاهرا في عدم جواز التيمم مع قصر أمد تعذر الغسل، لاستحباب قراءة سور العزائم و الدخول للمسجد عن طهارة، مع وضوح استحبابهما في كل آن و زمان.

و من هنا ينحصر علي مبناه قدّس سرّه التخلص عن الإشكال بالأمر الأول، و هو استحباب الدخول للمسجد عن طهارة، لتعذره حقيقة و عرفا في محل الكلام.

و من الظاهر أنه لا مجال لنظيره فيما لو توقف الغسل أو الوضوء علي مس الكتاب المجيد، حيث لا يستحب المس عن طهارة، و إنما يحرم علي المحدث لا غير، فيجوز، بل يجب التيمم للصلاة، و يحل به المس الموجب للقدرة علي الغسل، و لكن له تأخيره بعد الصلاة بالتيمم المذكور، فرارا عن محذور الخلف.

و هو من الغرابة بمكان.

الثاني: بناء علي وجوب التيمم لدخول المسجد ثمَّ الغسل للصلاة، فلو تيمم هل يجب عليه المبادرة للغسل أو أخذ الماء أولا؟ صرح بالثاني سيدنا المصنف قدّس سرّه قال: «لعدم المقتضي له بعد كونه بالتيمم بحكم الطاهر».

لكن لما كانت الطهارة اضطرارية، فلا مجال لاستباحة المكث في المسجد بالمقدار الزائد علي الحاجة، لعدم صدق عدم الوجدان بالإضافة إليه.

و عليه يبتني وجوب المبادرة للخروج من المسجدين علي المحتلم فيهما إذا تيمم، كما سبق.

و من هنا صرح في العروة الوثقي بالاقتصار علي مقدار الحاجة، فلو فرط بالتأخير في المسجد احتاج لتجديد التيمم، لتجدد التعذر بالإضافة للزيادة فلا يكفي

ص: 463

______________________________

لها التيمم السابق علي التعذر، كما لو دخل المسجد في الفرض و أراق الماء، حيث لا يكفيه التيمم الأول للصلاة، لسبقه علي تعذر الغسل لها.

نعم، لا يبعد عدم وجوب المبادرة بعد التيمم بالدخول للمسجد- للغسل أو أخذ الماء- لأن التيمم إنما يشرع للمكث في المسجد بمقدار الحاجة، لتعذر الغسل له، من دون فرق بين أزمنته.

و ربما يحمل عليه ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه، و إن كان بعيدا بملاحظة تعليله و مساق كلامه، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 464

الفصل الثالث فيما يكره علي الجنب

الفصل الثالث قد ذكروا أنه يكره للجنب الأكل و الشرب (1)،

______________________________

(1) كما هو المصرح به في كلام جماعة كثيرة، بل في الغنية دعوي الإجماع عليه، و في التذكرة و عن فوائد الشرائع نسبته إلي علمائنا، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه.

و ما في كلام بعض من دعوي الشهرة أو نحوها راجع لارتفاع الكراهة ببعض الأمور الآتية، لا بلحاظ أصل الكراهة، ليدل علي مخالف فيها و قائل بالحرمة.

لكن أطلق في المقنع و محكي المهذب النهي عنهما، من دون تنبيه علي الكراهة، بل في الهداية في بيان غسل الجنابة: «و إن شئت أن تتمضمض و تستنشق فافعل، و ليس ذلك بواجب، لأن الغسل علي ما ظهر لا علي ما بطن، غير أنك إذا أردت أن تأكل أو تشرب قبل الغسل لم يجز لك إلا أن تغسل يديك و تمضمض و تستنشق، فإنك إن أكلت أو شربت قبل ذلك خيف عليك من البرص»، و نحوه في الأمالي و الفقيه، و زاد فيه: «و روي: أنّ الأكل علي الجنابة يورث الفقر».

لكن لا يبعد ظهور التعليل في كلامه في الكراهة، بل يتعين حمله عليها، بلحاظ ما يأتي من المفروغية عن عدم الحرمة.

و لعله لذا نسب إليه القول بها في المعتبر و ظاهر جامع المقاصد و كشف اللثام، بل لم ينسب الخلاف إليه أحد ممن تيسر لي العثور علي كلامه.

ص: 465

______________________________

و كيف كان، فيدل علي الكراهة- مضافا إلي مرسل الفقيه «1» المتقدم الذي رواه مسندا عن أمير المؤمنين عليه السّلام في الخصال «2» و نحوه حديث المناهي «3»، و مرسلا جامع الأخبار عنه صلّي اللّه عليه و آله و مشكاة الأنوار عن أمير المؤمنين عليه السّلام «4» و إلي مرسل الفتال المتضمن أنّ الأكل علي الجنابة يورث البرص «5» - موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «لا يذوق الجنب شيئا حتي يغسل يديه و يتمضمض، فإنّه يخاف منه الوضح» «6».

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه قال: «إذا كان الرجل جنبا لم يأكل و لم يشرب حتي يتوضأ» «7».

بل قد يحمل عليها صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: الجنب إذا أراد أن يأكل و يشرب غسل يده و تمضمض و غسل وجهه و أكل و شرب» «8».

و صحيح عبد الرحمن: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يأكل الجنب قبل أن يتوضأ؟ قال: إنا لنكسل، و لكن ليغسل يده، فالوضوء أفضل» «9».

لأن الأمر فيهما و إن كان ظاهرا بدوا في استحباب الأمور المذكورة قبل الأكل، لا كراهته بدونها، إلا أنّ تنزيله علي الكراهة جمعا مع ما سبق قريب جدا.

بل الظاهر تنزيله عليها مع قطع النظر عما سبق، لأن الاستحباب إنما يكون لتحصيل مرتبة من الكمال، و اختصاص ذلك بالجنب بعيد جدا، بل المناسب

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3 و 4.

(5) الوسائل باب: 40 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(8) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(9) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 466

إلا بعد الوضوء أو المضمضة و الاستنشاق (1)،

______________________________

ورود الأمر بالأمور المذكورة لتجنب نقص يختص به الجنب، و هو معني كراهة الأكل بدونها، بل هو الظاهر من السؤال في صحيح عبد الرحمن.

و مما سبق يظهر ضعف ما في المدارك من انحصار الدليل بالصحيحين المذكورين، و أنّ الأول منهما تضمن الأمر بالأمور المذكورة فيه، و الثاني تضمن استحباب الوضوء أو غسل اليد، و ليس فيهما دلالة علي كراهة الأكل و الشرب بدون ذلك.

و قريب منه ما في جامع المقاصد من استحباب ما عدا المضمضة و الاستنشاق مع زوال الكراهة بهما، و ما في المسالك من ابتناء الكراهة مع الاقتصار عليهما علي كراهة ترك المستحب.

لابتناء جميع ذلك علي غض النظر عن ظاهر بقية النصوص، و إغفال ما ذكرناه في الصحيحين.

هذا، و كأنّ وجه حمل النهي و الأمر في النصوص علي الكراهة دون الحرمة مناسبتها للتعليل الذي تضمنته النصوص، و ظهور شدة اختلافها في رافع النهي في عدم أهميته، مضافا إلي ظهور المفروغية عن عدم الحرمة بين الأصحاب، مع سيرة المتشرعة القطعية، حيث لا يحتمل خفاء مثل هذا الحكم الذي يشيع الابتلاء به.

و أما موثق ابن بكير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب، يأكل و يشرب و يقرأ القرآن؟ قال: نعم يأكل و يشرب و يقرأ و يذكر اللّه عز و جل ما شاء» «1»، ففي صلوحه للقرينية علي حمل النصوص المتقدمة علي الكراهة إشكال، لإمكان حمله علي الجواز من حيثية الجنابة مع التوقف علي أحد الأمور المذكورة في تلك النصوص.

(1) كما في المنتهي و الدروس و الروض و الروضة و عن التحرير و نهاية الاحكام. و اقتصر علي المضمضة و الاستنشاق في المبسوط و النهاية و إشارة السبق

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 467

______________________________

و الغنية و الوسيلة و الشرائع و النافع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و اللمعة و محكي الاقتصاد و المصباح و مختصره و السرائر و فوائد الشرائع، و نسبه في المعتبر للصدوقين و الشيخين و المرتضي و أتباعهم، و ظاهر كشف اللثام أنّه المشهور، بل ظاهر الغنية و التذكرة و محكي فوائد الشرائع الإجماع عليه.

و زاد عليهما الصدوق فيما تقدم غسل اليدين.

و جعله في المسالك الأفضل. قال: «و أكمل من الجميع الوضوء».

و زاد في محكي النفلية علي المضمضة و الاستنشاق غسل الوجه.

و اقتصر في المعتبر و محكي شرح الجعفرية علي غسل اليد و المضمضة.

و ذكر في المقنع غسل الفرج و الوضوء.

لكن لم يتضح الوجه لغسل الفرج، و في كشف اللثام أنه لم يظفر له بسند.

كما أنّ الاستنشاق لم تتضمنه النصوص السابقة.

و استفادته منها تبعا من ذكر المضمضة، للتلازم بينهما غالبا، ممنوعة، و لا سيما في المقام، لأن المناسب للأكل هو المضمضة دون الاستنشاق.

نعم، في الرضوي: «و إذا أردت أن تأكل علي جنابتك فاغسل يديك و تمضمض و استنشق ثمَّ كل و اشرب، فإن أكلت أو شربت قبل ذلك أخاف عليك البرص، و لا تعد إلي ذلك» «1».

لكن من البعيد اعتماد من سبق عليه.

و أما بقية الأمور المذكورة في كلماتهم، فقد تضمنتها النصوص المتقدمة علي اختلاف ألسنتها من حيثية الاقتصار علي بعضها، و الجمع بينه و بين غيره، و بيان الأفضلية لبعضها علي بعض، كالوضوء علي غسل اليدين.

و لا وجه للعمل ببعض هذه النصوص دون بعض، كما يظهر من جملة منهم، فضلا عن الاقتصار علي بعض مضمون النص الواحد، كالمشهور حيث لم يذكروا غسل اليدين مع اشتمال نصوص المضمضة عليه، و المحقق في المعتبر حيث لم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

ص: 468

______________________________

يذكر غسل الوجه مع استدلاله علي مختاره بصحيح زرارة، بل كان الأولي له الاستدلال بموثق السكوني.

و الذي يقتضيه الجمع العرفي بين النصوص في أمثال المقام هو أفضلية الزيادة مع الاختلاف في الأقل و الأكثر، و استحباب كل من الأمرين مع أفضلية الجمع بينهما لو كانا متباينين، دون التخيير، لظهور النص في استحباب ما تضمنه تعيينا.

و لا مجال لقياسه علي الواجبات، حيث قد يجمع فيها بالتخيير، لمعارضة الظهور المذكور فيها بظهور أدلتها أيضا في إجزاء ما تضمنته بنحو ينافي وجوب غيره فقد يقدم عليه، بخلاف المستحبات، إذ لا ظهور لأدلتها في الإجزاء بنحو ينافي استحباب أمر آخر.

و الذي يتحصل من جميع النصوص المتقدمة: استحباب غسل اليدين- عملا بصحيح عبد الرحمن- و أفضل منه الوضوء- كما تضمنه الصحيح المذكور أيضا، و عليه يحمل صحيح الحلبي- أو غسل اليدين و المضمضة- كما يحمل عليه موثق السكوني- ثمَّ إضافة غسل الوجه لها- كما يحمل عليه صحيح زرارة- أو الاستنشاق- كما يحمل عليه الرضوي- و الأفضل من الكل غسل اليدين و المضمضة و الاستنشاق و الوضوء.

و لا يجزئ الوضوء عن غسل اليدين مع المضمضة و الاستنشاق، لأن المنصرف من نصوصهما استحباب تقديم غسل اليدين عليهما.

نعم، لو تقدم الوضوء عليهما أمكن الاجتزاء بغسل اليدين الذي تضمنه، لكن لا يبعد استحباب تقديمهما، ليجمع بين الوظائف المذكورة و كمال الوضوء.

هذا كله بلحاظ أصل الكراهة.

و أما خصوصية الكراهة من حيثية خوف الوضح- الذي هو البرص- فظاهر موثق السكوني عدم ارتفاعها إلا بغسل اليدين و المضمضة، و ظاهر الرضوي لزوم ضم الاستنشاق إليهما، فليحمل علي كونه أدفع لاحتماله.

ص: 469

______________________________

و لا ينافيهما بقية النصوص، ليتعين الجمع بينهما و بينها بما سبق، لإمكان كون المنظور فيها الكراهة من جهات أخر.

بقي في المقام أمران.

الأول: ظاهر النصوص و كلمات جملة من الأصحاب ارتفاع الكراهة بما تضمنته من الأمور. لكن أطلق في الشرائع كراهة الأكل و الشرب للجنب و خفتها بالمضمضة و الاستنشاق، و هو الظاهر مما عن الاقتصاد و المصباح و مختصره من أنه يكره الأكل و الشرب إلا عند الضرورة، و عند ذلك يتمضمض و يستنشق. بل قد يظهر مما في النهاية و عن السرائر من إطلاق كراهتهما، و أنه لو أرادهما فليتمضمض و ليستنشق.

و في جامع المقاصد أنّ منشأه اختلاف الأخبار، لاشتمالها علي غيرهما أيضا.

و لأجله بني- كما في المسالك أيضا- علي زوالها بهما، و أنّ الإتيان بغيرهما أفضل، كما سبق و سبق الكلام فيه.

لكنه خلاف ظاهر الشرائع، إذ لو كان يري زوال الكراهة بشي ء لناسب ذكره، بل مقتضي إطلاقه بقاء الكراهة حتي مع فعل جميع الوظائف السابقة.

و كأنه لإطلاق ما سبق مما تضمن أنّ الأكل علي الجنابة يورث الفقر، إذ لا يصلح الأمر بالوظائف المتقدمة للخروج عنه، لإمكان خفة الكراهة بها.

كما لا ينافيه ظهور موثق السكوني و الرضوي في زوال الكراهة من حيثية خوف البرص.

الثاني: قال في جامع المقاصد: «و ينبغي أن يراعي في الاعتداد بهما عدم تراخي الأكل و الشرب عنهما كثيرا في العادة، بحيث لا يبقي بينهما ارتباط عادة، و تعدد الأكل و الشرب و اختلاف المأكول و المشروب لا تقتضي التعدد إلا مع تراخي الزمان، لصدق الأكل و الشرب علي المتعدد باعتبار كونهما مصدرين»، و نحوه في المدارك. و عن المجمع احتمال التعدد إذا طال الزمان أو تخلل الحدث.

ص: 470

______________________________

لكن لم يتضح الوجه لاعتبار الاتصال العرفي و عدم الفصل الطويل، إذ لم تتضمن النصوص إلا تقديم الوظائف المذكورة علي الأكل و الشرب لا كونها عندهما.

كما أنّ ما ذكروه من التعدد بتعدد الأكل و الشرب مبني علي كون الأمر بالوظائف المذكورة عند الأكل و الشرب بنحو الانحلال، بمعني ثبوتها عند كل أكل أو شرب.

و هو مخالف لظاهر النصوص المتقدمة، بل مقتضي إطلاقها الاجتزاء بها مرة واحدة و لو مع تعدد الأكل و الشرب، كما هو المناسب لارتكاز كون الغرض منها إزالة بعض آثار الجنابة و الطهارة منها، و من شأن الطهارة البقاء لو لا الرافع. كيف و لازم ذلك التعدد مع الجمع بين الأكل و الشرب في مجلس واحد، لتعدد المصدر؟! نعم، قد يوهم التعدد صحيح زرارة، لأن مقتضي الجمود عليه تبعية الوظيفة المذكورة فيه لإرادة الأكل و الشرب، فتتعدد بتعددها.

لكن الجمود عليه يقتضي عدم الاجتزاء بها لو أتي بها لا لأجل الأكل و الشرب، بل تجددت إرادتهما بعدها بلا فاصل، و لا يظن الالتزام به من أحد، فالمنصرف من ذكر الإرادة لمحض بيان توقف متعلقها- و هو الأكل و الشرب- علي الإتيان بالوظيفة، و مقتضي الإطلاق الاجتزاء بها مرة واحدة، و لو مع تعدد الأكل و الشرب.

و أما تكرار الوظيفة مع تجدد سبب الجنابة، فهو لا يخلو عن وجه، لقضاء المناسبات الارتكازية بأنّ الاحتياج لها مسبب عنه، لتحصيل مرتبة من الطهارة عما سببه من الحدث، فتنتقض بتكرره، و إن لم تتجدد الجنابة، لاستمرارها من السبب الأول.

كما لا يبعد البناء علي إعادة الوضوء بالحدث الأصغر، لإطلاق أدلة ناقضيته له.

ص: 471

و يكره قراءة ما زاد علي سبع آيات (1)

______________________________

(1) استيفاء فروع المسألة يتم بالكلام في أمور.

الأول: يجوز للجنب قراءة القرآن في الجملة، علي المعروف من مذهب الأصحاب.

و يشهد به النصوص الكثيرة، كموثق ابن بكير «1» المتقدم في الأكل و الشرب و غيره مما يأتي.

لكن في الذكري: و عن سلار في الأبواب تحريم القراءة مطلقا. لاشتهار النهي عن قراءة القرآن للجنب و الحائض في عهد النبي صلّي اللّه عليه و آله بين الرجال و النساء، و من ثمَّ تخلص عبد اللّه بن رواحة من تهمة امرأته بأمته بشعر موهما القراءة، فقالت:

صدق اللّه و كذب بصري، فأخبر النبي صلّي اللّه عليه و آله، فضحك حتي بدت نواجذه. و عن علي عليه السّلام: «لم يكن يحجب النبي صلّي اللّه عليه و آله عن قراءة القرآن شي ء سوي الجنابة» «2» و عنه: «لا يقرأ الجنب و الحائض شيئا من القرآن».

لكن الاشتهار بالنحو المذكور ممنوع، و لا يثبت بالرواية المذكورة مع ضعف سندها، بل دلالتها، لإمكان كون النهي للكراهة، لعدم وروده في مقام الحث علي العمل، و اقتناع المرأة لعله مستند لاعتقاد أنه للتحريم، أو تجنب زوجها للمكروه.

و احتجاز النبي صلّي اللّه عليه و آله لا يكشف عن الحرمة.

و أما النهي، فيظهر الحال فيه مما يأتي.

نعم، في موثق السكوني عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبعة لا يقرأون القرآن: الراكع و الساجد و في الكنيف و في الحمام

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) روي ذلك في مستدرك الوسائل بسندين عن ابن أبي الدنيا عن أمير المؤمنين عليه السّلام باب: 11 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2، 3.

ص: 472

______________________________

و الجنب و النفساء و الحائض» «1».

و في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله له عليه السّلام التي رواها الصدوق بإسناده إلي أبي سعيد الخدري: أنه قال: «يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن، فإني أخشي أن تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما» «2».

و في موثق عبد الرحمن أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الحائض، هل تقرأ القرآن و تسجد سجدة إذا سمعت السجدة؟ قال: [لا تقرأ] و لا تسجد» «3». بناء علي اتحادهما في الحكم.

لكن الموثق لا ينهض بالخروج عن النصوص الكثيرة الدالة علي الجواز في المقام و غيره من الموارد التي تضمنها مع كثرتها و قوة دلالتها، و عمل الأصحاب بها، بل مفروغيتهم عن الجواز، حتي صرح به سلار نفسه في المراسم، لامتناع خفاء مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به عليهم، فلا بد من حمله علي الكراهة أو علي عدم الاستحباب أو خفته، أو طرحه.

و منه يظهر الحال في الأخيرين و مرسل الذكري المتقدم.

علي أنّ حديث عبد الرحمن و إن روي هكذا في الاستبصار، إلا أنه روي في التهذيب: «تقرأ و لا تسجد». و الآخران ضعيفان.

و حديث أبي سعيد الخدري أخص من المدعي، محتمل للنسخ، لما حققناه في محله من أنه لا دافع لاحتمال النسخ فيما روي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من غير طرق الأئمة عليهم السّلام، فلا ينهض بصرف نصوص المقام عن ظاهرها لو اقتضاه الجمع العرفي، فضلا عن معارضتها و إسقاطها عن الحجية لو كان التعارض مستحكما.

و أما حملها علي خصوص العزائم- كما عن الصدوق في بعضها- أو علي ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب قراءة القرآن و لو في غير الصلاة حديث: 1. و رواه في الخصال في باب السبعة حديث: 42 ص: 326 طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 36 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 473

______________________________

زاد علي السبع آيات، فبعيد جدا.

الثاني: مقتضي اقتصار جملة من الأصحاب علي بيان كراهة ما زاد علي سبع آيات عدم كراهة ما دونها، بل عن تلخيص التلخيص الإجماع علي عدم الكراهة فيها كما قد يستظهر من الغنية، حيث قال: «و يحرم عليه قراءة العزائم الأربع. و ما عداها داخل تحت قوله تعالي فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ.»، ثمَّ ذكر بقية المحرمات و المكروهات و قال: «كل ذلك بدليل الإجماع».

لكن مقتضي إطلاق الصدوق في الخصال عموم الكراهة، حيث قال بعد ذكر موثق السكوني المتقدم: «هذا علي الكراهة، لا علي النهي، و ذلك لأن الجنب و الحائض مطلق لهما قراءة القرآن إلا العزائم الأربع.»، كما حكي الإطلاق أيضا عن ابن سعيد، و إليه يرجع ما في المراسم من جعله من التروك المندوبة.

و يقتضيه النصوص المتقدمة التي يصعب حملها علي ما زاد علي السبع آيات، كما تقدم.

و لا ينافيها ما تضمن إطلاق قراءته لهما من النصوص الكثيرة، لورودها لبيان الجواز، و لا سيما بلحاظ استثناء العزائم فيها.

كما لا يمنع منه موثق سماعة: «سألته عن الجنب، هل يقرأ القرآن؟ قال: ما بينه و بين سبع آيات» «1»، قال الشيخ قدّس سرّه: «و في رواية زرعة عن سماعة: سبعين آية» «2»، لإمكان حمله علي شدة الكراهة فيما زاد علي السبع أو السبعين.

و مثله ما تضمن الحث علي قراءة القرآن علي كل حال، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في وصية النبي لعلي: «و عليك بتلاوة القرآن علي كل حال» «3»، لإمكان تخصيصه بالنصوص المتقدمة، كما يخصص بما تضمن كراهة القراءة حال التغوط، علي ما تقدم في آداب التخلي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب قراءة القرآن و لو في غير الصلاة حديث: 1.

ص: 474

______________________________

نعم، قد ينافيه صحيح معاوية بن عمار عنه عليه السّلام: «قال: تتوضأ الحائض إذا أرادت أن تأكل، و إذا كان وقت الصلاة توضأت و استقبلت القبلة و هللت و كبرت و تلت القرآن و ذكرت اللّه عز و جل» «1»، لظهوره في الحث علي القراءة للحائض، بل كونها من المستحبات الموظفة لها.

لكنه أخص من النصوص المتقدمة، فيقتصر علي مورده، و يرجع في غيره لإطلاق النصوص المذكورة.

و أما توهينها.

تارة: بمخالفتها لفتوي المشهور، كما في الجواهر.

و اخري: بموافقتها للعامة، لدوران أقوالهم بين الحرمة و الكراهة، فيلزم حملها علي التقية، كما في الحدائق.

فهو كما تري! لأن الانجبار و التوهين بالشهرة في الفتوي إنما يتجه في الأحكام الإلزامية، دون الاستحباب و الكراهة، لظهور شدة تسامحهم في أدلتهما سندا و دلالة، بنحو يمنع غالبا من الركون إلي إجماعهم، فضلا عن شهرتهم.

كما أنّ موافقة العامة إنما تقتضي الحمل علي التقية مع استحكام التعارض بين النصوص، لا مع إمكان الجمع العرفي.

علي أنّ العامة مختلفين في ذلك أشد الاختلاف، كما اختلف النقل عنهم، و منهم من أطلق الجواز للجنب، كداود، و حكاه بعضهم عن قوم منهم، و آخر عن الشافعي و ثالث عن مالك، كما حكي عنه الإطلاق للحائض مع الاقتصار في الجنب علي الآية و الآيتين أو الآيات القليلة، كما اشتهر عن الشافعي إطلاق المنع. إلي غير ذلك مما يظهر بمراجعة الكتب المتعرضة لأقوالهم.

الثالث: المعروف من مذهب الأصحاب كراهة قراءة ما زاد علي سبع آيات، و به صرح جملة منهم، و في الحدائق و محكي المختلف و تلخيص التلخيص أنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 475

______________________________

المشهور. بل في الانتصار دعوي الإجماع علي جواز قراءة الجنب و الحائض ما شاءا من القرآن إلا العزائم، و قد يستفاد من كلام الغنية المتقدم، كما حكيت دعواه علي الإباحة عن الخلاف و المعتبر و المنتهي و نهاية الاحكام و أحكام الراوندي.

لكن لا يبعد كون مراد الخلاف الإجماع علي الرجوع للبراءة، كيف و قد صرح بوجود القائل منا بحرمة ما زاد علي السبع، بل لا يظهر منه البناء علي عموم الإباحة، لأنه حوّل الكلام في اختلاف الأخبار في مقدار ما يقرءانه علي التهذيب و الاستبصار، كما أشار إلي القول المذكور في المعتبر و صرح في المنتهي بوجود القائل بحرمة ما زاد علي السبعين.

و كأن منصرف معقد الإجماع في كلام بعضهم عدم التقييد ببعض السور، نظير العزائم، لا ما يعم الكمية.

و كيف كان، فقد حكي القول بالحرمة عن القاضي، و قد عرفت حكايته في الخلاف عن بعض أصحابنا، و قد يظهر من المقنعة، لقوله: «فإذا أجنب الإنسان. فلا يقرب المساجد إلا عابري سبيل. و لا يمس اسما من أسماء اللّه تعالي. و لا يمس القرآن، و لا بأس أن يقرأ من سور القرآن و آية ما بينه و بين سبع آيات ما شاء إلا أربع سور منه.»، و قريب منه في النهاية، بل هو ظاهر التهذيب، حيث استدل لما في المقنعة بأنه مقتضي الجمع بين الأخبار، و جعله أحد وجهي الجمع في الاستبصار، و في المبسوط: «و الاحتياط أن لا يزيد علي سبع آيات أو سبعين آية».

كما أنّ ظاهر المدارك و الحدائق الجواز و عدم الكراهة، كما قد يشعر به ما عن المختلف، و ربما يستشعر من إطلاق نفي البأس عن قراءة القرآن كله عدا العزائم في الفقيه و المقنع و الهداية، و من عدم التعرض للكراهة في الانتصار و الخلاف و محكي السرائر و غيرها.

لكن نفي البأس محمول علي نفي الحرمة، و لا سيما مع استثناء العزائم، و عدم التعرض للكراهة لا يستلزم البناء علي عدمها.

و الوجه في الحرمة موثق سماعة المتقدم.

ص: 476

______________________________

لكن لا مجال لرفع اليد به عما دل علي جواز قراءة الجنب و الحائض ما شاءا من القران، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: الحائض و الجنب هل يقرءان من القرآن شيئا؟ قال: نعم ما شاءا إلا السجدة، و يذكران اللّه علي كل حال» «1»، و نحوه حديث محمد بن مسلم «2» فيهما، و صحيح الحلبي فيهما و في المتغوط «3»، و خبر عبد الغفار في الحائض «4»، و قريب منها موثق ابن بكير فيها و في الجنب، و قد تقدم في الأكل و الشرب.

لبعد حمل ذلك علي خصوص السبع آيات، بل يتعين حمل الموثق علي الكراهة فيما زاد علي السبع، بل شدتها، كما سبق.

و أما ما في الحدائق من حمل الموثق علي التقية و احتمله في الوسائل لتشديد العامة في ذلك.

فلا مجال له، لا لعدم قول للعامة بالتفصيل المذكور- و إن ذكره في الحدائق- لأنه يناسب ما سبق عن مالك، بل لما سبق من عدم الحمل علي التقية إلا مع تعذر الجمع العرفي، و لا سيما مع معروفية الكراهة بين الأصحاب.

و مثله ما في المعتبر، حيث قال: «و زرعة و سماعة واقفيان مع إرسال الرواية، و روايتهما هذه منافية لعموم الروايات المشهورة الدالة علي إطلاق الإذن عدا السجدة، و إنما اخترنا ما ذهب إليه الشيخ تفصّيا من ارتكاب المختلف فيه»، و قريب منه في المنتهي.

و من ثمَّ استشكل في المدارك في الكراهة.

وجه اندفاعه: أنّ الوقف لا يمنع من العمل بالرواية مع الوثاقة، و الإرسال في أحد طريقي الرواية لا يمنع من الاحتجاج بها مع روايتها أيضا بطريق معتبر، كما

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 477

______________________________

أنها لا تنافي عموم الإذن بعد حملها علي الكراهة بمقتضي الجمع العرفي اللازم.

الرابع: نقل في المنتهي و محكي التحرير عن بعض أصحابنا القول بتحريم ما زاد علي السبعين آية، بل عن نهاية الاحكام حكايته عن القاضي، كما سبق من المبسوط الإشارة لاحتماله.

و اقتصر في الوسيلة و محكي المختلف في الكراهة علي المقدار المذكور.

و هما مبنيان علي معارضة رواية زرعة عن سماعة لموثقته، الموجب للاقتصار علي المتيقن منهما، و هو السبعين، إما للعلم بصدق أحد النقلين، أو للبناء علي حجية المتعارضين في القدر المشترك بينهما مطلقا، أو في أمثال المقام مما يبتني فيه الخلاف علي الاشتباه و الخطأ في أحد النقلين، للاطمئنان بكونهما رواية واحدة قد وقع الخطأ في أحد نقليها، نظير اختلاف النسخ، علي ما ذكرناه في مبحث التعارض من الأصول.

و يشكل بعدم صلوح رواية زرعة عن سماعة للمعارضة، لعدم حجيتها في نفسها، لانقطاع سندها بين الشيخ و زرعة.

و أشكل من ذلك ما في الشرائع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و عن التحرير و البيان و مجمع البرهان، من شدة الكراهة و تأكدها بما زاد علي السبعين.

لابتنائه علي أنّ رواية زرعة- مع حجيتها في نفسها- رواية أخري غير الموثقة، ليمكن الجمع بينهما عرفا بالحمل علي ذلك.

لكن الظاهر أنها رواية واحدة قد وقع الاختلاف في نقلها، كما سبق، فلا موضوع للجمع العرفي بينهما، لاختصاصه بالكلامين الصادرين عن المعصوم و لو بمقتضي دليل الحجية، و لا يجري في الاختلاف في نقل الكلام الواحد المستلزم لتكاذب النقلين و سقوطهما بذلك عن الحجية في إثبات مضمونه.

و من هنا لا مجال لابتناء حكمهم بشدة الكراهة علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، المصححة للاعتماد علي رواية السبعين و إن لم تبلغ مرتبة الحجية

ص: 478

______________________________

بنفسها، لأن مضمون الرواية المذكورة- علي ما ذكرنا- ثبوت أصل الكراهة بالزيادة علي السبعين، لا شدتها.

نعم، لو كان مبني الكراهة عندهم علي رجحان الاحتياط بالترك لاحتمال الحرمة لوجود القول بها لا للاعتماد علي الرواية- كما يظهر من المعتبر- اتجه تأكدها فيما زاد علي السبعين، لأقوائية احتمال الحرمة فيه منه فيما دونه مما زاد علي السبع.

ثمَّ إنّ ظاهر الموثقة أنّ النهي عن الزيادة علي السبع بنحو الانحلال المستلزم لشدة الكراهة، تبعا لزيادة الكمية و إن لم تبلغ السبعين، فضلا عما إذا زادت عليها.

فلا بد أن يكون مرادهم من شدة الكراهة بالزيادة علي السبعين تجدد عنوان بها غير عنوان الزيادة علي السبع موجب للكراهة، زائدا علي الكراهة الناشئة منه.

فلاحظ.

الخامس: الظاهر أنه لا يعتبر في العدد من السبع أو السبعين التوالي و لا اتحاد المجلس، بل المعيار علي وقوعه في تمام مدة الجنابة، كما صرح به في المسالك و الروضة، عملا بإطلاق النص.

كما أنّ مقتضي إطلاقه عدم الفرق بين الآية الطويلة و القصيرة، كما في جامع المقاصد.

السادس: حكي في الروض عن بعضهم صدق العدد بتكرار الآية الواحدة، و تردد فيه في الروضة، و احتمله في كشف اللثام، و جزم به في المسالك.

و هو مخالف لظاهر النص. و حمله علي مجرد التقدير لبيان كمية القراءة، دون المقروء، لا شاهد له. و كذا التعدي لذلك بفهم عدم الخصوصية أو بتنقيح المناط. فيتعين البناء علي عدم كراهة التكرار، كما صرح به في جامع المقاصد.

نعم، لو أكمل السبع فقد يدعي كراهة تكرارها، لتحقق غاية الترخيص في

ص: 479

______________________________

قراءة القرآن الصادقة علي التكرار المذكور.

اللهم إلا أن يدعي انصراف- بقرينة الجواب- لتحديد المقروء، لا لتحديد مطلق قراءة القرآن، فتأمل جيدا.

السابع: قال في كشف اللثام: «و في نهاية الاحكام: لو قرأ السبع أو السبعين، ثمَّ قال: سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين، علي قصد إقامة سنة الركوب لم يكن مكروها، لأنه إذا لم يقصد القرآن لم يكن فيه إخلال بالتعظيم، قال: و كذا لو جري علي لسانه آيات من العزائم لا بقصد القرآن لم يكن محرما. و عندي في ذلك نظر».

و الذي ينبغي أن يقال: إن أريد بقصد القرآن تمحض القراءة لقصد تلاوته، في مقابل قصد التعوذ أو التبرك أو أداء السنة الخاصة به، فهو غير معتبر في صدق القرآن علي المقروء، و لا في الدخول في إطلاق النصوص السابقة و غيرها. و عدم منافاة التعظيم بدونه- لو تمَّ- لا يصلح للخروج عنه.

و إن أريد به قصد حكايته، في مقابل قصد حكاية غيره أو قصد إنشاء المضمون، فلا إشكال في اعتباره في صدق قراءة القرآن علي المقروء- كما تقدم في المسألة التاسعة و التسعين من مباحث الوضوء- فيخرج عن إطلاق النصوص المذكورة.

إلا أنّ في تأدي السنن به إشكال، لظهور جملة من نصوصها في إرادة قراءة القرآن، مثل ما تضمن عنوان القراءة، لظهوره في عدم الاستقلال بالإنشاء، بل هو كالصريح مما تضمن إضافتها لمثل الآية أو نحوها مما يضاف للقرآن.

و كذا ما تضمن قول المضامين القرآنية التي ليس من شأن المكلف الاستقلال بإنشائها، كقوله تعالي قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. «1»، حيث يتعين انصراف الأمر بقوله إلي حكاية القرآن به.

كما أنه الظاهر من بعض النصوص الأخر، كخبر عبد الحميد عن أبي

______________________________

(1) سورة الكهف: 110.

ص: 480

______________________________

الحسن عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من قال إذا ركب الدابة: بسم اللّه لا حول و لا قوة إلّا باللّه الحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنا لنتهدي لو لا أن هدانا اللّه الآية، سبحان الذي سخر لنا.» «1»، فإنّ مقتضي قوله صلّي اللّه عليه و آله: «الآية» المفروغية عن قصد القرآن بما سبق، و مقتضي السياق إرادته فيما بعده.

بل لا يبعد انصراف جميع نصوص السنن الواردة في التعويذ و التبرك بمضامين القرآن الكريم إلي صورة حكايته، فيدخل في باب التعويذ و التبرك بالقرآن، لا بالمضمون نفسه، مع الاستقلال بإنشائه من دون قصد الحكاية.

هذا، و قد يدعي أنّ إطلاق دليل كراهة قراءة القرآن للجنب مطلقا أو فيما زاد علي السبع أو السبعين معارض بإطلاق أدلة السنن المذكورة، و حيث كان بينهما عموم من وجه يتساقطان و يرجع لعموم ما دل علي استحباب قراءة القرآن، لو لم نقل بمرجحية العموم المذكور لإطلاق أدلة السنن المذكورة.

و فيه: أنّ مرجع كراهة قراءة القرآن حال الجنابة ليس إلي مانعية الجنابة من استحباب قراءته، تخصيصا لعموم استحبابها علي كل حال أو استحباب أداء السنن المذكورة، بل إلي خروج القراءة حال الجنابة عن أفراد المستحب، مع بقاء الاستحباب حال الجنابة، و لذا يستحب للجنب الغسل لتلاوة القرآن أو لأداء السنن المذكورة، كما يجب الوضوء للصلاة أو يستحب للطواف المستحب.

و مرجع ذلك إلي أنه يستحب في حق الجنب و غيره القراءة في غير حال الجنابة، و مع تعذر الغسل لا يسقط استحباب القراءة لعدم الموضوع له، بل لتعذر القراءة المستحبة، كما تتعذر سائر المستحبات التي تمنع الجنابة عنها كالصلاة و نحوها.

و هكذا الحال في الحائض، لأن السياق و المناسبات الارتكازية تقضي بأنّ حدث الحيض كالجنابة مانع من تحقق المستحب، لا من استحبابه، و أنّ سقوط استحبابه للتعذر، لا لعدم الملاك، و لذا يستحب للحائض بعد انقطاع الدم المبادرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب آداب السفر و غيره حديث: 2.

ص: 481

من غير العزائم (1)، بل الأحوط استحبابا عدم قراءة شي ء من القرآن (2) ما دام جنبا. و يكره أيضا مس ما عدا الكتابة من المصحف (3)، و النوم جنبا (4)،

______________________________

بالغسل، لأداء المستحب، كالجنب.

و عليه يكون دليل كراهة قراءة القرآن للجنب و الحائض حاكما علي أدلة السنن المذكورة، لأنه شارح لموضوعها، نظير ما دل علي اعتبار الطهارة في الصلاة مع دليل وجوبها أو استحبابها في بعض الموارد، فيتعين تقديمه عليها و إن كان بينهما عموم من وجه، فلاحظ.

(1) بناء علي أنّ المحرم عليه تمام السور. أما بناء علي اختصاص التحريم بآية السجدة، فحكم باقي السور حكم سائر القرآن.

(2) و يشتد رجحان الاحتياط المذكور فيما زاد علي السبع، و أشد منه ما زاد علي السبعين.

(3) كما في المبسوط و الخلاف و المراسم و الوسيلة و الشرائع و المنتهي و التذكرة و غيرها، و حكاه في المعتبر عن المقنعة و النهاية و الصدوقين.

لكن لم أعثر في المقنعة علي ذلك، و لا في الفقيه و الهداية و النهاية إلا علي التصريح بالجواز، و لا في المقنع إلا علي ما يظهر منه التحريم، حيث قال: «و لا يجوز لك أن تمس المصحف و أنت جنب، و لا بأس أن يقلب لك الورق غيرك، و تنظر فيه و تقرأ»، و هو الذي حكاه في المعتبر و المنتهي عن المرتضي، و قد تقدم عند الكلام في حرمة المس الكلام في دليله، و أنّ اللازم البناء علي الكراهة.

هذا، و ألحق به في المنتهي و التذكرة حمل المصحف، و الوجه فيه خبر إبراهيم بن عبد الحميد «1» المتقدم في حرمة المس.

(4) كما هو المعروف بين الأصحاب المصرح به في كلام جماعة كثيرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 482

______________________________

منهم، المدعي عليه الإجماع في الغنية و المنتهي و ظاهر المعتبر و التذكرة.

و عدم التعرض له في الفقيه و المقنع و الهداية و المقنعة لا يكشف عن الخلاف فيه.

و يقتضيه صحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل، أ ينبغي له أن ينام و هو جنب؟ فقال: يكره ذلك حتي يتوضأ» «1».

و ما في حديث الأربعمائة: «لا ينام المسلم و هو جنب، و لا ينام إلا علي طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد» «2».

و صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يواقع أهله أ ينام علي ذلك؟ قال: إنّ اللّه يتوفي الأنفس في منامها و لا يدري ما يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل» «3».

و هي محمولة علي الكراهة، جمعا مع صحيح سعيد الأعرج: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ينام الرجل و هو جنب و تنام المرأة و هي جنب» «4».

و موثق سماعة: «سألته عن الجنب يجنب ثمَّ يريد النوم. قال: إن أحب أن يتوضأ فليفعل، و الغسل أحب إلي و أفضل من ذلك، و إن هو نام و لم يغتسل فليس عليه شي ء إن شاء اللّه» «5».

و منه يظهر ضعف ما عن المهذب من إطلاق النهي عن نوم الجنب حتي يغتسل أو يتمضمض و يستنشق.

إلا أن يحمل علي الكراهة، لبعد مخالفته لما عرفت، المعتضد بالسيرة القطعية التي لا يمكن خطؤها في مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به.

نعم، قد ينافي ذلك خبر النهدي: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ثلاثة لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 483

إلا أن يتوضأ (1)،

______________________________

يقبل اللّه لهم صلاة: جبار كفار، و جنب نام علي غير طهارة، و المتضمخ بخلوق» «1».

و خبر الجعفريات بسنده عن الصادق عليه السّلام: «سمعت أبي عليه السّلام يقول: إني لأجنب أول الليل فما اغتسل حتي آخر الليل عمدا حتي أصبح» «2».

لعدم مناسبة الأول للجواز، و لا الثاني للكراهة.

لكنه سهل بعد ضعفهما و غرابة مضمون الأول، و إمكان حمل الثاني علي صورة إرادة العود، نظير ما في الفقيه: «و في حديث آخر: أنا أنام علي ذلك حتي أصبح، و ذلك أني أريد أن أعود» «3»، و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(1) مقتضاه ارتفاع الكراهة به، كما هو ظاهر أكثر الأصحاب و معاقد إجماعاتهم المتقدمة، لجعلهم الوضوء غاية للنهي و الكراهة.

و استظهر في كشف اللثام خفتها بالوضوء، و هو المناسب لما عن الاقتصاد من إطلاق كراهة النوم للجنب، و مثله ما في النهاية و عن السرائر، لكن مع الأمر بالوضوء لو أراد النوم.

و صحيح الحلبي و إن كان ظاهرا في ارتفاع الكراهة بالوضوء، فيصلح لتقييد إطلاق النهي عن نوم الجنب في حديث الأربعمائة و نحوه، إلا أنّ التعليل في صحيح عبد الرحمن أظهر في العموم منه، فيصلح قرينة علي حمله علي خفة الكراهة به.

و هو الظاهر من موثق سماعة، لأن الأمر فيه بالوضوء و الحكم بأفضلية الغسل للإرشاد إلي تجنب نقص يحصل من النوم علي الجنابة بدونهما، لا إلي تحصيل

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 16 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 16 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 484

______________________________

مرتبة من الكمال به، إذ هو بالغسل يكون كسائر الناس، نظير ما سبق في وجه الاستدلال بصحيحي زرارة و عبد الرحمن علي كراهة الأكل و الشرب للجنب.

و لا أقل من لزوم حمله علي ذلك بقرينة بقية النصوص المتضمنة للنهي عن النوم.

نعم، ظاهر التعليل في صحيح عبد الرحمن أنّ التعجيل بالغسل و النهي عن النوم بدونه للاحتياط من محذور الموت جنبا، لا لخصوصية في النوم، و ظاهر صحيح الحلبي ارتفاع كراهة النوم بخصوصيته بالوضوء، و لا تنافي بينهما.

و به يجمع بين نصوص المقام، كما ربما يجمع به بين كلمات الأصحاب.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر أنّ الوضوء في المقام مخفف للحدث و مقتض لمرتبة من الطهارة، لتقوّم عنوان الوضوء بذلك. كما أنّ الظاهر انتقاضه بأسباب الحدث الأصغر، لإطلاق أدلة ناقضيتها له، نظير ما تقدم في الوضوء للأكل و الشرب.

الثاني: أنّ ما سبق عن المهذب من عطف المضمضة و الاستنشاق علي الغسل غير ظاهر المنشأ، إذ لم نعثر علي ما يقتضي خفة الكراهة بهما، فضلا عن ارتفاعها.

الثالث: سبق في مرسل الصدوق تعليل نوم الإمام عليه السّلام جنبا بأنه يريد العود، و ظاهره إرادة العود للوطء، كما فهمه منه غير واحد، و لذا كان ظاهر الوسائل عدم الكراهة حينئذ.

و استوضح في الحدائق بطلان ذلك و نزّل الخبر علي إرادة العود للانتباه، لعلمه عليه السّلام بوقت موته، فترتفع في حقه علة الكراهة التي تضمنها صحيح عبد الرحمن، فلا ينافي بقاء الكراهة في حق سائر الناس ممن لا يعلم وقت موته.

لكن ما ذكره تكلف مخالف لظاهر قوله عليه السّلام: «أريد أن أعود»، لأن بقاء الحياة و العود في الانتباه ليسا متعلقا للإرادة. و ما سبق هو الأظهر.

مضافا إلي ما سبق من أنّ التعليل بخوف الموت وارد لبعض جهات الكراهة

ص: 485

أو يتيمم (1) بدل الغسل (2).

______________________________

غير الكراهة في خصوصية النوم، فتأمل.

نعم، مناسبة الحكم و الموضوع قاضية بأنّ إرادة العود من سنخ المزاحم الداعي له عليه السّلام للإقدام علي المكروه، لا الرافع لموضوع الكراهة، فالخبر يكشف عن خفة الكراهة بنحو يصلح لمزاحمتها مثل الداعي المذكور، لا عن عدم الكراهة معه.

و لا موجب لاستبعاد إقدام الإمام عليه السّلام علي المكروه لبعض الدواعي، فإنّ اللّه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، كما في الخبر «1».

مضافا إلي أنّ إرسال الخبر مانع من التعويل عليه في الخروج عن الإطلاقات المتقدمة.

(1) يعني: إن كان عاجزا عن الطهارة المائية، كما هو مقتضي عمومات البدلية و حديث الأربعمائة المتقدم.

(2) و هو ظاهر مع تعذره و القدرة علي الوضوء، لعدم مشروعية التيمم بدلا عن الوضوء حينئذ.

و أما مع تعذرهما معا، فمقتضي عمومات البدلية جواز نية بدليته عن كل منهما، و إن كان إيقاعه بدلا عن الغسل أفضل، لأفضلية مبدله، كما في الجواهر.

كما أنّ الظاهر أنه مع الإتيان به بدلا عن الغسل لا يشرع الوضوء و إن كان مقدورا، لأنه إنما يشرع للجنب، و التيمم رافع لجنابته حكما.

و بقي من المكروهات التي تضمنتها النصوص و ذكرها الأصحاب ما لم يذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه، و هي أمور.

الأول: الخضاب، علي المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الغنية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

ص: 486

______________________________

و أما ما في التذكرة و الحدائق من نسبته للمشهور، فهو بلحاظ نسبة الخلاف في الأول للصدوق.

و كأنه لعده له في الفقيه و المقنع في جملة الأمور التي لا بأس بها للجنب.

لكن المتيقن منه إرادة أصل الجواز، فلا ينافي الكراهة.

و قد علله في المقنعة في الحائض و النفساء بأنه يمنع من وصول الماء إلي ظاهر مواضع الخضاب. قال في المعتبر: «و لعله نظر إلي أنّ اللون عرض، و هو لا ينتقل، فيلزم حصول أجزاء من الحناء في محل اللون ليكون وجود اللون بوجودها.

لكنها حقيقة لا تمنع منعا تاما، فكرهت لذلك».

و فيه- مع أنه تكلف غير صالح للحكم بالكراهة بعد فرض وصول الماء-:

أنّ لازمه كراهة الخضاب قبل تحقق سبب الحدث أيضا، مع أنه صرح بعدم الكراهة فيه.

فالعمدة في المقام النصوص الكثيرة الناهية عن الخضاب للحائض و الجنب، كمعتبرة عامر بن جذاعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سمعته يقول: لا تختضب الحائض و لا الجنب، و لا تجنب و عليها خضاب، و لا يجنب هو و عليه خضاب، لا يختضب و هو جنب» «1».

و خبر أبي سعيد: «قلت لأبي إبراهيم عليه السّلام: أ يختضب الرجل و هو جنب؟

قال: لا. قلت: فيجنب و هو مختضب؟ قال: لا، ثمَّ مكث قليلا، ثمَّ قال: يا أبا سعيد ألا أدلك علي شي ء تفعله؟! قلت: بلي، قال: إذا اختضبت بالحناء و أخذ الحناء مأخذه فحينئذ فجامع» «2» و نحوهما غيرهما.

و في بعضها: «لا أحب ذلك» «3»، و في آخر: أنه لو فعله لم يؤمن عليه أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 487

______________________________

يصيبه الشيطان بسوء «1».

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 488

و هي محمولة علي الكراهة، لغير واحد من النصوص المصرحة بالجواز، كموثق سماعة: «سألت العبد الصالح عن الجنب و الحائض يختضبان؟ قال: لا بأس» «2»، و نحوه صحيح أبي المغراء «3» و غيره.

بل الظاهر المفروغية عن الجواز، لعدم إشارتهم للخلاف فيه، بل في الرياض دعوي الإجماع عليه، و في الجواهر: «بل قد يدعي إمكان تحصيله، فما في المهذب من النهي عنه يراد منه الكراهة قطعا، كما يرشد إليه تعبيره عن سائر المكروهات بذلك. و من هنا لم ينقل عنه القول بالحرمة».

ثمَّ إنّ النصوص كما تضمنت النهي عن اختضاب الجنب و الحائض كذلك تضمنت النهي عن الجنابة حين الاختضاب. و استوجهه في التذكرة و ظاهر المعتبر، بل صرح به جماعة فيما حكي.

و نفي البأس عنه في الفقيه و المقنع لا يدل علي الخلاف، نظير ما سبق.

نعم، قيده في جامع المقاصد و كشف اللثام بما إذا لم يأخذ الخضاب مأخذه. و يقتضيه خبر أبي سعيد المتقدم و مرسل الكليني «4».

و دعوي: ظهور الخبر في خفة الكراهة، غير ظاهرة المأخذ، بل ظاهره الإرشاد إلي ارتفاع المحذور الذي نهي لأجله.

و علي ذلك حمل غير واحد قول المفيد في المقنعة: «فإن أجنب بعد الخضاب لم يحرج بذلك، و كذلك لا حرج علي المرأة أن تختضب قبل الحيض ثمَّ يأتيها الدم و عليها الخضاب، و ليس الحكم في ذلك كالحكم في استئنافه مع الحيض و الجنابة».

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 488

______________________________

لكن ظاهر قوله: «و عليها الخضاب» عدم إرادة الأثر، بل المؤثر، و هو الشي ء الذي يختضب به، و مقتضي إطلاقه العموم لما لو كان قبل أن يأخذ مأخذه.

و في المعتبر: «و هو محمول علي اتفاق الجنابة، لا علي فعلها اختيارا، لأن تعليله الأول يقتضي المنع هنا».

لكن مقتضي تعليله كراهة الخضاب لمن هو معرض للجنابة و الحيض، و لا يظن منه و لا من غيره الالتزام به.

هذا، و مقتضي إطلاق الأصحاب و تصريح بعضهم عدم الفرق بين مواضع الخضاب، و لا بين الخضاب بالحناء و غيره، و هو مقتضي إطلاق النصوص.

و لا ينافيه اختصاص خبر أبي سعيد بالحناء، كما لا يخفي.

لكن اقتصر في المقنعة علي خضاب الأيدي و الأرجل، و في المراسم علي الخضاب بالحناء، فإن لم يكن جاريا مجري التمثيل كان مدفوعا بالإطلاق.

و دعوي انصرافه في المقامين ممنوعة.

نعم، لو كان الوجه فيه عدم مانعيته من وصول الماء للبشرة- كما تقدم من المقنعة- كان قاصرا عن الشعر الذي لا يجب غسله، فلاحظ.

الثاني: الادهان، كما في المنتهي، مستدلا بخبر حريز: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الجنب يدهن ثمَّ يغتسل؟ قال: لا» «1».

لكن لا يبعد انصرافه إلي الادهان قبل الغسل بنحو يبقي أثره حينه. فيناسب الاستظهار بوصول الماء للبشرة، كما أشار إليه في المنتهي أيضا.

و إنما يحمل علي الكراهة، لعدم تنبيه الأصحاب علي المنع و اكتفائهم بوصول الماء للبشرة، بنحو يظهر معه مفروغيتهم عن جواز الادهان غير المانع من وصول الماء لها.

مضافا إلي ضعف سند الخبر، لأن في طريقه عبد اللّه بن بحر الذي لم يثبت توثيقه، بل ضعفه ابن الغضائري- فيما حكي عنه- و العلامة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 489

______________________________

و لم يتضح وجه عدّ الخبر صحيحا في المنتهي.

نعم، في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و لا بأس بأن يتنور الجنب و يحتجم و يذبح، و لا يدهن و لا يذوق شيئا حتي يغسل يديه و يتمضمض» «1».

و هو ظاهر في النهي عن الادهان من حيثية الجنابة مع قطع النظر عن الغسل.

فيحمل علي الكراهة أيضا، لظهور مفروغية الأصحاب عن عدم الحرمة، لعدم تنبيههم لها.

لكن- مع إمكان رجوع الغاية له أيضا- إنما رواه هكذا في الاستبصار، أما في التهذيب «2» فقد أسقط قوله: «و لا يدهن»، فلا مجال للتعويل عليه مع ظهور كونه في الكتابين في مقام نقل تمام الحديث، و لا سيما مع انتهاء أحد طريقيه للكليني الذي روي الحديث في الكافي خاليا عن الزيادة المذكورة أيضا.

الثالث: الجماع للمحتلم، كما في المعتبر و التذكرة و المنتهي، و في الأخير نسبته إلي أصحابنا.

و يقتضيه خبر الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله- في حديث- و كره أن يغشي الرجل امرأته و قد احتلم حتي يغتسل من احتلامه الذي رأي، فإن فعل و خرج الولد مجنونا فلا يلومنّ إلا نفسه» «3»، و نحوه غيره.

و التعليل فيه يناسب الكراهة.

و لا أقل من لزوم حمله عليها، جمعا مع خبر الجعفريات عنه عليه السّلام: «إنّ عليا عليه السّلام سئل عن رجل يحتلم إلي جانب امرأته، هل له أن يجامعها قبل أن

______________________________

(1) الاستبصار ج: 1 ص: 117 طبع النجف الأشرف.

(2) التهذيب ج: 1 ص: 130 طبع النجف الأشرف.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب مقدمات النكاح حديث: 3.

ص: 490

______________________________

يغتسل؟ قال: نعم ليجامعها حتي يكون غسلا حقا» «1»، لاشتراكهما في ضعف السند.

بل لا ينبغي التأمل في الجواز مع ظهور مفروغية الأصحاب عنه.

نعم، تقدم عند الكلام في الوضوء لمعاودة الجماع من الوضوءات المستحبة الكلام في ارتفاع الكراهة المذكورة بالوضوء.

و أما الجماع بعد الجماع، فقد صرح في المعتبر و المنتهي و التذكرة بعدم كراهته، بل في الأول أنه ذكره جماعة من أصحابنا، مستدلا عليه- كالمنتهي- بما عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من أنه كان يطوف علي نسائه بغسل واحد.

و لم أعثر عاجلا علي الحديث المذكور، بل تقدم في الوضوء لمعاودة الجماع عن الرسالة الذهبية ما ينافيه، و تمام الكلام هناك، فراجع.

و قد تضمنت كثير من النصوص بيان كثير من الأوقات و الحالات التي يكره فيها الجماع، و لا مجال لإطالة الكلام فيها، لخروجها عن محل الكلام- و هو ما يكره للجنب- و هي بمباحث النكاح أنسب.

و اللّه سبحانه و تعالي ولي التوفيق و التسديد، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

انتهي الكلام في فصل أحكام الجنب ليلة السبت، الثالث من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1398 ه.

و انتهي تبييضه بعد تدريسه ليلة الاثنين الخامس من الشهر المذكور.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 491

الفصل الرابع في واجباته
اشارة

الفصل الرابع في واجباته

النية

فمنها: النية (1) و لا بد فيها من الاستدامة إلي آخر الغسل، كما تقدم تفصيل ذلك كله في الوضوء (2).

غسل ظاهر البشرة

و منها: غسل ظاهر البشرة (3)

______________________________

(1) تقدم الكلام في حقيقتها و شروطها و دليلها في الوضوء.

(2) و تقدم هناك في المسألة الثالثة و السبعين الكلام في تداخل الأغسال، و كيفية النية مع تعدد أسبابها.

(3) يعني: من تمام البدن، حيث لا إشكال ظاهرا في وجوب استيعابه بالغسل، كما يظهر مما يأتي.

و يقتضيه- مضافا إلي الإطلاق المقامي في قوله تعالي وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «1»، لأن عدم بيان كيفية التطهر ظاهر في إيكاله للعرف الحاكم بالاستيعاب تبعا لقيام الجنابة بتمام البدن- ظاهر الاغتسال، و الغسل، و إطلاق غسل البدن و الجسد في السنة المستفيضة.

و عموم قوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم: «ثمَّ تصب علي سائر جسدك» «2».

______________________________

(1) سورة المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 492

علي وجه يتحقق به مسماه (1)، فلا بد من رفع الحاجب (2)،

______________________________

و في صحيح زرارة: «ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدميك» «1».

و في موثق سماعة: «ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله» «2».

و غيرها مما يأتي بعضه، و يأتي بعض الكلام في ذلك.

(1) تقدم الكلام في المقدار المعتبر من إيصال الماء في أول فصل أجزاء الوضوء، و أنّ الظاهر الاكتفاء بوصول الماء للبشرة.

و أما ما في غير واحد من النصوص من الأمر بقدر معين، كالصب ثلاثا، بل في صحيح ربعي بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: يفيض الجنب علي رأسه الماء ثلاثا لا يجزيه أقل من ذلك» «3».

فهو محمول علي الاستحباب بلا إشكال.

(2) كما هو مقتضي وجوب استيعاب تمام البدن، و قد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في المسألة السادسة من فصل أجزاء الوضوء، كما تقدم الكلام في حكم الشك في وجود الحاجب و حاجبية الموجود.

نعم، في صحيح إبراهيم بن أبي محمود: «قلت للرضا عليه السّلام: الرجل يجنب فيصيب جسده و رأسه الخلوق و الطيب و الشي ء اللكد [4] [اللزق]، مثل علك الروم و الظرب [و الطراز. و الطرار. و الطراد] [5] و ما أشبه ذلك فيغتسل، فإذا فرغ وجد شيئا

______________________________

[4] قال في لسان العرب: «لكد الشي ء بغيه، إذا أكل شيئا لزجا فلزق بغيه من جوهرة أو لونه. و لكد به لكدا و التكد: لزمه فلم يفارقه. و يقال: لكد الوسخ بيده، و لكد شعره، إذا تلبّد. الأصمعي: لكد عليه الوسخ- بالكسر- لكدا، أي لزمه و لصق به».

[5] قال في القاموس: «ظرب فيه كفرح: لصق» و قال بعضهم: «الطرار: نوع من الطين اللزج».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 40 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 493

______________________________

قد بقي في جسده من أثر الخلوق و الطيب و غيره. قال: لا بأس» «1».

و في موثق السكوني عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: «قال: كنّ نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب علي أجسادهن، و ذلك أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله أمرهن أن يصببن الماء صبا علي أجسادهن» «2».

و موثق عمار عنه عليه السّلام: «في الحائض تغتسل و علي جسدها الزعفران لم يذهب به الماء، قال: لا بأس» «3».

لكن لا ظهور للموثقين في الحاجب، لأن بقاء لون الطيب قد يكون مع عدم كثافته بنحو يمنع من وصول الماء بالصب مع كثرته و استيلائه علي المحل.

نعم، صحيح إبراهيم لا يخلو الأمر فيه عن إشكال، لأن فرض بقاء الشي ء اللزق و اللكد و خصوصا العلك لا يناسب احتمال وصول الماء لما تحته، فضلا عن العلم به، فلا مجال لما ذكره غير واحد من حمله علي صورة عدم الحجب، أو علي الشك فيه بعد الفراغ.

و مثله ما في كشف اللثام من حمله علي صورة تعسر إزالة الأثر، حيث لا يجب إزالته في التطهير من النجاسات فهنا أولي، لعدم وضوح ما ذكره في المقيس عليه.

إلا أن يريد به ما ورد في العفو عن أثر النجاسة كاللون و الريح «4».

لكنه مختص بما لا يمنع من وصول الماء للمحل النجس عرفا، دون مثل العلك.

و لعله لذا حكي عن المحقق الخوانساري في شرح الدروس الاستدلال

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(4) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب النجاسات.

ص: 494

و تخليل ما لا يصل الماء معه إلي البشرة إلا بالتخليل (1).

______________________________

بالصحيح علي عدم الاعتداد ببقاء شي ء يسير لا يخل عرفا بغسل جميع البدن، إما مطلقا أو مع النسيان، و أنه لا يبعد الالتزام بذلك لو لم يكن الإجماع علي خلافه.

لكن الأولي أن لا يجترئ عليه. انتهي.

لكن المتيقن من مفاد الصحيح العفو عن وجود المانع مع الالتفات إليه بعد الفراغ، فلا مجال لتعميمه لصورة الالتفات إليه قبله، فضلا عما إذا كان عدم الغسل من دون وجود مانع.

و تحصيل الإجماع الكافي في الخروج عن مفاد الصحيح لا يخلو عن إشكال، كتحصيل الإعراض الموهن له، لعدم تحرير ذلك في كلماتهم بالنحو الكاشف عن ذلك، و قرب كون إهماله ممن أهمله لصعوبة رفع اليد به عن العموم، القاضي بوجوب الاستيعاب. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) قال في الجواهر: «مقدمة لحصول غسل البشرة، المدلول علي وجوب غسلها- نفسها- في الغسل بالسنة و الإجماع المحصل و المنقول مستفيضا، بل كاد يكون متواترا».

و ظاهر غير واحد المفروغية عن وجوب التخليل، و في المدارك أنه مذهب الأصحاب، و في الرياض دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق ما تضمن وجوب غسل الجسد، بل عموم بعضه، كما تقدم- ما تضمن أمر المرأة بالمبالغة في الماء في رأسها، و أنه لا بد أن ترويه و تعصره «1»، كما يأتي بعضه، لوضوح أنّ غسل ظاهر الشعر لا يحتاج إلي ذلك.

لكن عن الأردبيلي في مجمع الفائدة التأمل في ذلك، لما دل علي إجزاء الغرفتين أو الثلاث علي الرأس، حيث يظن بعدم وصول هذا المقدار تحت كل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة.

ص: 495

______________________________

شعرة، و لا سيما مع كثرة شعر الرأس- كما في الأعراب و النساء- و كثافة اللحية، فيمكن الاكتفاء بالظاهر. كما يدل عليه أيضا ما دل علي عدم وجوب حل الشعر علي النساء مما يأتي «1»، و ما في صحيح محمد بن مسلم: «الحائض ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها» «2».

و هو كما تري، لأن غسل الظاهر لا يحتاج للمقدار المذكور، بل تكفي فيه صبة واحدة، كما تكفي للوضوء مع كثافة اللحية، بل قد تكفي لغسل البشرة أيضا مع التخليل، و من ثمَّ تقدم حمله علي الاستحباب، فهو بظاهره علي خلاف مطلوبه أدل.

كما أنّ عدم حل الشعر لا ينافي وصول الماء للبشرة مع كثرته و نفوذه في الأعماق، الذي تضمنته النصوص المشار إليها آنفا.

و أما الصحيح، فهو مسوق لبيان الاكتفاء بالبلل و عدم اعتبار كثرة الماء، و لا دلالة فيه علي إجزاء وصول الماء للشعر علي وصوله للبشرة.

هذا، و ظاهر البهائي في الحبل المتين الإشكال في عدم وجوب غسل الشعر إن لم يتم الإجماع عليه، بل مال في الحدائق لوجوب غسله، و حكي عن بعض مشايخه المحققين من متأخري المتأخرين أنه قواه لو لم يتم الإجماع علي عدمه، و ربما استفيد مما سبق من المقنعة من الأمر بحل الشعر.

لكن لا ريب ظاهرا في عدم وجوب الحل، كما هو صريح النصوص السابقة، و نفي الخلاف فيه في المنتهي، فكما يمكن أن يكون الأمر بالحل مقدمة لإيصال الماء للشعر، يمكن أن يكون مقدمة لإيصاله للبشرة، كما حمله عليه الشيخ فيما سبق، و هو أعلم بمراده.

كما لا مجال للاستدلال عليه بما تضمن وجوب المبالغة في الماء للمرأة و ري الرأس منه لمكان المشطة مما تقدم بعضه، لوضوح إمكان كونه لأجل إيصال الماء للبشرة، لعدم وصوله إليها مع قلته لمنع المشطة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 496

______________________________

بل سبق ظهور النصوص المذكورة في ذلك و في عدم وجوب غسل الشعر.

نعم، قد يستدل علي ذلك.

تارة: بأنه من توابع البدن، فيفهم وجوب غسله مما دل علي وجوب غسله تبعا و إن لم يكن منه، و لذا قد يستظهر من المشهور وجوب غسله في الوضوء.

و اخري: ببعض النصوص الظاهرة فيه، كصحيح محمد بن مسلم المتقدم في وجوب التخليل، لأن ظاهر الحكم بإجزاء بلوغ البلل للشعر المفروغية عن كونه مما يغسل.

و صحيح حجر بن زائدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من ترك شعرة من الجنابة متعمدا فهو في النار» «1».

و ما في خبر محمد بن سنان الوارد في بيان العلل من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «إنّ آدم عليه السّلام لما أكل من الشجرة دبّ ذلك في عروقه و شعره و بشره، فإذا جامع الرجل أهله خرج الماء من كل عرق و شعرة في جسده، فأوجب اللّه عز و جل علي ذريته الاغتسال من الجنابة إلي يوم القيامة» «2»، لأن مناسبة التعليل تقتضي وجوب غسل كل ما خرج منه الماء، و منه الشعر.

و النبوي: «تحت كل شعرة جنابة، فبلّوا الشعر و أنقوا البشرة»، و عن بعض الكتب: «فاغسلوا الشعر.» «3».

لكن تقدم في الوضوء إنكار التبعية في وجوب الغسل، و إنما دلت الأدلة الخاصة في الوضوء علي بدلية غسل الشعر المحيط عن غسل ما تحته في الوجه، و علي الاجتزاء بمسح شعر الرأس عن مسح بشرته، و لا يتعدي من ذلك للمقام.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) نقل الحديث في بعض كتب أصحابنا الفقهية مرسلا، و حكيت روايته عن المغني ج: 1 ص: 288 و عن سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 207.

ص: 497

و لا يجب غسل الشعر (1)،

______________________________

و أما صحيح محمد بن مسلم، فحيث كان واردا لبيان الاجتزاء بالبلل و عدم اعتبار كثرة الماء لا لبيان ما يغسل، فلعل ذكر بلّ الشعر فيه ليس لوجوبه بنفسه، بل مقدمة لبلّ ما تحته من البشرة.

علي أنه وارد في الحائض التي قد يلتزم فيها باستحباب الاستظهار بغسل الشعر، عملا بصحيح الكاهلي المتقدم.

كما أنه لا يبعد ظهور صحيح حجر في إرادة ترك مقدار شعرة مبالغة في القلة.

و أما خبر محمد بن سنان، فالتعليل فيه لو تمَّ يقتضي وجوب غسل أطراف الشعر لإتمامه، و لا يبعد حمله علي الخروج من منابت الشعر، لأنها المتصلة بالبدن القابلة لخروج الماء ارتكازا، فلا يقتضي إلا غسل البشرة.

كما أنّ المناسب للتعليل في النبوي بأنّ تحت كل شعرة جنابة كون بلّ الشعر و غسله مقدمة لوصول الماء لما تحته من البشرة.

و الأمر فيهما سهل بعد ضعف سندهما.

علي أنه لا بد من الخروج عن ظاهر هذه النصوص لو تمَّ و حملها علي ما ذكرنا أو نحوه، لأجل نصوص عدم نقض الشعر المتقدمة.

هذا كله مضافا إلي أنّ شيوع الابتلاء بالحكم يمنع- عادة- من خفائه علي الأصحاب، فيجب غسل الشعر واقعا و يخفي عليهم حتي يكون المعروف بينهم عدمه، بل قد يظهر من بعضهم المفروغية عنه، كما سبق، فتأمل، و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المصرح به في كلام جملة منهم، و نفي عنه الخلاف في كشف اللثام، و ظاهر المعتبر و محكي الذكري دعوي الإجماع عليه لنسبته فيهما إليهم، بل قد يظهر من التهذيب المفروغية عنه، حيث حمل ما في المقنعة من الأمر بحل الشعر علي أنّ مراده ما إذا توقف عليه وصول الماء للبشرة.

ص: 498

______________________________

و يستدل عليه.

تارة: بما تضمن من نصوص تعليم الغسل غسل الجسد، ففي صحيح زرارة:

«ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدميك» «1» و نحوه غيره. لخروج الشعر عن الجسد عرفا.

و دعوي: دخوله فيه و لو مجازا، كما في الحدائق.

كما تري، إذ لا يمنع احتمال المجاز من الاستدلال.

و مثلها ما ذكره من دخوله في الرأس و الجانب الأيمن و الجانب الأيسر.

للمنع من دخوله في الرأس، و عدم تضمن النصوص عنوان الجانب الأيمن و الأيسر، بل صب الماء علي المنكب الأيمن و المنكب الأيسر، لبيان هيئة الغسل، من دون تعرض لما يغسل، للمفروغية عنه، و إنما يستفاد من بقية الأدلة غير الشاملة للشعر.

و اخري: بما تضمن عدم وجوب نقض الشعر علي المرأة، ففي رواية غياث بن إبراهيم و مرسل الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن علي عليه السّلام: «قال: لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة» «2».

و نحوهما ما تضمن الأمر بالمبالغة في ماء غسل الرأس لتبدل المشطة [3] عما كانت عليه في الصدر الأول، حيث يظهر منها المفروغية عن إرادة الغسل من دون نقض المشطة.

لظهور أنه يصعب جدا إحراز استيلاء الماء علي تمام سطوح الشعر مع عدم نقضه، و لا سيما مع المحافظة علي مشطته، خصوصا مع ابتناء المشطة علي نحو من العناية و التعقد، كما يظهر من صحيح الكاهلي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

إنّ النساء اليوم أحدثن مشطا، تعمد إحداهن إلي الصوف تفعله الماشطة

______________________________

[3] قال في لسان العرب: «و المشطة: ضرب من المشط كالركبة و الجلسة. و المشطة واحدة».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 3، 4.

ص: 499

______________________________

تصنعه مع الشعر ثمَّ تحشوه بالرياحين، ثمَّ تجعل عليه خرقة رقيقة، ثمَّ تخيطه بمسلة، ثمَّ تجعلها في رأسها، ثمَّ تصيبها الجنابة. فقال: كان النساء الأول إنما يمتشطن المقاديم، فإذا أصابهن الغسل تغدر [1]. مرها أن تروي رأسها من الماء و تعصره حتي يروي، فإذا روي فلا بأس عليها. قال: قلت: فالحائض؟ قال: تنقض المشطة نقضا» «2».

و مجرد كثرة الماء لا تكفي في ذلك ما لم يحل الشعر أو يغمس في الماء أو نحو ذلك مما يعرض مشطته للخلل بنحو لا ينفع معه إبقاؤها.

و لا سيما مع تحديد الكثرة بثلاث حفنات، ففي موثق عمار أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل و قد امتشطت بقرامل و لم تنقض شعرها، كم يجزيها من الماء؟ قال: «مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها.» «3»

و قريب منه ما في خبر الجعفريات «4»، لوضوح أنّ المقدار المذكور لا يستولي علي تمام الشعر مع المحافظة علي مشطته، و إنما يحصل به غسل البشرة بسبب صلابتها و سهولة الاستيلاء عليها و الإحساس ببلل الماء الذي يصيبها.

علي أنّ ظاهر صحيح الكاهلي أنّ المدار علي إرواء الرأس، و هو يكون بدخول الماء في أعماق الشعر و استيلائه علي البشرة، و إن لم يستول علي أطرافه، كما أنّ ظاهر خبر الجعفريات الآخر أنّ المهم وصول الماء للبشرة «5».

______________________________

[1] كذا في الوسائل، و لعله من المغادرة و هي الترك، و منه الغدير الذي ذكر غير واحد من اللغويين أنّه القطعة من الماء يتركها السيل، فيراد به في المقام أنّ الماء لا يسقط عن الرأس، بل يبقي فيه. و في نسخ الكافي علي ما قيل: «بقذر» و «تقذر» و في بعض الكتب نقل الحديث: «بعذر» و في آخر: «بقدر» و الكل غامض المعني.

______________________________

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(4) مستدرك الوسائل باب: 27 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل باب: 27 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

ص: 500

إلا ما كان من توابع البدن، كالشعر الرقيق (1). و لا يجب غسل الباطن أيضا (2).

______________________________

(1) كما تقدم منه قدّس سرّه نظير ذلك في المسألة الثانية من الوضوء، و سبقه إليه هنا في الجواهر، مع الاعتراف بأنه خلاف ظاهر بعض متأخري المتأخرين، بل خلاف إطلاق معقد الإجماع المدعي من بعضهم.

و تقدم الكلام في وجهه في الوضوء، و أنّ الظاهر عدم وجوب غسله.

(2) كما صرح به غير واحد من الأصحاب، و هو الظاهر ممن خصّ وجوب الغسل بالظاهر، كما في التذكرة، بل نفي الخلاف فيه في المنتهي و الحدائق.

بل لا ريب في بعض أفراده، كباطن الفم و الأنف لاستفاضة نقل الإجماع علي عدم وجوب المضمضة و الاستنشاق.

و أما ما في المقنعة و التذكرة من الأمر بغسل باطن الأذنين، فالمراد به باطن الاذن الظاهرة المرئي، لا باطن الصماخ، كما هو مقتضي الأمر في المقنعة بإدخال السبابتين و التصريح في التذكرة بعدم إدخال الماء في باطن الصماخ.

و كيف كان، فيقتضيه النصوص المعتبر بعضها في نفسه، الدالة علي عدم وجوب المضمضة و الاستنشاق، و منها ما يدل علي العموم لغيرهما من أفراد الباطن، كحديث عبد اللّه بن سنان- الذي لا يخلو سنده عن اعتبار-: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا يجنب الأنف و الفم، لأنهما سائلان» «1».

و صحيح أبي بكر الحضرمي عنه عليه السّلام: «قال: ليس عليه مضمضة و لا استنشاق، لأنهما من الجوف» «2».

و حسن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ليس المضمضة و الاستنشاق فريضة

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 10.

ص: 501

______________________________

و لا سنة، إنما عليك أن تغسل ما ظهر» «1».

و خبر الواسطي عمّن حدثه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الجنب يتمضمض و يستنشق؟ قال: لا إنما يجنب الظاهر»، و زاد فيه في محكي العلل: «و لا يجنب الباطن، و الفم من الباطن» «2». قال: و روي في حديث آخر أنّ الصادق قال في غسل الجنابة: «إن شئت أن تتمضمض و تستنشق فافعل و ليس بواجب، لأن الغسل علي ما ظهر لا علي ما بطن» «3».

و مقتضي إطلاق الثلاثة الأخيرة العموم لجميع أفراد الباطن، فلا يهم قصور غيرهما عن بعض أفراده، كباطن الاذن و داخل الجرح العميق المنطبق، لعدم كونهما سائلين، و عدم وضوح صدق الجوف عليهما.

و أما استدلال سيدنا المصنف قدّس سرّه بما تضمن الاجتزاء بالارتماس، فهو إنما ينفع في البواطن الطبيعية التي لا يصل الماء إليها عادة بالارتماس، كالإحليل و باطن الاذن الذي لا يري، دون مثل باطن الفم بل الأنف، حيث لا يمنع دليل الارتماس من وجوب فتح الفم و الاستنشاق حينه.

كما يجب تخليل ما يتوقف وصول الماء للبشرة علي تخليله كالشعر و ثديي المرأة المتدليين.

و كذا البواطن غير الطبيعية، كداخل الجرح العميق الذي لا يمكن تخليله حين الارتماس، حيث لا مانع من البناء علي تعذر الارتماس علي صاحبها، كما يتعذر في حق من يتعذر عليه لطارئ تخليل ما يجب تخليله حين الارتماس.

و مثله الاستدلال بإطلاق ما تضمن وجوب غسل الجسد و البدن، حيث يصدق مع عدم غسل الباطن.

لأن ذلك إنما يتضح في مثل الباطن الطبيعي كالفم و الإحليل، دون

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 6، 7.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 502

نعم، الأحوط وجوبا غسل ما يشك في أنّه من الباطن أو الظاهر، و إن علم سابقا أنّه من الباطن ثمَّ شك في تبدله (1).

الإتيان بالغسل علي إحدي كيفيتين
اشارة

و منها: الإتيان بالغسل علي إحدي كيفيتين

الترتيب

أولاهما: الترتيب، بأن يغسل أولا تمام الرأس (2)،

______________________________

المستحدث، كداخل الجرح العميق، إذ ربما يستشكل في صدق البدن بدونه.

فالعمدة ما ذكرنا من النصوص الظاهرة في دوران الحكم مدار صدق الظاهر.

و منه يظهر ضعف ما في المسالك و عن الكركي في حاشية الشرائع من وجوب غسل الثقب الحادث في الاذن و نحوها.

إلا أن يحمل علي ما يري بحيث يعد من الظاهر، دون ما إذا انطبق الثقب فلا يري باطنه، فلا يجب غسله، كما في المدارك و غيره و حكي عن الأردبيلي.

(1) تقدم في المسألة السادسة عشرة و التاسعة عشرة من مباحث الوضوء تفصيل الكلام في ذلك، حيث يظهر بمراجعته أنّ عمدة الإشكال في جريان استصحاب عدم كون المحل من الظاهر في المقام عدم وضوح كون الظاهر بعنوانه موضوعا للحكم بسببية غسله للطهارة شرعا.

بل من القريب أن يكون وجوب غسله لتوقف صدق غسل البدن عليه، فليس الواجب إلا ما يصدق معه غسل البدن، و تحديده بغسل الظاهر لبيان حدّه الخارجي، لا لأخذ المفهوم المذكور في موضوع الحكم الشرعي، ليمكن إحرازه أو إحراز عدمه بالاستصحاب.

و حينئذ يتعين الرجوع في جميع صور الشك لقاعدة الاشتغال التي تكرر أنها المرجع في الطهارات. و تمام الكلام في المسألتين المذكورتين، فراجع.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، المصرح به في كلام جماعة كثيرة منهم، كالشيخين و أتباعهما و الفاضلين و الشهيدين و غيرهم، المدعي عليه الإجماع في الانتصار و الخلاف و الغنية و التذكرة و الذكري و الحدائق و محكي

ص: 503

______________________________

السرائر و شرح الجعفرية، كما هو الظاهر من المعتبر و المنتهي و محكي المختلف، و في الجواهر أنه يمكن دعوي الإجماع المحصل عليه.

و قد استدل عليه بجملة من النصوص مختلفة الألسنة.

منها: ما قدّم فيه الرأس في بيان كيفية غسل الجنابة و عطف غيره عليه ب «ثمَّ» الظاهرة في الترتيب:

ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن غسل الجنابة، فقال: تبدأ بكفيك فتغسلهما ثمَّ تغسل فرجك، ثمَّ تصب علي رأسك ثلاثا، ثمَّ تصب علي سائر جسدك مرتين، فما جري عليه الماء فقد طهر» «1».

و قريب منه صحيح زرارة «2».

و في موثق سماعة بعد ذكر بعض المستحبات: «ثمَّ ليصب علي رأسه ثلاث مرات مل ء كفيه، ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه، ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله.» «3».

و فيه: أنها إنما تضمنت العطف المذكور في صب الماء علي الأعضاء لا في غسلها، و من الظاهر عدم كفاية الصب في استيعاب غسل العضو، بل لا بد فيه من إجراء الماء بمعونة اليد و نحوها، و مقتضي إطلاق قوله عليه السّلام: «فما جري عليه الماء.» عدم اعتبار الترتيب، و يكون الترتيب في الصب طبعيا لا شرعيا، كتوزيع الماء علي الأعضاء، الموجب لتساوي نسبة الماء إليها.

بل قوله عليه السّلام في موثق سماعة: «ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله» كالصريح في عدم الترتيب بناء علي ما هو غير بعيد من دخول الرأس في الجسد عند عدم التقابل بينهما، حيث يكشف عن أنّ الصب السابق لترطيب الجسد ليسهل استيعاب الماء له بإفاضته عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 504

______________________________

و منها: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثمَّ بدا له أن يغسل رأسه لم يجد بدا من إعادة الغسل» «1»، و نحوه صحيح حريز عنه عليه السّلام «2» لو لم يكن عينه.

و فيه: أنّ المنع من تقديم الجسد بتمامه علي الرأس لا يستلزم وجوب تقديم الرأس، بل يمكن جواز غسلهما معا بغسل واحد عرفي، كما تضمنته النصوص السابقة بالتقريب المتقدم و غيرها مما يأتي.

و دعوي: عدم الفصل بينهما، ممنوعة، كما يظهر مما يأتي عند التعرض للاستدلال بالإجماع.

علي أنّ مجرد عدم القول بالفصل لا يكفي ما لم يثبت الإجماع علي الملازمة بين الأمرين و عدم الفصل بينهما، و لا طريق لإثباته.

و منها: صحيح حريز، الذي هو مضمر في التهذيب و الاستبصار، و في الذكري أنّ الصدوق رواه في كتاب مدينة العلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الوضوء يجف. قال: قلت: فإن جفّ الأول قبل أن أغسل الذي يليه؟ قال: جفّ أو لم يجفّ اغسل ما بقي. قلت: و كذلك غسل الجنابة؟ قال: هو بتلك المنزلة و ابدأ بالرأس ثمَّ أفض علي سائر جسدك، قلت: و إن كان بعض يوم؟ قال: نعم» «3».

و يشكل بأنّ السؤال فيه لمّا كان عن تفريق الغسل بالنحو المستلزم لجفافه قبل إكماله، فالمتيقن منه الأمر بتقديم الرأس لأجل عدم قدح التفريق، و لا يدل علي وجوب تقديمه مع وحدة الغسل عرفا، فيناسب ما قبله.

علي أنّ اشتماله علي جواز التفريق في الوضوء قد يوهنه، فلاحظ.

و منها: ما تضمّن وجوب الترتيب في غسل الميت «4»، بضميمة ما تضمن أنّ

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(4) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

ص: 505

______________________________

غسل الميت غسل الجنابة أو مثله «1».

و فيه. أولا: أنه لم يتضح بعد وجوب الترتيب في غسل الميت، لاضطراب نصوصه، علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

و ثانيا: ما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ تطبيق غسل الجنابة علي غسل الميت إن كان حقيقيا- كما قد يستفاد من النصوص المتضمنة أنّ الميت يجنب «2» - فدليل وجوب الترتيب فيه لا يقتضي وجوبه في غيره من أفراد غسل الجنابة، لإمكان اختلاف غسل الحي عن غسل الميت، و إن كان ادعائيا تنزيليا كان مفاده ثبوت أحكام غسل الجنابة لغسل الميت، لا العكس.

و دعوي: أنه حيث فرض قيام الدليل علي اعتبار الترتيب في غسل الميت، فإن كان الترتيب غير معتبر في غسل الجنابة، كان الدليل المذكور مخصصا لعموم التنزيل، و إن كان معتبرا فيه لم يكن مخصصا له، بل مطابقا، فمقتضي أصالة عدم التخصيص في عموم التنزيل البناء علي اعتبار الترتيب في غسل الجنابة.

مدفوعة: بأن أصالة عدم التخصيص إنما تجري مع الشك في حكم بعض أفراد العنوان الذي سيق العام لبيان حكمه، لا مع العلم به و الشك من جهة أخري، كما في المقام، حيث يعلم بحكم غسل الميت، الذي سيق عموم التنزيل لبيانه، و يشك في حكم غسل الجنابة، نظير ما قيل من عدم حجية العام في عكس نقيضه.

نعم، لو استفيد من قوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم: «غسل الميت مثل غسل الجنب، و إن كان كثير الشعر فرد عليه [الماء] ثلاث مرات» «3» خصوص المماثلة في الكيفية، كان نصا في اعتبار الترتيب في غسل الجنابة، بضميمة ما دل علي اعتبار الترتيب في غسل الميت، لكن لا مجال لذلك مع إمكان حمله علي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

(2) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 506

______________________________

المماثلة في اعتبار الاستيعاب أو في الاكتفاء بالماء القليل، كما قد يناسبه قوله عليه السّلام: «و إن كان كثير الشعر.»، فلاحظ.

هذه تمام النصوص التي استدل بها في كلماتهم علي اعتبار الترتيب بين الرأس و الجسد، و قد ظهر عدم نهوضها بذلك.

و لو فرض نهوضها به في الجملة، كان الأقرب حملها علي الاستحباب، كبعض ما تضمنته من خصوصيات، لإباء كثير من الإطلاقات عن الحمل علي وجوب الترتيب، لورودها في مقام تعليم الغسل و اشتمالها علي الآداب و المستحبات بنحو لا يناسب إهمال الترتيب لو كان واجبا.

و لا سيما مثل قوله عليه السّلام في صحيح حكم بن حكيم: «ثمَّ اغسل فرجك و أفض علي رأسك و جسدك فاغتسل» «1»، لظهوره في ترتب الاغتسال علي الإفاضة علي الرأس و الجسد معا، حيث يناسب كون المراد بالاغتسال تعميم الماء إلي ما لم يصل إليه بالإفاضة.

و قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدميك، ليس قبله و لا بعده وضوء، و كل شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته. و لو أنّ رجلا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك و إن لم يدلك جسده» «2»، لقوة ظهوره في أنّ تمام البدن عضو واحد من القرن إلي القدم، و أنّ المدار علي إمساس الماء.

بل التنبيه فيه علي عدم الحاجة للدلك مع الارتماس و عدم الإشارة لسقوط الترتيب معه ظاهر جدا في عدم الاهتمام به بالنحو المقتضي للتنبيه.

و قوله عليه السّلام في صحيح يعقوب بن يقطين، المسؤول فيه عن الوضوء مع غسل الجنابة: «ثمَّ يصب علي رأسه و علي وجهه و علي جسده كله، ثمَّ قد قضي الغسل و لا وضوء عليه» «3»، لأن عطف الوجه علي الرأس لما لم يكن لأجل الترتيب

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 507

______________________________

بينهما فمن البعيد جدا كون عطف الجسد لأجله، بل هو كاشف عن أنّ المراد بالرأس موضع الشعر المقابل للوجه لا تمام العضو، فضلا عما يعم الرقبة.

و يقرب منه في ذلك قوله عليه السّلام في صحيح أبي بصير: «و تصب علي رأسك الماء ثلاث مرات و تغسل وجهك و تفيض علي جسدك» «1».

و أظهر من الكل في عدم وجوب تقديم الرأس موثق عمار: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل و قد امتشطت بقرامل و لم تنقض شعرها كم يجزيها من الماء؟ قال: مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها و حفنتان علي اليمين و حفنتان علي اليسار، ثمَّ تمر يدها علي جسدها كله» «2»، لصراحته في أنّ استيعاب الجسد- و منه الرأس- بالغسل بعد الصب. و حمله علي الصب لا بنية الغسل، مع الشروع في الغسل بإمرار اليد الذي يمكن حمله علي الترتيب بعيد جدا.

و دعوي: أنّ الترتيب لو لم يكن واجبا فهو مستحب فإهماله في الإطلاقات مع التعرض فيها للمستحبات لا بد أن يكون لنكتة، و لعلها من جهة أنّ السؤال لم يكن عن كيفية غسل الجنابة، بل عما يتعلق به أو عن الآداب، فلا يدل عدم ذكر الترتيب علي عدم وجوبه.

مدفوعة: بإمكان أهمية المستحبات المذكورة في النصوص المطلقة من الترتيب لو كان مستحبا، لأنها زيادة في الغسل موجبة لتأكد الطهارة، بخلافه، فعدم ذكره لا يكون قرينة صارفة عن ظهور السؤال فيما يعم الكيفية، كما هو المناسب للجواب أيضا.

علي أنّ الحكم المذكور لما كان مخالفا للإطلاقات، بل لسيرة العرف، لما هو المعلوم من ثبوت غسل الجنابة قبل الإسلام و يبعد تقيدهم سابقا فيه بالترتيب، فلو كان ثابتا لم يكن المناسب بيانه بهذه الصورة العابرة غير الموضحة، بل ينبغي

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 508

______________________________

بيانه بصورة متعمدة جلية مؤكدة، مع التنبيه إلي حكم الإخلال به عمدا أو سهوا ابتداء أو بعد السؤال عن ذلك، نظير ما سبق في الوضوء.

بل هو أولي من الوضوء بذلك، لأن الوضوء ماهية مخترعة للشارع مبينة في الكتاب المجيد و قد جرت به سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله الظاهرة و أخذ منه، حيث قد يستفاد من استمراره صلّي اللّه عليه و آله فيه علي الترتيب طبقا للترتيب الذكري في الكتاب اعتباره بلا حاجة إلي تكلف البيان بالوجه المذكور.

و من هنا يشكل استفادة الترتيب من النصوص.

و لعله لأجل ذلك ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنّ العمدة في وجوب تقديم الرأس الإجماع، لما تقدم من استفاضة نقله في كلماتهم، بنحو يظهر في شيوع ذلك بينهم، حتي عدّه في الانتصار و غيره من متفردات الإمامية، حيث قد يستكشف به اطلاعهم علي ما يقتضي اعتبار الترتيب مما يخرج به عن مقتضي الإطلاقات و سيرة العرف المشار إليها.

لكن يشكل الاعتماد علي الدعاوي المذكورة مع ظهور كلام الصدوقين في عدم اعتباره، فقد حكي الصدوق في الفقيه قول أبيه في كيفية الغسل في رسالته إليه:

«ثمَّ ضع علي رأسك ثلاث أكف من ماء و ميز الشعر بأناملك حتي يبلغ الماء إلي أصل الشعر كله، و تناول الإناء بيدك و صبه علي رأسك و بدنك مرتين، و أمرر يدك علي بدنك كله، و خلل أذنيك بإصبعيك، و كلما أصابه الماء فقد طهر، فانظر أن لا تبقي شعرة من رأسك و لحيتك إلا و يدخل الماء تحتها.»، و اكتفي في الفقيه بذلك في بيان الغسل، و ذكر نحوه في الهداية، و قريب منه في المقنع و الأمالي.

و ظاهر ذلك عدم اعتبار تقديم الرأس بتمامه، و أنّ الصب عليه أولا لأجل استيعاب أصول الشعر، لاحتياجه إلي مئونة زائدة علي أمر اليد، لا لأجل غسله بتمامه حتي الوجه فضلا عن الرقبة، و لذا أمر بعد ذلك بالصب علي الرأس و الجسد معا، و ذكر تخليل الأذنين بعد ذكر إمرار اليد علي تمام البدن.

نعم، حكي في الفقيه في آخر الكلام في غسل الجنابة قول أبيه في رسالته إليه:

ص: 509

______________________________

«لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يديك و فرجك و رأسك و تؤخر غسل جسدك إلي وقت الصلاة، فإن أحدثت. فأعد الغسل من أوله، فإذا بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل علي جسدك بعد غسل رأسك».

و قد فهم منه غير واحد البناء علي الترتيب، و أنه قرينة مخرجة عن مقتضي الإطلاق المتقدم.

و هو غير ظاهر، بل مقتضي الجمع بين كلامه أنه مع وحدة الغسل عرفا يجوز غسل الرأس مع البدن، و الممنوع منه إنما هو تقديم تمام الجسد علي تمام الرأس مطلقا أو مع تفريق الغسل.

و قد يستفاد ذلك من الكليني، حيث ذكر في باب صفة الغسل صحيحي محمد بن مسلم و زرارة المتقدمين في أدلة الترتيب- و اللذين سبق عدم ظهورهما فيه- و صحيح زرارة المانع من تقديم الجسد علي الرأس، و من ثمَّ سبق منع الاستدلال بعدم الفصل عند التعرض للصحيح المذكور.

كما أنّ المنقول عن ابن الجنيد لا يناسب وجوب الترتيب، لأنه اجتزأ مع قلة الماء بالصب علي الرأس و إمرار اليد علي البدن تبعا للماء المنحدر من الرأس علي الجسد، لوضوح أنّ انحدار الماء علي الجسد بمجرد صبه قبل إكمال غسل الرأس به.

و احتمال كون إمرار اليد لترطيب البدن و تسهيل غسله بالصب عليه، الذي تعرض له بعد ذلك، خلاف الظاهر جدا.

و من هنا يشكل تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصومين عليهم السّلام، و لا سيما مع بعد اطلاعهم علي دليل خفي علينا، مع كثرة ما وصل إلينا من الأخبار في كيفية الغسل و خلوها عن الدلالة بالوجه المناسب للحكم المذكور، علي ما سبق، و قرب ذهاب القدماء قبل عصر تدوين الفتاوي المجردة عن النصوص إلي مفاد النصوص التي رووها و دونوها و عرفت أقوالهم منها، و احتمال التباس الآداب الشرعية و الكيفيات العرفية بالفروض و الواجبات في أوائل عصور تدوين الفتاوي

ص: 510

______________________________

المجردة، كما التبست في كثير من الموارد، لإيهام عباراتهم خلاف المقصود، و جاء من تأخر عن ذلك فحاول الاستدلال لما استفاده بالنصوص الموهمة له و تتميم دلالتها ببعض التشبثات التي لم تتضح لنا.

هذا، و قد يستدل علي عدم وجوب الترتيب بما في صحيح هشام بن سالم قال: «كان أبو عبد اللّه عليه السّلام فيما بين مكة و المدينة و معه أم إسماعيل فأصاب من جارية له، فأمرها فغسلت جسدها و تركت رأسها، و قال لها: إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك، ففعلت ذلك، فعلمت بذلك أم إسماعيل فحلقت رأسها، فلما كان من قابل انتهي أبو عبد اللّه عليه السّلام إلي ذلك المكان، فقالت له أم إسماعيل: أي موضع هذا؟ قال لها: هذا الموضع الذي أحبط اللّه فيه حجك عام أول» «1» لكن في صحيحه الآخر عن محمد بن مسلم: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فسطاطه و هو يكلم امرأة فأبطأت عليه، فقال: ادنه، هذه أم إسماعيل جاءت و أنا أزعم أنّ هذا المكان الذي أحبط اللّه فيه حجها عام أول، كنت أردت الإحرام، فقلت: ضعوا لي الماء في الخباء، فذهبت الجارية بالماء فوضعته، فاستخففتها فأصبت منها، فقلت: اغسلي رأسك و امسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك و لا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئا فمست مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء، فحلقت رأسها و ضربتها، فقلت لها: هذا المكان الذي أحبط اللّه فيه حجك» «2».

و احتمال تعدد الواقعة بعيد جدا.

و من هنا قرب في الاستبصار أن يكون الأول وهما من الراوي، بل ظاهر التهذيب الجزم به.

إلا أنه لا وجه لتعين الوهم به، بل مضمون الثاني أقرب للوهم، لأن المستحب

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 511

و منه العنق (1) ثمَّ بقية البدن.

______________________________

للإحرام الغسل التام، فإن كان متوقعا من الجارية فلا ملزم بتقديم غسل الرأس منها، و إلا كان غسل الجسد مريبا أيضا و لم ينفع تقديم غسل الرأس، بخلاف مضمون الأول، لعدم ظهور أثر غسل الجسد و لا سيما بعد لبس الثياب، بخلاف غسل الرأس لظهور بلله، فإذا وقع قبيل الركوب أو حاله لا تطلع عليه أم إسماعيل، لعدم ملاقاتها، للجارية بعده.

نعم، يبعد الوهم فيه بلحاظ ما اشتمل عليه من الخصوصيات الدقيقة، كالأمر بالمبالغة في مسح الرأس و مس أم إسماعيل له صدفة، و التفاتها للزوجة الماء فيه، حيث يبعد جدا الوهم في هذه الأمور.

و من هنا كان التعارض بين الصحيحين مستحكما، بل لا يخلو اختلافهما عن غرابة.

و قد تحصّل من جميع ما سبق: أنّ الذي يمكن إثباته من النصوص هو عدم جواز تأخير الرأس بتمامه عن تمام البدن، لصحيحي زرارة و حريز، و وجوب تقديم الرأس عند إرادة التفريق لصحيح حريز الآخر. مع جواز غسل الرأس مع البدن بغسل واحد عرفا، للمطلقات المتقدمة المطابقة لسيرة العرف في كيفية الغسل، و التي يشكل تحصيل الدليل المخرج عنها. و من ثمَّ مال في المدارك إلي عدم وجوب الترتيب. فتأمل جيدا.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم، و منه نستمد العون و التوفيق.

(1) كما لعله الظاهر ممن عطف الميامن و المياسر علي الرأس، كما في الانتصار و المبسوط و الخلاف و النهاية و المراسم و الوسيلة و الشرائع و النافع و المعتبر و الإرشاد و القواعد و التذكرة و المنتهي و محكي السرائر و غيرها، لعدم دخول الرقبة في الميامن و المياسر عرفا، بحيث يحتاج دخولها فيهما للتنبيه، و لا سيما مع سبق التصريح بإلحاقها بالرأس في المقنعة و الغنية و محكي الكافي

ص: 512

______________________________

و المذهب و التحرير، و هو المصرح به أيضا في الدروس و الذكري و اللمعة و جامع المقاصد و المسالك و الروضة و الروض و كشف اللثام و محكي البيان و حاشية الشرائع و الجعفرية و غيرها، بنحو يناسب المفروغية عنه من غير واحد منها.

و في الذكري: «نص عليه المفيد و الجماعة»، و عن شرح المفاتيح أنّ الظاهر اتفاق الفقهاء عليه، و في الحدائق: «من غير خلاف يعرف بين الأصحاب، و لا إشكال يوصف في هذا الباب إلي أن انتهت النوبة إلي جملة من متأخري المتأخرين. فاستشكلوا في الحكم».

و لعله لذا يحمل ما في إشارة السبق من وجوب غسل الرأس و الجانب الأيمن من رأس العنق إلي تحت القدم و كذلك الأيسر علي رأسه الأسفل المتصل بالجسد، لا الأعلي المتصل بالرأس.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بعموم الرأس للرقبة شرعا، أو عرفا بنحو الاشتراك، لكن الظاهر خروجها عنه عرفا، و عدم تصرف الشارع في مفهوم الرأس، و أنّ وجوب غسل الرقبة معه لو تمَّ مستفاد من قرينة خارجية.

فالأولي الاستدلال له من نصوص الترتيب بقوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «ثمَّ صب علي رأسه ثلاث أكف، ثمَّ صب الماء علي منكبه الأيمن مرتين، و علي منكبه الأيسر مرتين» «1».

و في موثق سماعة المتقدم: «ثمَّ ليصب علي رأسه ثلاث مرات مل ء كفيه، ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه» «2».

لظهورهما في أنّ ابتداء الجسد المتأخر في الغسل عن الرأس بالمنكبين و الصدر و بين الكتفين، و العنق خارج عنها، فيتعين إلحاقه بالرأس و لو لتبعيته له بسبب نزول الماء من الرأس له، فإنه أقرب عرفا من إلحاقه بالمنكبين و الصدر و بين الكتفين مع كونه أعلي منهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 513

______________________________

نعم، مقتضاهما تقديمها علي الجسد كالرأس، أما عدم وجوب تأخيرها عن الرأس فضلا عن جواز تقديمها عليه فهما لا ينهضان به، بل مقتضي فرض الصب فيهما علي الرأس وجوب البدء به و لو بتقديم بعضه.

لكن يظهر منهم المفروغية عن عدم وجوب ذلك و أنهما عضو واحد.

و مما سبق يظهر ضعف ما يظهر من المستند و عن جملة من متأخري المتأخرين- منهم صاحبا الذخيرة و رياض المسائل و المحدث الشيخ عبد اللّه البحراني- من الإشكال في الحكم، لخروج الرقبة عن الرأس لغة و عرفا، و فقد النص الصريح بإلحاقها به، بل تقدم ظهور صحيحي أبي بصير و يعقوب بن يقطين في خروجها عنه.

وجه الضعف: أنّ ظهور الحديثين كاف في إلحاق الرقبة بالرأس و إن كانت خارجة عنه لغة و عرفا، و لا يحتاج معه إلي صريح النص، و صحيحا أبي بصير، و يعقوب ليسا من أدلة الترتيب ليهمّ ظهورهما في عدم الإلحاق.

هذا كله بناء علي أنّ الصحيح و الموثق من أدلة الترتيب، و أما بناء علي عدم نهوضهما به و أنّ دليله صحاح زرارة و حريز المتقدمة، فالبناء علي إلحاق الرقبة بالرأس لا يخلو عن إشكال، لما عرفت من عدم دخولها فيه عرفا، فينحصر الأمر بالإجماع الذي حكيت دعواه عن بعضهم، و هو و إن لم يكن بعيدا بناء علي نهوض الإجماع بالترتيب، لما سبق من كلماتهم، إلا أنه تقدم الإشكال في الاستدلال به عليه.

اللهم إلا أن يقال: بناء علي استفادة الترتيب من الصحاح المذكورة يصلح صحيح زرارة و موثق سماعة لبيان أنّ ما يجب تقديمه علي الجسد ما يعم الرقبة، حيث تصلح تلك الصحاح للقرينية علي أنّ الترتيب بالصب فيهما لأجل اعتبار الترتيب في الغسل، فتلحق الرقبة بالرأس، لما سبق، و إلا فمن البعيد جدا إرادة غسل الأعضاء مرتبا بعد إكمال الصب علي الجميع.

نعم، بناء علي عدم استفادة الترتيب بالنحو المذكور منها و الجمود علي

ص: 514

و الأحوط وجوبا أن يغسل أولا تمام النصف الأيمن، ثمَّ تمام النصف الأيسر (1).

______________________________

مفادها- كما سبق- يتعين عدم إلحاق الرقبة بالرأس، فمن غسل الرقبة و البدن و ترك الرأس وجب عليه إعادة غسل الرقبة مع البدن بعد غسل الرأس، عملا بصحيحي زرارة و حريز المتقدمين، فلاحظ.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعي عليه الإجماع صريحا و ظاهرا في كلام من تقدم منه دعواه علي تقديم الرأس، لجعلهم لهما في عرض واحد، عدا صاحب الحدائق، و في المعتبر بعد أن ذكر ذلك و ناقش في دلالة النصوص عليه قال: «لكن فقهاءنا اليوم بأجمعهم يفتون بتقديم اليمين علي الشمال و يجعلونه شرطا في صحة الغسل، و قد أفتي بذلك الثلاثة و أتباعهم».

بل في التذكرة و المنتهي و الروض و حاشية المدارك و محكي الذكري و نهاية الاحكام أنّ كل من أوجب تقديم الرأس أوجب تقديم الجانب الأيمن، و في الانتصار و الروض و محكي الذكري أنّ كل من قال بوجوب الترتيب في الوضوء قال به في الغسل علي النحو المذكور، فالتفريق بينهما خروج عن الإجماع و من ثمَّ قال في الجواهر: «و يمكن دعوي تحصيل الإجماع».

لكن لا مجال لذلك مع ما سبق من الصدوقين و ابن الجنيد، بل كلامهم في نفي الترتيب بين الجانبين أظهر منه في نفيه بين الرأس و الجسد، و لا سيما مع ما عن ابن الجنيد من قوله بعد ذلك: «و يضرب كفين من ماء علي صدره و سائر بطنه و عكنه، ثمَّ يفعل مثل ذلك علي كتفه الأيمن، و يتبع يديه كل مرة جريان الماء حتي يصل إلي أطراف الأصابع اليمني و تحت إبطيه و أرفاغه [1]، و لا ضرر في نكس غسل اليد هنا،

______________________________

[1] قال في لسان العرب: «الرّفغ و الرّفغ أصول الفخذين من باطن، و هما ما اكتنفا أعالي جانبي العانة عند ملتقي أعالي بواطن الفخذين و أعلي البطن، و هما أيضا أصول الإبطين. و قال ابن الأعرابي:. و الأرفاغ المغابن من الآباط و أصول الفخذين و الحوالب و غيرها من مطاوي الأعضاء و ما يجتمع فيه الوسخ و العرق.».

ص: 515

______________________________

و يفعل مثل ذلك بشقه الأيسر. و لو لم يضرب صدره و بين كتفيه بالماء إلا أنه أفاض بقية مائه بعد الذي غسل به رأسه و لحيته ثلاثا علي جسده من الماء ما يعلم أنه قد مرّ علي سائر جسده أجزأ.»، و عن ابن أبي عقيل أنه عطف الأيسر علي الأيمن بالواو، و عن الكافي أنه قال بعد ذكر الترتيب بين الأعضاء الثلاثة: «و يختم بغسل الرجلين. فإن ظن بقاء شي ء من صدره أو ظهره لم يصل الماء إليه فليسبغ بإراقة الماء علي صدره و ظهره»، و قال في محكي الذكري بعد نقل ذلك عنه: «و كذا قاله بعض الأصحاب»، و في المراسم: «و يغسل رأسه أولا مرة و يخلل شعره حتي يصل الماء تحته ثمَّ يغسل ميامنه مرة و مياسره مرة، ثمَّ يفيض الماء علي جسده و لا يترك منه شعرة و ليمر يده علي بدنه، و الترتيب واجب»، لظهور كلامهما في تحقق غسل الميامن و المياسر المطلوب في الجملة مع عدم استيعاب البدن بنحو يحتاج للإفاضة علي جميع البدن بعده.

و ما حاوله غير واحد من تأويل هذه الكلمات و إرجاعها لما يطابق المشهور تكلف لا داعي له، و لا سيما مع احتمال مطابقة مضامينها لبعض الأخبار.

و لعله لذا جعله المشهور في كشف اللثام و المفاتيح و الحدائق، بل ذكر في المدارك ذلك في أصل الترتيب.

و كيف كان، فينحصر الدليل علي الترتيب بين الجانبين بما تضمن وجوبه في غسل الميت بضميمة ما دل علي أنّ غسل الميت غسل الجنابة أو مثله، المؤيد بصحيح زرارة- المتقدم في إلحاق الرقبة بالرأس- لإشعاره بتثليث أعضاء الغسل المستلزم لوجوب الترتيب بينهما، لأن كل من قال بتثليثها أوجبه، أو لظهور الواو في الترتيب مطلقا، أو في خصوص المقام بقرينة الإجماعات المتقدمة، و ببعض الروايات العامية المتضمنة أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله كان إذا اغتسل بدأ بالشق الأيمن ثمَّ الأيسر «1»، بل قد يدعي انجبارها بفتوي الأصحاب، و لا سيما مع تعرض جملة منهم

______________________________

(1) حكي عن صحيح البخاري كتاب الغسل باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل.

ص: 516

______________________________

لها في مقام الاستدلال.

و الكل كما تري، لما سبق من عدم صلوح نصوص غسل الميت للاستدلال علي تقديم الرأس فضلا عن تقديم الجانب الأيمن.

و مثلها صحيح زرارة، لأن تثليث الأعضاء لو تمَّ قد يكون بلحاظ استحباب الترتيب بينها و عدم القائل به غير ظاهر.

و لا دلالة في الواو علي الترتيب، و قول المشهور به لا يصلح قرينة متممة لدلالتها عليه.

و أخبار العامة غير ظاهرة الدلالة علي وجوب الترتيب، لأن فعله صلّي اللّه عليه و آله أعم منه، و لم يتضح وروده في مقام التعليم ليكون ظاهرا فيه. بل مقتضاه البدء بالميامن حتي في الرأس الذي لا إشكال في عدم وجوبه.

كما لا مجال لانجبارها بعمل الأصحاب، لأن ذكرهم لها قد يكون للاحتجاج علي العامة لا للاعتماد عليها في نفسها.

علي أنه لو تمَّ شي ء من ذلك فلا مجال للخروج به عن الإطلاقات، حيث تقدم قوة ظهورها في عدم وجوب الترتيب.

بل هي في المقام أكثر منها في الرأس و أظهر.

و لا سيما مع ما في موثق سماعة المتقدم من قوله عليه السّلام: «ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه، ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله» «1»، و قريب منه الرضوي «2».

و ما في موثق عمار المتقدم أيضا من قوله عليه السّلام في بيان مقدار الماء لغسل المرأة التي لا تنقض شعرها: «مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها و حفنتان علي اليمين و حفنتان علي اليسار، ثمَّ تمر يدها علي جسدها كله» «3»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(2) كتاب الرضوي آخر ص: 3.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 517

و لا بد في غسل كل عضو من إدخال الشي ء من الآخر، نظير باب المقدمة (1).

______________________________

لصراحته في أنّ استيعاب الجسد بالماء بعد إكمال الصب علي أطرافه الذي يكون به الشروع في غسلها، كما تقدم.

و ما في صحيح زرارة فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة من قوله عليه السّلام: «و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما» «1»، لأن مقتضي ترك الاستفصال فيه الاكتفاء بتدارك ما تركه و إن كان من الميامن، و عدم وجوب إعادة الجانب الأيسر بعده، فتأمل.

و قد تقدم في حكم تقديم الرأس علي الجسد ما له نفع في المقام.

و من هنا كان الأظهر عدم وجوب الترتيب بين الجانبين، كما يظهر من أصحاب المدارك و المفاتيح و الحبل المتين و المستند و محكي الذخيرة و الوافي، و المجلسي، و يظهر أيضا من بعض مشايخنا.

بل لا يبعد كونه المختار لسيدنا المصنف قدّس سرّه، حيث سئل- بحضوري- عمن عكس الترتيب بينهما مدة طويلة جهلا بالحكم، فلم يأمره بالإعادة، و اقتصر علي نهيه عن العود لذلك، مع عدم الإشكال ظاهرا في أنّ شرطية الترتيب لو تمت واقعية تشمل حال الجهل، كما صرح به هو قدّس سرّه في مستمسكه، بل ظاهره دخوله في معقد إجماع الأصحاب المدعي علي الترتيب.

(1) و هو المعروف عندهم بالمقدمة العلمية، و هي التي يتوقف عليها العلم بالامتثال.

و التي يقتضي وجوبها في المقام قاعدة الاشتغال، التي هي المرجع مع الشك في الامتثال، و لا سيما في مثل الطهارات، التي تكرر أنّ مرجع الشك فيها إلي الشك في المحصل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 518

______________________________

و قد تقدم في الوضوء ما له دخل في المقام.

و علي هذا، فالحد المشترك بين العضوين الذي لا يتميز لحوقه بكل منهما يجب غسله مع كل منهما، بل هو مقتضي العلم الإجمالي بوجوب غسله مع أحدهما.

و بذلك صرح في جامع المقاصد و المسالك و غيرهما.

و دعوي: أنّ ذلك موقوف علي وجوب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة بتمامها حقيقة، و لا دليل عليه، لأن النصوص المتقدمة إنما تضمنت الصب علي الرأس ثمَّ الجسد، و الصب علي المنكبين، و المتيقن من ذلك الاستيعاب العرفي لكل عضو، و لا يخل به غسل الحدّ المشترك مع أحد الجانبين.

مدفوعة: بأن الجمود علي مفاد النصوص المطابقي لا يقتضي حتي الاستيعاب العرفي، و حمله علي الكناية عن الترتيب بين الأعضاء يقتضي استيعابها الحقيقي الذي لا يحرز إلا بغسل الحد المشترك مع كل من الجانبين.

و منه يظهر ضعف ما عن الذكري من إجزاء غسل الحد المشترك و العورتين مع أحد الجانبين.

و أما ما ذكره من امتناع إيجاب غسلهما مرتين، فهو كما تري، إذ أي مانع من وجوب تكرار غسل الجزء المذكور عقلا للاحتياط بتحصيل الواجب الواقعي، و هو غسل كل من الجانبين بتمامه مرتبا مرة واحدة.

علي أنه لا مجال لذلك في العورتين مع إمكان التنصيف فيهما، و إن جزم بالتخيير المذكور فيهما في محكي الألفية أيضا، كما جزم به فيهما و في السرّة في جامع المقاصد و محكي الجعفرية.

و ما في جامع المقاصد من أنها أعضاء مستقلة و ليست كالحد المشترك فلا ترجيح لغسلها مع أحد الجانبين.

كما تري، لأن كونها أعضاء عرفا لا ينافي دخول كل من نصفيها في كل من

ص: 519

______________________________

الجانبين فيغسل معه- علي ما صرح به في كشف اللثام- كما يغسل كل من الثديين و اليدين مع جانبه و إن كانت أعضاء عرفا.

غاية الأمر أنّ اشتباه الحد المشترك بينها يقتضي غسله مع كل منهما.

و مثله ما عن بعض الأصحاب من وجوب غسل العورتين منفردتين، لأن العورة عضو رابع.

إذ فيه: أنّ عدد الأعضاء في الغسل تابع لأدلته، و المفروض ظهورها في تثليثها لا غير.

نعم، تضمنت جملة من النصوص تقديم غسل الفرج.

إلا أنّ الظاهر حمله عندهم علي تطهيره من الخبث، كما يناسبه التعبير بالإنقاء في بعضها «1»، و الأمر بغسل تمام البدن بعده في آخر «2».

هذا، و في المسالك بعد أن ذكر غسل كل من الأليتين مع جانبها قال: «و يدخل في ذلك غسل الدبر، و كذا قبل المرأة. و أما الذكر، فالأولي غسله مع الجانبين»، و عن رسالة صاحب المعالم و شرحها: «فيغسل الرجل قبله من الجانبين استظهارا، لعدم تشخص كونه من واحد بعينه»، بل في الحدائق ذكر ذلك في العورتين معا.

و ربما يحمل عليه ما في الروضة من تبعية العورة للجانبين، و إن كان الأظهر حمله علي تبعيتها لهما بالتنصيف الذي سبق أنه المتعين.

و قد وجّه في الحدائق ما ذكره بظهور الأخبار في وجوب استيعاب كل من الجانبين بالغسل، فلو كانت العورة عضوا زائدا لكانت متروكة الذكر في الأخبار.

و هو كما تري، لأن استيعاب كل من الجانبين لا يقتضي إلا غسل نصف العورة معه، من دون فرق بين القبل و الدبر، بل وجوب غسل تمامها مرتين واقعا أو احتياطا محتاج إلي عناية في البيان لا تناسبها النصوص المتقدمة.

فالمتعين ما سبق من التنصيف، و الاقتصار في التكرار علي الحدّ المشترك الذي يحتمل إلحاقه بكل منهما، فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5، 8.

ص: 520

و لا ترتيب هنا بين أجزاء كل عضو (1)،

______________________________

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة من الأصحاب و تصريح آخرين، و عن المهذب البارع أنه المشهور، بل قد يظهر منه شذوذ المخالف، لأنه بعد أن حكي عن أبي الصلاح الحلبي إيجاب البدء بأعلي العضو قال: «و هو متروك».

نعم، في مفتاح الكرامة أنّ ذلك ظاهر الغنية و إشارة السبق و السرائر، بل ظاهر الغنية الإجماع عليه.

لكن الموجود في الغنية: «ثمَّ غسل جميع الرأس إلي أصل العنق، علي وجه يصل الماء إلي أصول الشعر، ثمَّ الجانب الأيمن من أصل العنق إلي تحت القدم كذلك، ثمَّ الجانب الأيسر كذلك، فإن ظن بقاء شي ء من صدره أو ظهره لم يصل الماء إليه غسله»، و في إشارة السبق: «و غسل الرأس إلي أن يبلغ الماء أصول شعره، و غسل الجانب الأيمن من رأس العنق إلي تحت القدم، و كذلك الجانب الأيسر و ترتبه، فإن لم يعم الماء صدره و ظهره غسلهما».

و المتيقن منهما إرادة تحديد الأعضاء المغسولة، لا كيفية الغسل.

بل ظاهر ذيل كلاميهما جواز الاقتصار علي ما لم يصل إليه الماء و عدم وجوب إعادة غسل ما تحته لأجل الترتيب في نفس العضو.

و في السرائر: «و الترتيب واجب فيه، و هو أن يقدم غسل رأسه ثمَّ ميامن جسده ثمَّ مياسره، فإن أخر مقدما أو قدم مؤخرا رجع فتداركه. إلي أن قال بعد كلام طويل: - و إن ارتمس الجنب ارتماسة واحدة أجزأه و يسقط الترتيب. و المستحب أن يفيض علي رأسه ثلاث أكف من الماء و يغسل رأسه بها و ما يليه من عنقه. ثمَّ يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيمن فيغسل بها من عنقه إلي تحت قدمه الأيمن، ثمَّ يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيسر فيفعل فيه كما فعل بالجانب الأيمن.».

و لو كان ما في ذيل كلامه لبيان كيفية الغسل، لا لتحديد المغسول- كما لعله الأظهر- فهو في الكيفية المستحبة لا الواجبة، بل خلوّ ما ذكره في الترتيب الواجب

ص: 521

______________________________

عن ذلك ظاهر في عدم وجوبه.

و من ثمَّ ينحصر الخلاف بما حكي عن أبي الصلاح، الذي لا يحضرني كلامه.

و كيف كان، فقد يستدل لوجوب البدء بالأعلي بقوله عليه السّلام في صحيح زرارة:

«ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدمك» «1».

و في صحيحه الآخر: «ثمَّ صبّ علي رأسه ثلاث أكف ثمَّ صب علي منكبه الأيمن مرتين و علي منكبه الأيسر مرتين» «2».

لكن ظاهر الأول تأكيد وجوب الاستيعاب، لتعارف التعبير بذلك عنه، و لذا سبق الاستدلال به لعدم وجوب الترتيب حتي بين الأعضاء الثلاثة، و إلا فلا يجب الختم بالقدمين معا قطعا، بل المدعي وجوب الختم بالقدم في كل جانب، و هو لا يناسب العبارة المذكورة لو حملت علي ترتيب الغسل.

و الثاني محمول علي بيان الكيفية المتعارفة التي يسهل معها استيعاب البدن بالماء، و إلا فالمنكب هو الأعلي في بعض الجانب، فلا بد من غسل ما سامته منه بإمرار اليد المبتلة، و هو قد يكون بعد غسل ما تحته بجريان الماء المسبب عن صبه علي المنكب.

بل الترتيب بالنحو المذكور لمّا كان محتاجا إلي عناية، كان المناسب التنبيه عليه ببيان موضح، و هو لا يناسب كمية الماء المذكورة في النصوص، و لا ما تضمنه غير واحد منها من الاكتفاء في كل موضع بإمساس الماء له أو جريانه عليه.

نعم، لو أريد مجرد البدء بالأعلي و لو مع عدم الترتيب فيما بعده لم يكن بهذه العناية، إلا أنّ الصحيح الثاني لا ينهض به أيضا، لما ذكرناه من عدم كون المنكب هو الأعلي لتمام الجانب.

كما أنّ المطلقات تأباه جدا، و لذا سبق الإشكال في الخروج عنها بالبناء

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 522

______________________________

علي الترتيب بين الأعضاء الثلاثة فضلا عن الترتيب فيها، فلاحظ.

بقي شي ء: و هو أنه لو أخل بغسل بعض الجسد لا عن عمد فلا إشكال ظاهرا في لزوم التدارك، لما تضمن وجوب الاستيعاب في الغسل.

و لصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: اغتسل أبي من الجنابة فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت؟! ثمَّ مسح تلك اللمعة بيده» «1».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة. فقال: إذا شك و كانت به بلة و هو في صلاته مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلة، فإن دخله الشك و قد دخل في صلاته فليمض في صلاته و لا شي ء عليه، و إن استيقن رجع فأعاد عليه الماء، و إن رآه و به بلة مسح عليه و أعاد الصلاة باستيقان» «2». و غيرهما.

و لا يضر طول الزمان، بناء علي ما يأتي من عدم اعتبار الموالاة في الغسل.

نعم، مقتضي وجوب الترتيب فيه بين الأعضاء الثلاثة الاكتفاء بغسله إذا كان في الجانب الأيسر، و وجوب غسل الأيسر بعده إذا كان في الجانب الأيمن، و وجوب غسل كلا الجانبين بعده إذا كان في الرأس أو الرقبة، كما هو ظاهر الأصحاب، لعدم استثنائهم ذلك من شرطية الترتيب، بل في الجواهر أنه صرح به جماعة، و نسبه في الحدائق لتصريح الأصحاب، مشعرا بدعوي الإجماع عليه.

بل لو قيل باعتبار الترتيب في نفس الأعضاء كان مقتضي القاعدة لزوم غسل ما تحته من العضو أيضا.

لكن لا مجال لحمل النصوص المتقدمة علي ذلك، إذ هي كالصريحة في الاكتفاء بغسل الموضع المتروك، مع فرضه فيها في أعالي العضو، لا في أسفله.

و من هنا يتعين البناء علي سقوط الترتيب في نفس الأعضاء مع الإخلال

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 523

فله أن يغسل الأسفل منه قبل الأعلي. كما أنه لا كيفية مخصوصة للغسل هنا، بل يكفي المسمي كيف كان (1)،

______________________________

بالجزء لا عن عمد لو قيل باعتباره في نفسه.

بل مال في الحدائق إلي الاكتفاء به مطلقا حتي لو كان في غير الجانب الأيسر و سقوط الترتيب بين الأعضاء أيضا.

و هو لا يخلو عن قرب، لأن حمل الصحيحين الأولين علي ما لا ينافي الترتيب و إن كان ممكنا لورودهما في قضية خارجية لا إطلاق لها، فتحمل علي ما إذا كانت اللمعة في الجانب الأيسر، أو في الأيمن قبل الشروع في غسل الجانب الأيسر، لتخيل غفلة الإمام عليه السّلام عنها- كما قد يحمل عليه محافظة علي العصمة- إلا أنه لا مجال له في الثالث بعد ترك الاستفصال فيه بنحو يبعد حمله علي خصوص الأيسر.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ السؤال فيه من حيثية وجوب الإعادة علي المتروك و عدمه لا من هذه الحيثية، فلا مجال لرفع اليد به عن أدلة الترتيب لو تمت.

فهو كما تري! لأن الخصوصيات المذكورة في الجواب تناسب التصدي لبيان كيفية التدارك، لا لأصل وجوبه فقط، فلا مجال لإنكار قوة ظهوره في سقوط الترتيب لو كان واجبا في نفسه.

و من ثمَّ سبق منا سوقه مؤيدا لعدم وجوب الترتيب بين الجانبين رأسا، فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب و تصريح جملة منهم بالاكتفاء بمسمي الغسل.

و أما ذكر الصب و الإفاضة و نحوهما في عبارات جملة من القدماء الواردة لبيان الغسل الترتيبي، فالظاهر عدم جمودهم عليها، و أنّ ذكرهم لها تبعا للنصوص أو لبيان الكيفية المتعارفة، لقضاء المناسبات الارتكازية بأنها من سنخ المقدمات

ص: 524

______________________________

الخارجية التي لا دخل لخصوصياتها، و أنّ المهم ما يتسبب عنها، و هو الغسل و وصول الماء للبشرة، كما يشهد به اختلاف العناوين المأخوذة في كلماتهم و خلوّ كلام بعضهم عنها مع عدم نسبة الخلاف إليهم من هذه الجهة.

فما يظهر من المستند من استفادة اعتبار ذلك من كلماتهم في غير محله.

و أضعف من ذلك ما ذكره من عدم الريب في اعتبار الصب في الترتيبي، و حكاه عن بعض أجلة المتأخرين في شرحه علي القواعد، لانحصار أدلة الترتيب في الصب، فلا وجه للتعدي منها.

وجه الضعف: أنّ النصوص المذكورة و إن اشتملت علي ذلك في الجملة، إلا أنّ المستفاد منها بيان الكيفية المتعارفة، لإلغاء خصوصية السبب ارتكازا، و أنّ المهم وصول الماء للبشرة، كما يشهد به قوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم: «فما جري عليه الماء فقد طهر» «1»، و في صحيح زرارة: «فما جري عليه الماء فقد أجزأه» «2» و في صحيحه الآخر: «و كل شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته» «3».

و لا سيما مع اختلاف العناوين التي تضمنتها من صب الماء و إفاضته و ضرب الصدر و ما بين الكتفين به.

و مع ما في صحيح ابن جعفر الوارد في الاغتسال بالمطر من قوله عليه السّلام: «إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه» «4»، لظهوره في أنّ المدار علي الغسل، من دون خصوصية لمقدمته.

إلي غير ذلك مما لا ينبغي التأمل معه في إلغاء خصوصية الأمور المذكورة.

و قد تقدم في أول فصل أجزاء الوضوء الكلام في اعتبار الجريان و في تحديده لو كان معتبرا بما يغني عن الإعادة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10.

ص: 525

فيجزي رمس الرأس بالماء أولا (1)، ثمَّ الجانب الأيمن ثمَّ الجانب الأيسر، كما يكفي رمس البعض و الصب علي الآخر. بل يكفي تحريك العضو المرموس في الماء (2)

______________________________

(1) كما حكاه في المستند عن والده و بعض مشايخه و جمع ممن عاصره، بل هو الظاهر من إطلاق الأصحاب، بناء علي ما سبق من إلغاء خصوصية الصب في كلام جماعة منهم.

و لذا تقدمت نسبته لهم في الوضوء في كلام غير واحد مع عدم تصريح معتد به منهم.

و الوجه فيه: تحقق الواجب به، و هو وصول الماء للبشرة، حتي بناء علي اعتبار الجريان فيه، إذ لا يراد به إلا انتقال أجزاء الماء علي أجزاء البدن، و هو يحصل بالارتماس.

و قد تقدم في المسألة الثالثة عشرة من فصل أجزاء الوضوء ما له نفع في المقام.

(2) ظاهره لزوم التحريك و عدم الاكتفاء بنية الغسل بدونه، و هو ظاهر، بناء علي اعتبار الجريان- بالمعني المتقدم- و أما بناء علي عدمه و الاكتفاء في صدق الغسل باستيلاء الماء علي البشرة- كما هو مختار سيدنا المصنف قدّس سرّه- فقد يتجه الاكتفاء بذلك، كما نبه له قدّس سرّه في مستمسكه، و يناسبه ما يأتي منه في الغسل الارتماسي.

لكن سبق في المسألة الثالثة عشرة من فصل أجزاء الوضوء أنّ المتيقن من الأدلة اعتبار إيصال الماء و إمساسه بما هو معني مصدري، و لا تكفي نتيجة المصدر و هي التماس بين الماء و البشرة، الحاصل مع سكون العضو المرموس في الماء و إن استند للمكلف بسبب إبقائه العضو فيه، لعدم تحقق الغسل به- بناء علي ما تقدم في أول الفصل المذكور من معناه- و عدم الدليل علي الاكتفاء به.

ص: 526

بلا حاجة إلي إخراجه ثانيا (1).

ثانيهما الارتماس
اشارة

ثانيهما: الارتماس (2)،

______________________________

نعم، يتجه عدم وجوب التحريك إذا كان الماء متحركا حال سكون العضو فيه، و نوي غسله بمرور الأجزاء المائية عليه، لتحقق الإمساس بالمعني المصدري حينئذ، و استناده للمكلف بإبقائه العضو في الماء، نظير قيامه تحت المطر الموجب لإصابة مائه له، كما تقدم في المسألة المذكورة من الوضوء.

(1) لا إشكال ظاهرا في عدم دخل إخراج العضو المرموس في صدق الغسل و تحقق الامتثال، و لا يحتاج إلي تنبيه.

و الظاهر أنه أشار قدّس سرّه بما ذكره إلي عدم لزوم إخراج العضو المرموس غسله و تجديد رمسه في مقابل دعوي عدم الاكتفاء بتحريكه حال ارتماسه.

و قد تقدم في المسألة الثالثة عشرة من فصل أجزاء الوضوء توجيه الدعوي المذكورة بأنّ الواجب هو إحداث الغسل لا ما يعم البقاء و الاستمرار، و دفعها بإطلاق الأدلة، كما هو المطابق للارتكازيات في مطهرية الماء المشار إليها بالمضامين التي اشتملت عليها نصوص المقام، فراجع.

(2) فلا يجب معه الترتيب قطعا، كما في الذكري، و به صرح الأصحاب، و نفي الخلاف فيه في الحدائق و محكي شرح رسالة صاحب المعالم، بل ادعي الإجماع عليه في السرائر و الروض و كشف اللثام و المدارك و المفاتيح و المستند و الرياض و الجواهر.

و يقتضيه ما في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و لو أنّ رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك و إن لم يدلك جسده» «1».

و صحيح الحلبي: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا ارتمس الجنب في

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 527

______________________________

الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله» «1»، و نحوه مرسله «2».

و موثق السكوني عنه عليه السّلام: «قلت له: الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة و يخرج، يجزيه ذلك من غسله؟ قال: نعم» «3».

و بها يخرج عن إطلاق نصوص الترتيب- لو تمت دلالتها عليه في نفسها- المقتضي لعدم الاجتزاء بغيره، و حملها علي ما يتعارف من الغسل بغيره.

نعم، أطلق اعتبار الترتيب من دون استثناء الارتماس في جمل العلم و العمل للمرتضي و الوسيلة و معقد إجماع الانتصار و الخلاف و الغنية.

لكن يبعد خلافهم فيه- فضلا عن دعوي الإجماع علي بطلانه- بعد ما سبق.

و لعله لذا لم ينسب لهم الخلاف فيه، و إنما اقتصر في مفتاح الكرامة علي التنبيه لعدم ذكره في الغنية، مع أنه ذكر أنّ الأصحاب ذكروه قاطعين به.

و ربما يكون نظرهم في ذكر الترتيب إلي صورة الغسل التدريجي المتعارف.

كما قد يكون نظر بعضهم إلي عدم منافاته لوجوب الترتيب، لما احتمله في الاستبصار من أنّ المرتمس يترتب حكما و إن لم يترتب فعلا، و أنه إذا خرج من الماء حكم له أولا بطهارة رأسه ثمَّ جانبه الأيمن ثمَّ جانبه الأيسر، فيكون علي هذا التقدير مرتبا، و حكاه في المبسوط و السرائر عن بعض أصحابنا. و سيأتي ما يتعلق بذلك من غيرها.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في مشروعية الغسل الارتماسي. كما أنّ الظاهر البناء علي سقوط الترتيب معه، كما صرح به غير واحد من الأصحاب، و في المختلف أنه المشهور، أخذا بظاهر النصوص المتقدمة.

و أما الترتب الحكمي بالمعني المتقدم من الاستبصار، فهو- مع عدم منافاته لسقوط الترتيب- محتاج إلي دليل، و لا تشهد به نصوص المقام: أما نصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 13.

ص: 528

______________________________

الارتماس فظاهر، بل قد يستظهر منها عدمه، و أما نصوص الترتيب، فلأنّها سيقت للترتيب الفعلي، فلا تدل علي الترتيب الحكمي إلا تبعا له، فمع فرض سقوط الترتيب الخارجي بالارتماس لا تنهض بإثبات الترتيب الحكمي بدونه، و لا ظهور لها في الترتيب الحكمي مطلقا، لتنفع فيه مع الارتماس.

و منه يظهر ضعف ما تقدم من الاستبصار من ارتفاع التنافي البدوي بين نصوص الترتيب و الارتماس بالحمل علي الترتيب الحكمي.

نعم، قد يظهر من المعتبر و التذكرة أنّ مرجع القول المذكور إلي اعتبار نية الترتيب حال الارتماس، بل هو كالصريح من المختلف، بل يظهر منه نسبته لسلار لقوله: «و ارتماسة واحدة يجزيه عن الغسل و ترتيبه»، و إن لم يتضح وجه استظهاره ذلك منه.

و كيف كان، فهو راجع للترتيب الفعلي، إذ لا يراد به إلا الترتيب في الغسل الشرعي المنوي، لا في وصول الماء للبشرة الذي لا ترتيب فيه حال الارتماس، فلو حملت عليه نصوص الارتماس كانت موافقة لإطلاقات الترتيب و ارتفع التنافي بينها، لكنه مناف لإطلاقها.

و دعوي: أنّ بين إطلاقها و إطلاق نصوص الترتيب عموما من وجه، فيرجع في مورد التعارض إلي أصالة الفساد و استصحاب الحدث.

مدفوعة: بأنّ تنزيل نصوص الترتيب علي غير صورة الارتماس النادرة أقرب عرفا من تنزيل نصوص الارتماس علي صورة نية الترتيب المحتاجة لمزيد عناية، بل هو إلغاء لخصوصية الارتماس، حيث لا يكون هو المجزئ عن الغسل، بل الغسل المنوي حينه، و النصوص تأباه جدا.

علي أنّ المرجع مع تساقط الإطلاقين إطلاقات الغسل القاضية بعدم الترتيب المقدمة علي الأصل المتقدم.

ثمَّ إنّ مقتضي إطلاق جماعة من الأصحاب و تصريح آخرين ارتفاع الحدث بمجرد الارتماس قبل الخروج من الماء.

ص: 529

و هو تغطية البدن في الماء (1)

______________________________

و يقتضيه إطلاق صحيح زرارة و صحيح الحلبي و مرسله، المناسب لإطلاقات مطهرية الغسل و ارتكاز مطهرية الماء. و لا ينافيه اشتمال موثق السكوني علي الخروج، إذ لا ظهور له في التقييد مع ذكره في السؤال.

نعم، ما تقدم من الاستبصار في بيان الترتب الحكمي قد يوهم اعتبار الخروج، لكن يبعد إرادته له.

(1) لأن ذلك هو المفهوم منه عرفا، المناسب لتفسيره في كلمات اللغويين تبعا للاستعمالات بالإخفاء و الدفن و طمس الأثر و نحوها و عليه جري الأصحاب في المقام.

و عليه، فهو أمر آني لا تدريجي، و غمس بعض البدن شيئا فشيئا بنحو التدريج ليس مبدأ لحدوثه، بل مقدمة له، و لا يتحقق إلا برمس الجزء الأخير في ظرف رمس ما قبله، و ليس هو كغسل البدن يبدأ بغسل أول جزء و ينتهي بغسل آخر جزء منه.

و يترتب علي ذلك أن تبدأ نية الغسل برمس الجزء الأخير.

و قد صرح بما ذكرنا سيدنا المصنف قدّس سرّه و في الجواهر: لعله أقوي الوجوه و أحوطها.

و لازمه اعتبار استيعاب الماء للبدن حين رمس تمامه، و لا يكفي استيلاؤه علي بعض أجزائه قبل ذلك إذا لم يستول عليه حين الارتماس، كالرجل تنزل علي الأرض حين رمس تمام البدن.

إن قلت: لا فرق بين الغسل و الرمس، بل هما كسائر ما يتعلق بالبدن، إن نسبا إليه بمجموعه كانا آنيّين و لم يصدقا إلا بعروضهما علي الجزء الأخير في ظرف عروضهما علي ما قبله، و إن نسبا إليه بنحو الانحلال تبعا لتعلقهما بأجزائه كانا تدريجيين، لتدرج الأجزاء في الاتصاف بهما، و حيث كان المناسب لارتكاز مطهرية

ص: 530

______________________________

الماء الثاني لزم الحمل عليه، كما يحمل عليه الغسل غير الارتماسي.

و لذا كان ظاهر المنقول عن الأصحاب جواز ابتداء النية عند رمس أول جزء من البدن، و إن وقع الكلام بينهم في وجوب ذلك و عدمه، و في اعتبار التتابع و عدمه.

قلت: لا مجال لحمل الرمس علي الانحلال، إذ لازمه الاكتفاء في تحققه برمس أجزاء البدن تدريجا و إن لم يستوعبه في زمان واحد، لخروج الأجزاء المرموسة أولا قبل رمس الباقي، كما هو الحال في الغسل و ليس بناؤهم عليه، لعدم صدق رمس البدن معه عرفا، و ليس هو كالغسل و التدهين و نحوهما مما يتعارف وقوعه علي الأجزاء تدريجا و يقل أو يتعذر استيعابه للبدن آن واحد و يقصد لأثره الباقي بعده، حيث يكون ذلك قرينة عرفية عامة علي إرادة ما يعم الانحلال منه و يكون هو المفهوم منه عند الإطلاق.

و منه يظهر أنه لا مجال للتشبث بارتكاز مطهرية الماء لإثبات طهارة كل جزء بارتماسه حين الشروع في رمس أجزاء البدن مقدمة لرمسه بتمامه، لأن المناسب للارتكاز المذكور عدم الحاجة لبقاء العضو مرموسا، فلزوم بقائه مرموسا- لتحقيق ارتماس تمام البدن- مناسب لعدم طهارته إلا حين رمس تمام البدن، كما هو مقتضي الجمود علي ما تضمنته النصوص من إجزاء الارتماس عن الغسل، و ليس الغسل الارتماسي جاريا علي مقتضي ارتكاز مطهرية الماء ليكون صالحا علي تفسيره و صالحا لبيان مبدئه.

اللهم إلا أن يقال: الجمود علي عنوان الارتماس و إن اقتضي عدم طهارة الأجزاء المرموسة إلا بعد تحقق رمس تمام البدن، إلا أنّ ذلك أمر مغفول عنه بسبب ارتكاز مطهرية الماء، حيث ينسبق الذهن لأجله إلي الاكتفاء بغسل الأجزاء حين رمسها، و لعله لذا سبق ظهور كلمات الأصحاب في أنّ ابتداء النية بالابتداء في رمس الأجزاء، فعدم التنبيه مع ذلك علي خلافه موجب لفهمه من الإطلاق و لو تبعا.

و من هنا كان من القريب طهارة كل جزء برمسه و إن لزم إبقاؤه مرموسا

ص: 531

تغطية واحدة (1)، بنحو يحصل غسل تمام البدن فيها (2)،

______________________________

مقدمة لرمس المجموع الذي تضمنته النصوص، فيكون رمس المجموع شرطا في سقوط الترتيب، لا محققا لطهارة تمام البدن، بحيث لا يطهر شي ء منه قبله، و إن كان الأمر محتاجا للتأمل.

(1) كما ذكره غير واحد، و نسب لكثير من عباراتهم، و في حاشية المدارك:

«الظاهر اتفاق الأصحاب علي اشتراط الواحدة المذكورة في الارتماس، كاتفاقهم علي اشتراط الترتيب في الترتيبي».

و هو مقتضي التقييد بها في النصوص المتقدمة. و يأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما هو ظاهر الأصحاب بل صريح جملة منهم.

لكن عن الذخيرة كفاية الارتماسة الواحدة و إن لم يتحقق شمول الماء لجميع البدن، بعد ما خرج، و غسل تلك اللمعة خارج الماء و إن طال الزمان.

فإن كان الوجه فيه ما تضمن الاكتفاء بتدارك ما فات من غسل الجنابة من النصوص المتقدمة في آخر الكلام في الغسل الترتيبي، فسوف يأتي الكلام فيه بعد الفراغ عن كيفية الغسل الارتماسي إن شاء اللّه تعالي.

و إن كان الوجه فيه إطلاق نصوص الارتماس، المتضمنة الاكتفاء بالارتماسة الواحدة، لصدق الارتماس عرفا لو كان ما لم يستوعبه الماء جزءا قليلا.

فيدفعه أنّ البناء علي شمول الإطلاق لذلك يقتضي عدم وجوب إيصال الماء لذلك الجزء بعد الخروج، لأن مفاده تحقق الطهارة بالارتماس لا بعده، و حيث لا يمكن البناء علي ذلك، للإجماع، و لظهور كون الغسل الارتماسي من أفراد الغسل المستوعب، لزم حمله علي الارتماسة التي يستوعب معها الماء لتمام البدن، كما هو المنسبق منها عرفا، كما هو المشار إليه في صحيح زرارة، لأن تعقيب الأمر بغسل الجسد من القرن إلي القدم بكفاية الارتماسة و لو مع عدم الدلك ظاهر في

ص: 532

فيخلل شعره فيها إن احتاج إلي ذلك، و يرفع قدمه عن الأرض إن كانت موضوعة عليها. و لا يجب أن يحصل جميع ذلك في زمان واحد عرفا (1)،

______________________________

مساواة الارتماسة المذكورة للغسل المذكور أولا في استيعاب الماء للجسد و عدم افتراقهما إلا في الدلك، و هو أولي عرفا من إبقاء الارتماسة علي إطلاقها مع تقييد حصول الطهارة بها بغسل ما لم يغسل فيها بعدها، و لا سيما مع نسبة الإجزاء في النصوص للارتماسة نفسها، لا مجرد الحكم به معها.

و لو فرض التردد بين الوجهين، كان المرجع عموم اعتبار الترتيب، المقتضي لبطلان الغسل في المقام، فلاحظ.

(1) ظاهره المفروغية عن عدم اعتبار حصوله في زمان واحد حقيقة، و إن كان يوهمه ما عن الألفية من أنّ مرجع وحدة الارتماسة إلي شمول الماء البدن كله في زمان واحد، بحيث يحيط بالأعالي و الأسافل جملة.

قال في مفتاح الكرامة: «و قطع الشارحون بأنه غير مراد للشهيد، و أخذوا يتأولون كلامه، لأن الأصحاب يكتفون بالدفعة العرفية»، و عن المحقق الثاني في شرح الألفية: «إنّ ما يظهر منها لا يقول به أحد من المسلمين»، و عنه أيضا أنه مخالف لإجماع المسلمين، و بالغ في التشنيع عليه فيه و في جامع المقاصد، و عن الدرة السنية [1] أنه مخالف لسائر المذاهب، فلا بد من تأويله.

نعم، في جامع المقاصد أنه ربما توهمه بعض الطلبة، بل جعله في كشف اللثام أحد الوجوه المحتملة في المقام.

و كأنّ الوجه فيه: تخيل أنّ الرمس في المقام عبارة عن استيلاء الماء علي تمام البدن، إما لأنه معناه الحقيقي، أو للزوم حمله عليه في المقام بلحاظ توقف

______________________________

[1] ذكر في مفتاح الكرامة أنّ صاحبه متقدم علي الشهيد الثاني.

ص: 533

بل يجب أن يحصل في تغطية واحدة مستمرة و لو كان حصولها فيه تدريجيا (1).

______________________________

الطهارة عليه، و لذا تقدم اعتباره، فمع عدم استيلائه علي تمام البدن في زمان واحد لوجود مانع في أبعاضه بنحو التعاقب لا يصح نسبة الرمس للبدن، بل لبعضه.

و يندفع بعدم أخذ استيلاء الماء علي البدن في مفهوم الرمس لا لغة و لا عرفا، بل هو تغطيته له- كما سبق- و إن لم يصل لبعضه للتماس بين أجزاء البدن، أو لمانع خارجي، كالوقوف علي أرض الحوض المانع من وصول الماء للرجلين.

و توقف الطهارة علي وصول الماء لتمام البدن إنما يقتضي اعتبار حصوله و لو تدريجا في الرمسة الواحدة، لا كون المراد بالرمس ذلك.

بل لمّا لم يكن ذلك مناسبا لارتكاز مطهرية الماء- و لذا تقدم الشروع بالغسل بالشروع في رمس أجزاء البدن- كان المفهوم من إطلاق النصوص خلافه، و لا سيما مع ابتنائه علي عناية عملية في كثير من المكلفين، بل قد يتعذر في بعضهم، كمن يتوقف وصول الماء إلي بعض بدنه إلي تخليله حال الارتماس، كالبدين ذي المغابن و نحوه، و المرأة التي لا تنقض شعرها، أو ذات الأثداء الكبيرة المترهلة و نحوهم، كما نبه له غير واحد.

(1) يعني: مع طول الفاصل، بحيث لا يعد في زمان واحد عرفا.

بيان ذلك: أنه حيث سبق لزوم وحدة الارتماسة، فالمصرح به في كلام جماعة أنّ المرجع في الوحدة إلي العرف.

و الظاهر أنّ مرادهم بالوحدة العرفية، الدفعة العرفية، لأنهم ذكروه في مقابل وجوب وصول الماء لتمام البدن في زمان واحد، الذي سبق الكلام فيه، و لذا عطف الدفعة علي الوحدة في جامع المقاصد عطفا تفسيريا، و ذكر في كشف اللثام أنّ اعتبار التتابع و الدفعة هو المشهور بين المتأخرين، و نسبه

ص: 534

______________________________

في الحدائق للأصحاب.

و حيث كان مبدأ الغسل و نيته عندهم غمس أول جزء من البدن، كان مرجع اعتبار الدفعة العرفية إلي لزوم تتابع الأجزاء في الرمس و في وصول الماء إليها بالتخليل و نحوه، بحيث يكون وصول الماء لتمام البدن في زمان واحد عرفي.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 535

و يظهر من كلماتهم أنّ الوجه فيه ما تضمنته النصوص من تقييد الارتماسة بالوحدة.

و أجاب عنه في الحدائق بأنّ الوحدة هنا احتراز عن التعدد المعتبر في الغسل الأصلي، لا بمعني الدفعة، قال: «و حينئذ فلو حصل فيها تأنّ ينافي الدفعة العرفية لم يضر بصحة الغسل»، و هو الذي احتمله في كشف اللثام في مقابل القول السابق، و حكاه في المستند عن بعض معاصريه.

و هو متين جدا، مطابق لمعني الوحدة الحقيقي. و استعمالها بمعني الدفعة في مثل قولهم: حملوا عليه حملة واحدة، مجاز مبني علي تنزيل جماعتهم منزلة الرجل الواحد الذي تكون حملته واحدة، فلا مجال للحمل عليه في المقام من دون قرينة.

هذا، و أما ما في المستند من كفاية الارتماسة الواحدة عرفا، بأن لا يتخلل بين غمس الأعضاء سكون محسوس، و إن لم يكن في آن واحد حقيقة أو عرفا، بل كان بحركة بطيئة.

فكأنه مبني علي ملاحظة الرمس بما أنه أمر استمراري متصرم الأجزاء يتدرج بتدرج تعلقه بأجزاء البدن، حيث تكون وحدته بتعاقب أجزائه و عدم تخلل العدم بينها، نظير وحدة القراءة و الكلام باستمرارها من دون انقطاع بالسكوت، فكما يكون السكوت في أثناء القراءة و الكلام موجبا لتعددهما يكون التوقف عن رمس أجزاء البدن موجبا لتعدد الرمس.

لكنه يشكل بأنّ ذلك إنما يتم في الأمور الاستمرارية إذا أريد بها صرف الوجود الصادق علي القليل و الكثير، كما لو اعتبرت الوحدة في القراءة أو الكلام أو

ص: 535

______________________________

المشي أو الجلوس.

أما إذا أريد بها كم خاص، فظاهر الوحدة فيها ما يقابل تكررها بالكم المذكور و لو مع التقطع فيه، كما لو وجبت قراءة الفاتحة مرة واحدة أو المشي من البيت إلي المسجد كذلك.

و منه الرمس في المقام، لأن المراد به رمس تمام البدن، لا الانشغال برمس أجزاء البدن بالنحو الصادق علي رمس أي مقدار منها.

ثمَّ إنه لو سلم حمل الوحدة علي الدفعة، أو علي المعني الذي سبق لتوجيه ما في المستند، فاللازم اعتبار التوالي في رمس أجزاء البدن في الماء، لا في تخليل البدن بعد الارتماس و إيصال الماء لما لم يصل إليه به، لخروجه عن الارتماس.

اللهم إلا أن يستفاد ذلك من اعتبار التوالي في الارتماس بفهم عدم الخصوصية، حيث يفهم منه أنّ الغرض هو عدم الفصل في وصول الماء لأجزاء البدن.

هذا كله بناء علي أنّ ابتداء الغسل بالشروع في رمس الإجزاء، أما بناء علي ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره من أنّ ذلك مقدمة له و أنّ الغسل و الرمس لا يتحققان إلا برمس الجزء الأخير في ظرف رمس غيره، فهو أمر آني لا استمرار له، و يتعين حمل الوحدة فيه علي ما يقابل التعدد، و يكون اعتبار التتابع في إيصال الماء لأجزاء البدن حال الارتماس بالتخليل و نحوه خاليا عن الدليل، و يتعين ما في المتن.

بقي في المقام أمران.

الأول: لو بقي شي ء من بدنه لم يستوعبه الماء حال الارتماس، ففيه وجوه أو أقوال.

أولها: وجوب استئناف الغسل:

صرح به في الدروس، و حكي عن الذكري و البيان و جملة من متأخري المتأخرين، و في المنتهي بعد أن تنظر فيه و حكاه عن والده ذكر أنّ فيه قوة.

ص: 536

______________________________

و كأنه لعدم صحة الغسل الارتماسي، لما سبق من لزوم حمل أدلته علي الارتماس الذي يتحقق به استيلاء الماء علي تمام البدن، فيتعين البطلان للإخلال بالترتيب أيضا. و سيأتي توضيح حاله.

ثانيها: الاجتزاء بغسل الموضع المذكور:

جعله في القواعد أقوي الوجوه، و حكي عن الإيضاح، و اختاره في المستند.

و لعله مطابق لما تقدم عن الذخيرة من عدم وجوب استيعاب البدن بالماء حال الارتماس، و إن كان المتيقن من كلماتهم عدم تعمد ذلك و قصد الاستيعاب بالارتماسة و ظهور ما عن الذخيرة في جواز تعمده.

و كيف كان، فقد تقدم ضعف الاستدلال له بإطلاق أدلة الارتماس، لاختصاصها بالارتماس الذي يستوعب فيه البدن بالماء.

و منه يظهر ضعف الاستدلال له في القواعد بسقوط الترتيب، و في المنتهي بأنّ الترتيب يسقط في حقه و قد غسل أكثر بدنه فأجزأه، لقوله عليه السّلام: «فما جري عليه الماء فقد أجزأه» «1».

لوضوح أنّ المسقط للترتيب هو الارتماس الخاص غير المتحقق في المقام، لا قصده و لا غسل أكثر البدن، و الخبر المذكور قد تضمن صدره الترتيب، و غيره من المطلقات مقيد به.

نعم، استدل في المستند بصحيح زرارة فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة، و قد تقدم في آخر الكلام في الغسل الترتيبي، لأن ترك الاستفصال فيه يقتضي العموم للغسل الارتماسي.

لكنه منصرف إلي الغسل الترتيبي المتعارف، لظهور أنه هو الذي ينسب فيه للمكلف عرفا غسل كل جزء جزء من البدن أو تركه، و أما الارتماسي فالمنسوب فيه للمكلف رمس تمام البدن و غسله، و المناسب معه التعبير بعدم انغسال بعض

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 537

______________________________

الأجزاء أو عدم وصول الماء إليه، لا بتركه.

و مثله نصوص اللمعة، لورودها في قضية خارجية لا إطلاق لها.

ثالثها: ما في جامع المقاصد و عن الجعفرية من لزوم الإعادة مع طول الزمان و الاكتفاء بغسل الموضع المتروك مع عدمه، و عليه حمل ما في كشف اللثام إطلاق ما سيق من القواعد. و علل في كلماتهم باعتبار وحدة الارتماسة بعد ما سبق منهم من تنزيلها علي الدفعة العرفية.

و هو مبني علي أنّ المراد بالرمس وصول الماء للبشرة، و قد سبق المنع منه عند الكلام في عدم وجوب استيعاب الماء لتمام البدن في زمان واحد حقيقي.

رابعها: الاجتزاء بغسل الموضع المتروك و ما بعده من الأعضاء، كما ذكروه في الترتيبي:

احتمله في محكي التذكرة و نهاية الاحكام، و جعله في القواعد أقوي من وجوب الاستئناف.

و صرح في جامع المقاصد بابتنائه علي أنّ الغسل الارتماسي يترتب حكما، كما هو الظاهر من كل من جعل ذلك ثمرة للترتب الحكمي، علي الكلام المتقدم في تفسيره.

لكنه إنما يتم بناء علي تفسير الترتب الحكمي بنية الترتيب، أما بناء علي تفسيره بحكم الشارع بطهارة الأعضاء مرتبا فلا يصلح وجها له، كما ذكره في الجواهر، لأن موضوع الترتب الحكمي هو الارتماس الخاص المفروض عدمه في المقام، فيبطل الغسل بمقتضي إطلاق أدلة الترتيب.

و لعل الأولي البناء علي الصحة بما يطابق الترتيب، فيصح غسل الرأس مطلقا بتمامه أو مع إتمامه لو كان المتروك بعضا منه و يقتصر علي غسل الجانبين، عملا بإطلاق أدلة الترتيب.

ص: 538

______________________________

و دعوي: أنّ غسل أكثر الأعضاء دفعة يبطل رأسا لعدم واجديته لشرط الترتيبي و لا الارتماسي.

ممنوعة، بل يصح علي ما لا ينافي الترتيب، لأن اقتران المترتبات لا يقتضي إلا بطلان المتأخر، لعدم تحقق شرطه، و هو سبق المتقدم عليه، أما المتقدم فهو غير فاقد للشرط، إما لعدم رجوع اعتبار الترتيب إلي اشتراطه بالتقدم علي المتأخر، أو لتحقق الشرط المذكور، لفرض بطلان المتأخر المأتي به معه علي كل حال، فلا اعتداد به ليخل بشرط المتقدم، و لا يكون المتأخر مشروعا إلا بالوجود الثاني المتأخر عنه زمانا.

و قد تقدم توضيح ذلك في فروع اعتبار الترتيب في الوضوء، فراجع.

هذا كله مع عدم تقدم غسل الرأس بتمامه علي البدن بالارتماس، أما مع تقدمه عليه لنية الغسل بالشروع في الرمس- بناء علي جوازه- مع تقدم رمس الرأس و كون المتروك من غيره، فاللازم صحة غسل الجانب أيضا بتمامه أو مع إتمامه، بل لو فرض تقدم رمس الأيمن و غسله بتمامه علي الأيسر- و إن كان نادرا أو متعذرا- تعين الاكتفاء بغسل المتروك من الأيسر، كل ذلك عملا بإطلاق أدلة الترتيب.

و قد نبه له في الجملة في كشف اللثام، بل احتمل كون عدم تقييد الحكم بالإعادة في كلامهم بذلك لوضوحه، و إن كان المناسب له الالتزام بما ذكرناه أولا أيضا.

و أما الإشكال في الجميع بأنه لما كان المقصود هو الغسل الارتماسي فلا مجال لوقوع الترتيبي، بل ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

فهو مدفوع بأنّ توقف الغسل الترتيبي علي قصده خلاف إطلاق أدلته، و المتيقن اعتبار قصد الغسل في صحة غسل كل عضو، و هو متحقق بقصد الغسل الارتماسي، لتضمنه قصد غسل العضو بنية الغسل.

نعم، لو كان مرجع قصده إلي تقييد نية الغسل به اتجه البطلان، لتخلف

ص: 539

______________________________

الامتثال بتخلف قيده.

لكنه محتاج إلي عناية خاصة، و ليس قصده غالبا إلا من سنخ الداعي أو القصد المقارن للامتثال اللذين لا يضر تخلفهما به، كما سبق نظيره في المسألة الواحدة و السبعين في فصل شرائط الوضوء، فراجع.

الثاني: حيث سبق سقوط الترتيب مع الارتماس، فقد وقع الكلام بينهم في ثبوت ذلك في غيره مما يبتني علي استيعاب الماء لمجموع البدن، و قد اختلفت كلمات القائلين به في سعته، فقد اقتصر في ظاهر النهاية و عن محكي الكاتب علي المطر، و زاد عليه في المبسوط و محكي المختلف الوقوف تحت المجري، و قيدهما في المسالك بالغزارة، و ذكر في محكي الاقتصاد المطر و الميزاب، و زاد عليهما في المنتهي المجري، و ذكر في التذكرة المطر و الميزاب و شبهه، و عن بعض الأصحاب إلحاق صب الماء الشامل للبدن، و ذكر في القواعد و الروض و الروضة شبه الارتماس، و مثل له في الأولين بالوقوف تحت المجري و المطر الغزيرين.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بوجوه.

الأول: ما في كشف اللثام من دخوله في الارتماس حقيقة، لأنه إحاطة الماء بجميع البدن و انغماسه فيه.

فإن أراد أنه من أفراده الحقيقية، كان مبنيا علي أنّ الارتماس هو استيلاء الماء علي البدن، و قد سبق المنع من ذلك، و أنه تغطيته بالماء، بل لا ينبغي التأمل في خروجه عن الارتماس، كما في جامع المقاصد و قطع به في المدارك.

و إن أراد ترتب الغرض الحقيقي من الارتماس عليه، و هو استيلاء الماء، فهو مبني علي إلغاء خصوصية الارتماس في نصوصه، و جعل الموضوع استيلاء الماء، و لا قرينة عليه.

الثاني: إطلاقات الغسل بعد قصور أدلة الترتيب عن المورد.

إما لاشتمال نصوصه علي مثل الصب. أو لأن عمدة نصوصه ما تضمن المنع

ص: 540

______________________________

من تأخير الرأس عن البدن غير الحاصل في محل الكلام. أو لأن عمدة دليله الإجماع الذي يقصر عن مورد الخلاف.

و فيه: أنّ الجمود علي نصوص الصب يقتضي وجوبه، و حيث لا يمكن البناء علي ذلك- كما تقدم- فلا بد إما من رفع حمل النصوص علي بيان الكيفية المتعارفة، فلا تكون دليلا علي الترتيب، أو إلغاء خصوصية الصب مع المحافظة علي وجوب الترتيب، فتكون دليلا علي عموم وجوبه لغير صورة الصب، لا تقييد وجوبه بالصب.

كما أنّ ما تضمن المنع من تأخير الرأس عن البدن ليس من أدلة الترتيب- علي ما سبق- و لو فرض تتميم دلالته عليه بضميمة عدم الفصل بينه و بين وجوب الترتيب كان دليلا عليه مع الغسل بالمطر و شبهه أيضا، لشمول إطلاقه له.

و أما الإجماع علي الترتيب، فإنما لا يصح الاستدلال به في المقام لو كان مبني دعواه علي وجوب الترتيب في الجملة، بحيث يكون عدم وجوبه في الارتماس و نحوه، لعدم الدليل علي وجوبه، لا مع ظهور كلام مدعيه في عموم وجوبه بنحو يحتاج الخروج عنه إلي دليل، كما هو الحال في المقام، حيث أطلقوا اعتبار الترتيب و استدلوا بنصوصه، و اقتصروا في الخروج عنه علي الارتماس و شبهه، مما هو في الجملة مورد النصوص المعتبرة، بنحو يظهر منهم سقوط الترتيب فيها للدليل، لا عدم وجوبه لعدم الدليل.

بل يظهر من نزاعهم في الترتيب الحكمي قوة عموم الترتيب عندهم، بحيث يحاول تنزيل نصوص الارتماس عليه، فلاحظ.

الثالث: النصوص الواردة في المطر، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام:

«أنه سأله عن الرجل يجنب، هل يجزيه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتي يغسل رأسه و جسده و هو يقدر علي ما سوي ذلك؟ فقال: إن كان يغسله

ص: 541

______________________________

اغتساله بالماء أجزأه ذلك» «1».

و زاد في خبره: «و سألته عن الرجل تصيبه الجنابة و لا يقدر علي الماء فيصيبه المطر، أ يجزيه ذلك أو عليه التيمم؟ فقال: إن غسله أجزأه، و إلا تيمم» «2».

و مرسل محمد بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتي سال علي جسده، أ يجزيه ذلك من الغسل؟ قال: نعم» «3».

لكنها- مع اختصاصها بالمطر، و ظهور الثاني منها في الاجتزاء بإصابة المطر من دون دخل للمكلف- ظاهرة في إجزائه من حيثية حصول الغسل به، في مقابل عدم إجزائه رأسا- لقصور في استيلائه علي البدن، أو لعدم استناد نزوله للمكلف، أو لنحوهما- الموجب لاختيار غيره من أفراد الغسل مع القدرة عليه، و الانتقال للتيمم مع عدمها، فلا ينافي اعتبار الترتيب فيه كما يعتبر في الغسل بالماء.

و لو كان الملحوظ عدم اعتبار الترتيب فيه بعد الفراغ عن تحقق الغسل به، كان الأنسب التنبيه علي التعميم المذكور، لا علي تحقق الغسل به.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي: أنّ النسبة بينها و بين إطلاقات الترتيب لمّا كانت هي العموم من وجه كان المرجع بعد التساقط إطلاقات الغسل، لاندفاعها بأنّ صحته من حيثية الغسل إنما تستلزم صحته مطلقا مع إطلاق صحة الغسل، أما مع تقييدها بالترتيب فيلزم تقييد صحته به أيضا.

و لا أقل من كون ظهور إطلاقات الترتيب في خصوصيته أقوي من ظهورها في خصوصية المطر، فتقيد بها.

بل قد يدعي أنّ قوله عليه السّلام: «إن كان يغسله اغتساله بالماء.» مشير للتقييد

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 14.

ص: 542

مسألة 14 النية في هذه الكيفية يجب أن تكون مقارنة لتغطية تمام البدن

مسألة 14: النية في هذه الكيفية يجب أن تكون مقارنة لتغطية تمام البدن (1).

______________________________

المذكور، إذ لا بد في الاغتسال بالماء مع عدم الارتماس من الترتيب.

و إن كان الظاهر اندفاع ذلك بأنّ القدر المشترك بين غسل المطر للمكلف و اغتساله بالماء هو استيلاء الماء علي البدن، و أما الترتيب فهو فعل المكلف بالمباشرة، لاستناده لنيته، لا للمطر، كي ينسب إليه.

نعم، يتجه ذلك لو كان التعبير هكذا: إن كان يغتسل به اغتساله بالماء. فتأمل جيدا.

و بالجملة: لا تنهض هذه النصوص- كبقية الوجوه المذكورة- بإثبات سقوط الترتيب في محل الكلام، فلا بد- بناء علي تمامية أدلة الترتيب- من البناء عليه فيه، وفاقا للسرائر و المعتبر و الدروس و جامع المقاصد و غيرها، كما هو الظاهر من الاقتصار علي الارتماس في جملة من الكتب، كالمقنعة و إشارة السبق و المراسم و الشرائع و النافع و الإرشاد و اللمعة و غيرها.

ثمَّ إنّ مقتضي الوجهين الأولين التعميم لغير المطر مما يشبهه في الاستيلاء علي عموم البدن، و إن اختلفا في اعتبار الغزارة في المطر و غيره علي الأول، دون الثاني.

أما النصوص، فهي مطلقة من حيثية الغزارة.

نعم، لا يبعد انصرافها إلي المطر المعتد به. كما أنها مختصة بالمطر، إلا أن تعمم لغيره لإلغاء خصوصيته عرفا و لو بضميمة نصوص الارتماس، حيث قد يدعي أنّ الموضوع هو استيلاء الماء علي مجموع البدن، و إن كان ذلك في غاية الإشكال، بل المنع.

(1) يعني: لا بالشروع في رمس الأجزاء، بنحو يكون غسل الأجزاء تدريجيا تبعا لرمسها، و قد تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في حقيقة الارتماس، و أنّ الأظهر

ص: 543

مسألة 15 لا يعتبر خروج البدن كلّا

مسألة 15: لا يعتبر خروج البدن كلّا (1)

______________________________

جواز النية بالشروع في الارتماس.

ثمَّ إنّ الظاهر أنّ المنوي عند الشروع في الارتماس أو بعد رمس تمام البدن- علي الكلام في ذلك- هو غسل تمام المرموس، فليس له أن ينوي عند رمس تمام البدن غسله تدريجا، و لا عند رمس بعضه غسل ذلك البعض تدريجا.

أما الأول، فلأنه المنصرف من تعليق الأجزاء علي الارتماسة، لظهوره في تحققه بمجردها، غاية الأمر أنه لا بد من استثناء ما يتعارف تأخيره، كمواضع التخليل و نحوها.

و أما الثاني، فلما سبق من أنّ الجمود علي لسان الأدلة لا يقتضي جوازه، و إنما يستفاد منها بضميمة ارتكاز مطهرية الماء تبعا، و المتيقن من ذلك ما ذكرنا، فلاحظ.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب، لعدم تنبيههم عليه مع الغفلة عنه، بل يأتي ما يظهر منه المفروغية عنه و الإجماع عليه.

و لا ينافي ذلك ما سبق من بناء المشهور علي لزوم الدفعة العرفية في الارتماس و عدم جواز الفصل المعتد به في رمس أجزاء البدن- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لأن مرادهم بذلك لزومها في الارتماس المنوي به الغسل، لا المنع من رمس البعض لا بنيته، ثمَّ نية غسل المرموس حين إكمال الرمس أو بعده، فلو نوي الغسل بالشروع في رمس أجزاء البدن لزم التتابع في رمس الباقي بنيته، و لو فصل بينها لزم تجديد نية غسل ما رمسه أولا و هو مرموس، لا إخراجه ثمَّ رمسه.

و كيف كان، فالمحكي عن جملة من متأخري المتأخرين- منهم الخراساني في الكفاية و الشيخ عبد اللّه البحراني- اعتبار خروج تمام البدن قبل الارتماس.

ص: 544

أو بعضا (1) عن الماء ثمَّ رمسه بقصد الغسل،

______________________________

و كأنه لما تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في الغسل الترتيبي بالارتماس من أنّ المعتبر هو إحداث الغسل، لا ما يعم البقاء و الاستمرار. أو لأنه مع رمس بعض البدن لا يكون رمس الباقي، بل إتماما للارتماس، و ظاهر الأدلة كون المطهر هو الارتماس.

لكن تقدم اندفاع الأول. و أما الثاني، فلا مجال له، بناء علي ما سبق من أنّ الارتماس هو تغطية البدن بنحو المجموع بالماء، و أنه إنما يكون برمس الجزء الأخير في ظرف ارتماس غيره، و رمس بعض أجزاء البدن مقدمة له لا شروع فيه.

و أما بناء علي أن تغطيته بنحو الانحلال، و أنه أمر تدريجي يكون الشروع فيه برمس الجزء الأول، فقد ذكر غير واحد أنه يصدق عرفا الارتماس برمس الباقي من البدن، و كأنه لتعارف تعلق الغرض بالارتماس و تجدد إرادته بعد رمس بعض أجزاء البدن، مع احتياج إخراج البدن حينئذ إلي عناية، فعدم التنبيه عليه في النصوص أوجب الغفلة عنه و فهم العرف العموم منها لذلك.

أو لما يأتي في نية الغسل بعد ارتماس تمام البدن.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم اعتبار خروج تمام البدن، و لا سيما مع إغفال الأصحاب التنبيه علي ذلك مع كثرة الابتلاء به و غرابته، لاحتياجه إلي عناية خاصة، خصوصا علي مذهب المشهور من لزوم الدفعة العرفية في الارتماس، لغلبة صعوبتها مع خروج تمام البدن في مثل الحياض الصلبة و شواطئ الأنهار غير العميقة.

فلو كان لازما لاحتيج للتنبيه عليه بنحو لا يخفي، كما أطال في ذلك في محكي الدر المنظوم و المنثور للشيخ علي سبط الشهيد الثاني، و كما شدد النكير علي القول باعتبار خروج البدن، و نسبه للتوهم و الوسواس.

(1) يظهر مما ذكره غير واحد في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر

ص: 545

بل لو ارتمس في الماء لغرض و نوي الغسل بعد الارتماس كفي إذا تحقق انغسال جميع البدن و هو تحت الماء. و الأحوط استحبابا أن يحرك بدنه (1).

و منها إطلاق الماء و طهارته و إباحته و إباحة الآنية

و منها: إطلاق الماء (2)، و طهارته (3)، و إباحته، و إباحة الآنية،

______________________________

و في نية الصائم الغسل بالارتماس المفروغية عنه، بل عن ابن فهد في المقتصر الإجماع علي أنه لو انغمس في ماء قليل و نوي بعد تمام انغماسه فيه أجزأه، كما ادعي الإجماع علي الإجزاء في المقام النراقي الكبير علي ما حكاه عنه ولده في المستند.

و هو مبني علي حمل الارتماس في النصوص علي ما يعم المعني الاسم المصدري له، كما هو المناسب لارتكاز مطهرية الماء، و ما عرفت من شمول إطلاق الغسل لبقائه و استمراره.

و كأنه بلحاظ ذلك استظهر في الجواهر و احتمل في محكي الدر المنظوم و المنثور صدق الارتماس علي من نوي الغسل و هو تحت الماء، و إلا فلا ريب في عدم صدق الارتماس بالمعني المصدري بذلك حتي بقاء.

و كيف كان، فلا مجال لما في المستند من اعتبار خروج الرأس و الرقبة، بل الأحوط خروج بعض آخر، حتي يصدق أنه ارتمس بعد ما لم يكن كذلك، فإنه هو الظاهر المتبادر من الحديث. انتهي.

(1) بل الظاهر لزومه، علي ما تقدم نظيره في الغسل الترتيبي بالارتماس، بل تقدم منه قدّس سرّه ما يظهر منه لزومه، فراجع.

(2) بلا إشكال، و قد تقدم في المسألة الواحدة و العشرين من مبحث المياه الوجه فيه. و لا بد من بقائه علي الإطلاق إلي أن يتحقق مسمي الغسل الواجب.

(3) بلا إشكال، و قد تقدم في الوضوء الإشارة لدليله و بعض ما يتعلق بذلك، كما تقدم في الفصل الثالث من مباحث المياه الكلام في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، و أنّ الظاهر عدم جواز استعماله في رفع الحدث.

ص: 546

و المصب (1)، و المباشرة (2) اختيارا (3)، و عدم المانع من استعمال الماء من مرض و نحوه (4)، و طهارة العضو المغسول، علي نحو ما تقدم في الوضوء (5).

و قد تقدم فيه أيضا حكم الجبيرة (6) و الحائل (7)

______________________________

(1) تقدم الكلام في ذلك في الوضوء، كما تقدم الكلام في فروعه، و في اعتبار إباحة المكان و الفضاء، و في الوضوء من إناء الذهب و الفضة. و يأتي بعض ما يتعلق بذلك.

(2) كما صرح به غير واحد، و في مفتاح الكرامة أنّ الأصحاب لا يختلفون في ذلك إلا ما عن ظاهر ابن الجنيد. و يظهر الوجه فيه مما تقدم في الوضوء.

(3) أما مع العجز، فالظاهر جواز التولية، كما صرح به بعضهم، بل الظاهر أنه مفروغ عنه بينهم. و قد تقدم في الوضوء الاستدلال له ببعض النصوص الواردة في الغسل. كما تقدم أنّ النية تكون من المتطهر لا من الغاسل. و قد تقدم أيضا بعض الفروع المتعلقة بذلك، فراجع.

(4) مما لا يجوز معه صرف الماء في الغسل، حيث يحرم الغسل، فيمتنع التقرب به، لا مطلق ما يشرع معه التيمم، لما يأتي في مبحث التيمم إن شاء اللّه تعالي من أنّ مشروعيته لا تمنع من صحة الطهارة المائية. و قد تقدم في الوضوء ما له نفع في المقام.

(5) لأنهما من باب واحد، بل سبق أنّ الأصحاب إنما تعرضوا لذلك في الغسل، كما أنّ النصوص التي استدل بها في المسألة واردة فيه.

(6) لجريانها في الغسل، علي ما سبق في المسألة التاسعة و الثلاثين من الفصل الثاني من مبحث الوضوء.

(7) فقد تقدم الكلام في جواز المسح علي الحائل اللاصق اتفاقا، في المسألة السادسة و الثلاثين من الفصل الثاني من مبحث الوضوء، حيث يظهر منه عدم الفرق بين الوضوء و الغسل.

ص: 547

و غيرهما من أفراد الضرورة (1) و حكم الشك (2) و النسيان (3)

______________________________

نعم، تقدم في المسح علي الرجلين جواز المسح علي الحائل غير اللاصق، لضرورة من برد أو نحوه، و يشكل جريانه في المقام، لاختصاص دليله بالمسح الوضوئي علي الرجلين، و التعدي منه لمسح الرأس- لو تمَّ- لا يقتضي التعدي للغسل الوضوئي، فضلا عن المقام، فلاحظ.

(1) تقدم في أحكام الجبائر التعرض للجرح المكشوف و نحوه مما يضر معه استعمال الماء، و يشترك الغسل مع الوضوء في ذلك، كما يظهر بمراجعة دليل المسألة.

نعم، تقدم في الفصل السادس من مبحث الوضوء الكلام في المسلوس و المبطون، و قد تقدم الإشكال في التعدي لغيرهما من أفراد مستمر الحدث الأصغر.

و أولي بالإشكال: التعدي لمستمر الحدث الأكبر، بل اللازم الرجوع فيه لما تقتضيه القاعدة، و قد سبق توضيحه في أول الفصل المذكور.

(2) فيبني علي عدم حصول سبب الجنابة مع الشك فيه، و علي عدم الغسل مع الشك فيه، كما يجب الغسل مع العلم به و بالجنابة و الشك في المتأخر منهما، مع الاجتزاء بالصلاة الواقعة قبل حصول الشك في الفرضين الأخيرين. كما يبني علي صحة الغسل لو شك فيها بعد الفراغ منه.

و يظهر الوجه في جميع ذلك و في بعض الفروع المترتبة عليه مما تقدم في الفصل الرابع في أحكام الخلل من مبحث الوضوء. و يأتي في المسألة السابعة و الثلاثين ما يتعلق بذلك.

(3) فيجب تدارك المنسي من أجزاء الغسل، كما في الوضوء، لإطلاق أدلة اعتبارها، و لخصوص صحيحي أبي بصير و عبد اللّه بن سنان الواردين في اللمعة «1»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 548

و ارتفاع السبب المسوغ للوضوء الناقص في الأثناء و بعد الفراغ منها (1)، فإنّ الغسل كالوضوء في جميع ذلك (2).

نعم، يفترق عنه في جواز المضي مع الشك بعد التجاوز و إن كان في الأثناء (3)، و في عدم اعتبار الموالاة فيه (4)،

______________________________

و صحيح زرارة الوارد فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده «1»، و قد تقدمت في آخر الكلام في الغسل الترتيبي.

(1) فقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الواحدة و الأربعين من الفصل الثاني، في أحكام الجبائر من مبحث الوضوء.

(2) أشرنا إلي عدم اشتراكهما في حكم المسح علي الحاجب غير اللاصق، و في حكم المسلوس و المبطون.

و ربما كان هناك بعض الفوارق الأخري لا أستحضرها فعلا، فاللازم النظر في أدلة الأحكام المذكورة، لأنها المعيار في التعميم.

(3) يأتي الكلام في ذلك في المسألة السابعة و الثلاثين إن شاء اللّه تعالي.

(4) كما هو المعروف بين الأصحاب، و في الحدائق أنّ ظاهر كلامهم عدم الخلاف فيه و الاتفاق عليه، بل صرح بالإجماع عليه في جامع المقاصد و كشف اللثام و محكي التحرير و نهاية الاحكام و شرح الجعفرية، و هو الظاهر من نسبته لعلمائنا في التذكرة و المنتهي، و في المدارك أنّ الأصحاب قاطعون به.

لكن ظاهر نسبته في الروضة للمشهور وجود المخالف فيه، و لم أعثر علي من أشار إليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 549

______________________________

و كيف كان، فيقتضيه صحيحا محمد بن مسلم «1» و هشام بن سالم «2» المتقدمان في آخر الكلام في وجوب تقديم الرأس علي البدن، و صحيح حريز المتقدم في تلك المسألة «3».

و صحيح إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إنّ عليا عليه السّلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة و يغسل سائر جسده عند الصلاة» «4»، و قريب منه ما عن الصدوق في كتاب عرض المجالس «5».

و لا يخفي أنّ النصوص المذكورة إنما تنهض بنفي اعتبار الموالاة بين الأعضاء- بناء علي وجوب الترتيب- لا في العضو الواحد.

و قد يستدل فيه- مضافا إلي إطلاقات الغسل- بصحيح زرارة، الوارد فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده «6»، و الصحيحين الواردين في اللمعة «7»، و قد تقدمت في آخر الكلام في اعتبار الترتيب.

لكن تشكل الإطلاقات بصلوح نصوص تعليم غسل الجنابة- المتقدمة في الاستدلال علي الترتيب- لتقييدها، بناء علي ورودها لبيان الكيفية الواجبة- كما هو مبني الاستدلال بها علي الترتيب- لظهورها في غسل تمام كل عضو بالصب الذي تضمنته.

و يشكل صحيح زرارة بظهوره في عدم تعمد الترك.

كما أنه لا إطلاق للصحيحين الواردين يشمل فوت الموالاة و لا العمد، لورودهما في قضية خارجية.

فالعمدة ظهور اتفاق الأصحاب علي الحكم مع كثرة الابتلاء به بالنحو

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 550

______________________________

المانع من خفاء الحكم فيه، و قد يوجب ذلك فهم عدم خصوصية الموالاة بين الأعضاء من النصوص المتقدمة، و عدم خصوصية عدم التعمد من الصحاح الأخيرة.

و لأجل ذلك يلزم رفع اليد عن ظهور نصوص تعليم غسل الجنابة في الوجوب، لو تمَّ في نفسه، فلاحظ.

بقي شي ء، و هو أنّ عدم وجوب الموالاة إنما هو بالنظر لأصل الغسل، و قد تجب لعارض، كما فيمن يفجؤه الحدث الأصغر لو أراد تفريق أجزاء الغسل، بناء علي بطلان الغسل بتخلله في أثنائه.

و كذا في مثل المستحاضة ممن يستمر منه الحدث الأكبر، حيث قد يقال بوجوب الموالاة في الغسل و المبادرة للصلاة بعده، و إلا بطل الغسل و وجب استئنافه، لعدم العفو عما سوي القدر الضروري من الحدث، كما نبه له في الجملة في جامع المقاصد.

لكن العفو عن مقدار الضرورة محتاج لدليل، و بدونه يتجه عدم صحة الغسل، كما نبهنا لنظيره في أول الكلام في المسلوس و المبطون.

نعم، لا إشكال في العفو المذكور في المستحاضة، و يأتي تمام الكلام فيها في محله إن شاء اللّه تعالي.

ثمَّ إنّ الموالاة قد تجب تكليفا، لضيق الوقت، أو للعلم بفقد الماء، كما نبه له في جامع المقاصد و غيره، بل قال فيه: «أما إذا خاف فجأة الأكبر فيجب، محافظة علي سلامة العمل من الإبطال، مع احتمال العدم، إذ الإبطال غير مستند إليه»، و نحوه في الحدائق.

و ظاهرهما المفروغية عن حرمة إبطال الغسل بتعمد الحدث.

و لم يتضح وجهه، لعدم ثبوت عموم حرمة إبطال العمل، علي ما ذكرناه في لواحق مبحث الأقل و الأكثر الارتباطيين من الأصول، و عدم الدليل الخاص علي حرمة إبطال الغسل.

بل لا يظن من أحد البناء علي وجوب إكمال الغسل قبل إرادة الحدث الأكبر أو الأصغر، بناء علي إبطاله له، و وجوب إتمامه في الارتماسة الواحدة بنحو لا يجوز

ص: 551

لا في الترتيبي و لا في الارتماسي (1).

مسألة 16 الغسل الترتيبي أفضل من الغسل الارتماسي

مسألة 16: الغسل الترتيبي أفضل من الغسل الارتماسي (2).

______________________________

الخروج من الماء قبله، و نحو ذلك مما يكشف عدم تنبيههم عليه مع عموم الابتلاء به عن تسالمهم علي عدمه، فلاحظ.

(1) تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في حقيقة الغسل الارتماسي.

(2) كما نسبه في الحدائق إلي بعض محدثي متأخري المتأخرين، و به صرح في العروة الوثقي و أمضاه جملة من محشيها، و نسبه سيدنا المصنف قدّس سرّه إلي كثير ممن عاصره أو قارب عصره.

و استدل عليه في الحدائق بظهور أخبار الارتماس في أنه رخصة و تخفيف، و أنّ الأصل الترتيب.

كما استدل عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه مقتضي الجمع بين الأمر بالترتيب في نصوصه و الحكم بإجزاء الارتماس في نصوصه.

و يشكل الأول: - مضافا إلي عدم الدليل علي أفضلية الأصل من الرخصة- بأنّ النصوص لم تتضمن إجزاء الارتماس عن الغسل الترتيبي لتوهم ما ذكر، بل عن أصل الغسل، فلا تدل إلا علي شمول الغسل المطلوب له.

و الثاني: بأنه لا يناسب استفادة وجوب الترتيب في غير الارتماسي من النصوص المذكورة عندهم، إذ عليه لا مخرج عن الإطلاقات المقتضية لصحة الغسل بدونه.

بل لا بد في استفادته منها إما من حملها علي إرادة الغسل بالماء القليل تدريجا- كما هو المتعارف- مع إبقائها علي ظهورها في الوجوب، أو علي الوجوب التخيير، الذي يكون طرفه الآخر الارتماسي.

و علي كلا الوجهين لا تنهض بإثبات أفضلية الغسل الترتيبي.

نعم، لورود الأمر بالترتيبي و إجزاء الارتماسي، مع المفروغية عن

ص: 552

مسألة 17 يجوز العدول من الترتيبي إلي الارتماسي

مسألة 17: يجوز العدول من الترتيبي إلي الارتماسي (1).

______________________________

مشروعيتهما في الجملة و عدم مشروعية غيرهما، كان الجمع بالوجه المذكور متجها، فلاحظ.

(1) كما صرح به في العروة الوثقي، و صرح بعكسه أيضا، و هو مبني علي إمكان تحقق الارتماسي تدريجا، ليمكن العدول عنه في أثنائه.

كما أنّ محل الكلام العدول عنه حال الارتماس قبل إكماله بالتخليل و نحوه، أما لو كان بعد إبطاله بالخروج قبل إكماله، فلا إشكال في جواز الاستئناف ترتيبا أو ارتماسا.

هذا، و قد قال في العروة الوثقي بعد ذكر الوجهين: «بمعني رفع اليد عنه و الاستئناف علي الوجه الآخر»، و أراد بذلك دفع توهم احتساب من وقع من المعدول عنه المعدول إليه، نظير نية العدول من صلاة لأخري في الأثناء.

و قد تابعه علي ما ذكره جملة من المحشين.

لكن لا يبعد البناء علي احتساب غسل الرأس في الارتماس لو عدل منه للترتيبي، لما سبق فيما لو لم يستوعب الماء في الارتماس بعض البدن من شمول إطلاق نصوص الترتيب للغسل الواقع بنية الارتماس، فلاحظ.

و كيف كان، فقد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه لجواز العدول من أحد الغسلين للآخر بإطلاق الأدلة.

و قد يشكل بظهور أدلة الترتيب في طهارة كل موضع بوصول الماء إليه بنحو الانحلال، فمع طهارة بعض البدن بالشروع في الترتيبي لا يبقي موضوع للغسل الارتماسي، لظهور أدلته في إجزاء الارتماس عن تمام الغسل لا عن بعضه، و لا دليل علي مبطلية نية الارتماسي لما وقع من الغسل الترتيبي، ليتحقق موضوع الارتماسي و يصح.

نعم، قد يتجه ذلك في العدول من الارتماسي للترتيبي، لعدم الدليل علي

ص: 553

مسألة 18 يجوز الارتماس فيما دون الكر

مسألة 18: يجوز الارتماس فيما دون الكر (1)،

______________________________

ترتب شي ء من الأثر علي الارتماسي قبل إكماله، فيبقي موضوع الترتيبي و يصح لإطلاق أدلته.

اللهم إلا أن يقال: لمّا كان موضوع كل من الغسلين هو الجنب، فهو لا يرتفع بطهارة بعض البدن بالشروع في أحد الغسلين، و لا ينافي ظهور نصوص الارتماسي في إجزاء الارتماس عن تمام الغسل، لإمكان تحقق تمام الغسل به حتي بالإضافة إلي ما طهر من البدن، لقابلية الطهارة للتأكد، فيكون الغسل الحاصل بالارتماس موجبا لأصل الطهارة بالإضافة لما لم يطهر، و لتأكدها بالإضافة لما طهر.

و لو لا ذلك أشكل أيضا العدول من الارتماسي للترتيبي قبل بطلانه بالخروج من الماء، لما أشرنا إليه عند الكلام في حقيقة الغسل الارتماسي من أنّ مقتضي ارتكاز مطهرية الماء طهارة كل جزء من البدن بوصول الماء إليه بنحو الانحلال. فلا مخرج عن إطلاق الأدلة، و لا سيما مع غفلة العرف عن وجه المنع المذكور، فلاحظ.

(1) لإطلاق النصوص، سواء نوي الغسل بالشروع في رمس أجزاء البدن، أم برمس الجزء الأخير منه، أم بتحريكه تحت الماء بعد رمسه فيه، كما سبق في الفرع الأول من فروع الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في الفصل الثالث من مباحث المياه.

و دعوي: أنه بناء علي عدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لا يصح الغسل الارتماسي به إذا كان تدريجيا، لأنه بغسل الجزء الأول يصير الماء مستعملا في رفع الحدث الأكبر، فلا يجوز إكمال الغسل به، كما لو اغتسل فيه ترتيبا بنحو الارتماس.

مدفوعة: بأنّ توقف غسل كل جزء من البدن في الارتماسي علي غسل بقية الأجزاء مانع من صدق الماء المستعمل قبل إكمال الغسل، بخلاف الغسل الترتيبي.

ص: 554

______________________________

بل لا بد في امتناع الترتيبي بنحو الارتماس من تعدد الغسل عرفا، لتحقق الفصل بين أجزائه، بنحو يصدق علي الماء حين استعماله للعضو المتأخر أنه غسالة العضو الأسبق، و لا يجري مع وحدة الغسل و استمراره علي الأعضاء بالترتيب، بإجراء الماء عليه من أعلاه لأسفله، علي ما يتضح بمراجعة ما سبق في الفرع المشار إليه.

و منه يظهر أنه بناء علي عدم اعتبار الترتيب في غير الارتماس أيضا و الاكتفاء بمطلق الغسل حيث لا ارتباطية بين أجزاء البدن في الارتماس، يتعين البناء علي صحة الغسل حال الارتماس في الماء إذا وقع دفعيا أو تدريجيا من دون فصل معتد به. أما لو فصل بين أجزائه و انفصل الماء الذي غسل به بعض البدن و اختلط ببقية الماء، فلا مجال لإكمال الغسل به. فلاحظ.

هذا، و في المقنعة: «و لا ينبغي له أن يرتمس في الماء الراكد، فإنه إن كان قليلا أفسده و لم يطهر به، و إن كان كثيرا خالف السنة بالاغتسال فيه»، و في التهذيب:

«فالوجه فيه: أن الجنب حكمه حكم النجس إلي أن يغتسل، فمتي لاقي الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد».

و هو كما تري لا يمكن البناء عليه بظاهره، بل لا يظن منهما الالتزام به، لما هو المعروف من مذهب الإمامية من طهارة بدن الجنب و عدم فساد الماء بملاقاته، و لذا حكموا باستحباب غسل اليد قبل الاغتراف بها من الإناء، مع المفروغية عن جواز مسها للماء قبل غسلها، فضلا عما بعده.

و من هنا، ربما يحمل كلام المقنعة علي الدعوي المتقدمة التي سبق اندفاعها، أو علي صورة تلوث بدن الجنب بالنجاسة.

لكن ظاهر المعتبر و التذكرة و المنتهي و غيرها حمل الإفساد فيه علي سلب الطهورية عنه من الحدث بعد إكمال الغسل به، لا بنحو يمنع من صحة الغسل به، بل ظاهر المنتهي و غيره حمل كلام التهذيب علي ذلك أيضا.

و هو قد يتم في كلام المقنعة بناء علي نقله في كلامهم بحذف قوله: «و لم يطهر به» المثبت في المطبوع منها، و لا يتم في كلام التهذيب، لظهوره في فساد الماء بمجرد ملاقاة بدن الجنب، كما لو لاقي النجس.

ص: 555

و إن كان يجري علي الماء حكم المستعمل في رفع الحدث الأكبر (1).

مسألة 19 إذا اغتسل باعتقاد سعة الوقت فتبين ضيقه

مسألة 19: إذا اغتسل باعتقاد سعة الوقت فتبين ضيقه، فإن قصد الأمر الأدائي بالصلاة (2) فغسله باطل (3)،

______________________________

ثمَّ إنه ربما يستدل لعدم صحة الغسل الارتماسي في الماء القليل بما عن الدعائم من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم» «1»، و قريب منه النبوي العامي «2».

و مرسلة الذكري: «الارتماس في الجاري و فيما زاد علي الكر من الواقف «3» و لا فيما قل» «4».

لكن لا مجال للتعويل عليها مع ضعفها، و لا سيما مع كون المرسلة بعبارة الفقهاء أشبه، و النبويان مطلقان يشملان الماء الكثير، و ليس تنزيلهما علي القليل بأولي من حملهما علي الكراهة.

(1) و هو ما استظهرناه آنفا من عدم جواز رفع الحدث به، لإطلاق ما دل علي عدم رفعه بالماء الذي يغتسل به من الجنابة.

و توهم: أنّ الماء المذكور قد اغتسل فيه لا به.

مدفوع: بأنّ المراد من الاغتسال بالماء كونه آلة الغسل، و هو حاصل مع الارتماس فيه، كما يحصل مع الصب و الدلك.

(2) يعني: فإن قصد بغسله الشروع في امتثال الأمر الأدائي بالصلاة، فقوله:

(بالصلاة) متعلق ب (الأمر) لا ب (قصد)، لأن معيار صحة الغسل و بطلانه ما يقصد به لا ما يقصد بالصلاة.

(3) لانكشاف عدم تحقق الامتثال بالغسل، فيبطل، لأنه من العبادات المعتبر

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 15.

(2) الجواهر ج: 3 ص: 100 طبعة النجف الأشرف، و حكيت عن كنز العمال ج: 5 ص: 85 برقم: 1794.

(3) الظاهر زيادة الواو.

(4) الذكري: في مبحث واجبات غسل الجنابة.

ص: 556

______________________________

فيها أن تقع امتثالا.

لكنه مبني. أولا: علي مباينة الأمر الأدائي للأمر القضائي، كي لا يقع ما قصد به امتثال أحدهما امتثالا للآخر.

و ثانيا: علي أنّ مرجع عبادية الغسل إلي اعتبار وقوعه امتثالا لأمره أو أمر ما يتوقف عليه- كالصلاة- كي يلزم من فرض عدم وقوعه امتثالا في المقام- لعدم تحقق الأمر المقصود به امتثاله- بطلانه.

و كلاهما ممنوع.

أما الأول، فلأن مقتضي الجمع بين الأمرين عرفا حمل الأمر الأدائي علي تعدد المطلوب، و القضائي علي وحدته، فالماهية المطلقة المنطبقة علي ما بعد الوقت مطلوبة فيما قبل الوقت و فيما بعده، و خصوصية الوقت مطلوب آخر، فتخلف خصوصية الأداء لا يوجب مباينة ما وقع لما قصد، بل تخلف بعض ما قصد مع تحقق البعض الآخر، فيقع امتثالا لأمره، كما لو نوي الائتمام فظهر تخلف بعض شروطه، حيث لا إشكال ظاهرا في صحة الصلاة فرادي.

نعم، لو رجع قصد الخصوصية إلي إناطة امتثال أمر الصلاة بها، بحيث تكون قيدا له- كما هو مفاد الشرطية- اتجه البناء علي عدم تحقق الامتثال تبعا لتخلف شرطه.

لكنه بعيد جدا، لابتنائه علي عناية خاصة، كما سبق في المسألة الواحدة و السبعين في فصل شروط الوضوء، فراجع.

و أما الثاني، فلعدم كون أمر الغسل و غيره من الطهارات عباديا يتوقف سقوطه علي قصد امتثاله- كما هو الحال في سائر العبادات- بل غاية ما دل عليه الدليل لزوم وقوعه بوجه قربي، و لو بقصد الامتثال به خطأ أو رجاء أو بقصد التهيؤ لامتثال أمر غير فعلي أو غير ذلك، علي ما أوضحناه في المسألة الواحدة و السبعين من الفصل المذكور.

و من هنا يتعين البناء علي صحة الغسل في المقام، و كذا الحال في بقية الطهارات.

ص: 557

و إن قصد الأمر المتعلق به (1) فغسله صحيح (2).

مسألة 20 ماء غسل المرأة عليها لا علي الزوج

مسألة 20: ماء غسل المرأة من الجنابة أو الحيض أو نحوهما عليها لا علي الزوج (3).

______________________________

(1) يعني: بنحو ينطبق علي الأمر القضائي، أو أمر الكون علي الطهارة، أو نحوهما، و إن أخطأ في اعتقاد كونه أدائيا.

(2) لانطباق ما قصد علي ما وقع، فيصح امتثاله به، و يكون مقربا بلا إشكال. و مجرد الخطأ في اعتقاد خصوصية الأداء لا ينافي التقرب بعد عدم دخله في الامتثال المقصود.

نعم، سبق في المسألة الثالثة و الستين التنبيه إلي أنّ التقرب قد يكون بلحاظ الملاك أو بلحاظ الأمر الترتبي، فراجع.

(3) لما كانت المرأة هي المكلفة بالغسل كان الواجب عليها تحصيل مقدمته ببذل عوض الماء و غيره، و لذا لا ريب في وجوب ذلك عليها لو لم يقم به الزوج قصورا أو تقصيرا.

غاية ما في الأمر أنه لو كان من النفقات الواجبة لوجب عليه بذله و انشغلت به ذمته كما تنشغل بسائر نفقاتها، و هو الذي وقع الكلام فيه بينهم.

فعن الذكري وجوب بذله علي الزوج، و في مبحث الحيض من جامع المقاصد: «ماء الغسل علي الزوج علي الأقرب، لأنه من جملة النفقة، فيجب نقله إليها، و لو احتاجت إلي الحمام أو إلي إسخان الماء لم يبعد القول بوجوب العوض، دفعا للضرر. مع احتمال العدم، نظرا إلي أن ذلك من مؤن التمكين الواجب عليها، و هو ظاهر في غير الجنابة، خصوصا إذا كان السبب من الزوج»، و ظاهره وجوب البذل علي الزوج في الجنابة دون غيرها، أو دون الحيض و إن حكي عنه وجوب البذل مطلقا.

و في المنتهي: «هل يجب علي الزوج ثمن الماء الذي تغتسل به المرأة؟

ص: 558

______________________________

للحنفية فيه تفصيل: قال بعضهم: لا يجب مع غناها، و مع الفقر يجب علي الزوج تخليتها لينقل [لتنتقل ظ] إلي الماء أو ينقل الماء إليها، و قال آخرون: يجب عليه كما يجب عليه ماء الشرب، و الجامع: أنّ كل واحد منهما مما لا بد منه. و الأول عندي أقوي»، و هو ظاهر في عدم وجوبه علي الزوج غنية كانت أو فقيرة، و أنه مع غناها لا يجب علي الزوج التخلية بينها و بين الماء، بل يجب عليها تحصيله بالثمن، و مع فقرها يحرم عليه منعها من الخروج للماء، بل يخلي بينها و بينه أو ينقله إليها.

و لا وجه لاستفادة التفصيل منه في بذل الثمن لها بين فقرها و غناها، ثمَّ الإشكال عليه بعدم مناسبته لحكم نفقة الزوجة.

و كيف كان، فقد أشار في جامع المقاصد و غيره للاستدلال علي وجوب بذل ثمن الماء علي الزوج بأنه من جملة نفقتها، و هو موقوف علي ثبوت عموم وجوب نفقة المرأة علي زوجها بنحو يشمل ذلك.

و قد يستدل عليه بقوله تعالي وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «1» بدعوي: أنّ بذل النفقة المتعارفة من حيثية الزوجية- و منها ماء الغسل- لا بد منه في تحقق المعاشرة بالمعروف.

و قوله تعالي لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا «2».

بدعوي: أنه لما لم يمكن حمله علي مسمي الإنفاق بنحو صرف الوجود، و لا علي إنفاق كل شي ء، كان الظاهر مع حذف متعلق الإنفاق إرادة النفقة المتعارفة من حيثية الزوجية- كما في الجواهر- أو النفقة المحتاج إليها، لابتناء النفقة علي سدّ الحاجة و انصرافها لذلك.

و صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا: الأب و الام و الولد و المملوك و المرأة، و ذلك أنهم عياله

______________________________

(1) سورة النساء: 19.

(2) سورة الطلاق: 7.

ص: 559

______________________________

لازمون له» «1»، فقد ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنّ المناسب لارتكازية التعليل كون مانعية عيالته بهم و لزومهم له من إعطائهم الزكاة بلحاظ كونهما موجبين لغناهم، أو لارتكاز امتناع تكليفه بالإنفاق عليهم من جهتين الزكاة و العيلولة معا، لعدم التداخل، و مقتضي ذلك كون اللازم عليه أن ينفق عليهم كل ما يحتاجون إليه مما تقوم به الزكاة.

و عليه يجب بذل ماء الغسل، لدخوله في ذلك.

و الكل لا يخلو عن إشكال أو منع.

أما الآية الأولي، فلعدم دخل الإنفاق بالمعاشرة، بل الظاهر منها ما يعود للأخلاق، كما يناسبه سياقها أيضا، لقوله تعالي قبل ذلك وَ لٰا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مٰا آتَيْتُمُوهُنَّ.

نعم، بعد ثبوت وجوب النفقة قد يكون بذلها مقتضي المعاشرة بالمعروف شرعا، نظير ما في مرسل العياشي من تفسير الإمساك بالمعروف بكف الأذي و إحباء النفقة «2». إلا أنّ ذلك يقتضي توقف المعاشرة بالمعروف علي بذل النفقة الشرعية من دون تعيين لها، لا النفقة المتعارفة، ليكشف عن وجوبها شرعا.

و أما الثانية، فلعدم ظهورها في تشريع وجوب الإنفاق علي الزوجة، ليتجه احتمال حملها علي ما سبق، بل في إلحاق المطلّقة بالزوجة في وجوب النفقة المفروغ عنها، من دون نظر لتحديدها، لورودها في سياق أحكام الطلاق.

اللهم إلا أن يقال: التعرض فيها لتحديد الإنفاق بحسب الطاقة ظاهر في عدم كونها بصدد مجرد إلحاق المطلقة بالزوجة في النفقة المفروغ عنها، بل في مقام تشريع وجوب الإنفاق علي المطلقة، فيتجه حمل إطلاقها علي ما سبق، و يتعدي منها للزوجة بعدم الفصل أو الأولوية العرفية، لارتكاز كون الإنفاق عليها لأجل بقاء شي ء من علقة الزوجية و عدم بينونتها منه.

نعم، يأتي الإشكال في حملها علي ما سبق من وجه آخر، كما يأتي من

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 13.

ص: 560

______________________________

النصوص ما ظاهره ورودها في الزوجة و اختصاص النفقة فيها بالأكل و اللباس، فلا تنهض بالاستدلال.

و أما التعليل في الصحيح، فلا قرينة علي ابتنائه علي أحد الوجهين، لوضوح عدم كون وجوب الإنفاق علي شخص موجبا لغناه مع إمكان فقر المكلف بنفقته و إن كان واجدا للنصاب الزكوي. و عدم وضوح كون عدم التداخل ارتكازيا، بعد عدم كون استحقاق النفقة من كل من الجهتين ملازما لحصولها منهما معا، لإمكان عدم تهيؤ الزكاة، و عدم بذل المكلف النفقة لها قصورا أو تقصيرا.

فلا يصح التعليل بأحد الأمرين، إلا بلحاظ كونه غالبيا راجعا إلي كونه حكمة لا علة يتبعها الحكم سعة و ضيقا، و حينئذ يمكن أن تكون الحكمة هي استحقاق بعض النفقة التي تقوم بها الزكاة لا كلها، كما يمكن أن تكون الحكمة كون دفع الزكاة إلي الزوجة التي تنشغل الذمة بنفقتها مع الفقر موجبا لملكها مقدار النفقة الواجبة مرتين، و إلي من تجب نفقته من الأقارب و المملوك موجبا لعود نفعها لصاحبها، حيث له أن يتكل عليها في ترك الإنفاق عليهم، لاشتراط استحقاقهم للنفقة بحاجتهم، و لا يتعين المدفوع منها للنفقة غير الواجبة علي صاحبها، لعدم المعين له بعد عدم مشروعية اشتراط نوع المصرف علي الفقير.

علي أنه لا يمكن البناء علي كون النفقة الواجبة هي التي يجوز دفع الزكاة لها، مع وضوح سعة جهة الزكاة، و كون المعيار فيها النفقة التي تناسب شأن الفقير من نفقة شخصه و نفقة عياله الشرعيين و العرفيين، كما تعم النفقات الراجعة للمعاش و الجاه و المعاد من الديون و الكفارات و نحوها حتي بعض المستحبات كالحج و الصدقة كما تضمنته النصوص.

و دعوي: أنّ ذلك لا يمنع من استفادة العموم من التعليل، غايته أنه يكون مخصصا فيما ثبت عدم وجوبه، مع الرجوع له في مورد الشك، كالمقام و نحوه.

مدفوعة: بأنّ ظهور كثرة التخصيص مانع من استفادة العموم من التعليل و حجيته فيه، و كاشف عن كون التعليل حكمة أو بلحاظ جهات أخر خفيت علينا.

ص: 561

______________________________

و لا سيما مع أنّ لزوم كون التعليل ارتكازيا يدور الحكم مداره، إنما هو بلحاظ الحكم المعلل الذي سيق التعليل له و قصد به التنبيه لوجهه، و هو في المقام عدم إعطاء الزكاة للأشخاص المذكورين.

فيحمل علي ما يناسب التعليل، لا ما هو محل الكلام من تحديد النفقة الواجبة، لابتناء التعليل علي المفروغية عنه من دون أن يكون علة له.

فلو أمكن حمل المنع من إعطاء الزكاة للأشخاص المذكورين علي الإعطاء للنفقة الواجبة، أو علي حال قدرة المعيل علي الإنفاق عليهم مثلا، لأجل التعليل، كان أولي من حمل النفقة الواجبة علي ما يجوز دفع الزكاة له.

و مما سبق يظهر الإشكال في حمل الآية الثانية و نحوها مما يتضمن إطلاق الإنفاق من دون تعيين النفقة- لو فرض وجوده- علي الإنفاق بمقدار الحاجة- لو فرض أنه اللازم بمقتضي الإطلاق- لما سبق من عدم إمكان الالتزام بذلك علي عمومه، بل لزوم كثرة التخصيص مانعة من استفادة العموم منه.

و مثله حملها علي المتعارف، إذ لو أريد به التعارف وقت نزول الآية، فهو مما لا طريق لمعرفته، و لا يتضح بناء العقلاء علي أصالة تشابه الأزمان في التعارف.

و إن أريد به التعارف في كل زمان بحسبه، فهو- مع بعده في نفسه- موقوف علي كون التعارف بعنوانه قيدا في موضوع الحكم، و هو خلاف الإطلاق، و الوجه المتقدم- لو تمَّ- يقتضي كونه قرينة حالية عامة لتعيين المراد من إطلاق الإنفاق، بحيث يحرز به كون المراد منه إنفاق ما يتعارف إنفاقه بواقعة لا بعنوان كونه متعارفا.

و من الظاهر أنّ الصالح للقرينية هو التعارف حين ورود الإطلاق، لا حين العمل به.

و قد تحصّل من جميع ما تقدم، عدم ثبوت الإطلاق بالنحو الشامل للمقام.

علي أنه لا مجال للتعويل علي الإطلاق و لا علي مفاد التعليل- لو تمَّ ما سبق في تقريبهما- مع ظهور النصوص الكثيرة في انحصار النفقة بالإطعام و الكسوة.

ص: 562

______________________________

منها: الصحيح عن جميل: «قال: لا يجبر الرجل إلا علي نفقة الأبوين و الولد.

قال ابن أبي عمير: قلت لجميل: و المرأة؟ قال: قد روي عنبسة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كساها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها أقامت معه و إلا طلقها. قلت: فهل يجبر علي نفقة الأخت؟ فقال: لو اجبر علي نفقة الأخت لكان ذلك خلاف الرواية» «1».

و خبر يونس بن عمار: «زوجني أبو عبد اللّه عليه السّلام جارية كانت لإسماعيل ابنه فقال: أحسن إليها. قلت: و ما الإحسان إليها؟ قال: أشبع بطنها و اكس جثتها و اغفر ذنبها» «2».

و منها: النصوص الواردة في بيان حق الزوجة، كصحيح إسحاق بن عمار:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما حق المرأة علي زوجها الذي إذا فعله كان محسنا؟ قال:

يشبعها و يكسوها، و إن جهلت غفر لها» «3»، و غيره.

و منها: النصوص الواردة في تفسير الآية الثانية المتقدمة، كصحيح ربعي و الفضيل بين يسار عنه عليه السّلام: «في قوله تعالي وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ قال: إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها [صلبها. خ ل] مع كسوة و إلا فرق بينهما» «4».

فإنّ الاقتصار في الطائفة الأولي علي الأمرين، و ذكرهما في الثانية في بيان حق الزوجة، و في الثالثة في تفسير آية النفقة ظاهر في انحصار النفقة الواجبة بهما.

و دعوي: أنّ اشتمال جملة منها علي وجوب الطلاق بتخلف النفقة المذكورة شاهد بورودها في بيان النفقة التي يجب الطلاق بتخلفها، نظير صحيح أبي بصير: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها كان حقا علي الإمام أن يفرق بينهما» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 2.

ص: 563

______________________________

كما تري! لعدم التنافي بين انحصار النفقة الواجبة بالإطعام و الكسوة و وجوب الطلاق بتخلفهما، بل المناسب للمرتكزات كون وجوب الطلاق بتخلفهما متفرعا علي وجوبهما، و لذا ساق جميل رواية عنبسة في مقام بيان وجوب نفقة الزوجة.

و دعوي: أنّ عدم ذكر الإسكان الواجب قطعا في هذه النصوص شاهد بعدم ورودها في مقام الحصر.

مدفوعة: بأنّ الأولي جعل ذلك شاهدا علي انصراف النفقة في هذه النصوص عن الإسكان و أنّ المراد بها ما يتجدد صرفه و تتلف عينه، دون الإسكان المبني علي الانتفاع بالعين مع بقائها، للمفروغية عن وجوبه لابتناء الزوجية علي تكوين البيت للزوجين بنحو لا يحتاج للتنبيه، و لذا قوبل بالنفقة في جملة من النصوص الواردة في المطلقة، كقوله عليه السّلام في صحيح سعد: «و لها النفقة و السكني حتي تنقضي عدتها» «1».

هذا، و في حديث شهاب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما حق المرأة علي زوجها؟ قال: يسد جوعتها و يستر عورتها و لا يقبح لها وجها، فإذا فعل ذلك فقد و اللّه أدي إليها حقها. قلت: فالدهن؟ قال: غبا يوم و يوم لا. قلت: فاللحم؟ قال: في كل ثلاثة، فيكون في الشهر عشر مرات لا أكثر من ذلك، و الصبغ في كل ستة أشهر، و يكسوها في كل سنة أربعة أثواب ثوبين للشتاء و ثوبين للصيف، و لا ينبغي أن يقفر بيته من ثلاثة أشياء: دهن الرأس و الخل و الزيت [الخل و الزيت و دهن الرأس. خ ل] و يقوتهن بالمد، فإني أقوت به نفسي، و ليقدر لكل إنسان منهم قوته، فإن شاء أكله و إن شاء وهبه و إن شاء تصدق به. و لا تكون فاكهة عامة إلا أطعم عياله منها، و لا يدع أن يكون للعيد عندهم فضل [للعيدين من عيدهم خ ل] فضل في الطعام أن يسني لهم [ينيلهم خ ل] ما لم يسني لهم [لا ينيلهم خ ل] في سائر الأيام» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب النفقات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب النفقات حديث: 1.

ص: 564

______________________________

و مقتضي قوله عليه السّلام: «فقد و اللّه أدي إليها حقها» كون ما ذكر بعد ذلك شرحا لأحد الأمور المذكورة أو مستحبا، فلا يصلح لمعارضة ما سبق من النصوص، بل يتعين العمل عليها.

و دعوي: عدم حجية النصوص المذكورة لهجرها عند الأصحاب، حيث ذكروا أمورا كثيرة غير ما تضمنته كالفراش و آلة التنظيف و الادهان و الإخدام، كما هو مقتضي سيرة المتشرعة.

مدفوعة: بعدم وضوح هجرهم لها بالنحو المسقط لها عن الحجية، بعد ذكرها في كلام قدماء الأصحاب بنحو يظهر منهم التعويل عليها كالكليني و الصدوق، كما اقتصر علي مضمونها في بعض كتب الفتاوي كالمقنعة و الغنية، كما هو ظاهر النهاية و السرائر حيث اقتصر فيهما علي النفقة و الكسوة، لظهور مقابلة النفقة بالكسوة في عدم إرادة مطلق ما يحتاج إليه من النفقة، بل خصوص الإطعام المقابل بالكسوة في الأخبار.

و لعل توسع جملة منهم في تحديد النفقة لا يبتني علي هجر هذه النصوص، بل علي العمل ببعض العمومات مع تخيل عدم منافاة النصوص لها لرفع اليد عن ظهورها في الحصر، فإنّ ظاهر الشيخ في المبسوط أنّ وجه وجوب الإخدام هو الأمر بالمعاشرة بالمعروف في الآية المتقدمة.

و أما السيرة، فلم تتضح بنحو معتد به، لاختلاف الناس في الإنفاق كثيرا، و احتمال كون قيام كثير منهم بكثير من النفقات لذهاب بعض الأصحاب لوجوبها، أو للمحبة، أو التعارف، أو غيرها من الدواعي المانعة من إفادتها القطع بالوجوب.

و من هنا لا مجال للإعراض عن مفاد النصوص، و لا سيما مع كثرتها و قوة ظهورها، بنحو يبعد جدا عدم مطابقتها للواقع و الاتكال في بيان الواقع علي أدلة أخر قد اختفت علينا و اطلعوا عليها.

هذا، و يظهر من بعضهم أنّ المتحصل من مجموع الأدلة كون الواجب هو

ص: 565

______________________________

القيام بما تحتاجه المرأة، لا بما أنها صاحبة دين، بل بما هي متعيشة بحسب شأنها و زمانها و مكانها، و منه رفع ما لا يتحمل عادة من الوسخ و نحوه مما يحتاج تنظيفه إلي مئونة، و منه الجنابة و الحيض، لتنفّر المسلم منهما، بحيث يثقل عليه تحملهما كالوسخ.

لكنه غير ظاهر، لعدم وفاء النصوص المتقدمة به، و شمول العمومات- لو تمت- لما هو أوسع منه.

نعم، لا يبعد البناء علي وجوب بذل مئونة التنظيف و الزينة علي الزوج لو أرادهما، و لا يجب عليها القيام بهما مع عدم البذل منه.

و ما قد يظهر من جامع المقاصد في كلامه المتقدم من أنّ مئونة الحمام عليها، لأنها من مئونة التمكين الواجب عليها.

غير ظاهر، لأن المتيقن مما دل علي وجوبهما عليها وجوب المعني المصدري في ظرف وجود مقدمته، لا تكلف مقدمته لتحصيله، ففي خبر العزرمي الوارد في بيان حق الزوج علي الزوجة: «و عليها أن تتطيب بأطيب طيبها و تلبس أحسن ثيابها و تزين بأحسن زينتها.» «1».

و هو المطابق لقاعدة نفي الضرر، لأن تكليفها بالتنظيف و التزين بالنحو المستلزم لصرف المال ضرر ظاهر، بل لا ينبغي التأمل في عدم وجوب ذلك بعد ملاحظة سيرة المتشرعة.

و ربما كان مراد بعض الأصحاب من وجوب بذل آلات الزينة علي الزوج ذلك، لا بذلها مطلقا و لو لم يردها.

كما لا يبعد البناء علي جواز تكسب المرأة لسد حاجاتها الأخر و إن لزم خروجها من بيت الزوج أو تفويت بعض حقوقه، لقاعدة نفي الضرر في حقها.

و ليس له منعها إلا إذا قام بحاجتها و أرادت الاستزادة في المال مع التفريط بحقه، و هو لا ينافي ما سبق في النصوص، لأنها بصدد بيان النفقة الواجبة بمقتضي

______________________________

(1) الوسائل باب: 79 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 2.

ص: 566

مسألة 21: إذا خرج من بيته بقصد الغسل في الحمام كفي ذلك في نية الغسل

مسألة 21: إذا خرج من بيته بقصد الغسل في الحمام، فجاء إلي الحمام و اغتسل و لم يستحضر النية تفصيلا كفي ذلك في نية الغسل (1)،

______________________________

الزوجية لا لطوارئ خارجية.

و كيف كان، فلا بد في إثبات وجوب ما زاد علي ما تضمنته النصوص المتقدمة من دليل، و لا يبعد وجوب بذل ماء الشرب، لإلحاقه بالطعام، بل أولويته منه عرفا.

أما ماء الغسل و نحوه مما يجب استعماله تكليفا، فلا وجه لوجوبه، و ما سبق من المنتهي عن بعضهم من قياسه علي ماء الشرب في غير محله.

لكن شيخنا الأستاذ قدّس سرّه احتمل التفصيل بين ما إذا كان الغسل مقدمة للوطء كغسل الحيض بناء علي حرمة الوطء قبله، أو نتيجة له و هو غسل الجنابة، فيجب بذل مائه علي الزوج، و ما إذا لم يكن كذلك كسائر الأغسال، فلا يجب بذل مائه. و ذكر أنّ ذلك غير بعيد عن السليقة، و إن خلا عن الدليل.

و ما ذكره في الغسل الذي يكون مقدمة للوطء، لا يخلو عن قرب، لأن المتيقن من وجوب التمكين ما يقابل الامتناع الخارجي و نحوه، دون ما يرجع إلي بذل المال لرفع المانع الشرعي، بل يتعين عليه بذله لو أراد الوطء، و لو لم يرده لا يجب عليه بذله، بل يكون كسائر الأغسال غير المتعلقة به، حيث لا دليل علي وجوب بذله المال لها، كما ذكرنا و ذكره قدّس سرّه.

و أما ما ذكره في الغسل الذي يكون نتيجة للوطء، فلا يخلو عن إشكال، لما اعترف به من عدم الدليل عليه.

اللهم إلا أن يستبعد عدم تكليفه به و وجوب تحملها له مع كون الوطء بيده، لما فيه من الإضرار بها و تعريضها بسبب وجوب التمكين معه للخسارة الكثيرة، فتأمل. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) لما سبق في مباحث النية من الوضوء من الاكتفاء بالنية الإجمالية الارتكازية، و عدم لزوم استحضار صورة العمل أو عنوانه تفصيلا حين الشروع فيه.

و ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أنّ النية السابقة نية للخروج من البيت

ص: 567

إذا كان بحيث لو سئل: ما ذا تفعل؟ لأجاب بأنه يغتسل (1)، أما لو كان يتحيّر في الجواب بطل، لانتفاء النية (2).

مسألة 22 إذا كان قاصدا عدم إعطاء العوض للحمامي

مسألة 22: إذا كان قاصدا عدم إعطاء العوض للحمامي، أو كان بناؤه علي إعطاء الأموال المحرمة، أو علي تأجيل العوض مع عدم إحراز رضا الحمامي، بطل غسله (3)،

______________________________

و الذهاب للحمام لا نية الغسل، بل يكون الغسل بدون نية.

ممنوع، لأن الجري علي نية الخروج من البيت بالنحو المذكور إلي حين الغسل تستلزم النية الارتكازية للغسل حين الانشغال به.

إلا أن يرجع ما ذكره إلي دعوي اعتبار إخطار العمل حين الشروع فيه، الذي عرفت منعه.

(1) لكشف ذلك عن النية الإجمالية الارتكازية للغسل.

(2) إنما تنتفي النية إذا لم يبتن حصول الغسل منه علي استمرار الداعي الأول، بل لداع آخر.

أما مع استناده لاستمرار الداعي الأول، فهو مستلزم لحصول النية الارتكازية، و لا بد أن يستند التحير في الجواب لارتباك الوجدان بنحو تقصر النفس عن استيضاح مرادها و بيانه.

نعم، مع الشك لا بد من البناء علي البطلان، لأصالة عدم وقوع الغسل. و لا مجال لقاعدة الصحة، لأنها فرع إحراز الدخول في العمل بنية عنوانه.

(3) أما إذا كان قاصدا عدم إعطاء العوض، فلإحراز عدم رضا الحمامي بالغسل، فيحرم و يمتنع التقرب.

لكنه يختص بما إذا ابتني وضع الحمام علي الإباحة بالضمان بشرط دفع العوض، كما هو محل الكلام ظاهرا.

أما لو ابتني علي الإباحة بالضمان و لو مع العصيان بعدم دفع العوض، فيكون متجريا بالقصد المذكور مع إباحة الغسل لفعلية الرضا من المالك.

ص: 568

و إن استرضاه بعد ذلك (1).

______________________________

و كذا لو ابتني علي الاستئجار بين المغتسل و الحمامي- إما اللفظي أو المعاطاتي- فيستحق المغتسل الغسل و الحمامي الأجرة بالعقد المذكور قبل تحقق الغسل، لأن نية عدم دفع الأجرة لا توجب حرمة الغسل المستحق.

و أما إذا كان قاصدا إعطاء الأموال المحرمة، فهو موقوف علي كون شرط الإباحة بالضمان دفع العوض المملوك مع التفات المغتسل إلي عدم انطباق ما يقصد دفعه علي ما هو المشروط، أما مع غفلته عن ذلك، أو كان شرط الإباحة مطلق دفع العوض و لو كان محرما، لتسامح الحمامي أو لاعتقاده حلية العوض الذي يرضي بالدفع منه، فلا وجه لبطلان الغسل، غايته أنه يكون متجريا في نية دفع العوض المذكور، و لا يبرأ من الضمان به.

و أما إذا كان قاصدا تأجيل العوض، فهو متجه لو ابتني وضع الحمام علي الإباحة بالضمان بشرط دفع العوض- الذي عرفت أنه محل الكلام ظاهرا- أو ابتني علي الإجارة المعاطاتية، لعدم إحراز تحقق شرط الإباحة في الأول، و عدم إحراز التطابق بين الإيجاب و القبول في الثاني.

أما لو ابتني علي الإجارة نقدا باتفاق الطرفين و نوي المغتسل تأخير دفع الأجرة فلا يبطل الغسل، نظير ما تقدم.

كما أنه لا بد في البطلان في الصورتين الأوليين من الالتفات إلي عدم إحراز رضا الحمامي، أما مع الغفلة عنه فيصح الغسل، لتحقق التقرب به.

ثمَّ إنه يكفي مع إحراز رضا الحمامي الرضا الباطني، بل التقديري الحاصل مع الغفلة، الذي هو عبارة عن كونه بحيث لو التفت لرضي، لكفايتهما في حل التصرفات الخارجية، علي ما ذكرناه في المسألة الثالثة من مباحث أحكام الخلوة.

نعم، لا يكفيان في نفوذ التصرفات الاعتبارية كالإجارة المعاطاتية في المقام، بل لا بد فيه من إعمال السلطنة، علي ما ذكر في محله من مباحث شروط العقد.

(1) لأن تعقب الرضا مع العلم به لا يسوغ التصرف حين وقوعه، فضلا عن

ص: 569

مسألة 23 إذا ذهب إلي الحمام ليغتسل ثم شك بني علي العدم

مسألة 23: إذا ذهب إلي الحمام ليغتسل و بعد الخروج شك في أنه اغتسل أم لا، بني علي العدم (1)، و لو علم أنه اغتسل لكن شك في أنه اغتسل علي الوجه الصحيح أم لا، بني علي الصحة (2).

مسألة 24 إذا كان ماء الحمام مباحا لكن سخن بالمغصوب يجوز الغسل منه

مسألة 24: إذا كان ماء الحمام مباحا لكن سخن بالحطب المغصوب، لا مانع من الغسل فيه (3).

______________________________

انقلابه عما وقع عليه من المبعدية، لعدم إحراز الرضا حينه.

(1) لاستصحاب عدم الغسل. و لا أثر للعادة في ذلك، إلا بناء علي كفاية مضي المحل العادي في جريان قاعدة التجاوز، الذي هو خلاف التحقيق، بل يبعد القول به من أحد في مثل المقام.

(2) لقاعدة الفراغ. و يأتي إن شاء اللّه تعالي في المسألة السابعة و الثلاثين الكلام في الشك في أجزاء الغسل.

(3) لبقائه علي ملك صاحبه، من دون أن يكون لصاحب الحطب حقا فيه بعد عدم حمله لجزء من الحطب. و ليس أثر العين كنمائها تابعا لها، ليدعي ملكية صاحب الحطب للحرارة بنحو لا يجوز التصرف في الماء تصرفا منافيا لملكيتها، لعدم الدليل علي ذلك، غاية الأمر ضمان الحطب بالإتلاف.

نعم، قد يتخيل ذلك فيما لو غصب عمل العامل المسخن للماء بأن أجبر علي ذلك أو نحوه، حيث قد يدعي ملكية العامل لأثر عمله، و هو الحرارة، و لا يجوز لكل من مالك العين و الأثر الاستقلال في التصرف، كما لو صبغ المشتري الثوب أو صاغ الذهب، ثمَّ فسخ البيع، حيث قد يدعي ملكية المشتري لأثر عمله، فله منع البائع من الاستقلال في العين و إن ملكها بعد الفسخ.

لكن ذلك لو تمَّ فالمتيقن منه ما لو كان العمل في العين حين ملكيته لها، حيث يقع في محله. أما إذا كان حين ملكية غيره لها- كما في الفرض- فلا دليل علي اقتضائه حقا فيها، بل غاية الأمر ضمان قيمة عمله لمن أجبره عليه أو طلبه منه، فتأمل جيدا.

ص: 570

مسألة 25 الغسل في حوض المدرسة غير صحيح لأهلها و لغيرهم

مسألة 25: الغسل في حوض المدرسة غير صحيح لأهلها و لغيرهم، إلا إذا علم بعموم الوقفية أو الإباحة (1).

مسألة 26 الماء الذي يسبلونه لا يجوز الوضوء و لا الغسل منه

مسألة 26: الماء الذي يسبلونه لا يجوز الوضوء و لا الغسل منه، إلا مع العلم بعموم الإذن (2).

مسألة 27 الغسل بالمئزر الغصبي باطل

مسألة 27: الغسل بالمئزر الغصبي باطل، إذا كان دخول الماء إلي البشرة موجبا للتصرف فيه (3) أو متحدا معه (4).

______________________________

(1) لاستصحاب عدم الوقف للغسل، أو عدم الإذن فيه.

و قد تقدم تمام الكلام في ذلك في المسألة الرابعة من مبحث أحكام الخلوة.

كما تقدم الكلام في قبول خبر المتولي أو بعض أهل المدرسة بعموم الوقف أو جريان العادة بإيقاع التصرف.

(2) لاستصحاب عدم الإذن فيه، أو عدم التصدق بالماء له.

(3) كما إذا استلزم وصول الماء للبشرة انفصاله عنها و وقوعه علي المئزر، حيث يكون إيصال الماء للبشرة سببا توليديا للحرام، فيكون مبعدا، و يمتنع التقرب به المعتبر في عباديته.

(4) التصرف في المئزر مباين خارجا لوصول الماء للبشرة، و يمتنع اتحادهما مع اختلاف موضوعيهما.

إلا أن يراد بذلك تحققهما معا بحركة واحدة كما لو كان المئزر مبتلا و غسلت البشرة بدلكه بها، فتحرم الحركة المذكورة و يمتنع التقرب بها.

كما يبطل الغسل أيضا لو كان التصرف في المئزر سببا توليديا لوصول الماء للبشرة، بأن لا يكون من المكلف إلا وضع الماء علي المئزر ثمَّ ينفذ الماء منه للبشرة، حيث يمتنع التقرب بالوضع المذكور الذي يستند له الغسل.

و كذا لو توقف إيصال الماء للبشرة تدريجا علي إيصاله بحركة أخري للمئزر، علي تفصيل سبق نظيره عند الكلام في الوضوء من الإناء المغصوب تدريجا.

فراجع أوائل الفصل الثالث من مبحث الوضوء.

ص: 571

الفصل الخامس في آداب الغسل
اشارة

الفصل الخامس قد ذكر العلماء (رضوان اللّه عليهم) أنه يستحب غسل (1)

______________________________

(1) كما صرح به جمع من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين، و صرح بالإجماع عليه في الخلاف و المعتبر و المنتهي و الحدائق، و نفي الخلاف فيه في السرائر.

و يشهد به النصوص الكثيرة الآتي بعضها، المحمولة علي الاستحباب، للإجماع علي عدم انفعال الماء بإدخال الجنب يده فيه من دون غسل، و عدم كون غسلها جزءا من الغسل، و للنصوص المصرحة بعدم البأس بإدخال الجنب يده في الماء إذا لم يكن أصابها شي ء، و الظاهرة في عدم كونه جزءا من غسل الجنابة.

فمن الأول: صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن الرجل يبول و لا يمس يده اليمني شيئا، أ يغمسها في الماء؟ قال: نعم و إن كان جنبا» «1».

و من الثانية: صحيح زرارة: «قلت: كيف يغتسل الجنب؟ فقال: إن لم يكن أصاب كفه شي ء غمسها في الماء ثمَّ بدأ بفرجه فأنقاه [بثلاث غرف] ثمَّ صب علي رأسه ثلاث أكف.» «2».

و ما ورد في الغسل بالمطر «3» و الغسل الارتماسي «4»، بناء علي شمول الأمر

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الوضوء حديث: 1 و في الباب المذكور و غيره أحاديث أخر.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2، 3.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10، 11، 14.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 12، 13، 15.

ص: 572

اليدين (1) أمام الغسل (2)

______________________________

بغسل اليدين لهما، كما هو غير بعيد لو كان غسلهما من آداب الغسل، لإطلاق بعض نصوصه و قرب إلغاء خصوصية موارد الباقي منها مما ورد في الغسل بالصب و نحوه.

(1) كما هو المذكور في كلمات الأصحاب و معاقد إجماعاتهم، و تقتضيه جملة من النصوص الآتية و غيرها.

و لا ينافيه الاقتصار علي اليمني في بعضها، لإمكان الجمع باختلاف مرتبة الفضل، كما يظهر من الحدائق.

و ربما يحمل ما تضمن الاقتصار علي اليمني علي صورة الاقتصار عليها في الاغتراف من الإناء و باقي النصوص علي صورة إدخالهما معا، أو علي كونه من آداب الغسل مع قطع النظر عن إدخال اليد في الإناء، علي ما سيأتي الكلام فيه.

(2) المذكور في الخلاف و السرائر و الشرائع و التذكرة و الإرشاد و القواعد و الحدائق أنّ الغسل قبل إدخال اليد الإناء، بنحو يظهر منهم الاختصاص بما إذا أريد إدخالها فيه للاغتراف أو غيره، و هو الظاهر من المعتبر و المنتهي، لأنهما و إن أطلقا ذكره في آداب الغسل، إلا أنّ التحويل فيهما علي ما سبق منهما في الوضوء ظاهر في ذلك.

نعم، أطلق في النافع استحبابه للغسل، من دون إشارة للقيد المذكور، كما قرب التعميم في كشف اللثام و غيره.

و يشهد للأول صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الوضوء، كم يفرغ الرجل علي يده اليمني قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث البول و اثنتان من حدث الغائط و ثلاث من الجنابة» «1».

و صحيح يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال: الجنب يغتسل يبدأ

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 573

______________________________

فيغسل يديه إلي المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء.» «1».

و صحيح العيص: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام هل يغتسل الرجل و المرأة من إناء واحد؟ قال: نعم، يفرغان علي أيديهما قبل أن يضعا أيديهما في الإناء» «2».

و قد يحمل عليه صحيح البزنطي: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن غسل الجنابة؟ فقال: تغسل يدك اليمني من المرفق [المرفقين] إلي أصابعك و تبول إن قدرت علي البول، ثمَّ تدخل يدك في الإناء، ثمَّ اغسل ما أصابك منه.» «3» و قريب منه موثق سماعة «4» و حديث أبي بصير «5»، حيث لا يبعد ظهور تعقيب الغسل بإدخال اليد في الإناء في كون الغسل لأجله.

بل قد يحمل عليه قوله عليه السّلام في صحيح حكيم: «أفض علي كفك اليمني من الماء فاغسلها، ثمَّ اغسل ما أصاب جسدك من أذي» «6»، لقرب كون تخصيص اليمني بالغسل بلحاظ غلبة إدخالها في الإناء، إذ يبعد اختصاصها في الغسل الذي هو من آداب الغسل.

و يشهد بالثاني: إطلاق صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن غسل الجنابة، فقال: تبدأ بكفيك فتغسلهما ثمَّ تغسل فرجك.» «7».

و قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «تبدأ فتغسل كفيك ثمَّ تفرغ بيمينك علي شمالك فتغسل فرجك.» «8».

و قوله عليه السّلام في حديث الأربعمائة: «إذا أراد أحدكم الغسل فليبدأ بذراعيه

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(6) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(7) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(8) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 574

من المرفقين (1)

______________________________

فليغسلهما» «1».

و قد تقدم نظير ذلك في الوضوء، و قربنا هناك حمل المطلق علي المقيد، لقرب ورود المطلق لبيان عدد الغسل، لا لتشريعه، ليتم إطلاقه من هذه الجهة، فراجع.

و لا مجال لذلك هنا، لظهور النصوص الأخيرة في تشريع استحباب غسل اليد من حيثية الغسل، لا من حيثية أخري.

و لا سيما قوله عليه السّلام في حديث يونس الوارد في غسل الميت: «ثمَّ اغسل يديه ثلاث مرات، كما يغسل الإنسان من الجنابة إلي نصف الذراع» «2»، لظهوره في عدم دخل إدخال اليد في الإناء في استحباب الغسل المذكور، و لذا ثبت في غسل الميت الذي لا يقع منه ذلك، فتأمل.

فيتعين الجمع بتأكد الأمر بغسل اليد مع إرادة إدخالها في الإناء.

و الأولي حمل الأمر بالغسل في النصوص الاولي علي الإرشاد لتجنيب الماء أثر الحدث، نظير ما تقدم في الوضوء، و في الأخيرة علي كونه من آداب الغسل.

(1) كما في جامع المقاصد و عن النفلية، و جعله أولي في الروضة و المسالك و المدارك، و الأكمل في الحدائق، و عن محكي الجعفي استحباب الغسل من نصف الذراع أو إلي المرفقين، و اقتصر جماعة علي الكفين، و لعله المنصرف من إطلاق اليدين في كلام جملة من الأصحاب، و لا سيما من ذكر أنه يكون قبل إدخال اليد في الإناء، لأن الاغتراف إنما يكون بالكف.

و لعله لذا نسبه للمشهور في المدارك.

أما النصوص، فهي مختلفة، حيث اقتصر في جملة ما تقدم و غيره علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 44 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 575

ثلاثا (1)،

______________________________

الكفين، و حدد في حديث يونس بنصف الذراع، و في صحيحي يعقوب و البزنطي بالمرفق، و إليه يرجع ما في حديث الأربعمائة، بل قد يرجع إليه قوله عليه السّلام في موثق سماعة: «و ليغسلهما دون المرفق» «1»، أو يحمل علي إرادة ما قارب المرفق، فيكون حدا رابعا. و يتعين الجمع باختلاف مراتب الفضل، كما جري عليه غير واحد علي اختلاف بينهم في عدد المراتب.

و في الجواهر: «و لو لا مخافة الخروج عن كلام الأصحاب لأمكن دعوي: أنه يتحصل من الأخبار أن استحباب غسل الكفين إنما هو من حيث مباشرة ماء الغسل، لمكان توهم النجاسة، و لذا كان في بعضها: أنه إن لم يكن أصاب كفه شي ء غمسها في الماء:. إلي آخره. و أما الغسل من المرفق، فهو مستحب من حيث الغسل، فيكون كالمضمضة مثلا».

لكن الخروج عن كلام الأصحاب لأجل النصوص ليس محذورا في المستحبات، لبنائهم علي التسامح فيها، و المهم عدم وفاء النصوص بما ذكره، لأن بعض نصوص الكفين ظاهر في استحباب غسلهما من حيثية الغسل مع قطع النظر عن إدخالهما في الإناء، كصحيحي محمد بن مسلم و زرارة، و بعض نصوص التحديد بالمرفق ظاهر في استحباب الغسل لأجل الإدخال، كصحيحي يعقوب و البزنطي، و لا مانع من استحباب كون الغسل المذكور للمرفق للاستظهار. مع أنه أهمل حديث يونس.

و ما أشار إليه من النص- و هو صحيح زرارة الأول- أجنبي عما نحن فيه، لوروده لنفي وجوب الغسل مع عدم القذر، لا لنفي استحبابه. فلا مخرج عن الجمع بين النصوص بما سبق.

(1) كما صرح به الأصحاب، و هو داخل في معقد إجماع الخلاف و المعتبر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 576

______________________________

و يقتضيه صحيح الحلبي المتقدم، و حديث حريز عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

يغسل الرجل يده من النوم مرة و من الغائط و البول مرتين، و من الجنابة ثلاثا» «1» و نحوه مرسل الصدوق.

و مقتضي الجمع بينها و بين المطلقات المتقدمة البناء علي اختلاف مراتب الفضل، لأن ذلك هو الأظهر في المستحبات، لعدم التنافي فيها بين المطلق و المقيد ليتعين التقييد، كما استقربه في الحدائق، و لا سيما مع قوة ظهور المطلق، لوروده في مقام التعليم.

نعم، الظاهر اختصاص أفضلية التثليث بالغسل لتجنيب الماء أثر الحدث، لاختصاص نصوصه بذلك، دون الغسل الذي هو من آداب الغسل.

و دعوي: استفادته فيه من حديث يونس، لا تخلو عن إشكال، لاحتمال اختصاص التثليث بغسل الميت، و كون التشبيه بغسل الجنابة في مقدار المغسول لا عدد الغسل، بأن يكون قوله عليه السّلام: «كما يغسل الإنسان من الجنابة» صفة أخري غير كونه ثلاثا، لا بدلا منه.

و أما إطلاق حديث حريز و مرسل الصدوق، فقد تقدم في الوضوء عدم نهوضه بالاستدلال.

ثمَّ إنه تقدم في الوضوء الكلام في بعض الفروع التي تجري في المقام، يغني الكلام فيها هناك عن الكلام فيها هنا.

هذا، و في جملة من النصوص المتقدمة و غيرها ذكر غسل الفرج ابتداء أو بعد غسل اليدين، قبل المضمضة و الاستنشاق، و لم أعثر علي من تعرض له في آداب الغسل إلا في النهاية، و قد يظهر من السرائر، حيث قال: «ثمَّ يغسل فرجه و ما يليه و يزيل ما لعله تبقي من النجاسة»، فإنّ فرض احتمال النجاسة قد يظهر في استحباب الغسل للاستظهار، لا وجوبه للتطهير.

و كأنّ إهمال المعظم له لأنهم فهموا من نصوصه إرادة التطهير من المني أو البول المأمور به في صحيح البزنطي المتقدم و غيره، كما يظهر من الفقيه و المقنع

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 577

ثمَّ المضمضة (1)

______________________________

و الهداية، حيث عبر فيها بالاستنجاء.

و قد يناسبه التعبير في بعض النصوص بالإنقاء، كصحيح زرارة الأول و غيره «1».

إلا أنّ الاكتفاء بذلك في الخروج عن ظاهر الأمر في النصوص الأخر لا يخلو عن إشكال، و لا سيما مع ما تكرر منا من عدم صلوح بناء الأصحاب غالبا للقرينية في المستحبات.

(1) فقد صرح باستحبابها جماعة كثيرة من القدماء و المتأخرين، و نفي في السرائر الخلاف فيه، و ادعي في الخلاف و المنتهي و المدارك و ظاهر المعتبر و محكي نهاية الاحكام الإجماع عليه.

و لا ينافيه عدم ذكرها في المقنع و محكي الكافي، إذ قد لا يتعلق الغرض باستيفاء المندوبات.

و يقتضيه غير واحد من النصوص، كصحيح زرارة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الجنابة. فقال: تبدأ فتغسل كفيك ثمَّ تفرغ بيمينك علي شمالك فتغسل فرجك، ثمَّ تمضمض و استنشق، ثمَّ تغسل جسدك» «2».

و قريب منه في ذلك حديث أبي بصير «3» و موثق سماعة: «سألته عنهما، فقال: هما من السنّة، فإن نسيتهما لم يكن عليك إعادة» «4».

و هي محمولة علي الاستحباب، للإجماع المذكور، و للنصوص، كحديث

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 578

ثلاثا (1)، ثمَّ الاستنشاق ثلاثا (2)،

______________________________

عبد اللّه بن سنان: «قال أبو عبد اللّه: لا يجنب الأنف و الفم، لأنهما سائلان» «1». و مرسل الواسطي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الجنب يتمضمض و يستنشق؟ قال: لا، إنما يجنب الظاهر» «2» و غيرهما.

هذا، و تأخير المضمضة و الاستنشاق عن غسل اليدين هو مقتضي كلام جماعة، و تقتضيه بعض النصوص المتقدمة. و أطلق في الغنية و الوسيلة و المراسم و المعتبر و الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد و الدروس و غيرها، بل في المراسم أخّر غسل اليدين في الذكر.

(1) كما في المقنعة و النهاية و السرائر و الوسيلة و التذكرة و المنتهي و عن الذكري و البيان و غيرها.

و لم نعثر علي ما يدل عليه عدا الرضوي: «و قد روي: أن يتمضمض و يستنشق ثلاثا. و روي: مرّة مرّة يجزيه. و قال: الأفضل الثلاثة. و إن لم يفعل فغسله تام» «3».

و إلا فمقتضي الإطلاقات الاجتزاء بالمرة، و لا سيما ما ورد في مقام التعليم، كصحيح زرارة و حديث أبي بصير. و لعله لذا أطلق جماعة، كما في المبسوط و الخلاف و الغنية و إشارة السبق و المراسم و الشرائع و النافع و المعتبر و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و غيرها.

(2) الكلام فيه هو الكلام في سابقة. و قد صرح في التذكرة و المنتهي و غيرهما باستحباب الترتيب بين المضمضة و الاستنشاق.

و مقتضي إطلاق جماعة كثيرة عدمه. و هو الذي يقتضيه إطلاق النصوص.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) مستدرك الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 579

و إمرار اليد علي ما تناله من الجسد (1)،

______________________________

و الترتيب بينهما في الذكر لا يقتضي استحباب الترتيب، فضلا عن شرطيته- كما سبق عن بعضهم في الوضوء- و لا سيما مع احتمال كونه للترتيب الطبعي بينهما، للتنزه عن قذر الأنف، كما تقدم نظيره في الوضوء، و تقدم بعض الفروع التي تتعلق بالمقام.

(1) قال في السرائر: «و إمرار اليد عندنا غير واجب، بل مستحب»، و في المعتبر: «و إمرار اليد علي الجسد مستحب، و هو اختيار فقهاء أهل البيت عليهم السّلام»، و في المنتهي: «إمرار اليد ليس بواجب في الطهارتين لكنه مستحب، و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام»، و في التذكرة- في تعداد المستحبات-: «الرابع: إمرار اليد علي الجسد، و ليس واجبا، ذهب إليه علماؤنا أجمع».

و كلامهم- كما تري- يعم جميع البدن و لا يختص بما تنال اليد منه، كما في المتن.

أما النصوص، فهي مختلفة في ذلك، و هي:

موثق عمار: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل و قد امتشطت بقرامل و لم تنقض شعرها، كم يجزيها من الماء؟ قال: مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها و حفنتان علي اليمين و حفنتان علي اليسار، ثمَّ تمر يدها علي جسدها كله» «1».

و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «أنه سأله عن الرجل يجنب، هل يجزيه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتي يغسل رأسه و جسده و هو يقدر علي ما سوي ذلك؟ فقال: إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك، إلا أنه ينبغي له أن يتمضمض و يستنشق و يمر يده علي ما نالت من جسده.» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 26.

ص: 580

______________________________

و الرضوي الوارد في بيان الغسل بصب الماء علي البدن: «ثمَّ تمسح سائر بدنك بيدك» «1».

و ما عن الدعائم عنهم عليهم السّلام: «أنهم قالوا في الغسل من الجنابة:. ثمَّ يمر الماء علي الجسد كله، و يمر اليدين علي ما لحقناه [لحقتاه. ظ]، و لا يدع منه موضعا إلا أمرّ الماء عليه و أتبعه بيده، و بلّ الشعر و أنقي البشرة، و ليس في قدر الماء شي ء موقت، و لكنه إذا أتي علي البدن كله و أمرّ يديه عليه، و غسل ما به من لطخ و بلّ الشعر حتي يصل الماء إلي البشرة و توضأ قبل ذلك فقد طهره. و في صفة الغسل عن الأئمة عليهم السّلام روايات كثيرة هذا جماعها و تمام المراد فيها» «2».

لكن خبر الدعائم- مع اضطرابه- ظاهر في وجوب إمرار اليد و توقف الطهر عليه، فهو- لو صدر عنهم عليهم السّلام- محمول علي التقية كالأمر فيه بالوضوء.

و موثق عمار وارد في صورة صب حفنات معدودة علي مواضع خاصة لا يعلم معها بالاستيلاء الماء علي تمام البدن من دون إمرار اليد، خصوصا علي المواضع التي لا تنالها بنفسها.

فينحصر الدليل علي إمرار اليد علي تمام البدن بالرضوي.

اللهم إلا أن يستفاد من خبر علي بن جعفر بإلغاء خصوصية مورده عرفا، لارتكاز كون الغرض منه تبليغ الماء للبشرة و نفوذه في أعماقها، و حمل التخصيص علي ما تناله لأجل التسامح في المستحب، فلا يتكلف له بفعل ما يحتاج إلي عناية، فتأمل جيدا.

و أما تعليله في كلام غير واحد بالاستظهار، فلا يخلو عن إشكال، إذ لو أريد به استظهار المكلف فالمفروض علمه بوصول الماء للبشرة بدونه، و إلا كان واجبا و لو لكونه مقدمة علمية، و لو أريد استظهار الشارع حذرا من خطأ المكلف في اعتقاد وصول الماء بمجرد الصب فهو محتاج إلي دليل.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 7.

ص: 581

خصوصا في الترتيبي (1)، بل ينبغي التأكد في ذلك (2)، و في تخليل ما يحتاج إلي التخليل (3)،

______________________________

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في وجوب إمرار اليد مع توقف وصول الماء عليه ثبوتا أو إثباتا، و في عدم وجوبه بدونه، للإجماع المدعي ممن تقدم و من الخلاف و محكي الذكري، خلافا لما عن بعض العامة، و للنصوص الكثيرة المصرحة بالاكتفاء بجريان الماء و إمساسه و إفاضته و صبه «1»، حتي تضمن بعضها بقاء صفرة الطيب علي الجسد «2»، و غيرها.

(1) لا يخفي أنّ مورد خبر علي بن جعفر الغسل بالمطر، و مورد موثق عمار و الرضوي صورة الغسل بصب الماء القليل، دون ما إذا كان الماء المصبوب كثيرا يفيض علي البشرة، فضلا عن الغسل الترتيبي بالارتماس، و عن الغسل الارتماسي.

فالتعدي لها يبتني علي إلغاء خصوصية موارد النصوص، و هو غير ظاهر، لنفوذ الماء بوجه معتد به مع كثرته و استيعابه و لو مع عدم إمرار اليد.

(2) الظاهر أنّ المراد المبالغة في ذلك بالدلك و نحوه، و لم يتضح وجهه.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 582

نعم، لو أراد به التأكد من تحقق الإمرار في مقام الإثبات كان مطابقا للقاعدة، لكنه بعيد عن مساق كلامه جدا.

(3) كأنه ليتحقق الغرض من الإمرار به، لأن المبالغة في التخليل توجب شدة نفوذ الماء فيما تحت الحاجب. و إلا فقد عرفت ضعف التعليل بالاستظهار.

و لا مجال لاستفادته مما تضمن أمر النساء بالمبالغة في الماء و الغسل لرؤوسهن بسبب المشطة «3»، لظهوره في وجوب ذلك، لتوقف وصول الماء لبشرة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 1، 2.

ص: 582

و نزع الخاتم (1) و نحوه (2)، و الاستبراء بالبول قبل الغسل (3).

______________________________

الرأس ثبوتا أو إثباتا عليه، فيخرج عن محل الكلام.

(1) و لا يكتفي بتحريكه و إن تأدي به الواجب. لصحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال: حوّله من مكانه. و قال: في الوضوء تدره، فإن نسيت حتي تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «1»، فإنّ الأمر بتحويل الخاتم في الغسل و عدم الاكتفاء بتحريكه كما في الوضوء ظاهر في مطلوبية رفع الحاجب في الغسل و عدم الاكتفاء بتخليله.

لكنه موقوف علي وحدة الكلام، أما مع تعدده- كما هو الظاهر- فالأقرب حمل كل منهما علي بيان الفرد المجزئ، فلاحظ.

(2) مما يحيط بالبدن و يحتاج إلي التخليل كالعصابة، لإلغاء خصوصية الخاتم في الصحيح السابق، فتأمل.

هذا، و قد ذكر في المعتبر و المنتهي استحباب تخليل الأذنين مع وصول الماء إليهما معللا في الثاني بالاحتياط، كما أطلق في الشرائع و النافع استحباب تخليل ما يصل إليه الماء بدونه، معللا في الأول بالاستظهار، و حكم في التذكرة باستحباب تحريك الخاتم مع وصول الماء بدونه.

و يظهر حال ما ذكروه مما سبق.

(3) كما في السرائر و المعتبر و الشرائع و التذكرة و القواعد و غيرها، و نسبه في التذكرة إلي أكثر علمائنا، و في المدارك و الحدائق إلي المشهور بين المتأخرين، و يقتضيه إطلاق استحباب الاستبراء في الإرشاد و اللمعة، كما نسب للمرتضي في كلام غير واحد، بل للناصريات، لكن كلامه في الناصريات غير ظاهر في الاستحباب، بل في مجرد عدم الوجوب، كما هو المناسب لعدم ذكره له في جمل العلم و العمل في بيان غسل الجنابة، و لعدم ذكر الصدوق له في المقنع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 583

______________________________

و صرح بالوجوب في المبسوط و إشارة السبق و الغنية و المراسم و الوسيلة و محكي الجمل و العقود و المصباح و مختصره و الكامل و الإصباح و ظاهر الكافي و الجامع و المهذب و غيرها، كما حكي عن الجعفي، علي خلاف بينهم في الاقتصار علي البول، و التخيير بينه و بين الاجتهاد، و الجمع بينهما، و التنزل للثاني مع تعذر الأول، كما قد يستظهر من الأمر به في أمالي الصدوق و هدايته و ما حكاه في الفقيه عن رسالة أبيه و أقره، و في المقنعة و النهاية، بل نسبه في جامع المقاصد و محكي الذكري لمعظم الأصحاب، و ظاهر الغنية الإجماع عليه.

و جعله في الدروس و جامع المقاصد و محكي حاشية الشرائع و التنقيح أحوط.

و ظاهر الدروس إرادة الاحتياط بفعله لاحتمال التكليف به، لا لاحتمال شرطيته في الغسل، حيث حكم بأنّ من لم يستبرئ و خرج منه بلل مشتبه بعد الغسل فهو جنب من حين الرؤية، و يأتي الكلام في ذلك.

هذا، و قد أشار في كشف اللثام إلي إمكان انتفاء النزاع، بأن يكون مراد القائلين بالوجوب بطلان الغسل بخروج البلل المشتبه بدونه، فيكون الأمر به للإرشاد لحفظ الغسل من البطلان بعد صحته في قبال احتمال عدم بطلانه به، كما قد يظهر من بعضهم تبعا لبعض النصوص، لا لشرطيته في صحة الغسل رأسا.

و يناسبه تنبيه بعضهم للأثر المذكور، كما في المبسوط و المراسم و محكي المهذب و الجامع، بل لم يذكر في الاستبصار في باب وجوب الاستبراء من الجنابة بالبول إلا النصوص المتعرضة لهذا الأثر و النافية له، و من الظاهر أنه لا موضوع له مع بطلان الغسل رأسا، حيث يجب إعادته و لو لم يخرج البلل.

و منه يظهر قرب حمل الأمر به في الفقيه و الهداية و المقنعة و النهاية علي الاستحباب أو الإرشاد لتجنب بطلان الغسل واقعا بخروج المني المحتمل أو ظاهرا بخروج البلل المشتبه، لتنبيههم علي الأثر المذكور بنحو يظهر منه مفروغيتهم عن صحة الغسل بدونه.

ص: 584

______________________________

و من هنا يشكل وجود القائل من القدماء بالوجوب الوضعي الراجع لشرطيته في الغسل.

نعم، قد يحمل كلامهم لأجل ذلك علي الوجوب التكليفي، الذي اختاره في المستند، بل استبعد فيه حمل كلامهم علي الوجوب الشرطي، و استظهر في الجواهر حمله علي الوجوب التكليفي، قال: «بل يمكن ادعاء الإجماع علي الصحة، لما في المختلف بعد نقل القولين: أنّهم اتفقوا علي أنه لو أخل به حتي وجد بللا بعد الغسل، فإن علم أنه مني أو اشتبه عليه وجب الغسل، و إن علم أنه غير مني فلا غسل. انتهي. و نحوه غيره في استظهار ذلك»، و بالإجماع المحكي عن المختلف صرح في الخلاف.

لكن الإنصاف أنّ ذلك خلاف المنصرف من ذكرهم البول عند بيان الغسل، و سوقهم له في مساق شرائطه، كتطهير البدن من الخبث، و لا سيما مع ما في الاستبصار من الاستدلال علي الوجوب بالنصوص المشار إليها، و ما في المعتبر و أشار إليه في التذكرة من الاستدلال لعدم الوجوب بقوله تعالي وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا «1»، فإنّه إنما ينفي الوجوب الوضعي، لا التكليفي.

و ليس تنزيل كلامهم علي الوجوب التكليفي لأجل تعرضهم للأثر المذكور بأولي من تنزيله علي ما ذكرنا من الإرشاد لتجنب بطلان الغسل.

و كيف كان، فالذي يدل علي مطلوبية البول قبل الغسل صحيح البزنطي:

«سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن غسل الجنابة، فقال: تغسل يدك اليمني من المرفق [المرفقين] إلي أصابعك، و تبول إن قدرت علي البول، ثمَّ تدخل يدك في الإناء ثمَّ اغسل ما أصابك منه.» «2».

و مضمر أحمد بن هلال [3]: «سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول، فكتب:

______________________________

[3] تقدم في مبحث الماء المستعمل في صحة رفع الحدث الأكبر تقريب الاعتماد علي حديث أحمد ابن هلال.

______________________________

(1) سورة النساء: 43.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 585

______________________________

إن الغسل بعد البول، إلا أن يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل» «1».

و الرضوي: «إذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد أن تبول حتي تخرج فضلة المني في إحليلك، و إن جهدت و لم تقدر علي البول فلا شي ء عليك» «2».

و لا يخفي أنّ منصرف الصحيح عدم كون مطلوبية البول تكليفية، بل بلحاظ دخله في الجملة في الغسل المسؤول عنه، كما هو الظاهر من المضمر، لجعله حدا للغسل بنحو يصح نفيه بدونه، كما هو المناسب للتنبيه فيه علي عدم الإعادة مع النسيان.

كما أنّ ذلك هو المنصرف من الرضوي، لوروده في مقام بيان الغسل الذي يريده المكلف، بل التعليل فيه مناسب ارتكازا لإرادة الإرشاد لتجنب بطلان الغسل بخروج المني المحتمل بقاؤه، دون الوجوب الوضعي، فضلا عن التكليفي.

و منه يظهر ضعف ما في المستند من الاستدلال بالرضوي، مدعيا انجباره بالشهرة بين القدماء و الإجماع و الشهرة المحكيين في الذكري و الغنية.

مضافا إلي ما سبق من عدم ظهور كلمات القدماء في الوجوب التكليفي.

و لو سلم، فلا مجال لدعوي انجباره بذلك، لقرب عدم اعتمادهم عليه، لعدم معروفيته بينهم.

و مجرد مطابقة بعض عباراته لعبارات رسالة الصدوق الأول لا تكشف عن اعتماده عليه، لاحتمال كونه كتاب فتاوي مشتمل علي الروايات.

مع أنّ اعتماد الصدوق وحده لا يكفي في جبر الضعف، و لا سيما مع قرب عدم إرادته الوجوب الشرطي أو التكليفي، بل الإرشادي، كغيره ممن سبق.

هذا، و أما الوجوب الوضعي، فهو مقتضي الجمود علي الصحيح و المضمر، لو لا اشتمال الأول علي التقييد بالقدرة علي البول، و الثاني علي عدم الإعادة

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 12.

(2) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب كيفية الغسل من الجنابة حديث: 2.

ص: 586

______________________________

بنسيانه، فإنّ المناسب للشرطية تأخير الغسل حتي يتأتي البول، لا سقوطها بالعجز عنه حين الغسل، كما لا يعهد سقوط شروط الغسل و غيره من الطهارات بنسيانه، بل لم يستند أحد من القائلين بوجوب البول.

و من هنا يقرب حملهما علي الاستحباب، أو الإرشاد لتجنب بطلان الغسل واقعا بخروج المني المحتمل، أو ظاهرا بخروج البلل المشتبه.

بل هو المتعين بلحاظ النصوص الواردة في بيان فائدة البول، لظهورها في المفروغية عن عدم إعادة الغسل قبل خروج البلل و لو مع عدم البول، فلاحظ.

بقي في المقام أمور.

الأول: أشرنا آنفا إلي اختلاف القائلين بالوجوب في الاقتصار علي البول، و التخيير بينه و بين الاجتهاد، و الجمع بينهما، و التنزل للثاني مع تعذر الأول، كما أنّ القائلين بالاستحباب اختلفوا علي هذه الوجوه أو بعضها، بل اقتصر في المنتهي علي الاجتهاد، و هو غريب.

و لا يسعنا استقصاء كلماتهم، إلا أنّ المهم خلو ما عدا الأول- و هو الاقتصار علي البول- عن الدليل، لاختصاص النصوص المتقدمة بالبول.

نعم، لو كانت مطلوبية البول للتخلص من فضلة المني في المجري أمكن استفادة استحباب الاجتهاد مع تعذر البول، بلحاظ وفائه بالغرض المذكور و لو ببعض مراتبه.

كما أنه لا يبعد كون مراد من جمع بين البول و الاجتهاد الاستبراء من البول لا من المني، بلحاظ ما تقدم في آداب التخلي من تصريح جملة منهم بمطلوبية الاستبراء من البول، فيكون من آداب البول، لا من آداب الغسل، كما هو ظاهر بعضهم، كالغنية.

و إلا كان مقتضي إطلاقهم تأدي الوظيفة بالاستبراء بالخرطات من المني ثمَّ البول، و يبعد التزامهم به.

هذا، و في ترتب أثر البول علي الاستبراء من المني بالخرطات كلام يأتي في

ص: 587

______________________________

المسألة الثامنة و العشرين إن شاء اللّه تعالي.

الثاني: خص في القواعد و غيره استحباب البول بالمنزل، و في الجواهر: «و به صرح جماعة و نسب للمشهور»، و هو مخالف لإطلاق الصحيح و المضمر، و لا ينافيه الرضوي، لأن اختصاص التعليل فيه بالمنزل إنما يوجب قصوره، و لا ينافي عموم الاستحباب لعلة اخري، علي أنّ ضعفه مانع من صلوحه للتقييد.

و دعوي: أنّ قوله عليه السّلام في الصحيح: «ثمَّ اغسل ما أصابك منه» ظاهر في فرض خروج المني و إصابته للجسد.

مدفوعة: بقرب رجوع الضمير للبول المصرح به، لا للمني غير المذكور ليكشف عن فرضه.

فالظاهر ابتناء التقييد في كلامهم علي أنّ الغرض من البول تنقية المجري من المني، كما هو المصرح به في كلام غير واحد.

و هو- و إن كان قريبا في نفسه- محتاج إلي دليل، لإمكان كون الغرض التخلص من الخبث و التهيؤ لبقاء الطهارة.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يقتضي البول عند إرادة الغسل، كما تضمنه الصحيح، لا تأخير الغسل عن البول، و لو كان الفاصل بينهما طويلا، كما هو مقتضي إطلاق المضمر، بل المناسب للإطلاق المذكور كون الغرض تنقية المجري.

بل لما لم يشتمل المضمر علي بيان الحكم ابتداء، بل بعد السؤال، الذي لا بد فيه من مثير للشبهة في نفس السائل، فمن القريب جدا أن يكون المثير له خصوص احتمال دخل تنقية المجري في صحة الغسل أو في بقائه بعد خروج البلل، لأنه الأمر الارتكازي، و لو بسبب النصوص الكثيرة الواردة في فائدة البول، و مذاهب العامة فيه، حيث لا يتأمل بعد النظر فيها في كونها منشأ للسؤال.

بل لعل ذلك صالح لانصراف الصحيح أيضا، كما يظهر منهم.

و أما ما عن الذخيرة من منع انتفاء الفائدة المذكورة، إذ قد ينزل المني و لم يطلع عليه أو احتبس شي ء في المجاري، لكون الجماع مظنة نزول الماء.

ص: 588

______________________________

فهو كما تري، إذ بعد التسليم بكون فائدة البول تنقية المجري ينصرف النص للمنزل، فلا طريق لإثبات الاستحباب لغيره. و تشريع استحباب البول للاستظهار يحتاج إلي دليل، و إنما يصلح ما ذكره لتوجيه العموم، لو تمَّ الدليل عليه.

نعم، لو احتمل المكلف خروج المني، حسن منه البول احتياطا لاحتمال استحبابه.

و لعله إليه يرجع ما عن البيان و احتمله في محكي الذكري من الاستحباب مع احتمال الإنزال.

و كأنّ ما في الروض من منع الاستحباب راجع إلي عدمه ظاهرا، لعدم المحرز له، و إن كان محتملا.

الثالث: صرح باختصاص مطلوبية البول قبل الغسل بالرجل في المبسوط و الغنية و إشارة السبق و الوسيلة و المراسم [1] و السرائر و التذكرة و القواعد، و هو ظاهر الهداية و ما حكاه في الفقيه عن رسالة أبيه و أقره، و الشرائع و المعتبر و غيرها مما هو كثير.

و صرح بالعموم للمرأة في المقنعة و النهاية و محكي النفلية، و قد يستفاد ممن أطلق كالمتن و غيره، إن لم نقل بانصرافه للرجل، لما يأتي.

و هو مقتضي إطلاق المضمر و إن ورد في الرجل، لأن المورد لا يخصص الوارد. و لا ينافيه الصحيح، لأن وروده في الرجل لا يدل علي الاختصاص به، بل كثيرا ما تلغي خصوصيته في النصوص. و لا الرضوي، لما سبق في غير المنزل.

و كأنّ مبني التقييد في كلام من عرفت ما سبق من كون الغرض من البول تنقية المجري من المني، و هو لا يتم في المرأة، لاختلاف المخرجين، كما ذكره غير واحد.

و أما احتمال أنّ اختلافهما لا ينافي كون خروج البول موجبا لتنقية مجري المني منهما، لضغطه عليه.

______________________________

[1] كما في المطبوع منه. لكن حكي في مفتاح الكرامة عن بعض نسخه التعميم للمرأة، و لا يناسبه مساق كلامه.

ص: 589

مسألة 28 الاستبراء بالبول ليس شرطا في صحة الغسل

مسألة 28: الاستبراء بالبول ليس شرطا في صحة الغسل (1)، لكن إذا تركه و اغتسل ثمَّ خرج منه بلل مشتبه بالمني (2).

______________________________

فهو- مع بعده في نفسه- لا ينافي انصراف النص عن المرأة، للغفلة عن ذلك عرفا، و مع انصرافه لا مجال لإثبات العموم لها، و إنما يصلح ذلك لتوجيه العموم لها بعد فرض ظهور النص فيه.

هذا كله مع إنزالها، أما مع عدمه فالكلام يبتني علي ما تقدم.

(1) لما تقدم في وجه عدم وجوبه وضعا.

(2) أما لو علم بكونه منيا، فلا إشكال في وجوب الغسل مطلقا، و تكرر نقل الإجماع عليه في كلماتهم، و في الجواهر: «عليه الإجماع محصلا فضلا عن المنقول، خلافا لبعض العامة».

و يقتضيه ما دل علي عموم ناقضية خروج المني، و أنّ المعيار فيه علي الخروج عن باطن البدن، لا عن محل تكونه، و قد تقدم.

كما لا إشكال في عدم وجوب الغسل مطلقا لو علم أنّ الخارج ليس منيا و لا مستصحبا لشي ء منه، لعدم الموجب له.

و النصوص الآتية ظاهرة في أنّ وجوب الغسل بخروج البلل مع عدم البول قبله ظاهري، لاحتمال خروج المني، لا واقعي، لناقضية البلل رأسا في قبال المني.

و أما لو علم بعدم كونه منيا لكن احتمل استصحابه لشي ء من المني، فقد يظهر من السيد المرتضي قدّس سرّه في الناصريات عدم وجوب الغسل به و لو مع عدم البول قبل الغسل، لأنه إنما أوجب حينئذ إعادة الغسل بالبول إذا خرج معه مني مشاهد، و إليه ذهب في الجواهر و سيدنا المصنف قدّس سرّه بل قال قدّس سرّه: «يظهر من نفي غير واحد الإشكال في وجوب الوضوء لو علم كون الخارج بولا الاتفاق عليه».

خلافا لما يظهر من كشف اللثام، حيث قال: «لاتفاق الكل علي أنّ الخارج من

ص: 590

______________________________

غير المستبرئ إذا كان منيا أو اشتبه به لزمته إعادة الغسل، و لا شبهة في بقاء أجزائه في المجري إذا لم يستبرئ، فإذا بال أو ظهر منه بلل تيقن خروج المني أو ظنه، فوجبت إعادة الغسل»، كما قد يستظهر من كل من علل وجوب الغسل ببقاء شي ء من المني في المجري، و أنّ الظاهر خروجه.

و كيف كان، فالظاهر عدم وجوب إعادة الغسل في الفرض، لضعف التعليل المذكور، لأن عدم البول إنما يستلزم غالبا احتمال بقاء المني في المجري، لا الظن به، فضلا عن اليقين، كما أنه لا بد من إقامة الدليل علي حجية الظهور المذكور بنحو يخرج به عن مقتضي الأصل.

و أما النصوص الآتية، فالظاهر قصورها عما نحن فيه- بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه لا ينبغي التأمل فيه- لظهور أنّ المراد من البلل فيها ما يشتبه نوعه، لا ما يعلم نوعه و يحتمل ناقضيته لاستصحابه للناقض.

و يظهر وجهه مما تقدم في نظيره في آخر فصل كيفية الاستبراء من البول، كما تقدم هناك بعض الفروع التي يجري نظيرها في المقام، فراجع.

و أما الاستدلال علي وجوب الغسل هنا بمضمر أحمد بن هلال المتقدم:

«سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول، فكتب: إنّ الغسل بعد البول، إلا أن يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل» «1».

بدعوي: رجوع الضمير في «منه» إلي البول الذي بعد الغسل المستفاد ضمنا من فرض الغسل قبل البول، فيدل علي وجوب الغسل بالبول بعد الغسل مع تركه قبله عمدا لا نسيانا، و ما ذلك إلا لأجل لزوم استصحابه لأجزاء منوية أو احتماله.

ففيه: أنّ الظاهر رجوع الضمير المذكور إلي ترك البول قبل الغسل المذكور صريحا في السؤال. و من ثمَّ تقدم ظهوره بدوا في بطلان الغسل بذلك رأسا.

و مثله الاستدلال بصحيح محمد بن مسلم: «قال أبو جعفر عليه السّلام: من اغتسل

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 12.

ص: 591

جري عليه حكم المني ظاهرا، فيجب الغسل له (1)

______________________________

و هو جنب قبل أن يبول ثمَّ وجد بللا فقد انتقض غسله، و إن كان بال ثمَّ اغتسل ثمَّ وجد بللا فليس ينقض غسله، و لكن عليه الوضوء، لأن البول لم يدع شيئا» «1».

بدعوي: أنّ مقتضي التعليل فيه كون وجوب الغسل لاحتمال خروج المني، و هو حاصل في مفروض الكلام.

لاندفاعه: بأنّ التعليل مسوق لعدم وجوب الغسل بخروج البلل علي من بال قبل الغسل، لا لوجوبه به علي من لم يبل، ليتمسك بعمومه. غاية ما يدل عليه التعليل كون المفروض في وجوب الغسل مع عدم البول عدم العلم بنقاء المجري من المني، من دون أن يتضمن عموم وجوبه مع ذلك، بل هو مختص بخروج البلل، الذي ذكرنا انصرافه إلي ما لا يعلم نوعه.

و بالجملة: الظاهر اختصاص وجوب الغسل بالبلل المشتبه نوعه.

نعم، لا فرق بين كون الاشتباه بعد الفحص عنه و بدونه، لتعذره أو لتعمد تركه، لإطلاق النص و الفتوي.

(1) كما صرح به جمهور الأصحاب، و في المدارك أنه المعروف من مذهبهم، و نفي في السرائر الخلاف فيه، و ادعي في الخلاف، و جامع المقاصد و كشف اللثام و محكي العلامة و الشهيد الإجماع عليه، و إن كان المتيقن من معقده فيما عدا الخلاف ترك البول و الاستبراء معا، و في الجواهر أنّ عليه الإجماع المحصل و المنقول.

للنصوص الكثيرة الدالة عليه بمنطوقها أو مفهومها، كصحيح محمد بن مسلم المتقدم، و صحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يغتسل ثمَّ يجد بعد ذلك بللا و قد كان بال قبل أن يغتسل، قال: ليتوضأ، و إن لم يكن بال قبل الغسل فليعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 592

______________________________

الغسل» «1» و غيرهما.

نعم، يعارضها خبر جميل، الذي لا يخلو سنده عن اعتبار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيبه الجنابة فينسي أن يبول حتي يغتسل ثمَّ يري بعد الغسل شيئا، أ يغتسل أيضا؟ قال: لا قد تعصرت و نزل من الحبائل» «2».

و خبر عبد اللّه بن هلال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجامع أهله ثمَّ يغتسل قبل أن يبول ثمَّ يخرج منه شي ء بعد الغسل، قال: لا شي ء عليه، إنّ ذلك مما وضعه اللّه عنه» «3».

و خبر زيد الشحام عنه عليه السّلام: «سألته عن رجل أجنب ثمَّ اغتسل قبل أن يبول ثمَّ رأي شيئا، قال: لا يعيد الغسل ليس ذلك الذي رأي شيئا» «4».

و مرسل الفقيه و المقنع «5» الآتي.

و قد يجمع بينها و بين النصوص الأول.

تارة: بحمل تلك النصوص علي الاستحباب، كما يظهر من الصدوق في الفقيه، لقوله بعد ذكر صحيح الحلبي: و روي في حديث آخر: «إن كان قد رأي بللا و لم يكن بال فليتوضأ، و لا يغتسل، إنما ذلك من الحبائل». قال مصنف هذا الكتاب:

إعادة الغسل أصل و الخبر الثاني رخصة. و نحوه في المفاتيح، و ربما مال إليه الأردبيلي فيما حكي عنه، و قد يظهر من المقنع، لأنه أشار للمرسل المذكور.

و اخري: بحمل هذه النصوص علي النسيان، بقرينة خبر جميل و مضمر أحمد بن هلال المتقدم.

و ثالثة: بحملها علي تعذر البول أو علي الاستبراء أو عليهما.

و يندفع الأول بإباء خبر جميل عن ذلك، لظهور ذيله في إحراز عدم كون

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 13.

(4) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 14.

(5) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 2، 4.

ص: 593

______________________________

الخارج منيا و أنه من الحبائل، بنحو لا يحتاج للاحتياط و لو استحبابا، و لا يناسب تلك النصوص، خصوصا صحيح محمد بن مسلم الظاهر في أنّ إحراز عدم كون الخارج منيا يستند للبول، بل مضمون خبر جميل لا يخلو في نفسه عن إشكال، لعدم ظهور المنشأ للحكم بكون الخارج من الحبائل.

و أما بقية هذه النصوص، فضعفها مانع من صلوحها لصرف النصوص الأول عن ظهورها في الوجوب.

كما يندفع الثاني بإباء ذيل خبر جميل أيضا عن خصوصية النسيان في عدم وجوب الغسل، لعدم دخله في كون الخارج من الحبائل. و مضمر أحمد بن هلال أجنبي عما نحن فيه، لظهوره في شرطية البول للغسل و بطلانه بدونه رأسا و لو لم يخرج البلل، كما تقدم.

فيكون الجمع المذكور بلا شاهد، كالجمع بالوجه الثالث.

و من هنا لا مجال لرفع اليد بهذه النصوص عن النصوص الأول، التي هي صحيحة السند، و كثيرة العدد، و معول عليها بين الأصحاب، و لا سيما مع عدم ظهور عامل بالنصوص الأخيرة غير من عرفت، مع أنّ الصدوق نفسه قد اقتصر في الهداية علي مضمون النصوص الأول.

و لذا قد توهن النصوص الأخيرة بإعراض الأصحاب.

هذا، و أما ما تضمنه مرسل الفقيه و المقنع من الأمر بالوضوء، فهو لا يناسب التعليل فيه بأنه من الحبائل، إلا أن يحمل علي الاستحباب، بناء علي استحباب الوضوء من الحبائل، كالمذي و نحوه.

بقي في المقام أمور.

الأول: أنّ النص و الفتوي قد تضمنا الأمر بالغسل، و هو يكون.

تارة: لأمارية عدم البول علي كون الخارج منيا.

و اخري: لأصالة كونه منيا مع عدم البول من دون أن يكون أمارة عليه.

و ثالثة: لمجرد الاحتياط، لاحتمال كون الخارج منيا.

ص: 594

______________________________

و ظاهر غير واحد من الأصحاب الأول، لدعوي: لزوم بقاء شي ء من المني في المجري أو غلبة ذلك.

لكنه كما تري! لقوة احتمال خروج ما تبقي من المني بطول المدة أو شدة الحركة أو نحوهما، كما تقدم نظيره في الاستبراء من البول.

كما أنّ الثالث لا يناسب ظهور النص و الفتوي في كون الغسل المأمور به غسل جنابة، و لذا كان ظاهر إطلاقها المقامي إجزاؤه عن الوضوء، بل هو مقتضي التعبير في صحيح محمد بن مسلم بناقضية البلل للغسل، لظهوره في التعبد بانتقاضه، لا في مجرد وجوب إعادته احتياطا.

و حيث كان التعبد بالانتقاض ملازما عرفا للتعبد بكون الخارج منيا ناقضا، كان الظاهر هو الوجه الثاني.

و عليه يترتب نجاسة البلل الخارج و نحوها من أحكام المني.

الثاني: الظاهر عدم الإشكال بينهم في اختصاص وجوب الغسل بخروج البلل بالرجل المنزل، كما صرح به بعضهم، و يستفاد من تعليلهم له ببقاء شي ء من المني في المجري.

و يقتضيه انصراف النصوص إليه بسبب التعرض فيها للبول، لقضاء المناسبات الارتكازية بأنّ الغرض منه تنقية المجري التي تختص به، علي ما تقدم عند الكلام في استحباب البول، و صحيح سليمان بن خالد أو موثقه: «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول، فخرج منه شي ء. قال: يعيد الغسل. قلت: فالمرأة يخرج منها شي ء بعد الغسل؟ قال: لا تعيد. قلت: فما الفرق بينهما؟ قال: لأن ما يخرج من المرأة إنما هو ماء الرجل» «1».

الثالث: ظاهر الأصحاب، بل صريح جملة منهم أنّ خروج البلل ناقض للغسل، لا كاشف عن بطلانه، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده في ذلك بين أصحابنا، بل قد يظهر من بعضهم الإجماع عليه». و الوجه فيه: أنّ سبب الجنابة لمّا كان هو

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 595

______________________________

الخروج إلي الظاهر تعين تجددها بخروج البلل، و لا دليل علي اشتراط نقاء المجري في صحة الغسل و ارتفاع الجنابة.

مضافا إلي ظهور ترتيب وجوب الغسل في أكثر النصوص علي خروج البلل في كونه سببا له لا كاشفا عن سبقه، بل هو كالصريح من صحيح محمد بن مسلم المتضمن ترتب الانتقاض عليه.

و لا ينافيه التعبير في أكثر النصوص بإعادة الغسل، لعدم أخذ بطلان العمل في مفهوم الإعادة، بل هي لغة فعل الشي ء مرة بعد اخري، و إنما استعملت في عرف المتشرعة معه بلحاظ نحو علاقة بين الفعلين متقومة بعدم وفاء الأول بما قصد به، فيتدارك بالثاني، و هو حاصل في المقام، لأن غرض المكلف من الغسل الأول إزالة أثر الإنزال الأول من دون توقع لخروج البلل و مع الغفلة عن حكمه، فمع بطلانه بالبلل المتخلف من الإنزال لا يتحقق تمام ما قصد به، و لا يتدارك ذلك إلا بإعادة الغسل.

و يترتب علي ذلك صحة العمل المشروط بالطهارة- كالصلاة- إذا وقع بعد الغسل قبل خروج البلل.

إلا أنّ في السرائر أنه قد يوجد في بعض الكتب وجوب إعادة الصلاة، و حكاه في المنتهي عن بعض علمائنا في فرض كون الخارج منيا، و لم يعرف القائل بذلك.

و استدل له في المنتهي بأنّ هذا المني من بقايا الأول، فالجنابة واحدة لم تزل بالغسل الأول. و يظهر ضعفه مما تقدم.

و يظهر من السرائر دلالة بعض النصوص عليه، و كأنه صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شي ء، قال: يغتسل و يعيد الصلاة. إلا أن يكون بال قبل أن يغتسل فإنه لا يعيد غسله» «1».

لكن حيث لم يتضمن السؤال فرض وقوع الصلاة منه، فلا بد من كون

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 596

______________________________

التعرض لها في الجواب إما لقرينة في السؤال علي فرض وقوعها لم تصل إلينا، أو للتفضل منه عليه السّلام ببيان حكمها ابتداء في فرض وقوعها، و لا معيّن للثاني ليدعي أنّ مقتضي الإطلاق وجوب إعادتها مطلقا و لو وقعت قبل خروج البلل، بل يمكن الأول الذي لا يتم معه الإطلاق، لإجمال مفاد القرينة الدالة علي فرض وقوعها، إذ يحتمل فرض وقوعها بعد خروج البلل.

و دعوي: أنّ أصالة عدم القرينة تقضي بالأول.

مدفوعة: بأن الأول مخالف للأصل أيضا، لظهور كلام الإمام عليه السّلام في كون وجوب إعادة الصلاة كوجوب إعادة الغسل فعليا، لفعلية الصلاة، لا معلقا علي فعلها، كما يقتضيه الأول، فالأمر دائر بين مخالفة الظاهر في الجواب بحمله علي بيان حكم تعليقي لا فعلي، و اختفاء القرينة علي فرض الصلاة في السؤال، و لا معيّن للأول.

و لو تمَّ ظهور الرواية في الإطلاق، كان اللازم حمله علي الصلاة الواقعة بعد خروج البلل، لأجل ما سبق.

الرابع: مقتضي إطلاق نصوص المقام لزوم البناء علي كون الخارج منيا، و إن تردد بينه و بين البول و قطع بعدم كونه من الحبائل، فيكتفي به بالغسل له، كما هو مقتضي إطلاق الأكثر و صريح بعضهم، خلافا لما قد يظهر من الشهيد في محكي تمهيد القواعد من إطلاق لزوم الجمع بين الغسل و الوضوء مع التردد بين البول و المني.

و دعوي: أنه مقتضي العلم الإجمالي.

مدفوعة: بانحلال العلم الإجمالي بالتعبد بالتكليف في بعض أطرافه- كما حقق في الأصول- فينحل في المقام بالتعبد بكون الخارج منيا موجبا للجنابة و الغسل.

نعم، لو علم بنقاء المجري من المني قبل خروج البلل، و كان تردد البلل بين المني و البول لاحتمال إنزال جديد كان العلم الإجمالي منجزا، لقصور نصوص

ص: 597

______________________________

المقام عن التعبد بكون البلل منيا.

بل مقتضي التعليل في صحيح محمد بن مسلم المتقدم البناء علي عدمه، فلا ينحل العلم الإجمالي.

و كذا لو كان بال ثمَّ استبرأ بالخرطات، لأن البول أمارة علي عدم المني، و الاستبراء أمارة علي عدم البول فلا منجز لأحد طرفي العلم الإجمالي، بل يكون منجزا لكلا طرفيه.

و ربما يحمل إطلاق الشهيد المتقدم علي ذلك، و قد تقدم عند الكلام في فائدة الاستبراء من البول من مباحث أحكام الخلوة ما ينفع في المقام.

الخامس: لا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الغسل من البلل مع سبق البول، بل يبني علي عدم خروج المني، و قد ذكره الأصحاب قاطعين به، كما في مفتاح الكرامة، و تكرر نقل الإجماع عليه في كلامهم.

و يقتضيه- مضافا إلي الأصل- النصوص المتقدمة و غيرها.

و هي و إن اختصت بالبول قبل الغسل، إلا أنّ الظاهر عموم الحكم للبول المتأخر عنه لو خرج البلل بعده- بناء علي ما سبق من عدم وجوب الغسل بمجرد البول- لتنقيته للمجري من بقايا المني، فيدخل في العلة الارتكازية المصرح بها في صحيح محمد بن مسلم المتقدم.

و أما الوضوء، فلا إشكال أيضا في عدم وجوبه مع الاستبراء من البول، و في الجواهر: «حكي عليه الإجماع جماعة نصا و ظاهرا».

و تقدم وجهه في مباحث الخلوة.

و أما مع عدمه، فيجب علي المعروف من مذهب الأصحاب، و في الجواهر:

«بل يظهر من بعضهم دعوي الإجماع عليه، كما هو صريح بعضهم».

و يقتضيه أيضا ما تقدم في مباحث الخلوة، فإنّ المقام من صغريات ما تقدم هناك من وجوب الوضوء مع عدم الاستبراء من البول، كما صرح به في مفتاح

ص: 598

كالمني، سواء استبرأ بالخرطات لتعذر البول أم لا (1)،

______________________________

الكرامة، و عليه يحمل صحيح محمد بن مسلم المتقدم، و نحوه موثق سماعة «1» و حديث معاوية بن ميسرة «2».

لكن قد يظهر من المقنعة عدم وجوبه، لأنه بعد أن ذكر في آداب الغسل الاستبراء بالبول، فإن لم يتيسر فالاجتهاد بالخرطات قال: «و إذا وجد المغتسل من الجنابة بللا علي رأس إحليله أو أحس بخروج شي ء منه بعد اغتساله، فإنه إن كان قد استبرأ بما قدمنا ذكره من البول أو الاجتهاد فيه فليس عليه وضوء و لا إعادة الغسل، لأن ذلك ربما كان وديا أو مذيا».

و قد يظهر أيضا من الشيخ في الاستبصار حيث قال: «فأما ما يتضمن خبر سماعة و محمد بن مسلم من ذكر إعادة الوضوء، فمحمول علي الاستحباب. و يجوز أن يكون المراد بما خرج بعد البول و الغسل ما ينقض الوضوء، فحينئذ يجب عليه الوضوء»، و قريب منه في التهذيب معللا بأنه بعد تحقق الطهارة فلا يجب إعادتها إلا بدليل قاطع.

و لا وجه له بعد ما تقدم.

(1) كما هو ظاهر من أطلق وجوب الغسل مع عدم البول، كالصدوق في الهداية و الشيخ في الخلاف، مدعيا عليه الإجماع، و غيرهما، و حكاه في الجواهر عن جماعة من متأخري المتأخرين.

و يقتضيه إطلاق النصوص المتقدمة، المؤيد بعدم التنبيه للاستبراء بالخرطات في النصوص مع الحاجة له و الإشارة للعجز عن البول في صحيح البزنطي و غيره مما تقدم في استحباب البول قبل الغسل.

خلافا لظاهر المبسوط و الشرائع و النافع من عدم وجوب إعادة الغسل معه

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 9.

ص: 599

______________________________

مطلقا، و قد يظهر من الإرشاد، لأنه أطلق فيه الاستبراء.

و كأنه لدعوي الجمع بذلك بين النصوص المذكورة و النصوص الأخر المتقدمة الدالة علي عدم وجوب الغسل.

أو لدعوي: فهمه من نصوص الاستبراء بها من البول بإلغاء خصوصية البول عرفا، لما هو المرتكز من أنّ الغرض منها تنقية المحل الذي هو المطلوب هنا أيضا.

أو لشمول إطلاق تلك النصوص لما إذا تخلل خروج المني بين البول و الخرطات، فيكون مقتضاه عدم الاعتناء حينئذ بما خرج و إن بلغ السوق، كما في بعض النصوص «1»، بل يبني علي أنه من الحبائل، كما في آخر «2».

و الكل كما تري، لأن الجمع المذكور تبرعي، كما تقدم.

و تنقية الخرطات للمجري من البول لا تستلزم تنقيتها له من المني مع كونه أغلظ منه، و قد يختلف معه في بعض خصوصيات المجري، علي أنّ العلم بتنقيتها له من البول غير حاصل، و اكتفاء الشارع بها في تنقيته منه لا يستلزم اكتفاءه بها في تنقيته من المني.

كما أنّ إطلاق نصوص الاستبراء بالخرطات ظاهر في نفي احتمال البول، دون غيره من نواقض الوضوء، فضلا عن نواقض الغسل.

و لذا لا إشكال في الاعتناء باحتمال المني لو خرج بعد الخرطات و لم يستبرأ منه لا بالبول و لا بالخرطات. مع معارضته بإطلاق نصوص المقام الذي هو أقوي منه في مورد الاجتماع.

هذا، و قد قيد كفاية الخرطات بما إذا تعذر البول في المقنعة و المراسم و السرائر و التذكرة و القواعد و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و محكي الجامع و الذكري و البيان و غيرها، و نسبه في الحدائق لظاهر الأكثر، و في جامع المقاصد و محكي الذكري للأصحاب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 600

______________________________

و يظهر من بعضهم أنه مقتضي الجمع بين الطائفتين المشار إليهما من النصوص.

لكنه تبرعي كسابقه، بل هو أبعد منه، لما في التفصيل بين القدرة علي البول و العجز عنه من العناية التعبدية، حيث لا يفرق بينهما في تنقية الخرطات للمجري من المني.

و مثله ما في الروض و عن الذكري من الاستدلال له بقوله عليه السّلام في خبر جميل: «قد تعصرت و نزل من الحبائل» «1».

لأنه إن ابتني علي حمل التعصر فيه علي التعصر المخرج للبلل- كما هو الظاهر- فهو أجنبي عن الاستبراء، و إن ابتني علي حمله علي عصر المجري الذي هو عبارة عن الخرطات، فهو- مع بعده في نفسه، و لا سيما مع عدم الإشارة إليه في السؤال- لا يقتضي التقييد بحال تعذر البول، بل لعل ظاهر فرض نسيانه التمكن منه، و لا أقل من كونه كالصريح في عدم إحراز تعذره.

و مثلهما في الضعف ما في النهاية من الاكتفاء بتعذر البول في عدم وجوب الغسل بخروج البلل، و إن لم يستبرأ بالخرطات.

و في التهذيب أنه مقتضي الجمع بين نصوص وجوب الغسل و خبري عبد اللّه بن هلال و زيد الشحام المتقدمين في نصوص عدم وجوبه، و احتمله في الاستبصار. و هو كما تري تبرعي أيضا.

نعم، قد يستدل بقوله عليه السّلام في صحيح البزنطي المتقدم في استحباب البول عند الغسل: «و تبول إن قدرت علي البول» «2».

لكن عدم الأمر بالبول مع تعذره لا يستلزم عدم وجوب الغسل بخروج البلل المشتبه حينئذ.

هذا، و في الاستبصار الجمع بحمل نصوص عدم إعادة الغسل علي صورة

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 601

إلا إذا علم بذلك أو بغيره عدم بقاء شي ء من المني في المجري (1).

مسألة 29 إذا بال بعد الغسل و لم يكن قد بال قبله لم تجب إعادة الغسل

مسألة 29: إذا بال بعد الغسل و لم يكن قد بال قبله لم تجب إعادة الغسل، و إن احتمل خروج شي ء من المني مع البول (2).

مسألة 30 إذا دار أمر المشتبه بين البول و المني

مسألة 30: إذا دار أمر المشتبه بين البول و المني (3)،

______________________________

نسيان البول، بشهادة خبري جميل و أحمد بن هلال المتقدمين في نصوص عدم وجوب الغسل. و تقدم هناك المنع من ذلك، فراجع.

(1) لما أشرنا إليه آنفا من انصراف نصوص المقام عن التعبد بكون البلل منيا في الفرض، بل هي بصدد التعبد بخروج المني من المجري مع احتمال وجوده فيه، لأنه الذي يرفعه البول، فيتعين البناء في الفرض علي عدم خروج المني بإنزال جديد وفقا للأصل، بل لعموم التعليل في صحيح محمد ابن مسلم المتقدم.

نعم، قد يدعي عدم نقاء المجري من المني بالخرطات و نحوها لغلظه و لزوجته، و لا يرتفع إلا بالبول الغاسل للمجري.

و فيه: أنه لو سلم بقاء شي ء منه، فهو قد يستهلك في البلل الخارج لقلته، كما قد سبق أنه مع العلم بنوع البلل و عدم ناقضيته لا أثر لاحتمال اختلاطه بشي ء من المني، فلا بد في وجوب إعادة الغسل من احتمال بقاء شي ء معتد به من المني، ليحتمل كونه تمام الخارج أو بعضه بنحو لا يستهلك فيه، بل بنحو لا يصدق علي الخارج غيره و إن احتمل اختلاطه به، فلاحظ.

(2) لما تقدم في أول المسألة السابقة من عدم وجوب الغسل مع معرفة نوع الخارج و أنه غير ناقض للغسل و إن احتمل استصحابه لشي ء من المني.

(3) الظاهر أنّ مراده بالدوران بينهما ليس مجرد العلم الإجمالي بأحدهما، بل لا بد معه من الدوران بينهما بلحاظ التعبد الشرعي، لعدم تعبد الشارع بأحدهما، كما لو خرج البلل بعد الاستبراء من البول بالخرطات مع سبق خروج

ص: 602

فإن كان متطهرا من الحدثين وجب عليه الغسل و الوضوء معا (1)، و إن كان محدثا بالأصغر وجب عليه الوضوء فقط (2).

مسألة 31 يجزي غسل الجنابة عن الوضوء

مسألة 31: يجزي غسل الجنابة عن الوضوء (3) لكل ما اشترط به.

______________________________

المني أو بدونه، حيث يكون البول مانعا من التعبد بأنّ الخارج مني، و الخرطات مانعة من التعبد بكونه بولا، و كذا لو علم بدونهما بنقاء المجري من البول و المني معا، و احتمل نزول البول أو المني من مقرهما، حيث تقصر نصوص المقام عن التعبد بأحد الأمرين، كما ذكرناه غير مرة.

أما مع تعبد الشارع بأنه مني، كما لو خرج قبل الاستبراء منه بالبول، أو بأنه بول، كما لو خرج قبل الاستبراء منه بالخرطات، فينحل العلم الإجمالي و يكتفي بالاقتصار علي ما يقتضيه التعبد الشرعي من الوضوء أو الغسل، كما نبه له قدّس سرّه في مستمسكه، و تقدم منه في المتن في فائدة الاستبراء من البول بالخرطات من مباحث أحكام الخلوة، و تقدم منا هناك و هنا في التنبيه الرابع من تنبيهات فائدة الاستبراء من المني بالبول.

(1) كما هو مقتضي العلم الإجمالي بوجوب أحدهما من دون أن يجزئ عنه الآخر.

(2) لاستصحاب الحدث الأصغر و عدم الحدث الأكبر.

و لا مجال لاستصحاب كلي الحدث معه، علي ما تقدم عند الكلام في فائدة الاستبراء من البول بالخرطات من مباحث أحكام الخلوة، فراجع.

(3) كما صرح به الأصحاب من دون خلاف ظاهر بينهم، بل تظافرت دعوي نفي الخلاف فيه و الإجماع عليه من جملة منهم، كالشيخ و السيدين و الفاضلين و ابن إدريس و غيرهم. و في الجواهر: «للإجماع محصلا و منقولا، مستفيضا غاية الاستفاضة».

ص: 603

______________________________

و يقتضيه- مضافا إلي عمومات إجزاء الغسل عن الوضوء «1» - النصوص الكثيرة الواردة فيه، كقوله عليه السّلام في صحيح زرارة الوارد في بيان غسل الجنابة: «ليس قبله و لا بعده وضوء» «2».

و في المرسل عن محمد بن مسلم: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ أهل الكوفة يروون عن علي عليه السّلام أنه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة، قال: كذبوا علي علي عليه السّلام ما وجدوا ذلك في كتاب علي عليه السّلام قال اللّه تعالي وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» «3».

أما دلالة الآية المذكورة فيه، و التي استدل بها في الخلاف و المعتبر و غيرهما، فهي موقوفة علي كون الجملة المذكورة استثناء من الأمر بالوضوء لمن يقوم للصلاة، لا لبيان واجب آخر معه في حق الجنب، و لا قرينة علي أحد الأمرين في الآية.

نعم، لا يبعد انصراف قوله تعالي فَاطَّهَّرُوا للتطهر التام من الجنابة دون الناقص، فمع فرض كون المراد به الغسل- كما نسبه في المعتبر لإجماع المفسرين- يكون مقتضاه ارتفاع تمام أثر الجنابة بالغسل، و حيث تضمنت الأدلة أنّ الجنابة من نواقض الوضوء، كان مقتضاه إجزاؤه عنه، و خصوصية الانتقاض الحاصل منها غير دخيلة في إجزائه إجماعا.

مضافا إلي أنّ الاقتصار في ذيل الآية الشريفة علي التيمم الواحد مع الجنابة مشعر بعدم الحاجة معها إلا إلي طهارة واحدة يكون ذلك التيمم بدلا عنها، فتأمل جيدا.

علي أنه يكفينا تفسيرهم عليهم السّلام المستفاد من الحديث الشريف، لو تمَّ سنده، لأنهم أعدال الكتاب و تراجمته.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 604

______________________________

كما أنه استدل في المعتبر و غيره بقوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا «1»، و دلالته موقوفة علي شمول الغاية لقرب الصلاة و عدم اختصاصها بالعبور في المساجد التي هي محالّ الصلاة.

و لا تظهر لنا فعلا القرينة علي أحد الأمرين. و قد تقدم بعض ما يتعلق بالآية عند الكلام في الاستدلال بها علي حرمة دخول الجنب للمسجد، فراجع.

هذا، و في كشف اللثام عن الشيخ قدّس سرّه: «و سمعت أنّ ظاهره- كما في المصباح و مختصره و عمل يوم و ليلة- الوجوب، و لعله لم يرده».

و لا ينبغي التأمل في عدم إرادته له، بعد ما عرفت، فليحمل علي الاستحباب، كما هو المناسب للكتب المذكورة، و الظاهر منه في التهذيب و الاستبصار، لأنه أكّد فيهما علي كونه المراد من صحيح أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته كيف أصنع إذا أجنبت؟ قال: اغسل كفك و فرجك و توضأ وضوء الصلاة ثمَّ اغتسل» «2».

لكن ظاهر غيره من الأصحاب عدم استحبابه، لعدم ذكرهم له في الوضوءات المستحبة و عدم تنبيههم لاستحبابه في المقام، بل هو صريح جماعة منهم، و في الروض و الرياض و عن المختلف و الكفاية و الذخيرة أنه المشهور.

و قد يستظهر من قوله في المنتهي: «لا يستحب الوضوء عندنا، خلافا للشيخ» انفراد الشيخ به عن الأصحاب، و لذا نسب عدم الاستحباب للأصحاب في محكي مجمع الفوائد، بل عن الدلائل: «الظاهر أنه اتفاقي، و ما ذكره الشيخ تأويلا لرواية الحضرمي فغير صريح في أنه مذهب له».

لكن الإنصاف قوة ظهور كلام الشيخ في البناء علي الاستحباب، كما يظهر من قول العلامة في التذكرة «من توضأ معتقدا أنّ الغسل لا يجزيه كان

______________________________

(1) سورة النساء: 43.

(2) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 605

______________________________

مبدعا» مشروعيته في الجملة و عدم كونه بدعة لو جي ء به مع اعتقاد إجزاء الغسل عنه.

و كيف كان، فالاستحباب هو الأنسب بالجمع بين الأدلة، و لا مجال مع ذلك لحمل صحيح الحضرمي علي التقية، و إن ذكره غير واحد.

و ما تضمنه بعض النصوص من أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة «1» - مع عدم منافاته للصحيح، لأنه تضمن تقديم الوضوء علي الغسل- لا يختص بغسل الجنابة.

و مثله قوله عليه السّلام: «و أي وضوء أطهر من الغسل» «2» و نحوه مما يظهر منه عدم مشروعية الوضوء مع الغسل، لعدم الفائدة فيه.

و أما حمل الطائفتين علي خصوص غسل الجنابة لما تضمنته بعض النصوص من مشروعية الوضوء في بقية الأغسال «3»، فليس هو بأولي من العكس للصحيح المذكور، بل قد يكون العكس أولي، لأنه أبعد عن كثرة التخصيص.

و أما الشهرة و عمل الأصحاب، فقد تكرر منا أنه لا أثر لهما غالبا في المستحبات و المكروهات.

فالأولي حمل هاتين الطائفتين علي بيان عدم وجوب الوضوء، و أنه إنما يكون بدعة إذا اتي به باعتقاد عدم إجزاء الغسل عنه، و إنما يكون غير مفيد بلحاظ الطهر الواجب.

نعم، بناء علي حمل ما تضمن الأمر بالوضوء في بقية الأغسال علي الاستحباب، فحيث استثني منه غسل الجنابة يكون ظاهرا في عدم استحبابه معه، فيعارض الصحيح المذكور و يتعين حمل الصحيح علي التقية، لموافقته للعامة.

اللهم إلا أن يجمع بينهما باختلاف مراتب الفضل، فالوضوء مع غير غسل الجنابة أفضل منه معه.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) راجع الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة.

ص: 606

مسألة 32 إذا خرجت رطوبة مشتبهة بعد الغسل

مسألة 32: إذا خرجت رطوبة مشتبهة بعد الغسل و شك في أنه استبرأ بالغسل أم لا، بني علي عدمه (1)، فيجب عليه الغسل (2).

مسألة 33 لا فرق في جريان حكم الرطوبة المشبهة بين أن يكون الاشتباه بعد الفحص و الاختبار

مسألة 33: لا فرق في جريان حكم الرطوبة المشبهة بين أن يكون الاشتباه بعد الفحص و الاختبار، و أن يكون لعدم إمكان الاختبار من جهة العمي أو الظلمة أو نحو ذلك (3).

______________________________

أو يحمل الصحيح علي كون الوضوء من آداب الغسل، كالمضمضة و الاستنشاق، لا مستحب أجنبي عنه، بخلاف الوضوء لغيره من الأغسال، فتأمل.

1) للاستصحاب.

(2) يعني: ظاهرا، لأنه الأثر الشرعي لعدم البول.

(3) لما تقدم منا في أول المسألة الثامنة و العشرين من أنه مقتضي إطلاق النصوص.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أنّ مثل التعريض للضياء لا يعد فحصا، فيجب و لا يجوز بدونه البناء علي مقتضي التعبد الظاهري، كما يجب في سائر موارد الرجوع للأصول في الشبهات الموضوعية، و إن اشتهر عدم وجوب الفحص فيها، و الذي لا يجب فيها هو الفحص بالمقدار المعتد به.

ففيه: أنّ الفحص لم يؤخذ بعنوانه في الأدلة كي يهتم بتحقيق صدقه في المقام، بل ليس موضوعها، بقرينة كون التعبد ظاهريا، إلا الشك الحاصل بدون الفحص المذكور في المقام و نحوه من موارد الشبهات الموضوعية.

بل وجوب الفحص المذكور مما لا تناسبه أدلة كثير منها، كأصالة الطهارة و قاعدة اليد و غيرهما.

و منه يظهر عدم وجوب الفحص بالمقدار المذكور حتي مع القدرة عليه، و الظاهر أنّ ذكر عدم التمكن من الاختبار في المتن ليس للتقييد.

ص: 607

مسألة 34 لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل أتمه و توضأ

مسألة 34: لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل أتمه و توضأ (1).

______________________________

(1) كما في الشرائع و النافع و المعتبر و الروضة و المدارك و المفاتيح و كشف اللثام، و مال إليه البهائي في الحبل المتين و حكاه عن والده، كما حكاه في المبسوط عن بعض أصحابنا، و في المعتبر و غيره عن المرتضي، كما حكي عن اليوسفي و صاحب المعالم و الأردبيلي و الشيخ نجيب الدين و غيرهم.

أما الإتمام و عدم البطلان، فهو مقتضي إطلاق ما دل علي وجوب غسل الجنابة، لأنه و إن لم يرد لبيان كيفية الغسل بل وجوبه، إلا أنّ الغسل لغة لما كان هو غسل تمام البدن، و كان غسل الجنابة معهودا عند العرف قبل الإسلام و لم يكن من مخترعات هذه الشريعة المأخوذة منها، كان مقتضي الإطلاق اللفظي و المقامي الاكتفاء فيه بما هو المعروف عند العرف المعهود للناس، و كل شرط زائد عليه محتاج للبيان، و لا أثر لأسباب الحدث الأصغر فيه، لأن الالتفات لتأثيرها تابع لحكم الشارع بوجوب الوضوء منها مع غفلة العرف عنه.

مضافا إلي إطلاقات النصوص الشارحة لغسل الجنابة، لظهورها في بيان تمام ما يعتبر في الغسل، لا خصوص أجزائه.

لكن ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه: أنها إنما تنفي احتمال المانعية، و الظاهر التسالم علي عدمها، و إنما الشك في كونه ناقضا لما وقع من أجزاء الغسل، كالحدث الأكبر الواقع في الأثناء أو بعد الإتمام، و النصوص البيانية الشارحة غير متعرضة لهذه الجهة.

و فيه: أنّ الناقضية في المقام إنما هي بالإضافة إلي طهارة الأجزاء الواقعة التي أشير إليها في مثل قوله عليه السّلام: «فما جري عليه الماء فقد طهر» «1» و قوله عليه السّلام: «و كل شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 608

______________________________

و أما الإضافة إلي رفع الجنابة المترتب علي طهارة مجموع الأجزاء، فالشك إنما هو في المانعية، لأن انتقاض طهارة ما وقع من الأجزاء مانع من ارتفاع الجنابة بإتمام الغسل.

و من الظاهر أنّ النصوص الشارحة واردة لبيان الغسل الرافع للجنابة ذي الآثار المعهودة، لا لبيان ما يحقق طهارة كل جزء جزء بنحو الانحلال، فعدم التعرض فيها لناقضية الحدث الأصغر في الأثناء لما وقع و مانعيته من ارتفاع الجنابة بإتمام الغسل ظاهر في عدمهما بمقتضي الإطلاق، و لذا لا ينبغي التأمل في صلوح النصوص المذكورة للاستدلال علي عدم ناقضية مثل الكلام في الأثناء.

و إنما لم يتعرض فيها للانتقاض بتخلل الحدث الأكبر لوضوحه بسبب عموم ناقضيته و وجوب الغسل له.

نعم، يتجه ما ذكره قدّس سرّه بالإضافة إلي النواقض المتأخرة عن تمامية الغسل، لعدم منافاتها لما وردت النصوص لبيانه، و هو الغسل التام الرافع للجنابة ذي الآثار المعهودة، و إنما توجب ارتفاعه بعد تحققه، و ليست النصوص واردة لبيان أمد بقائه.

و بالجملة: الظاهر نهوض الإطلاقات بالمطلوب، و هي معتضدة بما دل علي جواز تفريق الغسل، كصحيح حريز، و فيه- بعد الحكم بجواز إتمام الوضوء و إن جف-: «قلت: و كذلك غسل الجنابة؟ قال: هو بتلك المنزلة، و ابدأ بالرأس، ثمَّ أفض علي سائر جسدك، قلت: و إن كان بعض يوم؟ قال: نعم» «1» و صحيح إبراهيم بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إنّ عليا عليه السّلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة و يغسل سائر جسده عند الصلاة» «2».

و ما ورد في قصة أم إسماعيل «3»، لتوقع حصول الحدث الأصغر مع طول

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 4 و باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 609

______________________________

المدة، فلو كان مبطلا للغسل لكان التنبيه له مناسبا جدا، بل جعله في الجواهر كالصريح في المطلوب.

و إن كان الإنصاف عدم صلوحه للاستدلال، لوروده لبيان جواز التفريق، لا لبيان كيفية الغسل، ليكون له إطلاق من هذه الجهة.

نعم، لو كان عدم تخلل الحدث نادرا كان دالا علي المطلوب تبعا.

لكنه ليس كذلك قطعا، بل لعل المغتسل بطبعه الأولي يتحرز عن الحدث الأصغر، لما فيه من الإخلال ببعض فائدة الغسل، بل قد يتعمد المغتسل المحافظة عليه ليصلي به، كما قد يشعر به صحيح إبراهيم، فتأمل.

ثمَّ إنه قد تمسك سيدنا المصنف قدّس سرّه للمطلوب بأصالة عدم الانتقاض.

و يشكل بأنّ ذلك إن كان أصلا عقلائيا لا يبتني علي الاستصحاب، فهو ممنوع، لعدم وضوح بناء العقلاء عليه.

و إن أراد به استصحاب عدم الانتقاض، فمن الظاهر عدم أخذ الانتقاض موضوعا لأثر شرعي، ليصح استصحابه بلحاظه.

و إن رجع إلي استصحاب طهارة الأجزاء المغسولة، فالظاهر أنّ موضوع الأحكام هي الطهارة من الجنابة، التي هي قائمة بالمكلف و منوطة خارجا بطهارة بدنه بمجموعه، فليست طهارة الأجزاء موضوعا لأثر شرعي يصحح استصحابه.

و ليس مرجع موضوعية الطهارة من الجنابة للأحكام إلي موضوعية كل جزء من أجزاء البدن بنحو الانحلال، و مع قطع النظر عن غيره، ليصح استصحابه، كالطهارة من الخبث القائمة بأجزاء البدن، و التي كان اعتبارها انحلاليا راجعا إلي اعتبار طهارة كل جزء جزء، فيصح استصحاب طهارة الجزء مع قطع النظر عن غيره.

و دعوي: أنّ استصحاب طهارة الجزء من الحدث ليس بلحاظ أحكام الطهارة من الجنابة، بل بلحاظ نفس الطهارة من الجنابة، لترتبها علي طهارة أجزاء البدن بغسلها.

ص: 610

______________________________

مدفوعة: بأنّ الطهارة من الجنابة قد رتبت شرعا علي الغسل بنحو المجموع، لا علي طهارة أجزاء البدن المترتبة عليه بنحو الانحلال، بل هي مقارنة لطهارة الأجزاء أو مترتبة عليها خارجا لا شرعا.

و مثله ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من التمسك باستصحاب صحة الأجزاء السابقة، الذي هو بمعني ترتيب آثارها الشرعية الثابتة لها قبل عروض ما يشك في ناقضيته، و هي كونها مؤثرة في حصول الطهارة بشرط لحوق سائر الأجزاء بها.

إذ فيه: أنّ المستصحب إن كان نفس الأثر المذكور لم يجر الاستصحاب، لأنه تعليقي، و إن كان هو أمر فعلي يستتبع الأثر المذكور فلا نتعقله، و لا دليل عليه، إلا أن يرجع إلي طهارة الأجزاء التي عرفت حالها.

هذا كله في عدم بطلان الغسل بالحدث.

و أما وجوب الوضوء و عدم إجزاء الغسل المذكور عنه، فهو لإطلاق ما دل علي سببية أسباب الحدث الأصغر للوضوء، لشموله للسبب الواقع في أثناء الغسل، من دون فرق بين القول بوحدة الحدث- و أنه يستند لمجموع الأسباب مع تقارنها و لأسبقها وجودا مع تعاقبها- و القول بتعدده تبعا لتعدد السبب- و إن ارتفع الكل بالوضوء أو الغسل الواحد.

أما علي الثاني، فظاهر لعدم صلوح الغسل لرفع الحدث المتجدد في أثنائه، لاختصاص أدلة إجزاء الغسل عن الوضوء و رافعيته للحدث الأصغر بالغسل التام الواقع بعد الحدث الموجب للوضوء، دون بعض الغسل المتمم لما وقع منه قبله.

و أما علي الأول، فلأن السبب المتجدد و إن لم يؤثّر حدثا جديدا، لعدم ارتفاع الحدث السابق قبل إكمال الغسل، إلا أنّ المستفاد ارتكازا من أدلة ناقضية سبب الحدث لسبب الجنابة ناقضيته لجزء السبب أيضا.

بل يأتي من بعضهم دعوي أولويته منه في ذلك، و لذا لو وقع الحدث الأصغر في أثناء الوضوء أو الأكبر في أثناء الغسل أبطله بلا إشكال، و هو مقتضي إطلاق ما دل علي وجوب الوضوء بأسباب الحدث الأصغر و الغسل بأسباب

ص: 611

______________________________

الحدث الأكبر، لأن مقتضاه وجوب الوضوء و الغسل التأمين، لا إتمامهما، فإذا كان من شأن الحدث المذكور إيجاب الوضوء في المقام فلا غسل مجز عنه، لأن المجزي عنه هو الغسل التام، و المفروض وقوع بعض الغسل قبل تحقق سبب وجوب الوضوء، يتعين الوضوء، لانحصار الرافع به.

و منه يظهر ضعف ما في جواهر القاضي و في السرائر و جامع المقاصد و عن الداماد و الخراساني و الشيخ سليمان البحراني من عدم الحاجة للوضوء.

بدعوي: أنه بعد فرض صحة الغسل لما سبق يتعين إجزاؤه عن الوضوء.

حيث ظهر قصور دليل الإجزاء عن المقام.

و دعوي: أنه لما لم ترتفع الجنابة قبل تمام الغسل فلا أثر لأسباب الحدث الأصغر، لاختصاص تأثيرها بحال الطهارة منها.

مدفوعة: بعدم الدليل علي ذلك، إلا ما دل علي إجزاء الغسل عن الوضوء، و هو لا يقتضي عدم تأثير السبب المذكور في حال الجنابة، ليرفع به اليد عن إطلاق ما دل علي اقتضائه الوضوء، بل إجزاء الغسل عن الوضوء في طول تحقق المقتضي له، فمع ما عرفت من قصور دليل الإجزاء في المقام يتعين البناء علي وجوب الوضوء.

هذا، و قد ذهب لوجوب استئناف الغسل بالحدث الأصغر في أثنائه في الهداية و المبسوط و النهاية و المنتهي و التذكرة و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و الروض، و حكاه في الفقيه عن رسالة أبيه و أقره، كما حكي عن الإصباح و الجامع و نهاية الاحكام و التحرير و المختلف و البيان و الذكري و المقتصر و غاية المرام و التنقيح، و نسبه في محكي حاشية الألفية للمحقق الثاني للمتأخرين، و في محكي حاشية المدارك للمشهور.

و استدل له.

تارة: بما في المنتهي و غيره من أنّ الحدث الأصغر ناقض للطهارة الكبري بكمالها فلأبعاضها أولي، و مع الانتقاض إن كان جنبا اغتسل و إلا توضأ، و حيث كان

ص: 612

______________________________

جنبا- لعدم إكمال الغسل- تعين الغسل.

و كأنّ المراد من ناقضيته للطهارة الكبري ناقضيته لها في الجملة، و لو بنحو يمتنع معه ترتيب بعض آثارها مما يناط بالطهارة من الحدث الأصغر.

لكن فيه: أنّ ناقضيته للطهارة الكبري التامة إنما هي بلحاظ رفعها للحدث الأصغر، و لذا يكتفي بالوضوء لو وقع الحدث بعد إكمال الغسل، و انتقاض أبعاضها بلحاظه إنما يقتضي عدم إجزائها عن الوضوء، لا بطلانها رأسا بحيث لا ترفع الحدث الأكبر.

و ما ذكره من اختصاص وجوب الوضوء بغير الجنب ممنوع علي إطلاقه، لانحصار الدليل عليه بما دل علي إجزاء الغسل عن الوضوء، فمع عدم إجزائه عنه في المقام- لما سبق- يتعين وجوب الوضوء و إن كان المحدث جنبا.

و مثله ما في الروض من دعوي الإجماع علي عدم الوضوء مع غسل الجنابة، إذ لا معني لشمول معقد الإجماع للمقام مع ما عرفت من الخلاف.

و اخري: بما أشار إليه في كشف اللثام من أنّ من شأن غسل الجنابة الصحيح رفعه للأحداث الصغار، و هذا الغسل إن أتمه لا يرفع ما تخلله، و نحوه ما فيه أيضا من أنه لا غسل من الجنابة غير مبيح للصلاة، و ما عن الفخر من أنّ إبطال الحدث للغسل في إباحة الصلاة مستلزم لإبطاله في رفع الحدث.

و يندفع بأنّ المتيقن رافعية الغسل للأحداث الصغار الواقعة قبله و إباحته للصلاة من حيثيتها، فعدم رافعيته للحدث المتخلل في أثنائه و عدم إباحته للصلاة من جهته لا يستلزم بطلانه.

و التلازم بين رافعية الغسل للحدث و إباحته للصلاة من جميع الجهات ممنوع.

و ثالثة: بما في المدارك عن كتاب عرض المجالس للصدوق عن الصادق عليه السّلام: «قال: لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يدك و فرجك و رأسك و تؤخر غسل جسدك إلي وقت الصلاة ثمَّ تغسل جسدك إن أردت ذلك، فإن أحدثت

ص: 613

______________________________

حدثا من بول أو غائط أو ريح أو مني بعد ما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك فأعد الغسل من أوله» «1».

و عن الذكري: «و قد قيل: إنّه مروي عن الصادق عليه السّلام في كتاب عرض المجالس للصدوق.»، و في الوسائل- بعد روايته عن المدارك-: «و رواه الشهيدان و غيرهما من الأصحاب»، و نحوه الرضوي «2».

لكن في الجواهر: «إنّ ما نقل من رواية المجالس- مع عدم ثبوتها، كما نقل عن جماعة من المتأخرين عدم العثور عليها في هذا الكتاب، و يشعر به نسبة الشهيد له إلي القيل- فاقدة لشرائط الحجية، و لا شهرة محققة، حتي تجبرها، مع ظهور عدم كونها منشأ لفتوي كثير منهم، و لذا لم تقع الإشارة إليها قبل الشهيد».

نعم، قد يؤيده الرضوي، و وجود مضمونه في رسالة الصدوق الأول، التي قيل: إنها متون أخبار، حتي كانوا يرجعون إليها إذا أعوزتهم النصوص.

بل يبعد استناد فتوي الصدوقين لوجوه استنباطية كالوجوه السابقة، لما هو الظاهر من حالهما من الفتوي بمضامين النصوص، فتكون جابرة للرواية المذكورة، و لذا توقف شيخنا الأستاذ قدّس سرّه أو مال للقول المذكور، كما مال إليه في الحدائق.

لكن في بلوغ ذلك مرتبة الحجية أو التوقف عن العمل بالقواعد العامة إشكال ظاهر.

نعم، قد يستدل بإطلاق قوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ. وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «3»، فإنه بعد حمل ذيل الآية علي إرادة اجتزاء الجنب بالتطهر- الذي هو الغسل- لا ضمه للوضوء و لو بقرينة النصوص و الإجماع، يكون مقيدا لإطلاق أدلة وجوب الوضوء علي المحدث بالأصغر، و قرينة علي قصوره عن حال الجنابة، و أنّ عليه الغسل حينئذ، لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل باب: 20 من أبواب أحكام غسل الجنابة حديث: 1.

(3) سورة المائدة: 6.

ص: 614

______________________________

الوضوء، و لازم ذلك وجوب الغسل علي المحدث بالأصغر في المقام، لأنه جنب.

و من هنا ذهب بعض مشايخنا إلي وجوب استئناف الغسل و الاجتزاء به.

لكنه يشكل.

أولا: بأنه موقوف علي كون الجنب الذي تضمن الذيل حكمه من أفراد ما تضمن الصدر حكمه، و هو المحدث بالأصغر- لأنه المناسب للأمر بالوضوء- أو خصوص القائم من النوم- كما تضمنه موثق ابن بكير «1» - إذ لو كان في قباله فالآية بصدرها و ذيلها تدل علي حكم كل من الحدث الأصغر و الأكبر، كسائر الإطلاقات الواردة فيهما، من دون أن تتصدي لحكم اجتماعهما، و لا تدل علي كفاية الغسل لرفعهما حينئذ.

و الإجماع و النصوص و إن اقتضت ذلك إلا أنها لا تكون قرينة علي حمل الآية علي الأول، و قد سبق أنّ المتيقن من النصوص و الإجماع الاجتزاء بغسل الجنابة للحدث الأصغر الواقع قبله من دون نظر لما يقع منه في أثناء الغسل، بل مقتضي الإطلاقات فيه صحة الغسل و وجوب الوضوء للحدث المتجدد.

كما لا قرينة أخري علي حمل الآية علي الأول، حتي مرسل محمد بن مسلم المتقدم في المسألة الواحدة و الثلاثين، المتضمن الاستدلال علي عدم وجوب الوضوء مع غسل الجنابة بذيل الآية، لإمكان كون الاستدلال به بلحاظ ناقضية الجنابة للوضوء، فالاكتفاء فيها بغسلها كاشف عن قيامه بفائدة الوضوء.

و ثانيا: بأنه لو تمَّ كون فرض الجنابة من أفراد فرض الحدث الأصغر في الآية، فالمفهوم عرفا إلغاء خصوصيته و حمله علي بيان حكم الجنابة و مانعيتها من الصلاة، مع قطع النظر عن الحدث الأصغر، و لذا كان عندهم من المطلقات الدالة علي وجوب غسل الجنابة، لا علي بيان حكم النوم أو أسباب الحدث الأصغر بخصوصيتها، و أنّ الصلاة لا تجوز بعده مع الجنابة إلا بالغسل، إما لتوقف رفعه حين

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 615

______________________________

الجنابة علي الغسل، أو لتوقف رفع الجنابة معه عليه، لبيان مبطليته للغسل- مع المفروغية عن مانعية الجنابة و توقف رفعها علي الغسل- فإنّ ذلك خلاف المنصرف من الإطلاق في المقام، و إن كان هو مقتضي الجمود عليه، فالمفهوم من الإطلاق أنّ وجوب الغسل مع الجنابة لمانعية الجنابة من الصلاة، لا للزوم الغسل بعد النوم حال الجنابة.

و لذا يستدل بإطلاق الآية عندهم علي وجوب الغسل بعد الجنابة و لو مع عدم النوم و غيره من أسباب الحدث الأصغر.

و هو المناسب لحمل التطهر علي الغسل مع عدم كونه مختصا به لغة و لا عرفا و لا شرعا، حيث لا وجه له إلا المفروغية عن مطهرية الغسل من الجنابة من دون خصوصية للحدث الأصغر.

و حينئذ يكون مقتضي الإطلاق المذكور- كسائر الإطلاقات- الاجتزاء بالغسل الذي يقع الحدث الأصغر في أثنائه، و تحمل الآية علي صورة النوم قبل الشروع في الغسل، كما هو المنصرف منها علي تقدير كون فرض الجنابة في الآية من أفراد فرض النوم، لعدم المناسبة لذلك عرفا إلا بلحاظ كثرة مقارنة النوم للاحتلام.

و من هنا كان الاستدلال بإطلاق الآية لإثبات مبطلية النوم للغسل في غاية الإشكال.

بقي شي ء: و هو أنه بناء علي ما سبق، فالظاهر جواز إيقاع الوضوء قبل إكمال الغسل، لإطلاق أدلته، خلافا لما قد يظهر من العروة الوثقي من وجوب كونه بعد إكمال الغسل، و ربما ينصرف إليه إطلاق غيره.

و عدم صحة الوضوء الرافع للحدث من الجنب غير ظاهر، و لا سيما مع ما تضمنه بعض النصوص من استحبابه منه للنوم و الجماع و الأكل و الشرب.

و عدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة للنصوص و الإجماع، لا يستلزم عدم صحته حالها في مورد مشروعيته، كما في المقام، فلاحظ.

ص: 616

و لكن لا يترك الاحتياط بالاستئناف بقصد ما عليه من التمام أو الإتمام (1)، و يتوضأ (2).

______________________________

(1) جمعا بين المحتملين. و لو جاء به بنية التمام لتخيل بطلان ما سبق، فالاجتزاء به موقوف علي عدم قصده بنحو التقييد، إذ معه لا يتحقق الإتمام به علي تقدير عدم البطلان، لعدم قصده، فلا يتأدي به الاحتياط.

(2) لعدم إحراز مشروعية الغسل المستأنف ليجزي عن الوضوء. لكن عن السيد علي الصائغ في شرح الإرشاد: «و غير بعيد الاكتفاء باستئنافه إذا نوي قطعه، و كان الحدث متقدما علي الغسل».

و يشكل بعدم الدليل علي بطلان الغسل بنية القطع، بل مقتضي إطلاق نصوصه عدمه، كما أشار لذلك في المدارك و حكي عن الشيخ نجيب الدين.

نعم، قد يتجه الاجتزاء باستئناف الغسل ارتماسا لو كان الحدث في أثناء الغسل الترتيبي- كما جزم بذلك بعض مشايخنا، بناء علي عدم بطلان الغسل بالحدث الأصغر- لما سبق في المسألة السابعة عشرة من بقاء موضوع كل من الغسلين قبل إكمال الآخر، فيصح بتمامه- و إن لم يبطل الأول- و يجزئ عن الوضوء، لتأخره عن الحدث الأصغر.

أما لو كان الحدث في أثناء الغسل الارتماسي- لو كان تدريجيا قابلا لتخلل الحدث- اجتزأ قبل إبطاله باستئناف الغسل ترتيبا، لما ذكرنا، كما يجتزأ بعد إبطاله باستئناف الغسل مطلقا.

لكن ذلك كله موقوف علي ثبوت نوعي الغسل، الذي هو فرع اعتبار الترتيب في غير الارتماسي، إذ لو لم يعتبر الترتيب فيه- كما هو الأظهر- يكون الغسل عبارة عن وصول الماء لتمام البدن من دون خصوص كيفية، و لا يكون العدول من كيفية لأخري في الأثناء إلا متمما لما وقع- علي تقدير عدم بطلانه- لا غسلا تاما مستأنفا، فلا يجزئ عن الوضوء، فلاحظ.

ص: 617

مسألة 35 حكم سائر الأغسال حكم غسل الجنابة في عدم بطلانها بالحدث الأصغر

مسألة 35: حكم سائر الأغسال حكم غسل الجنابة في عدم بطلانها بالحدث الأصغر في أثنائها، بل يتمها و يتوضأ (1).

______________________________

بقي شي ء: و هو أنّ الغسل لو كان آنيا- كما في بعض صور الارتماسي- فقارنه الحدث، أو تدريجيا قارن الحدث إتمامه بحيث لم يقع شي ء من الحدث في أثنائه، فلا إشكال في صحته و لزوم الوضوء لو قيل بذلك في تخلل الحدث للغسل.

و أما لو قيل بصحته و إجزائه عن الوضوء مع التخلل، فيشكل إجزاؤه عنه في المقام، لأن تأثير الحدث في رتبة متأخرة عنه عن حصول سببه مقارنا لارتفاع الأكبر فلا مانع من ترتبه، و لا مجال لارتفاعه بالغسل السابق عليه، بل لا بد فيه من الوضوء.

كما أنه لو قيل ببطلان الغسل مع التخلل، يشكل البناء عليه في المقام، لقصور ما استدل به عليه هناك عنه، كما يظهر بملاحظته.

و استفادته من بعضها، كالمرسل و إطلاق الآية بإلغاء خصوصية موردها لا يخلو عن إشكال، بل منع.

فالمتعين البناء علي صحة الغسل و لزوم الوضوء علي جميع مباني تلك المسألة.

(1) كما قواه في مبحث غسل الحيض من محكي البيان، و جزم به في الروض، مع بنائهما علي البطلان في غسل الجنابة، و نفي الإشكال فيه في المسالك، و جعله قطعيا في الروضة، و في المدارك: «لو تخلل الحدث لغير غسل الجنابة من الأغسال الواجبة و المندوبة، فإن قلنا بإجزائها عن الوضوء اطرد الخلاف، و إلا تعين إتمامه».

أقول: لا إشكال في صحة الغسل و لزوم الوضوء في غسل غير الجنابة لو حكم بذلك في غسل الجنابة، لعين الوجه المتقدم فيه.

كما أنه بناء علي الاكتفاء في غسل الجنابة بإتمامه من دون حاجة للوضوء،

ص: 618

______________________________

فوجوب الوضوء في غيره من الأغسال مبني علي الاحتياج للوضوء معها و عدمه.

و أما بناء علي البطلان في غسل الجنابة، فإما أن نقول بإجزاء هذه الأغسال عن الوضوء أو بعدمه.

أما علي الأول، فإن كان وجه البطلان في غسل الجنابة امتناع تكليف الجنب بالوضوء- كما هو مرجع الوجهين الأولين من وجوه البطلان المتقدمة- تعين البناء علي البطلان هنا.

و إن كان وجهه مرسل الصدوق أو إطلاق الآية، توقف الاستدلال بهما للبطلان هنا علي إلغاء خصوصية موردهما، و هو لا يخلو عن إشكال.

و لذا كان الأوفق بالقاعدة الإتمام، و صحة الغسل، مع ضم الوضوء.

و أما علي الثاني، فلا ينبغي التأمل في عدم مبطلية الحدث للغسل و وجوب الوضوء به، لإطلاق دليل كل منهما، و عدم ورود شي ء من الوجوه المستدل بها هناك علي البطلان.

لكن عن التحرير و مبحث غسل الجنابة من البيان الحكم بالبطلان كغسل الجنابة، و في حاشية المدارك أنّ الخلاف المتقدم مطرد فيه.

و كأنه لما أشار إليه في الروض من دعوي: أنّ الطهارة المطلقة في الأحداث الكبري غير الجنابة تستند لمجموع الغسل و الوضوء، من دون أن يستقل منهما بأثر، كما تستند في الجنابة للغسل وحده، فمع صدور الحدث الأصغر حيث يمتنع ترتب ذلك عليهما فلا بد من بطلان الغسل، لعدم ترتب أثره.

بل عمم في محكي التنقيح احتمال الخلاف للحدث الواقع بعد الغسل قبل الوضوء، لأن الوضوء جزء.

و فيه. أولا: أنّ ذلك إنما يقتضي بطلان الغسل مع تقديم الوضوء عليه أو تأخيره عنه مع وقوع الحدث في أثناء الوضوء، حيث لا يترتب عليهما حينئذ الطهارة المطلقة مع فرض تأثير الحدث، أما مع تأخره عنه فلا مانع من ترتب الطهارة المطلقة علي الغسل و الوضوء اللاحق، سواء كان الحدث في أثناء الغسل

ص: 619

______________________________

أم بعد إكماله قبل الوضوء.

و ثانيا: أنّ ترتب الطهارة المطلقة علي الغسل و الوضوء ليس بنحو المجموعية، بل الانحلال، فيترتب علي الغسل الطهارة من الحدث الأكبر، و علي الوضوء الطهارة من الحدث الأصغر، للإجماع- كما في الروض- علي الاكتفاء بالغسل لترتب ما يمنع منه الحدث الأكبر، كجواز الصوم و قراءة العزائم و دخول المساجد.

و قد تقدم في مسألة تداخل الأغسال من مباحث الوضوء ما ينفع في ذلك.

و حينئذ لا ملزم بالبناء علي مبطلية الحدث الأصغر للغسل، لعدم منافاته لترتب أثره، غاية الأمر كونه مبطلا للوضوء لو قدم علي الغسل.

نعم، لو كان الحدث الأصغر ناقضا للغسل بعد تمامه، كان ناقضا لأبعاضه و مبطلا له لو وقع في أثنائه، كما تقدم نظيره.

و ربما قيل بذلك في بعض الأغسال المستحبة، و يأتي الكلام في ذلك عند الكلام فيها في المقصد السابع إن شاء اللّه تعالي. و هو خارج عن محل الكلام.

هذا، و عن بعضهم صحة الغسل مع لزوم وضوئين، أحدهما لإكمال أثر الغسل، و الآخر للحدث المتجدد.

و كأنه لعدم الدليل علي كون الوضوء المكمل لأثر الغسل رافعا للحدث المتجدد، بل الأصل عدم التداخل.

و يندفع بما تكرر منا في غير مورد- منها الكلام في اعتبار طهارة أعضاء الوضوء قبل غسلها- من أنّ الأصل في الأسباب التداخل، لإطلاق أدلتها بعد عدم المانع من قيام السبب الواحد بأثرين.

و إنما كان الأصل عدم التداخل في التكاليف لامتناع تعلق تكليفين استقلاليين بالماهية المطلقة، الصادقة بصرف الوجود.

نعم، لو انتقض الوضوء المكمل بالحدث المتجدد لتأخره عنه أو وقوعه في

ص: 620

مسألة 36 إذا أحدث بالأكبر في أثناء الغسل

مسألة 36: إذا أحدث بالأكبر في أثناء الغسل، فإن كان مماثلا للحدث السابق، كالجنابة في أثناء غسلها أو المس في أثناء غسله، فلا إشكال في وجوب الاستئناف (1)،

______________________________

أثنائه، تعين إعادة الوضوء له، كما سبق.

(1) فقد ادعي في كشف اللثام الاتفاق علي الإعادة في صورة تجدد الجنابة في أثناء غسلها، و في مفتاح الكرامة أنه مما لا كلام فيه، و في الجواهر: «و لعله لا ريب فيه في كل حدث تخلل في أثناء رافعه».

أقول: أما عدم الاكتفاء بإتمام الغسل الذي وقع الحدث في أثنائه و وجوب استئناف غسل جديد، فهو مقتضي إطلاق ما تضمن سببية السبب للغسل، لأن مقتضاه الإتيان بتمام الغسل، لا الاكتفاء بإتمامه.

و دعوي: أنّ ذلك إنما يتم بناء علي تعدد الحدث أو تأكده تبعا لتعدد أفراد سببه، لانحصار الرافع للحدث المتجدد بالغسل التام.

أما بناء علي وحدة الحدث و عدم قابليته للتأكد، فهو يستند لأسبق الأسباب، و حيث لا يرتفع الحدث قبل إكمال الغسل فلا أثر للسبب المتجدد، ليحتاج للغسل الرافع.

مدفوعة: بأنّ عدم ارتفاع الحدث قبل إكمال الغسل لا يستلزم عدم الأثر للسبب المتجدد، بل حيث كان مقتضي الإطلاق لزوم غسل تام بعده فلا بد أن يكون أثره إبطال ما وقع من أجزاء الغسل، لكون أثره انحلاليا- كما هو مقتضي ما تضمن طهارة كل جزء من البدن بوصول الماء إليه- فيلزم استئنافه. و لا تظهر ثمرة الوجهين المذكورين بذلك، بل بما يأتي.

و أما بطلان الغسل الأول و عدم مشروعية إتمامه لرفع الحدث السابق، فهو يبتني علي ما سبق من تعدد الحدث أو تأكده بتعدد أفراد السبب الواحد و عدمهما، فعلي الأول يتجه مشروعية إتمام الغسل لرفع الحدث السابق، الراجع

ص: 621

______________________________

لتخفيف الحدث، لعدم الدليل علي مبطلية الحدث لما وقع من أجزاء الغسل، و لا علي ارتباطية الأحداث المجتمعة في الارتفاع، بحيث لا يكفي تتميم الغسل السابق في رفع الحدث السابق، بل لعل مقتضي الإطلاق عدمهما و مشروعية الإتمام.

و علي الثاني يتعين بطلانه، كما سبق، فلا يشرع إتمامه، كما ذكره في المتن.

قال في الجواهر: «لعدم تصور التبعيض في المتجانس، علي ما هو الظاهر».

لكن مما سبق يظهر أنه ممكن في نفسه، بل لعله أقرب للمرتكزات و أنسب بالأدلة، و إن كان محتاجا للتأمل.

و قد تقدم الكلام فيه في ذيل الكلام في نية الرفع و الاستباحة من مباحث نية الوضوء، فراجع.

و أما الإجماع علي البطلان، فيشكل التعويل علي دعواه في المقام لو تمت، لإمكان حمل كلام بعضهم علي إرادة عدم الاكتفاء بإكمال الغسل في مقابل ما سبق عن بعضهم في تخلل الحدث الأصغر من الاكتفاء بالإتمام، و ما يأتي من بعضهم من الاكتفاء بذلك في الحدث الأكبر المخالف أيضا.

علي أنه لا يتضح كونه إجماعا تعبديا صالحا للاستدلال، بل لعل منشأه بعض الوجوه الاعتبارية التي لا تخلو عن إشكال.

كما أنّ ما تقدم في مرسل الصدوق من وجوب الإعادة بخروج المني قبل إكمال غسل الجنابة أعم من بطلان الغسل.

نعم، قد يقال: لازم ذلك وجوب إكمال الغسل لو تعذر استئنافه تخفيفا للحدث و عدم مشروعية التيمم لرفعه للقدرة علي الماء بالإضافة إليه و إن تعذر بالإضافة للحدث الجديد و شرع التيمم لأجله، و من البعيد جدا بناؤهم عليه.

اللهم إلا أن يقال: كما يمكن أن يكون ذلك لعدم قابلية الحدث للتأكد و التعدد يمكن أن يكون لأجل أنّ الطهارة المعتبرة ليست انحلالية بالإضافة للأحداث، بل مجموعية، بمعني أنّ المعتبر هو الطهارة من مجموعها، لا الطهارة من كل منها، فمع

ص: 622

و إن كان مخالفا له فالأقوي عدم بطلانه (1)،

______________________________

تعذر الطهارة من المجموع تسقط رأسا، و يكون ذلك كافيا في مشروعية التيمم للطهارة من المجموع.

نعم، لو دل الدليل علي مطلوبية التخفيف تعين البناء عليه، كما في المسلوس و المبطون- علي الكلام المتقدم- و المستحاضة، فتأمل جيدا.

(1) كما في الجواهر، و يقتضيه إطلاق أدلة الأغسال، لظهورها في تباين ماهية الأحداث الموجبة لها و ارتفاع كل حدث بغسله، بل صريح بعضها التفكيك بين الأحداث في الارتفاع، كموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن المرأة يجامعها زوجها ثمَّ تحيض قبل أن تغتسل. قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت، و إن لم تفعل فليس عليها شي ء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض و الجنابة» «1».

و لأجله يتعين حمل ما تضمن نهيها عن غسل الجنابة علي بيان عدم وجوبه، كما هو المناسب للتعليل فيه بقوله عليه السّلام: «قد جاءها ما يفسد الصلاة» «2».

و حينئذ يحتاج بطلان الغسل بطروء الحدث في أثنائه إلي دليل، و الإطلاق يدفعه.

بل موثق عمار ظاهر في عدم الإبطال، لأن الحائض مستمرة الحدث، فيصدر منها الحدث في أثناء الغسل.

و أما ما عن بعضهم من دعوي الإجماع علي فساد غسل الجنابة لو تخلل في أثنائه حدث أكبر.

فغير ثابت، بل استبعد في الجواهر دعوي الإجماع في غير المجانس، و ربما يحمل علي إرادة عدم الاجتزاء بإتمامه، كما ذكرناه في الحدث المماثل.

نعم، ما سبق في وجه بطلان غسل الجنابة بطروء الحدث الأصغر من

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 7. و باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 623

______________________________

استلزام ناقضية الحدث الطارئ بطلان الغسل، لعدم التكليف مع صحته بالوضوء بعد فرض إجزاء غسل الجنابة عنه، لو تمَّ اقتضي البطلان في المقام، لما تقدم من إجزاء كل غسل عن غيره، فعدم إجزاء الغسل الذي تخلله الحدث عن غسل ذلك الحدث مستلزم لبطلانه، لعين الوجه المذكور.

و لعله لذا صرح غير واحد بجريان الخلاف السابق في تخلل الحدث الأصغر هنا. لكن سبق ضعف الوجه المذكور.

و أما مرسل الصدوق المتقدم هناك، فهو- مع ضعفه- مختص بخروج المني دون غيره من أسباب الأحداث الكبري.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من لزوم التعدي إليها، كما يتعدي من البول و أخويه إلي غيرهما.

غير ظاهر، بل غاية الأمر التعدي للجماع الذي هو مثله سبب للجنابة. مضافا إلي ما سبق من أنّ وجوب إعادة الغسل أعم من بطلان الغسل السابق.

هذا، و في الجواهر: «و لو كان العارض الحيض، فالظاهر من كثير من الأصحاب النقض، بل صرح به بعضهم بالنسبة إلي غسل الجنابة، و لعله لقوله عليه السّلام:

«قد جاءها ما يفسد الصلاة» و نحوه».

لكن سبق منا لزوم حمله علي عدم وجوب غسل الجنابة، لا عدم مشروعيته.

نعم، قد يشكل إكمال الغسل حال الحيض بأنه لما كان عبادة فلا بد فيه من الأمر و لو كان غيريا، و لا مجال لذلك مع مانعية الحيض من التكليف بما يتوقف علي الغسل أو الترخيص فيه.

و يندفع بكفاية الابتلاء بذلك بعد الحيض، إذ لا يتوقف التقرب المعتبر في الطهارة علي الأمر الفعلي، بل يكفي فيه التهيؤ لامتثال الأمر في وقته، كما سبق في الوضوء التهيّئي و غيره.

علي أنّ ذلك كما يمنع من إكمال الغسل لو وقع الحيض في أثنائه يمنع من

ص: 624

فيتمه و يأتي بالآخر (1)، و يجوز الاستئناف بغسل واحد لهما (2)،

______________________________

الإتيان بتمامه لو وقع الحيض قبله مع صراحة موثق عمار المتقدم في جواز غسل الجنابة حال الحيض.

و من ذلك يظهر عدم توقف مشروعية الإكمال علي ثبوت الأمر بالكون علي طهارة من الجنابة و لو ندبا حال الحيض، كي يشكل بعدم الدليل علي ذلك، و المتيقن استحباب الكون علي الطهارة المطلقة غير المتيسرة في المقام، كما يظهر من الجواهر.

(1) لقصور أدلة التداخل و نصوص إجزاء الغسل الواحد عن الأغسال المتعددة عن غسل الحدث الواقع في أثناء الغسل، نظير ما تقدم في وقوع الحدث الأصغر في أثناء غسل الجنابة من قصور نصوص إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء عنه.

نعم، لو قيل هناك بالإجزاء تعين البناء عليه هنا، و لعله عليه يبتني ما صرح به غير واحد من جريان الخلاف السابق هنا.

(2) كما في العروة الوثقي، و استدل له سيدنا المصنف قدّس سرّه بإطلاق أدلة تداخل الأغسال.

لكنه إنما يتجه بناء علي بطلان الغسل بتخلل الحدث في أثنائه- المفروض عدمه- أو علي جواز استئناف الغسل بعد الشروع فيه، كالعدول من الترتيبي للارتماسي- الذي لم يفرض في كلامهم في المقام، بل تقدم المنع منه في المسألة الرابعة و الثلاثين- و أما في غير ذلك، فهو موقوف.

إما علي جواز العدول عن غسل كل حدث قبل إكماله إلي غسله مع غيره في ضمن غسل واحد، بأن يكون الغسل الواحد بتمامه لكلا الحدثين، و لو بأن يتضمن التأكيد في الطهارة من الحدث الأول في الأعضاء التي سبق غسلها، نظير ما سبق منا في العدول من الترتيبي للارتماسي.

ص: 625

______________________________

و إما علي التداخل في أبعاض الغسل، بأن يكون الغسل الواحد مختصا بالحدث الثاني فيما غسل من الأعضاء، و مشتركا بين الحدثين فيما لم يغسل منها، فالاستئناف للحدث الثاني و الإتمام لهما معا، و كلا الأمرين محتاج إلي دليل، و لا يكفي فيه البناء علي تداخل الأغسال.

نعم، قد يستفاد من دليل تداخل الأغسال مشروعية التداخل في بعض الغسل تبعا، لغفلة العرف عن التفكيك بينه و بين موردها، لأن المنسبق لهم ابتناء التداخل في تمام الغسل علي التداخل في أبعاضه من دون خصوصية للمجموعية فيه، لارتكاز أنّ منشأه ابتناء الطهارة علي إزالة كل ما يقبل الإزالة من الحدث، و لذا أهمل الأصحاب الإشارة لذلك أو الكلام فيه.

كما يشير إلي مشروعية التداخل في بعض الغسل قوله عليه السّلام في الصحيح:

«فإذا اجتمعت عليك حقوق [اللّه] أجزأها عنك غسل واحد» «1»، و التعليل في الصحيح الآخر بقوله عليه السّلام: «لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «2»، حيث قد يصدق الحق و الحرمة عرفا علي بعض الغسل.

كما قد يستفاد الاجتزاء في المقام بالغسل الواحد من إطلاق قوله عليه السّلام في موثق زرارة: «إذا حاضت المرأة و هي جنب أجزأها غسل واحد» «3»، لعدم ارتفاع الجنابة قبل إكمال الغسل.

و بالجملة: لا ينبغي التوقف بعد النظر في نصوص التداخل و الالتفات لمرتكزات العرف و المتشرعة و ملاحظة حال الأصحاب في التداخل في المقام و الاجتزاء بالغسل الواحد.

لكن لا علي أن يكون من تداخل الغسلين، بل قد يكون من التداخل في بعض الغسل، كما هو مقتضي أكثر الوجوه المتقدمة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 626

و يجب الوضوء بعده إن كانا غير الجنابة (1).

مسألة 37 إذا شك في غسل عضو من الأعضاء الثلاثة أو في شرطه قبل الدخول

مسألة 37: إذا شك في غسل عضو من الأعضاء الثلاثة أو في شرطه قبل الدخول في العضو الآخر رجع و أتي به (2)،

______________________________

و من هنا كان الأولي أو اللازم الإتيان بالغسل بنية رفع الحدثين بالوجه المشروع علي إجماله، من دون تعيين أحدهما بخصوصه، خلافا لما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من الإشكال في مشروعية التداخل في بعض الغسل و الالتزام بالتداخل في تمامه.

(1) بناء علي لزوم الوضوء مع غير غسل الجنابة من الأغسال، حيث يحتاج للغسل علي كل حال.

أما لو كان الأول جنابة، فالإجزاء عن الوضوء يبتني علي كون الاجتزاء بغسل واحد في المقام من باب التداخل في تمام الغسل أو في بعضه، فعلي الأول يتجه الإجزاء، لما تقدم في المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء من إجزاء الغسل المأتي به للأحداث المتعددة عن الوضوء إذا كان فيها جنابة.

أما علي الثاني، فيكون المقام نظير الحدث الأصغر في أثناء غسل الجنابة، الذي تقدم لزوم الوضوء معه، و حيث عرفت عدم ثبوت الأول كان المتعين وجوب الوضوء.

و اما لو كان الثاني جنابة، فلا إشكال في الإجزاء عن الوضوء، سواء كان المقام من التداخل في تمام الوضوء أم في بعضه، لأن ذلك إنما هو بالإضافة للأول الذي وقع الحدث في أثناء غسله، أما بالإضافة للثاني فهو غسل تام له، فيجزئ بناء علي ما سبق في المسألة المذكورة.

هذا، و أما بناء علي إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء فالمتعين الإجزاء عنه في المقام مطلقا، كما هو ظاهر.

(2) أما مع الشك في غسل العضو، فلعموم ما تضمن وجوب الاعتناء بالشك

ص: 627

______________________________

في المحل المعتضد بعموم الاستصحاب و قاعدة الاشتغال.

و كذا الحال مع الشك في الشرط المقوم لعنوان العمل، كنية كونه غسلا، لعدم صدق المضي بالإضافة لجزء العمل ذي العنوان الخاص بعدم فرض عدم إحرازه، و لا بالإضافة لنفس الشرط- و هو النية- لأن مضي الشرط بمضي المشروط المفروض عدم إحراز مضيه.

بل لا يبعد ذلك في المباشرة أيضا، لعدم كونها شرطا زائدا في العمل المطلوب، بل مقومة له عرفا، فالشك فيها شك في تحقق الفعل المطلوب، و حيث فرض عدم مضيه و عدم التجاوز عنه لزم الاعتناء بالشك.

و كذا الحال في استيعاب العضو بالغسل و عدم الحاجب، لوضوح رجوع الشك فيهما للشك في الجزء، فيلحقه ما سبق.

نعم، لو تحقق الفراغ بالإضافة إلي تمام العضو بإنهاء المكلف غسله له لم يبعد البناء علي التمامية فيه، لما دل علي عدم الاعتناء بالشك في العمل بعد الفراغ عنه و مضيه، بناء علي ما هو الظاهر من عمومه لجزء العمل و عدم اختصاصه بالعمل التام.

و كذا الحال لو شك في النية بمعني التقرب في مقابل الرياء و نحوه، لكونها شرطا شرعيا زائدا علي عنوان العمل، فتجري فيه القاعدة المذكورة بناء علي التحقيق من جريانها في الشروط و تحقق موضوعها بمضي العمل المشروط بها.

و مثلها سائر الشروط الزائدة علي عنوان العمل، كطهارة الأعضاء و الماء، بل لا يبعد ذلك في إطلاق الماء أيضا، لصدق مضي العمل مع الشك فيه.

ثمَّ إن الظاهر اختصاص محل الكلام بالشروط المعتبرة بوجودها الواقعي التي يكون تخلفها و لو جهلا مبطلا للعمل، حيث يكون الشك فيها موجبا للشك في صحته.

و أما ما يكون معتبرا بوجوده العلمي- كإباحة الماء- فهو خارج عن محل الكلام، حيث لا يقدح العلم بتخلفه بعد مضي محله، فضلا عن الشك، بل يكفي

ص: 628

و إن كان بعد الدخول فيه، لم يعتن به، و يبني علي الإتيان به علي الأقوي (1).

______________________________

إحرازه ظاهرا حين العمل في صحته واقعا.

و قد تقدم نظير ذلك في المسألة الرابعة و الستين من مباحث الوضوء، فراجع.

هذا، و التعبير بالرجوع لا يخلو عن تسامح، لعدم صدقه إلا مع التجاوز عن المشكوك، و المفروض عدمه.

(1) كما في الجواهر، لعموم ما تضمن عدم الاعتناء بالشك في الشي ء بعد التجاوز عنه و مضي محله، الذي هو مرجع قاعدة التجاوز و الفراغ التي استوفينا الكلام فيها في خاتمة الاستصحاب من الأصول.

خلافا للعلامة في ظاهر القواعد و صريح التذكرة و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و نسبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في طهارته إلي أكثر من تأخر عن العلامة كالفخر و الشهيدين و غيرهم، بل ذكر في فرائده أنه يظهر من بعض كونه من المسلمات، و نسبه في الرياض لظاهر الأصحاب.

و كأنه لذكرهم ذلك في الوضوء من دون تعرض لأحكام الشك في الغسل و التيمم، حيث يظهر منهم التحويل في أحكامهما علي الوضوء، و لا سيما مع تعبير بعضهم فيه بالطهارة، و لعله لذا نسب فيه دعوي الإجماع عليه للمدارك، مع أنه إنما ادعاه في مبحث الوضوء بعد قول المحقق: «و إن شك في شي ء من أفعال الطهارة و هو علي حاله أتي بما شك فيه ثمَّ بما بعده»، و استدل عليه بعد ذلك بصحيح زرارة الوارد في الوضوء.

و من الغريب- مع ذلك- ما في الجواهر من عدم عثوره علي ذلك لغير صاحب الرياض.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 629

و كيف كان، فالوجه فيه ظاهر، بناء علي ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه و ذكر

ص: 629

______________________________

احتمالا في كلام جملة منهم من اختصاص قاعدة التجاوز الجارية في أجزاء المركب بالصلاة دون غيرها من المركبات، و أنّ قاعدة عدم الاعتناء بالشك في العمل بعد مضيه راجعة إلي قاعدة الفراغ و مختصة بالعمل التام دون أجزاء العمل الواحد.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك، و أنّ القاعدة المذكورة كما تجري في العمل التام تجري في أجزاء العمل الواحد مع مضي محل الشك فيها، من دون فرق بين الصلاة و غيرها، سواء كانت قاعدة واحدة- كما هو الظاهر- أم راجعة إلي قاعدتين إحداهما قاعدة التجاوز و الأخري قاعدة الفراغ. و تمام الكلام في محله.

فلا بد في الخروج عن العموم المذكور في الغسل و التيمم من مخرج.

و من هنا، فقد يستدل له بما تضمن الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ منه، بتعميمه لسائر الطهارات، لفهم عدم الخصوصية للوضوء عرفا، أو لتنقيح المناط و لو بلحاظ اشتراكها في كون المطلوب بها أمرا بسيطا، و هو الطهارة، حيث تكون لأجل ذلك عملا واحدا بنظر الشارع الأقدس، لا يمضي محل الشك فيه إلا بالفراغ عن تمام المركب، و ليست أفعالا متعددة يصدق المضي و التجاوز عن كل منها بالدخول فيما يترتب عليه، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه عدم منافاة الحكم المذكور في الوضوء لقاعدة عدم الاعتناء بالشك مع مضيه و التجاوز عنه.

لكن فهم عدم الخصوصية عرفا بالنحو الموجب لاستفادة العموم من ظاهر الدليل، مقطوع البطلان.

كما لا مجال لتنقيح المناط بالنحو الموجب للظن بالحكم، فضلا عن اليقين به.

و كون المطلوب بالطهارات أمرا بسيطا، لا يستلزم ملاحظة الشارع الأقدس لها فعلا واحدا مع تركبها في نفسها، و ترتب ذلك الأمر البسيط عليها شرعا، إذ ليس المدعي جريان القاعدة في نفس ذلك الأمر البسيط، بل في سببه الشرعي المركب، و الذي يصدق المضي و التجاوز في كل جزء منه بالدخول في غيره.

ص: 630

______________________________

نعم، قد يصلح ذلك احتمالا لتوجيه ما دل علي الاعتناء بالشك المذكور في الوضوء، من دون أن يقطع بكونه مناطا للحكم، ليتعدي لغيره مما يشاركه فيه.

و لذا اعترف شيخنا الأعظم قدّس سرّه في طهارته بأنّ الوجه المذكور لا يكفي في إلحاق التيمم و الغسل بالوضوء، لعدم القطع بالمناط، بل لا بد فيه من دليل آخر.

و أما الاستدلال عليه بعموم موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء، إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه» «1» بدعوي: أنه بعد تعذر حمل الصدر فيه علي الشك في جزء الوضوء بعد الدخول فيما يترتب عليه، لقيام الدليل علي الاعتناء بالشك المذكور، يتعين حمله علي الشك في الوضوء مع الدخول في غيره، بجعل «من» تبعيضية بلحاظ الوحدة النوعية، التي يكون البعض فيها فردا من الكلي- كما سبق في المسألة التاسعة و السبعين من مباحث الوضوء- فيحمل لأجل ذلك الذيل علي الشك في العمل التام مع عدم الفراغ منه بتمامه، فينفع فيما نحن فيه بعمومه.

فيندفع. أولا: بأنه لم يتضح كون حمل الموثق علي ذلك مقتضي الجمع العرفي بينه و بين ما دل علي الاعتناء بالشك قبل الفراغ من الوضوء، ليرجع إلي ظهوره الثانوي فيه و يكون حجة يتمسك بعمومه، كما أشرنا إليه في المسألة المذكورة.

و ثانيا: بأنّ حمل الشي ء في الصدر علي الفرد من الوضوء لا يستلزم حمل الشي ء في الذيل علي العمل التام، بل لا مانع من عمومه للجزء أيضا، كما هو مقتضي إطلاقه، فيدل علي عدم إهمال الشك في الجزء إلا إذا جازه و إن لم يكمل المركب و يخرج عنه، كما هو مقتضي بقية المطلقات المقتضية عدم الاعتناء بالشك في المقام.

و هو لا ينافي شموله للعمل التام أيضا و اقتضاءه الاعتناء بالشك فيه قبل

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 631

______________________________

الفراغ عنه، و منه الشك في المقام، لأن اجتماع الجهتين في الشك الواحد تقتضي فعلية تأثير الأولي منهما و منعها من تأثير الثانية، لحكومتها عليها، لأن الشك في المركب التام مسبب عن الشك في الجزء، فيقدم التعبد بالصحة من حيثية الشك في الجزء علي التعبد بعدمها من حيثية الشك في المركب بملاك تقديم الأصل السببي علي المسببي.

و ثالثا: بأنّ مفاد الذيل وجوب الاعتناء بالشك في الجملة، في مقابل ما تضمنه الصدر من عدم الاعتناء به رأسا، لأن نقيض السلب الكلي الإيجاب الجزئي، لا الكلي.

و لا أقل من لزوم حمله علي ذلك، جمعا مع ما تضمن عدم الاعتناء بالشك في الجزء مع التجاوز عنه و الدخول في غيره و لو قبل إكمال المركب، أو حمل الشي ء في الذيل علي خصوص الفرد من الوضوء، كما حمل عليه في الوضوء، فيكون أجنبيا عما نحن فيه، فتأمل جيدا.

و أما الإجماع، فلا مجال للتعويل عليه في المقام، لما سبق من قلة من صرح بذلك من الأصحاب، بل لم ينقل عن أحد من متقدميهم، و إنما تعرضوا لذلك في الوضوء، و ادعي الإجماع فيه، غاية الأمر استفادة ذهابهم للتعميم من قرائن لا توجب اليقين بانعقاد الإجماع فيه، فضلا عن اليقين بالحكم الشرعي بسببه.

و من هنا يتعين الاقتصار في الاعتناء بالشك علي الوضوء، و لا يتعدي لغيره من الطهارات، بل يكون المرجع فيه عموم عدم الاعتناء بالشك في الشي ء مع مضي محله و التجاوز عنه.

هذا، و لم يستبعد في الجواهر إلحاق التيمم بالوضوء مع بنائه علي عدم إلحاق الغسل.

و كأنّ وجهه أنّ بدلية التيمم عن الوضوء تقتضي مشاركته له في الاحكام.

لكنه- مع اختصاصه بالتيمم الذي يكون بدلا عن الوضوء- ممنوع، لأن بدليته عنه إنما هي في التكليف به لتحقيق الطهارة، و هي لا تقتضي

ص: 632

______________________________

مشاركته له في سائر أحكامه.

ثمَّ إنه حيث كان موضوع القاعدة مضي محل الشك الذي لا يكون في فرض الشك في أصل الفعل إلا بالدخول فيما يترتب عليه، فلا بد في تحققه في المقام و غيره من ثبوت الترتب بينهما شرعا بقيام الدليل عليه أو الأصل التعبدي، و لا يكفي لزوم الترتيب بقاعدة الاشتغال، إذ لا يحرز بها تحقق موضوع القاعدة، فيكون التمسك بعمومها في المورد المذكور تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا كلام في امتناعه.

بل يكون مقتضي قاعدة الاشتغال لزوم تدارك المشكوك.

و دعوي: كفاية وجوب الترتب عقلا في تحقق التجاوز و المضي، فيتم موضوع القاعدة به و تكون قاعدة الاشتغال واردة علي القاعدة المذكورة.

مدفوعة: بأنّ مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة القاعدة حمل المضي و التجاوز فيها علي خصوص ما يكون بلحاظ الترتب الشرعي، دون العقلي و الاعتباري، علي ما حقق في محله.

نعم، تتأدي الوظيفة في محل الكلام بتدارك المشكوك، و لا يجب إعادة ما بعده، محافظة علي الترتيب الذي تقتضيه قاعدة الاشتغال، حيث يعلم مع الاقتصار عليه بموافقة أحد الأمرين من الواقع الثابت لو لم يكن الترتيب معتبرا واقعا، و الوظيفة الظاهرية الثابتة علي تقدير اعتبار الترتيب، لما سبق من جريان قاعدة عدم الالتفات للشك مع مضي محله.

غاية الأمر أنه يحسن الاحتياط بإعادة ما بعده محافظة علي الترتيب، لتحصيل العلم بإصابة الواقع علي كل حال، الذي هو حسن في جميع موارد الوظائف الظاهرية المؤمّنة، و إن لم يكن لازما.

و منه يظهر لزوم التدارك مطلقا، بناء علي ما سبق منا من عدم وجوب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة في الغسل، عملا بالإطلاقات من دون مخرج.

و لا ينافيه ما سبق من عدم جواز تقديم تمام الجسد علي تمام الرأس، لأن

ص: 633

______________________________

ذلك إنما يقتضي البناء بعد إكمال الجسد علي غسل شي ء من الرأس، و هو لا ينافي وجوب تدارك كل ما شك في غسله منه، لعدم تعيين ما ثبت التعبد بغسله منه.

كما يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من تعميم القاعدة للجانب الأيمن، حيث لا يناسب ما سبق منه من التوقف في الترتيب بينه و بين الجانب الأيسر.

و أما ما حكي عنه قدّس سرّه من توجيهه- عند مذاكرته في ذلك- بوجوب الترتيب بينهما عقلا بسبب التوقف المذكور.

فيظهر حاله مما سبق من عدم كفاية الترتب العقلي في تحقق موضوع قاعدة عدم الاعتناء بالشك.

علي أنّ مرجع توقفه ليس إلي استيضاح حكم العقل بالترتيب، بل إلي عدم وضوح الحال عنده و احتمال حجية الإطلاق في نفي الترتيب و رفعه لموضوع حكم العقل، فليس مرجعه إلي الفتوي بالاحتياط و تخطئة القائل بعدم الترتيب، بل إلي الاحتياط عن الفتوي، و لذا لا يجب متابعته فيه علي مقلديه، بل لهم الرجوع لغيره.

نعم، لو تعذر لهم الرجوع لغيره تمَّ حكم العقل بالترتيب في حقهم، لأن المورد من موارد قاعدة الاشتغال علي تقدير فقد الدليل، فلاحظ.

بقي شي ء: و هو أنه عمم في التذكرة وجوب الالتفات للشك في الغسل لما بعد الخروج عن حاله، إلا في المرتمس و معتاد الموالاة فلا التفات عليهما بعد الانتقال عن حال الغسل علي إشكال فيهما. و لا يبعد رجوع ما في القواعد إليه.

و وافقه في جامع المقاصد و كشف اللثام، مع الجزم في الأول بعد الالتفات علي المرتمس و المعتاد، و مع الاستثناء في الثاني صورة الشك في غير الجزء الأخير، حيث حكم فيها بعدم الالتفات إذا انصرف عن الجزء الأخير.

و عن بعض فوائد الشهيد اختصاص الإشكال بالمعتاد خاصة، و عن بعض

ص: 634

______________________________

آخر منها أنه لا إشكال، بل إن ظن بالإيقاع بني عليه، و إلا فلا فرق بينه و بين غيره.

و أطلق في العروة الوثقي الالتفات للشك في الجزء الأخير، و وافقه غير واحد من محشيها، مصرحا بعضهم بضعف احتمال عدم الالتفات مع اعتياد الموالاة، الذي ذكره في العروة الوثقي غير جازم به.

و صرح في كشف اللثام بأنّ إيقاع المشروط بالطهارة بحكم اعتياد الموالاة.

و ظاهر هذه الكلمات عدم جريان قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، التي هي مرجع قاعدة الفراغ مع الشك في الغسل في الجملة.

و حيث يبعد بناؤهم علي تخصيص القاعدة في مورد الشك في الغسل، لعدم المخصص لها ظاهرا، فمن القريب ابتناء جل كلماتهم المتقدمة أو كلها علي قصور القاعدة تخصصا.

و كأنه لأن عدم وجوب الموالاة في الغسل مستلزم لمشروعية الاقتصار علي بعضه اختيارا من دون أن يبطل، فمع الشك في ذلك لا تنهض قاعدة الفراغ بإحراز تمامية الغسل، لأنها إنما تقتضي التعبد بصحة العمل، دون تماميته لو لم تتوقف عليها صحته، كما قد يظهر من التذكرة. أو لعدم إحراز موضوع القاعدة، و هو الفراغ، بالإضافة لتمام الغسل حينئذ، بل المتيقن الفراغ عن بعضه، و لا سيما مع احتمال عدم الإتيان بالجزء الأخير.

لكن يندفع الأول بأنه مخالف لإطلاق عدم الاعتناء بالشك في نصوص القاعدة، و لذا لا إشكال ظاهرا في نهوضها بالتعبد بالتمامية لو شك في فوت بعض الأجزاء القابلة للقضاء أو الموجبة لمثل سجود السهو من دون أن يخل بصحة العمل المأتي به.

و أما الثاني، فيظهر الحال فيه مما ذكرناه عند الكلام في القاعدة من الأصول، و أشرنا إليه في المسألة التاسعة و السبعين من مباحث الوضوء، من أنّ المراد من الفراغ الذي هو موضوع القاعدة هو الفراغ الحقيقي عن عمل المكلف الذي انشغل

ص: 635

______________________________

به، و هو العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من غسل أو وضوء أو صلاة أو نحوها، فإذا أحرز انشغال المكلف بالغسل و أنه قد فرغ عما أتي به بعنوان كونه غسلا تاما بني علي تمامية غسله و إن لم تعتبر فيه الموالاة و لم يكن من عادته المحافظة عليها و كان الشك في الجزء الأخير، لإطلاق القاعدة.

و يشهد بجريان القاعدة حينئذ في الجملة، ما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة، فقال: إذا شك و كانت به بلة و هو في صلاته مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلة. فإن دخله الشك و قد دخل في صلاته فليمض في صلاته و لا شي ء عليه، و إن استيقن رجع فأعاد عليه الماء، و إن رآه و به بلة مسح عليه و أعاد الصلاة باستيقان، و إن كان شاكا فليس عليه في شكه شي ء، فليمض في صلاته» «1»، فإنّه شامل للشك في الجزء الأخير، فالحكم فيه بعدم الاعتناء بالشك و المضي في الصلاة إذا لم يكن عليه بلة مطابق للقاعدة المذكورة ملزم بحمل الأمر بالمسح بالبلة مع وجودها علي الاستحباب، بنحو لا ينافي جريان القاعدة، و لذا لم يؤمر معه باستئناف الصلاة كما أمر به مع اليقين بالنقص.

مضافا للإشكال علي مثل العلامة قدّس سرّه بأنّ دليل وجوب الاعتناء بالشك في العمل قبل الخروج عن حاله و عدم الاعتناء به بعد الخروج عن حاله لما كان واردا في الوضوء، فإن بني علي الجمود علي مورده كان اللازم جريان قاعدة التجاوز في الغسل، فلا يعتني بالشك في الجزء السابق منه بعد الدخول في اللاحق، و يختص الشك الذي يعتني به بالشك في الجزء الأخير، كما سبق من كشف اللثام، و إن بني علي إلحاق بقية الطهارات بالوضوء لزم إلحاقه به في عدم الاعتناء بالشك فيه بعد الانتقال عن حاله، فتأمل.

هذا، و لو لم يحرز الفراغ بالمعني المتقدم، إما لعدم البناء من أول الأمر علي إتمام الغسل، أو لاحتمال العدول عنه بعد البناء عليه، بحيث لم يحرز الفراغ إلا

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 636

مسألة 38 إذا صلي ثمَّ شك في أنه اغتسل للجنابة أم لا بني علي صحة صلاته

مسألة 38: إذا صلي ثمَّ شك في أنه اغتسل للجنابة أم لا، بني علي صحة صلاته (1) و يغتسل للأعمال الآتية (2)،

______________________________

عن بعض الغسل، لم تجر القاعدة، لعدم تمامية موضوعها، من دون فرق بين الغسل الارتماسي و الترتيبي، مع اعتياد الموالاة في الثاني و بدونه، مع الدخول فيما يعتبر فيه الطهارة و عدمه.

و أما الاعتماد في بعض ذلك علي ظهور الحال- كما قد يظهر من التذكرة- أو علي الظن بالتمامية- كما تقدم عن بعض فوائد الشهيد- فلا مجال له، لعدم ثبوت حجية أحد الأمرين.

و مثله الاستدلال لعدم الالتفات للشك بعد الدخول فيما يعتبر فيه الطهارة حينئذ بصحيح زرارة المتقدم، لاندفاعه بانصراف قوله: «ترك بعض ذراعه أو بعض جسده» إلي الترك السهوي في ظرف القصد للغسل التام الذي ذكرنا تحقق موضوع القاعدة معه، دون ما إذا كان الترك لعدم البناء علي إتمام الغسل- الذي فرض احتماله في المقام- و إلا كان الأنسب التعبير بقوله: رجل صلي قبل إكمال غسل الجنابة.

نعم، لو بني علي أنّ الدخول في مثل الصلاة موجب لمضي محل الشك في الطهارة، اتجه البناء علي تحققها في المقام.

لكن سبق في المسألة السابعة و السبعين من مباحث الوضوء المنع من ذلك، و يأتي في المسألة اللاحقة نظيره.

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، القاضية بالبناء علي صحة الصلاة لمضي الشك فيها بمضيها.

نعم، لو أحدث بالأصغر بعدها قبل الغسل، أشكل البناء علي ذلك، للعلم الإجمالي إما ببطلان صلاته أو وجوب الغسل عليه، أو بصحتها و وجوب الوضوء عليه، كما نبه إليه غير واحد.

(2) لاستصحاب الحدث، و لو لم يجر لتعاقب الحالتين كفت قاعدة الاشتغال بعد عدم جريان القاعدة المتقدمة بالإضافة إلي الأعمال الآتية، لعدم

ص: 637

و لو كان الشك في أثناء الصلاة بطلت و وجب الغسل لها (1).

مسألة 39 إذا اجتمع عليه أغسال متعددة

مسألة 39: إذا اجتمع عليه أغسال متعددة واجبة أو مستحبة أو بعضها واجب و بعضها مستحب، فقد تقدم حكمها في المسألة «73» (2)، فراجع.

مسألة 40 إذا كان يعلم إجمالا أنّ عليه أغسالا لكنه لا يعلم بعضها بعينه

مسألة 40: إذا كان يعلم إجمالا أنّ عليه أغسالا لكنه لا يعلم بعضها بعينه، يكفيه أن يقصد جميع ما عليه (3)، و إذا قصد البعض المعين (4) كفي عن غير المعين، و إذا علم أنّ في جملتها غسل

______________________________

مضيها، و ليست كالأعمال الماضية.

و قد أشرنا في المسألة السابقة قريبا إلي أنّ الدخول في مثل الصلاة لا يوجب مضي محل الشك في الطهارة بنحو يقتضي البناء علي تحققها ليترتب عليه جواز الدخول فيما تعتبر فيه، كما تقدم أيضا في المسألة السابعة و السبعين من مباحث الوضوء.

هذا، و في الاكتفاء بالغسل المذكور عن الوضوء إشكال.

(1) إذ غاية ما تقتضيه قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله هو البناء علي صحة الأجزاء السابقة من الصلاة و واجديتها للشرط، من دون أن تحرز تحقق الغسل، لينفع في إتمام الصلاة.

و قد تقدم تمام الكلام في ذلك في المسألة الثامنة و السبعين من مباحث الوضوء.

(2) و هو الاجتزاء بغسل واحد ينوي به بعضها أو جميعها.

(3) كما هو مقتضي ما سبق من الاكتفاء مع اجتماع الأغسال بغسل واحد لها، و مجرد الجهل بعناوينها الخاصة لا يقدح في ذلك مع قصدها إجمالا.

(4) هذا خلاف فرض عدم العلم ببعضها بعينه.

إلا أن يكون قصده برجاء ثبوته، و حينئذ يشكل الاجتزاء بالغسل المذكور

ص: 638

الجنابة و قصده في جملتها أو بعينه لم يحتج إلي الوضوء (1)، و إذا لم يعلم أنه في جملتها احتاج إليه (2)،

______________________________

عن الباقي، لعدم إحراز مشروعيته بعد احتمال عدم الموضوع له.

إلا أن يكون قصد السبب الخاص لا بنحو التقييد، مع قصد الغسل المشروع علي كل حال و لو بلحاظ غيره من الأسباب المفروض العلم بوجودها إجمالا.

و ربما يكون مراده قدّس سرّه بعدم العلم ببعضها بعينه هو الجهل بخصوص بعضها مع العلم بالباقي، و حينئذ لو قصد البعض المعلوم، فلا إشكال في الإجزاء بناء علي ما سبق.

أما لو قصده وحده مع قصد عدم غيره من الأسباب، فإن كان بنحو التقييد أشكل صحة الغسل، لعدم تحقق قيد الامتثال، بناء علي ما سبق من الإجزاء.

و إن كان بنحو الاعتقاد المقارن أو الخطأ في الحكم أو التشريع فيه مع القصد للغسل المشروع علي كل حال أجزأ، و وجهه واضح. و قد تقدم نظيره في ذيل الكلام في نية الرفع و الاستباحة في الوضوء.

(1) لما تقدم في المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء من أنه مع اجتماع الجنابة مع غيرها يجزئ الغسل المنوي به الجنابة وحدها أو مع غيرها عن الوضوء.

بل تقدم منه و منا إجزاء الغسل عن الوضوء إذا كان أحد الأحداث جنابة، و إن لم تقصد وحدها و لا مع غيرها.

(2) بناء علي عدم إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء، لأصالة عدم الجنابة فيحرز موضوع وجوب الوضوء.

أو لاستصحاب الحدث الأصغر، بناء علي اجتماعه مع الحدث الأكبر و أنّ الوضوء لأجله.

و أما بناء علي عدم اجتماعه معه و أنّ الوضوء لتتميم رفع الحدث الأكبر،

ص: 639

علي الأحوط وجوبا (1).

______________________________

فلاستصحاب الحدث الأكبر.

و لو فرض عدم جريان الاستصحاب لتعاقب الحالتين، كان الوضوء مقتضي قاعدة الاشتغال.

(1) الظاهر أنّ منشأه عدم جزمه قدّس سرّه بالحاجة للوضوء مع غسل غير الجنابة.

تتميم:

أهمل سيدنا المصنف قدّس سرّه بعض آداب الغسل، المذكورة في النصوص و الفتاوي، و المناسب التعرض لها تتميما للفائدة.

منها: التسمية، كما في الغنية، و نسبه في الحدائق لجملة من الأصحاب، و في المقنعة: «و يسمّي اللّه تعالي عند اغتساله و يمجّده و يسبّحه، فإذا فرغ من غسله فليقل: اللهم طهر قلبي و زكّ عملي و اجعل ما عندك خيرا لي، اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين»، و عن الذكري أنه بعد أن نسب نحو ذلك لابن البراج في المهذب، و استحباب التسمية للجعفي قال: «و الأكثر لم يذكروها في الغسل، و الظاهر أنهم اكتفوا بذكرها في الوضوء تنبيها بالأدني علي الأعلي».

و ظاهر التذكرة التردد في استحبابها.

و يستدل للاستحباب بما تضمن استحبابها لكل أمر ذي بال، كالنبوي المروي عن تفسير العسكري: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه باسم اللّه فهو أبتر» «1»، و الآخر: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أقطع» «2».

و بالنبوي المروي عن لب اللباب: «إذا اغتسلتم فقولوا: بسم اللّه اللهم استرنا

______________________________

(1) عن سفينة البحار ج: 1 ص: 663.

(2) عن عمدة القارئ ج: 1 ص: 25 و الجامع الصغير ج: 1 ص: 91.

ص: 640

______________________________

بسترك» «1».

و عن الذكري الاستدلال له بإطلاق صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: قال:

«إذا وضعت يدك في الماء فقل: بسم اللّه و باللّه اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين، فإذا فرغت فقل: الحمد للّه ربّ العالمين» «2».

و استشكل سيدنا المصنف قدّس سرّه في إطلاقه بنحو يشمل الغسل، و في الحدائق:

«و هذا الخبر إنما أورده الأصحاب في الوضوء».

لكن إيرادهم له في الوضوء لا يكشف عن وروده فيه، فضلا عن اختصاصه به، بل هو خلاف إطلاقه.

و أما الرضوي: «و تذكر اللّه، فإنه من ذكر اللّه علي غسله و عند وضوئه طهر جسده كله، و من لم يذكر اللّه طهر من جسده ما أصاب الماء» «3».

فهو- مع اضطراب متنه، لعدم مناسبة التعليل لاستحباب الذكر حين الغسل- إنما يقتضي استحباب مطلق الذكر، لا خصوص التسمية التي تضمنتها النصوص الأخر و فتاوي الأصحاب.

ثمَّ إنّ مقتضي صحيح زرارة استحباب التسمية قبل الشروع في الغسل، و أما النصوص الأخر فقد تحمل علي ذلك أو علي استحبابها حين الشروع فيه أو الانشغال به.

كما أنّ مقتضي الجمع بينها استحباب الصور المتباينة التي تضمنتها، و أفضلية ما تضمن الزيادة منها، فلاحظ.

و منها: الدعاء حين الغسل، كما في إشارة السبق و الوسيلة، و يأتي عن المصباح.

أو بعده، كما سبق من المقنعة و عن المهذب.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

ص: 641

______________________________

أو فيهما معا، كما عن النفلية و مال إليه في محكي الذكري.

و أطلق في الغنية و الدروس، و كذا في المنتهي مستدلا بموثق عمار: «إذا اغتسلت من جنابة فقل: اللهم طهر قلبي و تقبل سعيي و اجعل ما عندك خيرا لي.

اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين، و إذا اغتسلت للجمعة فقل:

اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني و تبطل به عملي. اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «1».

و في خبر محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: تقول في غسل الجمعة: اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق بها ديني و تبطل بها عملي، و تقول في غسل الجنابة: اللهم طهر قلبي و زكّ عملي و تقبل سعيي و اجعل ما عندك خيرا لي» «2».

قال الشيخ: «و في حديث آخر: «اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «3»»، و لا يبعد ظهور الموثق في استحباب الدعاء بعد الغسل و ظهور الخبر في استحبابه حينه.

و قد تقدم ما في صحيح زرارة و النبوي المروي عن لب اللباب.

و عن مصباح الشيخ: يستحب أن يقول عند الغسل: «اللهم طهرني و طهر [لي] قلبي و اشرح لي صدري و أجر علي لساني مدحتك و الثناء عليك. اللهم اجعله لي طهورا و شفاء و نورا، إنك علي كل شي ء قدير» «4».

و عن النفلية: و يستحب أن يقول في أثناء كل غسل: «اللهم طهر قلبي و اشرح لي صدري و أجر علي لساني مدحتك و الثناء عليك. اللهم اجعله لي طهورا و شفاء و نورا، إنك علي كل شي ء قدير. و يقول بعد الفراغ: اللهم طهر قلبي و زك عملي

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

ص: 642

______________________________

و تقبل سعيي و اجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «1». و قد تقدم ما في المقنعة.

و منها: التثليث في غسل الرأس، كما في النهاية، بناء علي ما هو الظاهر من حمله علي الاستحباب، لعدم نسبة القول بالوجوب إليه و لا لغيره من أحد- أو في الأعضاء الثلاثة، كما في المراسم و اللمعة، و نسبه في المستند إلي جماعة، بل قال فيه:

«و الإسكافي استحب للمرتمس ثلاث غوصات يخلل شعره و يمسح جسده في كل منها، و نفي عنه الشهيد البأس، و استظهره والدي. و لا بأس به لذلك».

هذا، و لم أعثر في النصوص علي ما يقتضي تعدد الغسل.

و الاستدلال عليه بما تضمن استحباب التثليث في كل غسل من أغسال الميت «2» بضميمة ما تضمن أنّ غسل الميت كغسل الجنابة «3»، يظهر ضعفه مما سبق في نظيره من الاستدلال علي وجوب تقديم الرأس في غسل الجنابة.

نعم، تضمنت جملة من نصوص غسل الجنابة تعدد الصب فيه، ففي بعضها الاقتصار فيه علي الصب علي الرأس ثلاثا «4»، و في آخر الصب عليه ثلاثا و علي الجسد أو الجانبين مرتين «5»، و في ثالث الصب عليه و علي كل من الجانبين ثلاثا «6»، علي اختلاف بين هذه النصوص في أنفسها و بينها و بين غيرها في بعض الخصوصيات.

و مقتضي استدلالهم فيما تقدم علي الترتيب بين الأعضاء في الغسل بنصوص الترتيب بينها في الصب، فهمهم الغسل من الصب.

و لأجل ذلك قد يستفاد من نصوص تعدد الصب تعدد الغسل، فتكون هي

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 4، 8، 9.

(5) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1، 3. و باب: 38 منها حديث: 6.

(6) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 643

______________________________

الدليل في المقام، بل قد يعمم للارتماسي لإلغاء خصوصية مورد النصوص.

لكن تقدم منع الاستدلال المذكور في ذلك المقام، فالاستدلال في المقام أولي بالمنع- كما صرح به غير واحد- و لا سيما في الارتماسي المبني علي كثرة الماء و سبوغه في المرة الواحدة.

و لعله لذا جعل في إشارة السبق المندوب الصب علي كل من الرأس و الجانبين ثلاثا.

ثمَّ إنه قد تضمنت الهداية و المقنع و الفقيه و المقنعة و غيرها بعض الخصوصيات في الصب من العدد و غيره، لا يبعد سوقها لمحض بيان بعض كيفيات الغسل التي يتيسر بها استيعاب الماء لتمام البدن، من دون أن تكون واجبة و لا مندوبة، لعدم مطابقتها للنصوص التي بأيدينا.

بل لا يبعد حمل النصوص المشار إليها علي ذلك، لاختلافها فيما بينها و مع غيرها اختلافا فاحشا، و ظهور بعضها في خصوصية مورد، ككثرة الشعر المقتضية لكثرة الماء «1»، و ظهور آخر في أنّ ذكر الكيفية لبيان سهولة الغسل و قلة الحاجة فيه للماء، كما يناسبه التعليل في بعضها بقوله عليه السّلام: «إنما يكفيك مثل الدهن» «2».

نعم، لا يبعد استحباب الإفاضة علي الرأس ثلاثا، لتظافر النصوص بالأمر به، و لا سيما بملاحظة صحيح ربعي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «يفيض الجنب علي رأسه ثلاثا لا يجزيه أقل من ذلك» «3».

و منها: الموالاة، كما في إشارة السبق و الغنية [4] و الدروس و اللمعة [5] و جامع

______________________________

[4] كذا في المطبوع منها و نسبه إليها في كشف اللثام، لكن في مفتاح الكرامة: «و لقد تتبعتها في مظانها حرفا حرفا فما وجدته ذكر ذلك و لعله سقط من نسختي».

[5] كذا في المطبوع منها و صرح في مفتاح الكرامة بوجوده في نسختين صحيحتين منها، لكن استثناها في كشف اللثام من كتب الشهيد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 644

______________________________

المقاصد و كشف اللثام و الروضة، و عن المهذب و نهاية الاحكام و باقي كتب الشهيد، و نسبه في الحدائق إلي الأصحاب تارة، و إلي جمع منهم اخري- كما نسبه إليهم في المستند أيضا- و إلي جملة من متأخريهم ثالثة.

و استدل له، أو قد يستدل له.

تارة: بما هو المعلوم من سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و ذريته المعصومين عليهم السّلام عليها، كما عن الذكري، و زيد عليها سيرة السلف و الخلف من الفقهاء و العلماء علي مرور الأعصار.

و اخري: بالتحفظ من طروء المفسد.

و ثالثة: بما دل علي الأمر بالمسارعة للخير من الآيات «1» و الروايات «2».

و رابعة: بما تضمن الأمر بالكون علي الطهارة، مما تقدم في الوضوءات المستحبة، حيث يستفاد منه استحباب الطهارة من الجنابة نصا أو بالإطلاق أو بالأولوية، و حيث يراد به استحباب الكون علي الطهارة منها في كل آن، كان مقتضاه التعجيل في الغسل و المبادرة في إكماله.

لكن يندفع الأول- بعد تسليم سيرتهم علي الموالاة- بأنّ سيرتهم لا تفيد رجحان الموالاة شرعا، بل قد يكون منشؤها أسهلية جمع الغسل من تفريقه، كما هو المقطوع به من وجه سيرة أكثر المتشرعة.

و يشكل الثاني بأنّ رجحان التحفظ و الاحتياط من طروء المفسد فرع مرجوحية فساد الغسل، و هي في حيز المنع كمرجوحية الإفساد، و إن سبق عند الكلام في عدم وجوب الموالاة من جامع المقاصد ما ظاهره المفروغية عن حرمته.

كما أنّ الثالث إنما يتجه فيما لا يستلزم التعجيل فيه الزيادة منه، كالصلاة.

أما مثل الكون علي الطهارة الذي يستحب في كل آن، فالتعجيل فيه ليس

______________________________

(1) سورة البقرة: 148، آل عمران: 114، 33، المائدة: 48، الأنبياء: 90، المؤمنون: 61، الحديد: 21.

(2) راجع الوسائل باب: 27 من أبواب مقدمة العبادات.

ص: 645

______________________________

من المسارعة في الخير، بل من الازدياد فيه، الذي لا إشكال في رجحانه عقلا تبعا لرجحان ذات الخير شرعا، كما هو مرجع الوجه الرابع.

و من هنا كان هو العمدة في المقام.

لكنه- مع عدم اقتضائه الموالاة بأحد المعنيين المتقدمين في الوضوء، بل بمعني التعجيل بكل جزء مهما أمكن- لا يقتضي كون الموالاة من آداب الغسل المقتضية لكماله، كسائر الآداب المتقدمة، بل رجحانها مقدمة للكون علي الطهارة في أول أزمنة الإمكان.

علي أنه إنما يقتضي المحافظة عليها لو كانت مستلزمة لتعجيل الكون علي الطهارة، أما لو تعذر تعجيله و دار الأمر بين المبادرة في الشروع في الغسل من دون موالاة، و تأخيره مع الموالاة، فلا يقتضي رجحان الثاني، بل لعل الأول أرجح، لما فيه من المبادرة إلي بعض الطهارة، فتأمل جيدا.

و منها: الابتداء بالأعلي في كل من الأعضاء في الترتيبي، كما ذكره في العروة الوثقي، و استظهره في محكي الذكري، لأنه أقرب إلي التحفظ من النسيان، و لأن الظاهر من صاحب الشرع فعله. انتهي.

لكن الأول ممنوع صغري و كبري.

و الثاني يظهر ضعفه مما سبق في الموالاة.

و أما تأييده- كما في كشف اللثام- بما تضمن الأمر بالصب علي المنكبين، بل قد يستدل عليه بذلك و بما تضمن الأمر بالصب علي الرأس، فهو لا يخلو عن إشكال، لأن الأمر المذكور لما كان مسوقا عندهم لبيان وجوب الترتيب بين الأعضاء أشكل استفادة البدء بالأعلي منه، لعدم تعدد الأمر في المقام.

و أما بناء علي عدم سوقه لذلك، فلا يبعد حمله علي بيان الكيفية المتعارفة التي يسهل معها استيلاء الماء القليل علي البدن، لا الكيفية المندوبة، و قد تقدم في تثليث الغسل ما قد ينفع في المقام.

و منها: أن يكون الغسل بصاع، كما ذكره الأصحاب، و ادعي عليه الإجماع في

ص: 646

______________________________

الخلاف و المنتهي و المدارك و المفاتيح و الحدائق، و نفي الخلاف فيه في المعتبر، و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا».

للنصوص الكثيرة، كصحيح معاوية بن عمار: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يغتسل بصاع، و إذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع و مدّ» «1».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يتوضأ بمدّ و يغتسل بصاع. و المد رطل و نصف، و الصاع ستة أرطال» «2»، و زاد فيه في المعتبر و التذكرة- في زكاة الغلات-: «بأرطال المدينة يكون تسعة أرطال بالعراقي».

و صحيح الفضلاء عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهم السّلام أنهما قالا: «توضأ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بمد و اغتسل بصاع، ثمَّ قال: اغتسل هو و زوجته بخمسة أمداد من إناء واحد. و كان الذي اغتسل به النبي صلّي اللّه عليه و آله ثلاثة أمداد، و الذي اغتسلت به مدين، و إنما أجزأ عنهما لأنهما اشتركا فيه جميعا، و من انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع» «3».

و ما في صحيح زرارة المتقدم في أسباب الجنابة من قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «أ توجبون عليه الحدّ و الرجم، و لا توجبون عليه صاعا من ماء» «4».

و غيرها.

و لا بد من حمل الوجوب في الأخير علي الثبوت شرعا و لو ندبا، و حمل اللابدية فيما قبله علي اللابدية بلحاظ أداء الوظيفة الاستحبابية، بقرينة الإجماع القطعي و النصوص الكثيرة الصريحة في الاكتفاء بأكفّ قليلة، و جري الماء و لو كان قليلا، و ما بلّ اليمين منه أو ملأها، و بإمساسه للبدن و مسحه به و لو بمثل الدهن و غير ذلك «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(5) راجع الوسائل باب: 26، 31 من أبواب الوضوء و غيرهما.

ص: 647

______________________________

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه ذكر في إشارة السبق و الوسيلة و المعتبر و المنتهي أنّ المستحب هو الغسل بصاع فما زاد، و هو المحكي عن جمل الشيخ و المهذب و التحرير و التبصرة، بل هو معقد الإجماع المدعي في المنتهي و نفي الخلاف في المعتبر.

فإن كان المراد بذلك التخيير في المستحب بين الصاع و الأكثر، بحيث يستند أداء الوظيفة مع الزيادة للمجموع، لا للصاع وحده.

فهو مخالف لظاهر النصوص السابقة، كسائر أدلة التحديد، لأن مقتضي إطلاقها أداء الوظيفة بالحد مطلقا، و مثله ما لو كان المراد أفضلية الزيادة، لعدم الدليل عليه بعد قصور النصوص السابقة عنه.

و إن كان المراد به عدم إخلال الزيادة بأداء الوظيفة بالصاع، أو عدم كراهة الزيادة عليه- كما لعله الظاهر ممّن صرح بذلك.

فهو في محله، لعدم الدليل علي الكراهة، و لأن مقتضي إطلاق النصوص السابقة أداء الوظيفة بالصاع مطلقا و إن كان مع الزيادة بعد أن كان المنصرف من التحديد بالصاع في النصوص و الفتاوي التحديد من طرف القلة فقط، لبيان مطلوبية عدم الاكتفاء بما دون الصاع، لا من طرف الكثرة فقط، لمطلوبية عدم الزيادة عليه، و لا من الطرفين معا.

بل التحديد من طرف الكثرة فقط مما تأباه جميع النصوص، و لا سيما ما تضمن جواز النقيصة عنه مع الاشتراك، و من الطرفين معا لا يناسب ما هو المعلوم من احتياج ضبط مقدار الصاع من الماء خارجا و في مقام العمل بنحو لا يزيد و لا ينقص إلي عناية يصعب تنزيل الإطلاقات عليها.

و لعله إلي هذا يرجع ما في النهاية من جواز الزيادة علي الصاع، و مثله المنتهي، و إن لم يبعد كون مراده الجواز المقابل للحرمة.

و لا ينافي ذلك ما في مرسل الفقيه: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: الوضوء مد، و الغسل صاع، و سيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلك فأولئك علي خلاف سنتي،

ص: 648

______________________________

و الثابت علي سنتي معي في حظيرة القدس» «1».

إذ ليس مفاده إلا النهي عن استقلال الصاع المقتضي للالتزام بالزيادة عليه، لا النهي عن الزيادة في مقام العمل لطوارئ خاصة من دون التزام و لا بناء علي قلة الصاع.

و منه يظهر ضعف ما في الروضة من الاستدلال للتقييد بعدم الزيادة بالمرسل المذكور.

و أما ما دل علي النهي عن السرف مطلقا «2»، و في خصوص الوضوء، كخبر حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إنّ للّه ملكا يكتب سرف الوضوء كما يكتب عدوانه» «3»، فمقتضاه الحرمة و لا يظن الالتزام بها من أحد فيما زاد علي الصاع.

و قد تقدم في الكبائر من مباحث التقليد أنّ الإسراف عرفا هو صرف ما زاد علي الاعتدال في الإنفاق و القصد فيه بلحاظ الجهات العقلائية، كما تشهد به النصوص أيضا، و أنه لا يمكن الالتزام بحرمته علي إطلاقه، بل المتيقن هو حرمة ما أضرّ به بالمال و أفسده عرفا من دون غرض عقلائي، فلو فرض لزومه في الزيادة علي الصاع لم يكن بالالتزام بحرمته بأس.

كما أنّ ظاهر النصوص الكثيرة كراهة مطلق الإسراف و استحباب القصد، و هو الاعتدال بين الإسراف و التقتير بلحاظ جميع الجهات العقلائية، و ذلك جار في المقام.

لكنه لا يقتضي كراهة الزيادة علي الصاع مطلقا، إذ قد لا يكون الماء مالا في بعض الحالات، أو لا يلزم تلفه بالغسل، كمن اغتسل قرب النهر أو عليه، كما قد يكون في الزيادة غرض عقلائي مصحح لإتلاف المال، كسهولة استيلاء الماء علي البشرة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) راجع الوسائل باب: 25، 27، 29 من أبواب النفقات.

(3) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 649

______________________________

و لعله علي ما ذكرنا يبتني قول الشهيد قدّس سرّه في الذكري: «و الشيخ و جماعة ذكروا استحباب الغسل بصاع فما زاد. و الظاهر أنه مقيد بعدم أدائه إلي السرف المنهي عنه».

الثاني: أنّ الجمود علي لسان أكثر النصوص يقتضي صرف الصاع بتمامه في الغسل، دون ما خرج عنه من آدابه كالمضمضة و الاستنشاق، فضلا عن مقدماته، كتطهير مواضع النجاسة من البدن، إلا أنّ الظاهر دخول الآداب في ذلك، لاستفادتها تبعا من إطلاق النصوص، بلحاظ تعارف تهيئة الماء الذي يغتسل به قبل الشروع في الآداب، و لا التفات إليها حينئذ كي يزاد الماء لأجلها، بل يؤتي بها مع الغسل و بمائه، كما لا يبعد استفادتها أيضا من نصوص بيان الآداب و المقدمات الواردة في تعليم الغسل و بيان كيفيته عند السؤال عنه «1»، فإنّ عدم التعرض فيها لزيادة الماء لأجلها ظاهر في إرادة الإتيان بها من الماء المعد للغسل المسؤول عن كيفيته.

بل لا يبعد ذلك في تطهير الفرج، من الجنابة أو البول السابق علي الغسل، حيث يتعارف تأخيره إلي حين الغسل و تعرضت له نصوص كيفية الغسل.

و هو صريح صحيح الفضلاء المتقدم، لقوله عليه السّلام فيه في حكاية غسل النبي صلّي اللّه عليه و آله: «بدأ هو فضرب بيده الماء قبلها فأنقي فرجه، ثمَّ ضربت هي فأنقت فرجها، ثمَّ أفاض هو و أفاضت هي.».

نعم، هو خال عن ذكر آداب الغسل، إلا أنّ من البعيد تركه صلّي اللّه عليه و آله لها، فلعل إهمالها في الحديث، لعدم الغرض في ذكرها.

علي أنّ عدم اشتمال غسله صلّي اللّه عليه و آله المحكي بالحديث عليها لا يمنع من استفادة دخولها في الصاع من الإطلاقات تبعا، كما ذكرنا.

هذا، و قد اقتصر في المدارك علي الاستنجاء، و زاد في المنتهي غسل الذراعين، مستدلّين بالصحيح المذكور، و يحتمل كلا منهما ما في كشف

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة و غيرها.

ص: 650

______________________________

اللثام.

و لا يخفي عدم اشتمال الصحيح علي غسل الذراعين، كما أنّ قصوره عن جميع الآداب لا ينافي استفادتها من الآداب، كما سبق.

الثالث: صرحت جملة من النصوص مما تقدم و غيره بأنه مع اغتسال الرجل و زوجته في إناء واحد يجزئ صاع و مد، و لم ينقل استثناء ذلك عن غير ابن سعيد في الجامع من القدماء فيما وصلت إليه عاجلا.

و في الجواهر: «ظاهره الاقتصار علي الرجل و المرأة. و لعل الأولي خلافه، لعدم ظهور الخصوصية. بل التعليل بالشركة و مفهوم قوله عليه السّلام: (من انفرد) يدلان علي خلافه».

لكن عدم ظهور الخصوصية لا يكفي في التعميم، بل لا بد من ظهور عدمها و إلغائها عرفا، و لا مجال له مع مخالفة الحكم للقاعدة و اشتماله علي القسمة بنحو غير عرفي، لأن المرأة أولي بكثرة الماء، بسبب كثرة شعرها غالبا.

و التعليل بالشركة لا يقتضي التعميم بعد أن كان تعبديا غير ارتكازي.

و لا مفهوم للشرطية، لأنها مسوقة لتحقيق الموضوع، إذ ليس الموضوع لها المغتسل، ليكون مقتضي إناطة الحكم فيها بالانفراد عدمه مع عدمه، بل المنفرد بالغسل، و لا يلزم مع انتفائه فرض الغسل، ليتحقق الموضوع للحكم بلزوم الصاع، فتأمل.

علي أنّ القسمة بين الرجل و المرأة مع الاشتراك لما لم تكن بالتناصف، فلا طريق لمعرفة ما يحتاجه كل من الشريكين أو الشركاء غيرهما، لإمكان دخل خصوصيتهما في القسمة.

و من هنا كان الرجوع لإطلاق استحباب الصاع في غير مورد النص أنسب.

و الظاهر أنّ المراد بالاشتراك في النصوص هو الاشتراك في الماء الواحد مع تقارن الغسلين عرفا، لا مع تعاقبهما و اغتسال أحدهما بفضلة الآخر، لانصراف الاشتراك عن مثل ذلك، كالاشتراك في الأكل.

ص: 651

______________________________

هذا، و قد يظهر من الجواهر الميل إلي أنّ استثناء الاشتراك رخصة لا تنافي عموم استحباب الصاع لحال الاشتراك- كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب- لأن فعله صلّي اللّه عليه و آله أعم من ذلك.

و كأنّ مراده به أنّ الاجتزاء بما دون الصاع مع الاشتراك تخفيف مع ثبوت ملاك الصاع. و هو غير بعيد عن مساق النصوص، فلاحظ.

الرابع: المعروف من مذهب الأصحاب أنّ الصاع أربعة أمداد، و قد ادعي الإجماع عليه في الخلاف و الغنية و المعتبر و التذكرة و المنتهي، و ظاهر بعضهم إجماع المسلمين عليه، و إنما الخلاف بينهم فيه للخلاف في مقدار المد.

و كيف كان، فيقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح زرارة المتقدم، و صحيح معاوية بن عمار المتقدم، حيث تضمن اغتسال النبي صلّي اللّه عليه و آله و زوجته بصاع و مد، بضميمة ما تضمن أنه صلّي اللّه عليه و آله اغتسل بخمسة أمداد، كصحيح الفضلاء و غيره. و ما في صحيح الحلبي الوارد في زكاة الفطرة من قوله عليه السّلام: «و الصاع أربعة أمداد» «1»، و نحوه معتبرتا الفضل بن شاذان «2» و مرسل تحف العقول «3»، و حديث الأعمش «4»، و قد يستفاد من غيرها.

نعم، ينافيها موثق سماعة: «سألته عن الذي يجزي من الماء للغسل، فقال:

اغتسل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بصاع و توضأ بمد، و كان الصاع علي عهده خمسة أمداد، و كان المدّ قدر رطل و ثلاث أواق» «5».

و مرسل المروزي: «قال أبو الحسن موسي بن جعفر عليهما السّلام: الغسل بصاع من ماء و الوضوء بمدّ من ماء، و صاع النبي صلّي اللّه عليه و آله خمسة أمداد، و المدّ وزن مائتين و ثمانين

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الغلات حديث: 13. و باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 18.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب زكاة الغلاة حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 20.

(5) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 652

______________________________

درهما.» «1».

بل قد يحمل عليه ما عن أبي القاسم الكوفي: «أنه جاء بمدّ، و ذكر أنّ ابن أبي عمير أعطاه ذلك المد، و قال: أعطانيه فلان رجل من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام و قال: أعطانيه أبو عبد اللّه عليه السّلام و قال: هذا مدّ النبي صلّي اللّه عليه و آله، فعيّرناه فوجدناه أربعة أمداد و قفيز و ربع بقفيزنا هذا» «2» حيث قد يحمل مدّ النبي صلّي اللّه عليه و آله علي صاعه، لأن الذي تضمنته النصوص هو اختصاص النبي صلّي اللّه عليه و آله بصاع لا بمد، بل من البعيد شدة اختلاف المد المشهور عن مدّ النبي صلّي اللّه عليه و آله.

و ظاهر الفقيه التعويل علي مرسل المروزي، و لذا نسب في كشف اللثام تحديد الصاع بأربعة أمداد للمشهور، و لم يدّع عليه الإجماع، و قال في الجواهر:

«و المراد بالصاع علي المشهور- بل كاد يكون لا خلاف فيه، و ربما حكي الإجماع عليه، و هو الأصح- أربعة أمداد».

لكن حديث أبي القاسم- لو تمَّ سنده- لا يكفي في تنزيله علي الصاع ما سبق، بل غاية الأمر أن يكون مضطربا متروكا.

و مرسل المروزي- مع ضعفه في نفسه- قد تضمن تحديد المدّ بما لا مجال للبناء عليه، و لا يوافقه فيه حتي الموثق، لأن الثلاث أواق التي تضمنها الموثق مائة و عشرون درهما، فإذا أسقطت من المائتين و ثمانين درهما التي تضمنها المرسل يبقي مائة و ستون، و هي لا تطابق الرطل الذي تضمنه الموثق، سواء حمل علي المدني أم العراقي.

فالعمدة الموثق، و هو لا يدل علي تحديد الصاع، لأنه تضمن تحديد المد علي خلاف القدر المعروف، فلعله بتقديره له يقارب ما عليه الأصحاب، بحمل الرطل فيه علي العراقي، فيزيد الصاع عليه عما عليه الأصحاب ثمانين درهما، لا أنه يزيد عليه بمقدار الربع، و إنما يخالف ما عليه الأصحاب في نسبة ماء الوضوء لماء

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 6.

ص: 653

______________________________

الغسل.

علي أنه لا ينهض بالخروج عن النصوص السابقة مع كثرتها و اعتبار جملة منها و تعويل الأصحاب عليها.

و لعله لذا رمي في المعتبر الرواية المخالفة للمشهور بالشذوذ، فقال: «و الصاع أربعة أمداد باتفاق العلماء، إلا في رواية شاذة لنا».

و أما حمل الموثق و نحوه علي الصاع الذي كان يغتسل به النبي صلّي اللّه عليه و آله مع زوجته، فلا ينافي النصوص السابقة. فهو مخالف للظاهر جدا.

علي أنّ هذه النصوص لما تضمنت تقدير المد علي خلاف ما تضمنته النصوص الأخر، فحمله علي ذلك لا يرفع التنافي بينها.

و مثله حمله علي خصوص صاع الماء الذي هو أثقل من غيره، فإنّ الصاع كيل يختلف وزنه باختلاف الأجسام المكيلة.

لوضوح منافاته لصريح صحيح زرارة المتقدم الوارد في تقدير الصاع في الماء.

علي أنّ الصاع و إن كان كيلا، إلا أنّ إطلاق تحديده بالوزن يقتضي الاكتفاء بالوزن الخاص في جميع الأجناس، نظير ما تقدم في الرطل في مباحث الكر.

فالعمدة ما ذكرنا من عدم التعويل علي الموثق و نحوه في قبال غيرها.

ثمَّ إنّ النصوص كما تضمنت ذلك تضمنت تحديد الصاع بأنه ستة أرطال، و المد بأنه رطل و نصف، و هو محمول علي الرطل المدني الذي هو رطل و نصف بالعراقي، كما صرح به في ذيل صحيح زرارة الذي زاده في المعتبر و التذكرة.

و في صحيح محمد بن أحمد بن يحيي عن جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني الذي لا تبعد وثاقته [1] قال: و كان معنا حاجا، قال: «كتبت إلي أبي

______________________________

[1] حيث قد تستفاد وثاقته من رواية الصدوق بإسناده عنه مترضيا عنه و مترحما عليه، علي ما حكي، و من عدم استثناء القميين له من رجال كتاب نوادر الحكمة، و رواية الكشي أنّ أباه الذي هو من وكلاء الإمام الهادي عليه السّلام كتب إليه عليه السّلام مع جعفر ابنه هذا، لظهور أنّ ظاهر هذا اعتماد أبيه عليه. بل لو صدر من مثل هذا ما ينافي الوثاقة لهجره الأصحاب، و لما كان المناسب من مثل محمد بن أحمد بن يحيي صاحب كتاب نوادر الحكمة مرافقته في طريق الحج و روايته عنه و إيداع روايته في كتابه.

ص: 654

______________________________

الحسن عليه السّلام علي يد أبي: جعلت فداك إنّ أصحابنا اختلفوا في الصاع. فكتب إليّ:

الصاع بستة أرطال بالمدني و تسعة أرطال بالعراقي. قال: و أخبرني أنه يكون بالوزن ألفا و مائة و سبعين وزنة» «1».

و في خبر إبراهيم بن محمد الهمداني الذي لا يخلو عن اعتبار [2]: «أنّ أبا الحسن صاحب العسكر كتب إليه:. الفطرة عليك و علي الناس كلهم. تدفعه وزنا ستة أرطال برطل المدينة و الرطل مائة و خمسة و تسعون درهما، يكون الفطرة ألفا و مائة و سبعين درهما» «3».

و خبر علي بن بلال: «كتبت إلي الرجل عليه السّلام أسأله عن الفطرة، و كم تدفع؟

فكتب: ستة أرطال من تمر بالمدني و ذلك تسعة أرطال بالبغدادي» «4».

نعم، قد ينافيها ما في صحيح محمد بن الريان: «كتبت إلي الرجل أسأله عن الفطرة و زكاتها، كم تؤدي؟ فكتب: أربعة أرطال بالمدني» «5»، بضميمة ما هو المعلوم من أنّ الفطرة صاع. لكن كما يمكن ابتناؤه علي مخالفة النصوص السابقة في قدر الصاع يمكن ابتناؤه علي مخالفة نصوص الصاع في الفطرة، كما خالفتها جملة من النصوص المتضمنة الاكتفاء بنصف الصاع في بعض الأصناف «6» و بأربعة

______________________________

[2] فقد رواه الشيخ عن المفيد و ابن عبدون عن الحسين بن علي بن شيبان- الذي هو من مشايخ الإجازة- عن علي بن حاتم القزويني- الذي وثقه النجاشي- عن محمد بن عمر- الذي لا يبعد كونه ابن سعيد الزيات الثقة العين، لتمييزه برواية علي بن حاتم عنه- عن الحسين بن الحسن الحسيني- الذي ترحم عليه الكليني في باب مولد علي بن الحسين عليه السّلام و قال فيه الشيخ: (فاضل)- عن إبراهيم ابن محمد الذي هو من وكلاء الإمام الهادي عليه السّلام، فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 5.

(6) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة.

ص: 655

______________________________

أرطال من اللبن «1»، فلا مجال للخروج به عما سبق. بل قد يحمل علي الفقير الذي يجزيه أقل من صاع- كما احتمله في الوسائل- أو علي خصوص اللبن، أو أنّ الأرطال تصحيف الأمداد- كما ذكرهما الشيخ- أو أنّ الأربعة تصحيف الستة- كما عن الوافي- أو غير ذلك.

ثمَّ إنّ في كشف اللثام عند الكلام في تحديد الصاع قال: «و عن البزنطي: هو خمسة أرطال. قال: و بعض أصحابنا ينقل ستة أرطال برطل الكوفة. قال: و المد رطل و ربع. قال: و الطامث تغتسل بتسعة أرطال».

لكن ما ذكره غير ظاهر المأخذ، مخالف لجميع النصوص السابقة.

نعم، حكم الطامث مطابق لخبر الحسن الصيقل «2». و يمكن تنزيله علي ما سبق في الجنب بتنزيله علي الرطل العراقي، الذي قيل: إنّه المنصرف من إطلاق الرطل- و إن لم يثبت كما سبق في مباحث الكر- كما يمكن حمله علي الرطل المدني، لاستحباب الزيادة للحائض، كما يأتي.

و أما ما تضمن مماثلة غسل الحيض لغسل الجنابة، فهو- لو تمَّ- إنما يقتضي استحباب إيقاعه بالصاع، و لا يمنع من أفضلية إيقاعه بالأكثر.

كما أنّ ما حكاه عن بعض الأصحاب يبتني علي حمل الرطل في صحيح زرارة علي العراقي، الذي لا مجال له بعد ما سبق، أو علي مرسلة الصفار، ففي مكاتبته إلي أبي محمد عليه السّلام: «كم حدّ الماء الذي يغسل به الميت، كما رووا أنّ الجنب يغسل بستة أرطال من ماء، و الحائض بتسعة، فهل للميت حدّ من الماء الذي يغسل به؟.» «3».

بدعوي: أنّ سوق أرطال الجنب مساق أرطال الحائض ظاهر في اتحادها قدرا، فتحمل علي العراقي الذي قيل: إنه المنصرف من إطلاق الرطل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض.

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 656

______________________________

لكن يشكل: بأنّ سوقها في كلام الصفار إنما يدل علي اتحاد قدرها بنظره، و هو لا يكشف عن وحدة سياقها في كلام الإمام عليه السّلام.

علي أنّ دعوي: انصراف الرطل للعراقي قد عرفت هنا عدم ثبوتها.

فربما تحمل التسعة أرطال للحائض علي المدني، للأمر بزيادة الماء لها، حيث ورد في بعض النصوص تحديده بالفرق «1» الذي قيل: إنه بلا اختلاف بين الناس ثلاثة أصوع، و ربما قيل: إنه أكثر من ذلك.

هذا، و حيث ظهر أنّ الصاع أربعة أمداد و ستة أرطال بالمدني و تسعة بالعراقي، و كان الرطل المدني مائة و خمسة و تسعين درهما، و هي تساوي مائة و ستة و ثلاثين مثقالا و نصفا، و كان الرطل العراقي مائة و ثلاثين درهما، و هي تساوي واحدا و تسعين مثقالا- علي ما سبق في تحديد الكر- يكون الصاع ثمانمائة و تسعة عشر مثقالا.

و حيث كان المثقال أربعة غرامات و ربعا تقريبا، يكون الصاع ثلاثة كيلو غرامات و أربعمائة و واحدا و ثمانين غراما إلا ربعا تقريبا، و هو يزيد عما اشتهر في عصورنا كثيرا، كما سبق نظيره في المد عند الكلام في مستحبات الوضوء، حيث ذكرنا هناك أنه يكون ثمانمائة و سبعين غراما تقريبا.

و بملاحظة ما سبق في مباحث الكر يتضح أنّ منشأ الاختلاف، الاختلاف في قدر المثقال.

و منها: عدم اغتسال الرجل بفضل المرأة، ففي المقنع: «و لا بأس أن تغتسل المرأة و زوجها من إناء واحد، و لكن تغتسل بفضله و لا يغتسل بفضلها».

و لم أعثر عاجلا في غيره علي مثل ذلك.

و قد يحمل علي الكراهة، كنهيه عن الوضوء بفضل الجنب و الحائض، بقرينة تصريحه في الهداية بجواز الوضوء بفضلهما، و كذا في الفقيه لكن مع عدم وجود غيره.

و كيف كان، فإن كان المراد حرمة سؤر الجنب، فلا مجال له بعد صراحة

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 657

______________________________

النصوص بطهارته «1» و جواز استعماله، و إن كان المراد كراهته، فقد سبق في سؤر الحائض اختصاص كراهة سؤر الجنب بما إذا لم تكن مأمونة، و لذا صرحت النصوص المتقدمة و غيرها باغتسال النبي صلّي اللّه عليه و آله مع زوجته، بل بعدها بفضلها معللا بقوله صلّي اللّه عليه و آله: «ليس الماء جنابة» «2».

و منه يظهر أنه لا مجال للبناء علي خصوصية الغسل في الكراهة لو كان مراده ذلك.

نعم، تقدم كراهة سؤر الحائض مطلقا.

و منها: عدم الاستعانة فيه في المقدمات القريبة، كما في العروة الوثقي، و كأنّ الوجه فيه ما سبق في الوضوء، و هو قوله صلّي اللّه عليه و آله في موثق السكوني: «خصلتان لا أحب أن يشاركني فيها أحد: وضوئي، فإنه من صلاتي.» «3».

و النصوص المتضمنة «4» الاستدلال بقوله تعالي فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «5».

حيث لا يراد بكون الوضوء من الصلاة في الموثق إلا مقدميته لها، كما أنها هي الملحوظة في النصوص المذكورة المتضمنة تطبيق الإشراك في العبادة علي الإعانة في الوضوء، و الغسل يشارك الوضوء في المقدمية المذكورة.

لكن سبق أنّ المناسبات الارتكازية تقتضي حمل الموثق إلي الإرشاد لزيادة الثواب، بلحاظ أنّ أفضل الأعمال أحمزها، و لكل مقدمة أجرها إذا أتي بها بداعي التوصل لذيها، و لا يظن من أحد إنكار ذلك أو التشكيك فيه في الغسل و غيره حتي في المقدمات البعيدة.

و إنما الكلام في المرجوحية المساوقة للكراهة الشديدة المناسبة للتنفير الذي تضمنته النصوص المذكورة المستشهد فيها بالآية الكريمة، و الواردة في

______________________________

(1) الوسائل باب: 7، 8 من أبواب الأسآر، و باب: 32 من أبواب الجنابة و غيرها.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(4) تقدمت هذه النصوص و مصادرها في مكروهات الوضوء.

(5) سورة الكهف: 110.

ص: 658

______________________________

النهي عن صب الماء للوضوء، و قد ذكرنا أنّ ما تضمنته من تطبيق الإشراك في العبادة- و هي الصلاة- علي الصب لما لم يكن عرفيا أشكل التعدي منه لغير الصب من مقدمات الوضوء القريبة، فضلا عن البعيدة، فالتعدي من الوضوء فيه للغسل أولي بالإشكال.

هذا، و قد تقدم في الوضوء ما ينفع في المقام لو فرض عموم الحكم له، فلا نطيل بذكره.

ثمَّ إنه ربما يذكر للغسل آداب أخر، لا مجال لإطالة الكلام فيها، إما لسبق التعرض لها، كأفضلية الغسل الترتيبي من الارتماسي. أو لعدم اختصاصها بالغسل، بل ترجع إلي خصوصية الماء أو المكان أو نحوهما، كالغسل بالمياه المكروهة- المتقدم التعرض لبعضها في الأسآر و غيرها، و منها الغسل بالماء المشمّس، الذي يظهر حاله مما تقدم في مكروهات الوضوء- أو تحت السماء عاريا. أو لخروجها عن آداب الغسل حقيقة، كتأخير الغسل مطلقا أو بعد النوم، لرجوعه إلي كراهة البقاء علي الجنابة، و لا دخل له بكمال الغسل.

و من هنا، لنكتف بهذا المقدار من الكلام في غسل الجنابة. و الحمد للّه ربّ العالمين، و له الشكر علي تسهيله و تيسيره، و نسأله أن يتم علينا نعمه بقبول الأعمال و ترتيب الثمرة عليها. إنه أرحم الراحمين، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

و كان الفراغ من ذلك ليلة الثلاثاء، الثامن عشر من شهر جمادي الآخرة، سنة ألف و ثلاثمائة و تسع و تسعين، لهجرة سيد المرسلين، عليه و آله أفضل الصلوات و أزكي التحيات، في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرّف علي صاحبه الصلاة و السلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام و المسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق.

كما انتهي تبييضه بقلم مؤلفه الفقير ضحي اليوم المذكور بعد تدريسه، حامدا مصليا مسلما.

ص: 659

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.